قضايا وآراء

محمد الخطاط ...شاعر التجربة المفتوحة

وهي ليست تجربة روحية تطوف بنا عالم المتصوفة، بل تجربة روحية ملتصقة باسماء حيّة، بشواهد   صارخة، بذكريات مجسّمة، بل حتى أوهام تحتل من ذواتنا مكانا ليس قصيا، إنّها تجربة الواقع المعاش بكل همومه وجبروته وشفافيته وعقده وماضيه ومستقبله ...

يقول :

[وكأنك الآن انتبهت على الخراب

بلاد أوروك أُستبيحت كلها

والنخل ما من تمرة سقطت

وماء النهر

كان هناك ...]

هذه الصورة المكثفة ليست عبارة عن تجميع لعناصر من هنا وهناك، بل هناك (الكل) الذي يهيمن على الصورة، عنوانها (المأساة)، وهي ليست مأساة طبيعية، بل مأساة أكبر من هويتها المادية المتمثلة بالخراب والجفاف، هناك مأساة عميقة ...

[كأنك الآن إنتبهت على الخراب ...]

هنا المأساة ...

وهي التجربة ...

تجربة وجدانية، هذا الخراب قد ياتي من يرممه، قد يأتي من يعيد له حيوته الغائبة، ولكن المأساة تقبع في ذلك النسيان (وكأنك الآن انتبهت ...) .

هذه اللمحة الذكية هي المسؤولة عن صناعة النص كله، لأنه روحه المشتعلة بالهم والحزن والألم، وأنا من الذين يتفش عن زاوية مهملة ظاهرا في العمل الفني، لأني أتصور بان هذه الزاوية هي التي تشكل سر النص الخفي .

هل هي لوم ؟

لا بطبيعة الحال ...

بل هي دهشة ...

تجربة محمد الخطاط ملموسة، ليست تجربة جافة، ليست مصطنعة، هنا سر قوتها، وهنا منبع تدفقها اللغوي والصوري والفكري ...

لنقرا ما يقول هنا :

[قــُـّدر لـ (حميــّد) 

أيام معارك جيش المهدي 

أن يبني داراً 

وكإن القصفَ 

      وثقل الخرسانات ِ 

                  وحضرَ التجوال ِ 

                              أمورٌ لاتعنيه 

الحاصل . شيدها برجا ً 

وسمت 

    تتحدى الله 

       وفوضى الرمي  ...]

نعم !

كان هناك من يتحدى الموت، الموت لم يكن يعنيه، لانه صمم أن يبني للحياة، يبني للمستقبل، رغم دوي المدافع، وزمجرة الطائرات، ورغم هذه العصائب السوداء التي تقتل الامل، تقتل  الحياة ...

إنه يعرض لنا تجربة، تجربة  حية، مستلة من الواقع، وهو بهذا يريد للشعر أن يكون مدرسة تساهم في بناء الانسان من الداخل، ولكن أين يكمن سر التجربة في تجربته الشعرية هذه، أي في هذا المقطع المهيب ؟

(تتحدى الله ...

وفوضى الرمي ...) ..

هذه بؤرة متوترة من التجربة، بؤرة ساخنة بالحياة، بؤرة متأججة بالفكر، هذا التحدي جاء بعد أن كانت هناك الإرادة القوية، الإرادة التي جعلت من الموت القريب  شاهدا على حضورها ...

شاعر التجربة وليس شاعر التجريب، فهو لم يتورط بخلق صور وهمية، بل التقط لنا صور الواقع  بلغته الشعرية الشفافة المتدفقة، ولكن بعد أن ألغمها بسر عميق، وعلى القاريء أن يلاحق هذا السر، وإلا  لم يكن قادرا على الاستمتاع بشعر محمد الخطاط .

الله هنا تعبير عن نظام الجبروت، وفوضى الرصاص تعبير عن إنعدام المسؤولية، شحوب معنى الحياة في ضمير هؤلاء !

ولكن أليس هو (حميد)؟!

إذن هي التجربة الذاتية وقد تلبست اردية الموضوعية الصارخة، تحولت الذات الى موضوع، تحولت إلى درس في الحياة والمعاناة والمقاومة والسعي الى مستقبل ينتظرنا بشغف وحب واشتياق .

النرجسية تقتل الشاعر في تصوري، وكثيرا ما تتحول التجربة الشخصية للشاعر إلى شكوى وتظلم وانكفاء على الذات، ولكن عندما تتحول تجربة الشاعر الشخصية الى نبع أفكار وتصورات، إلى دليل، إلى برهان، إلى طريق، تكون هذه التجربة قد دخلت العالم من بابه الواسع !

محمّد الخطاط نذر نفسه شعرا ليحي الشعر ويحي الشعراء ويحي الإنسان !

لا يعرف  الشاعر حضوره الشخصي محضا، بل يعرف حضوره من خلال الآخر ، جمعة الحلفي ... يحي السماوي ... الشاتي...  هذه رموز، هذه عينات مرآتية، صحيح إنها تعبر عن وفاء شخصي، ولكن موضوعها التجربة،  التجربة الموضوعية، التي تمنحنا المعرفة، والخبرة، والوفاء بالدرجة الاولى للتجربة، لأنها سوف تؤسس لقانون، تشيد عنوانا عريضا، حكمة، منطقا، وبذلك يتحول الشعر إلى قدرة هائلة على خلق العالم الجديد، على أختراع عوالم غير التي نعيشها .

يقول :

[شكرا ًللأرض

أعطتني أكثر مما يلزمني

دارا ً لا تدركها الابصار ؛

وقبراً يأويني

إن ضقت بتلك الدار  ... ]

 

لم يضعنا بين يدي هزيمة، بل يضعنا بين يدي ممكنات لا حد لها، وما علينا سوى أن نستثمر هذه الممكنات، الأرض أم، والارض خيال، والارض هوية، والارض بدايتنا ونهايتنا، فهل هناك من مفر ؟ وهل هناك من عذر أن لا نقتحم الصعاب، ونؤسس للمستقبل ؟

(أطتني أكثر مما يلزمني) ....

إذن هناك فضاء لا نهائي ينتظر كل من يقرا الارض بعمق وسعة، وهو إنما يتحدث لنا ذلك كما يبدو لي ليس عن رؤية مجرّدة بل عن وعي ساخن نتيجة تجربة حياتية فذة مع الارض، فهي أعطته دارا وقبرا، ولكن هل أعطته كل ذلك مجانا، أم هو الذي حفزها على أن تعطي ؟

الجواب ... !

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1492 الخميس 19/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم