قضايا وآراء

الطاهر وطار.. رجم بن الزين وأنا / الخير شوار

كم أخذتني تلك الشخصية الواقعية التي خرجت من عالم النسيان والطاهر وطار يكتب ذلك الجزء اليتيم من مذكراته الشخصية التي لم تشمل إلا السنوات الخمس الأولى من حياته التي بدأها في قرية "عين الصنب" الواقعة بين مداوروش وسدراتة وعين البيضاء ومسكيانة، وربما أعادت لي شخصية "رجم بن الزين" صورة أخرى لشخص عرفته في قريتي وأنا ابن الخمس سنوات عندما دهسني بدراجته عند منحدر وتسبب لي في جروح عند محيط العين.

كان عمي الطاهر يتكلم عن ذلك الشخص ابن قريته تلك، بشيء من الحنين الممزوج بالألم، وهو يستعيد صاحب الدراجة الوحيدة في القرية، وكانت أمنيته الوحيدة وهو يراه مارا بالقرب منه أن يتمكن من لمسها، مجرد لمس. وكنت أتعجب لسخرية الأقدار التي جعلت شخصا قد تكون سنين طويلة قد مرت على وفاته ونسيه الجميع وفجأة يحضر بهذا الشكل. وكنت أسأل عمي الطاهر وهو يذهلني مرة أخرى بثقافته البحرية وكان يكتب ذلك الجزء من المذكرات في إقامته الصيفية بشاطئ بن حسين بجبال شنوة.. كيف لم تحضر تلك الشخصية في بعض أعمال وطار السردية؟ ثم أساله هل وظفها بشكل أو بآخر؟ فيجيب بالنفي ولا يجد جواب لغيابها ثم حضورها بذلك الشكل الذي أثار فيه شجونا كبيرة وشروخا في الذاكرة. وكان وهو بين خضرة الطبيعة وأرزق المتوسط وغير بعيد عن زورقه الصغير يقول: هل تدري ماذا كنت أتمنى وأنا طفل صغير؟ ثم يجيب: كنت اجلس أمام بيتنا وأتلمس مساحة الأسمنت الصغيرة تلك وأتمنى لو أن تلك الأراضي الممتدة والتي لا خضرة فيها تتحول إلى مساحات من الاسمنت حتى أستريح من غبار الصيف ومن طين الشتاء وهو يصور قسوة تلك الطبيعة.

كان يستعيد كل ذلك وهو يكلمني عن الحاج بورقعة المطرب المحلي الذي يستعيد من خلاله طفولته، وفي مرة قادمة قدّم لي بكثير من الفرح قرصا مضغوطا لبعض أغاني ذلك المطرب القديم، وكنت أتوقع أن مخزون وطار الروائي فيه احتياطي كبير جدا يتمثل في تلك الأجواء المرتبطة بالطفولة التي لم تستغل بعد، وبإمكانه أن ينسج من خلالها عوالم جميلة، وكنت أكلمه عن الأمر ويكتفي بالقول: ربما.

فعند سماعي خبر رحيل عمنا الطاهر، تذكرت أول يوم قابله فيه عندما ذهبت لأراه في الجاحظية منتصف تسعينيات القرن الماضي وكان الموت المجاني يتربص بالجميع، لقد طلبت لقاءه وهو لا يعرفني ويكاد لا يعرفني احد في الوسط الادبي ومع ذلك استقبلني دون أن يفتش أحدهم "الكابة" التي كنت أحملها وهو يقول بسخريته المعهودة: "جيت من سطيف؟ ما جبتش معاك كلاش؟"، ثم استعدت صورته وهو يستضيفني في بيته لتناول إفطار رمضان ويقدم لي حساء الشربة على طريقتنا المحلية جدا، ثم سيطرت عليّ صورة صاحب الدراجة، وقلت في نفسي: لقد التحق عمي الطاهر برجم بن الزين.. لقد ذهب ولم يستغل ذلك الاحتياطي الكبير من الذاكرة في مشاريع روائية غير التي قرأنها له.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1492 الخميس 19/08/2010)

 

في المثقف اليوم