قضايا وآراء

البغدادي يلقي الضوء ويرحل / نذير الماجد

 يقترب من المعرفة لحظة يتلاشى كالفراشة، إنه كائن متألم، وهو في الآن نفسه فارس يمتهن البطولة، فهو حين يتجاذب الفكر والقناعات والاهتمامات التي تجمع حشود المتسمرين أمام الحقيقة والطامحين إلى الارتشاف من معينها لا يفعل سوى أن يشعل المحارق ويكشف الحجب التي تغطي الحقيقة، الحقيقة المعرفية التي تجعل من القراءة كما الكتابة أو أي نشاط معرفي آخر هي أقرب إلى مسامرة الألم، الحقيقة العارية التي يفصح عنها المثقف المسكون بالألم لها مذاق الموت، والصمت هو ملاذ الخائفين البعيدين عن كل شيء يمت بصلة إلى البطولة.

 

هكذا يبدو كتمرد أنجبته الآلهة، مثل إله إغريقي يسرق النار من آلهة الأولمب ليمنحها الإنسان ويعاني بعد ذلك عذابا أزليا، لذلك لا يمكن أن يكون المثقف كائنا مسالما إلا حين لا يكون كذلك، إنه نصف إله يثير الزوابع أينما حل، ويحرك الركود ويثير الأسئلة المربكة.

 

هذه هي مهمة المثقف حسب ادوارد سعيد، فدور المثقف يكمن قبل كل شيء في "طرح الأسئلة المربكة علناً، ومواجهة التزمت والجمود (لا توليدها)، وأن يكون امرأ لا تستطيع الحكومات أو المؤسسات الكبرى احتواءه بسهولة، والذي مبرر وجوده هو أن يمثل الناس والقضايا التي نُسيت".

 

عدم الاحتواء أو الامتثال، والتحمل في مواجهة التحديات التي يثيرها الوسط السكوني والجامد ضد احتراقه الداخلي، وضميره المتيقظ دائما هي الصفات الأبرز في شخصية الراحل الكبير المفكر الدكتور أحمد البغدادي.

 

فصاحب "تجديد الفكر الديني" كما أراه ليس مثقفا من الطراز المهادن أو المنسحب من مواجهة تحديات التنوير، ليس مثقفا مطمئنا متماهيا مع ما هو واقع معاش، إنه مسكون بقلق التجاوز، قلق معرفي يضنيه ويجعل حواسه النقدية مشتعلة متوهجة تلامس الأشياء والأفكار والتأملات والتاريخ والحاضر بروح مرهفة حساسة وقلقة في الآن نفسه.

 

لدى البغدادي بوصفه مثقفا كإله، تتوحد صفة الجمال مع جلال وكبرياء المثقف والمفكر الذي هو بطبيعته يحمل ذاتا نرجسية متعالية على الواقع ومتجاوزة لتخوم السماء. التواضع والأريحية التي يتصف بها الراحل تتداخل مع حاسة المثقف المتعالية وازدراءه لكل ما هو دوني وصغير، فالذات المتضخمة تحدها ذات متواضعة مسكونة بالحب والابتسامة البيضاء.

 

المثقف كما يتجلى في راحلنا الكبير ليس إنسانا متجهما خشنا يكتفي بالصفع وكيل الضربات، ليس متغطرسا مستبدا وإنما هو محبٌ لطيفٌ خفيفُ الروح حتى وهو يلقي الحجارة على الركود، الحب هو ما يحركه حتى وهو يحترق ويشتعل كالضوء في تبديد العتمة.

 

التقيت الراحل البغدادي مرات معدودة لكنها كانت ثرية ودافئة، أهداني بكل تواضع ومحبه كتابه المهم "تجديد الفكر الديني"، وكتب فيه: (... ذكرى صداقة متواصلة، أحمد البغدادي، يونيو 2009م) كان هذا في لقاءنا الأخير الذي كان حافلا بالحب وفوائد معرفية جمة، ونصائح فيها دفء الأبوة. وبوصفه أبا من آباء التنوير نصحني: لا توغل في تمويه المتلقي أو إجهاده بأدوات الكتابة النخبوية، نهدف إلى التنوير لا إلى التعقيد وإلقاء حاجز من الغموض، التنوير يجب أن يجد طريقه إلى المتلقي بسلاسة ووضوح وإلا انتفى الغرض منه، حتى تشق طريقك إلى الناس يجب أن تجيد اللغة التي يفهمها أغلبهم وفي ذات الوقت لا تتنازل عن فكرتك.

 

لقاءنا الأول كان ملغما بالأسئلة، كنت أرغب في الاستزادة من فكره وخبراته الواسعة في الاحتكاك مع الزيف والجمود والأصولية وهو الذي عانى من عنتها وتزمتها وغلوائها، سألته وأجاب وتحدث كثيرا، وفي حديثه كان التفاؤل يتجاور في إيقاع متناغم مع التشاؤم الناجم عن الانسدادت المتعاقبة في واقعنا، التفاؤل والتشاؤم هو نبض الواقع في صدر البغدادي: تراجع الديموقراطية يزيد من وتيرة الإحباط الذي يحد منه تموج التنوير في العالم العربي كما بدا له وذلك رغم تواطؤ كل أشكال السلطة.

 

قبل أن ألتقيه كنت أخشى أن يتحطم التمثال الذي رسمته له، خشيت أن أجد مثقفا من النوع الساخط والغامض والقابع في برجه وأحلامه، خشيت أن ألمس تأثير خصومه السلفيين على شكل استجابة حادة تستأصل شأفة التمايز والاختلاف، لكنه كان على العكس، ديموقراطيا وشفافا ومنفتحا ومتسامحا، لم يكتب عن التسامح أو الانفتاح إلا حين يكون كذلك على صعيد الممارسة، كان يكتب ويعيش ما يكتب، لا كالمغتربين عن ذواتهم والذين يعانون من انشطار وانقسام حاد بين الذات والوعي، بين النظرية والممارسة، بين الكتابة والحياة. تلمح الشاعرة فروغ فرخزاد إلى أنها شاعرة وهي كذلك في كل حياتها، البغدادي كان كذلك وأكثر، يعيش التسامح قبل أن يكتب عنه، ويعيش الانفتاح قبل أن يدعو إليه، وهو في هذا كالكبريت الأحمر بين كثير من المثقفين.

 

إن خفة الروح للبغدادي لم تحل دون أن يتسم بثقل معرفي ضروري للمثقف الرزين، قال لي في لقاءنا الأول: إن المثقف المتحول عادة ما يكون خفيف الوزن بل منعدم الوزن لا يعرف ماذا يمكنه أن يقول كما لا يمكنه أن يتجذر في بستان، الخفة المعرفية لا تلائم المثقف الذي عليه أن يتعاطى الشأن الثقافي بحذر، إن التحول هو ديدن المثقف كما يرى البغدادي، ولكن بأدوات معرفية تشده إلى الأرض، وليس كريشة يتقاذفها الهواء، هذه كانت رؤيته للاشتغال الثقافي والتحولات المعرفية، وهي رؤية وتصور متماسك ومتين، مما جعلني أتوقف لأقوم على الصعيد الشخصي بمراجعة ذاتية لا تخلو من وخز الندم.

 

هكذا وجدت البغدادي وهكذا كان حضوره في الذاكرة: ذكرى صداقة متواصلة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1498 الجمعة 27/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم