قضايا وآراء

إما / أو .. / صالح الرزوق

 ما معنى أن تختار !. مع أنه من المؤكد أن الطمأنينة القصوى أن تختار بشكل صحيح، فإن مشكلة الاختيار بذاتها لا تزال الشرط المسبق الشديد الأهمية. بالنسبة لشابة عاشقة ما معنى أن تضع في حسابها كل ميزات ومواهب خطيبها لو ليس بمقدورها أن تختار ؟. ومن جهة أخرى، لو أن الآخرين تابعوا  صفات وخصال معشوقها المثالية والخطاءة، هل بمقدورها أن تقول أقوى من العبارة التالية : إنه الذي اختاره قلبي !.

الاختيار ! نعم، هذا هو الجوهرة الغالية، ومع ذلك ليست الغاية منه أن يدفن ويستتر. فالاختيار الذي لا يوضع موضع التطبيق هو أسوأ من العدم، وهو فخ يقع فيه الإنسان نفسه كرقيق أو عبد لم يصل إلى الحرية - بواسطة الاختيار.

و من الأمور الجيدة أنه ليس بوسعك التخلي عنه. فهو يلازمك، وإن لم تستعمله، يتحول إلى لعنة عليك. الاختيار – ليس شيئا بين أحمر وأخضر، وليس بين الذهب والفضة – كلا، فهو اختيار بين الله والعالم المادي ! هل تعلم شيئا مثل الاختيار؟.

هل تعلم تعبيرا متواضعا وغامرا يعبر عن وضوح وتجلي الله أمام عيون البشرية غير التعبير الذي اختاره لنفسه، ولنقل، وضع فيه نفسه بمستوى الاختيار بينه هو والعالم، فيكون بمقدورنا أن نختار، إن الله، لو أن اللغة تجرؤ أن تتكلم بهذه الطريقة، يعمد لاحتواء الجنس البشري –  وهو، مع أنه قادر وعظيم وأبدي، يحاور البشرية الميتة ؟. وأضف لذلك، هل إن اختيار العاشقة الشابة بين المعجبين بها يقبل المقارنة مع هذا الاختيار بين الله والعالم !.

الاختيار ! أو لعل موضوع الاختيار الذي نناقشه هنا غير متكامل وغير نموذجي إذ ليس بمقدور الإنسان أن يختار فقط ولكن يتوجب عليه أن يختار؟.

أليس من مصلحة العاشقة الشابة أن يقول لها والدها : " يا ابنتي العزيزة، هاك حريتك، ولكن يجب أن تختاري ". أليس من الأفضل لو لديها زمام القدرة على الاختيار، ومع ذلك إنها تنتقي بلا تركيز ودون أن تعزم على أمر وتختار ؟.

كلا، على المرء أن يختار، وبهذه الطريقة يحتفظ الله بشرفه وفي نفس الوقت يهتم بالجنس البشري بالطريقة التي يرعى بها الآباء أبناءهم. ومع أن الله حط من قدر نفسه إلى هذه الدرجة وأصبح في مرتبة الاختيارات، على كل امرئ يترتب عبء أن يختار. الله  ليس له شبيه. ولذلك تبدو المسألة بهذه الصورة : لو تجنب المرء الاختيار، هذا مثل الافتراض المبيت أن يقع الاختيار على العالم.

على كل شخص أن يختار بين الله والعالم، الله ومفسدات الإنسان. هذا شيء أبدي، شرط غير متبدل من شروط الاختيار ولا يمكن تجنبه – كلا، لا بد منه في أي حياة أبدية. وليس بمقدور المرء أن يقول : " الله والعالم، في النهاية، ليسا مختلفين تماما. وبمقدور المرء أن يجمعهما معا في اختيار واحد ".

و هذا يفرض علينا الامتناع عن الاختيار. حينما يتوفر مجال للاختيار بين إثنين، من ثم أن ترغب بالاختيار يتساوى بالأهمية مع الابتعاد عن أن تختار " دمارك وخرابك الشخصي ". ( هيب – 10 : 39 ). ليس بمقدور أحد أن يقول " تستطيع أن تختار القليل من عرض الدنيا والله في نفس اللحظة ". كلا، إنه من الممكن أن نحط من الذات الإلهية لو فكرنا أن المرء الذي يرغب بالثراء الفاحش فقط هو من يختار عرض الدنيا.

و لكن، إن الشخص الذي يصر على اكتناز النقود بغياب الله، هو يرغب بامتلاك القروش للمنفعه الخاصة. ولذلك فهو يختار عرض الدنيا. النقود تكفي، والاختيار قد تم. لقد اختار المادة زبد الحياة. وهذا لا يؤثر على الإطلاق ولا يبدل من الحال. فمحبة الله هي بغضاء للعالم وحب العالم هو كراهية تجاه الله. وهذه هي النقطة الأساسية لهذا المدلول. إما الحب أو الكراهية. وهنا ميدان أفظع حرب يجب أن نخوضها. ولكن أين هو هذا الميدان. هل هو في أعماق الكيان الشخصي للكائن. 

سواء كان الصراع من أجل قرش أو مليون قرش، فهو له علاقة بالمحبة والميول نحو الله – وأفظع أنواع الصراعات هو الصراع في سبيل الأسمى. يا لها من سعادة لا تقدر حين نكون نحن على موعد معها لو أننا أحسنا الاختيار. ولو لم يفهم كل شخص هذا الموضوع، فالسبب أنه غير مستعد لتقبل فكرة أن الله حاضر في لحظة وقوع الاختيار، ليس ليراقب ولكن ليكون هو من نختار. وعلى هذا الأساس، على كل امرئ واجب أن يختار. والمعركة مصدر للقلق، وهي تدور في أغوار الأشخاص، وتكون بين العالم والله. والخطر الأقصى الضمني تجده في امتلاك القدرة على هذا الاختيار.

و أيا كان شان اختيار الإنسان، حينما لا يختار الله فهو يفقد الإما / أو، أو بالأحرى إنه يكون متحررا من  إما / أو.  وعلى هذا الأساس : إما الله / ... فما هو دلالة إما / أو هذه ؟. ماذا يطلب الله بهذه الإما / أو؟ إنه يطلب الطاعة، الطاعة غير المشروطة. إن لم تكن مطيعا في كل شيء وبلا شرط، وبلا مسبقات، أنت لا تحبه، وإن لم تكن تحبه – أنت تمقته. إن لم تكن مطيعا في كل شيء بلا شرط، أنت إذا لست في ميثاق معه، وإن لم تكن مرتبطا به أنت تحط من قدره.

و لو بمقدورك أن تكون مطيعا تماما، حينما تتلو صلاتك قائلا :  " قنا في المسالك من الغواية " لن يكون هناك غموض تعاني منه، وستكون غير مجزأ وستكون واحدا أمام الله. وهناك شيء واحد لا يتمكن مكر الشيطان وكل فخاخ الغواية أن تدك أبوابه بلا سابق إنذار– الإرادة المتماسكة. إن ما يصل إليه الشيطان من خلال دراسة فريسته بالبصر العميق، وإن كل الغوايات التي تستهدف أركانا معينة من فرائسها، تركز على الغامض والمجهول.  وحينما تحيط بك الشبهات تحل فيك الغواية، ويمكن أن تثبت بسهولة أنها الأقوى. وأينما كان هناك غموض، وحيثما كان هناك شك، هناك أيضا عصيان ينمو في الأعماق.

و حيثما لا مجال للغموض، يكون الشيطان والإغواء بلا قوة. ولكن في أية بادرة للتشكك، يصبح الشيطان جبارا والإغواء جارفا، وإن الشخص الشرير صاحب النظرة القوية هنا هو الفخ الذي يدعى الإغواء والذي تدعى ضحيته الروح البشرية.

طبعا، الشيطان ليس مصدر الإغواء القادم، ولكن الغموض لا يستطيع أن يستر نفسه منه. ولو اكتشفه، يكون الإغواء دائما ممكنا. ولكن الشخص الذي يستسلم لله تماما، من غير تحفظات، يكون دائما في مأمن. ومن هذا المخبأ الآمن يكون بمقدوره رؤية الشيطان، أما الشيطان لا يراه. ولو أنه بقي في حالة طاعة واستسلام وهو في مخبئه، إذا هو " قد هرب من الشر ".

 

 

و هناك خطر رهيب نجد فيه أنفسنا نحن بنو البشر، وهو خطر يتألف، في الحقيقية، من أننا نشغل مكانا بين قوتين شرستين. ولكن الاختيار لا يزال بين أيدينا. وعلينا أن نحب أو نكره. وأن لا نحب يعني أن نكره. وما أن ننحاز قليلا لإحدى هاتين القوتين المتنازعتين حتى نكون بالمطلق في حالة عداء ضد الأخرى.  لن ننسى هذا الخطر المحدق الذي نحن موجودون فيه. أن تنسى يعني أننا عقدنا العزم على اختيار .

 

ترجمة : صالح الرزوق

 

Either / Or , by : Kierkegaard. In : Provocations. Compiled and Edited by Charles E. Moore. 2002.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1499 السبت 28/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم