قضايا وآراء

النقد الادبي: رواية "الصخرة والبحر والإلهام" لهيام الفرشيشي .. راوية الصراع بين المخفي والظاهر / غالب حسن الشابندر

وأقول (مقترب) وليس (قاعدة) لانّي أستبعد وجود قواعد أو أصول ثابتة في النقد الأدبي والفني، فإن مادة الفن والشعر والقصة أو المجال الفني والأدبي ليس منسجما في مفرداته ومشاكله وموضوعاته وأسلوبه كي يتسنى لنا (استنباط) مثل تلك القواعد والقوانين كما هو الحال فيما حاولنا ذلك في ميادين الفيزياء والكيمياء، بل حتى ميادين التاريخ والانثروبولجيا، عليه لكل ناقد مقارباته أو قواعده، وليس هناك قواعد نقدية فنية أدبية كما هناك قوانين فيزيائية مثلا .

 

الرواية أو القصة في تقديري وفيما أقراها وأمعن النظر فيها إنما أتفحصها من خلال عدة مقتربات، وعلى ضوءها أقرر كم هي تأ خذ مني حق الإعجاب من جابنها، أو حق التحفظ من جابني، وفي مقدمة هذه المقاربات كثافة الحدث، أو كثافة الأحداث، ليس من منظور عددي، وإنما من منظور  توتّر وتصاعد واحتدام، والمقترب الثاني سعة حضور (اللاشعور) في السرد، حضوره الفاعل، هو السارد تقريبا، في اليقظة وليس في المنام، فإن الحدث الروائي ليس حاضرا بطبيعة الحال، إنّه في سبات في أغلب الأحيان، والمطلوب إيقاظه بعنف وشراسة، والمقترب الثالث الذي اختص به بالتعامل مع النص الروائي هو التقنية المتداخلة، وليس التقنية المتسلسلة، لا  أتعامل مع الحدث الروائي منطقيا، متسلسلا، لان الحدث الروائي ليس اصطناعيا وإن كان صناعة في الأصل، ينبغي أن يكون ترجمة إلتواءات الحياة، تعرجاتها المتداخلة بشكل مذهل، مشاكلها المتزاحمة، وهذا لا يعني أن أؤمن بمبدأ المفاجآت في السرد الروائي، بل أؤمن بان الحياة لم تعد ساذجة، هادئة، مطمئنة، بل هي سيرة متقلبة بعنف، والنص الروائي ينبغي أن يخلص لهذه الحقيقة الوجودية .

 

2 :

النص الروائي للسيدة هيام الفرشيشي (الصخرة والبحر والإلهام) نص مكثف الصور، أو مكثف الحدث، هو حدث واحد في الجوهر، ولكنّه احدث موجا من الحركة فيما حوله، لقد كان السرد يتأرجح بعنف وقسوة ومطاردة بين تيارين جارفين، الأمنية / المعوقات، الحاضر / الماضي،  الحس / الغيب، وبكلمة مختصرة مكثفة : الشعور / اللاشعور . ولكن مسيرة النص يحكمها في النتيجة  طغيان الحلم، الحلم الضائع، الذي  يعرفه (س) بحدوده كلها، وإنما ضياعه بعنوان صعوبة نيله، استحالته، إنه يهرب دائما أمامه، فيما هو يتحرك للفوز به،  بشوق روحي مشبّع بالوله، ولكن دون جدوى !

كان الحاضر الصلب يستدعي دائما الماضي الحزين، يستدعيه بصلافة، لا ن الكلمة النهائية تكون له، وله وحده !

 

كان الحضور يتهاوى  بسرعة أمام الذاكرة، الذاكرة المشحونة بالسلب المطلق، ففيما كان (س) منهمكا في إعداد أطروحته عن (حضور أسطورة أوليس وعرائس البحر في الأدب العالمي) تتداعى أمام مشهده اليقظ  صور الماضي العتيد، تذكر كيف كان يصارع صورته في المرآة، صورته التي هي تعبير عن عمق استلابه المادي والروحي، فيكون نصيب تلك المرآة الاستهلاك النهائي نتيجة ضربة يوجهها لذلك الزجاج المهين !

صراع مستمر مع الماضي، الماضي كان شيطانا أمرد، ينسل بهدوء عبر أمانيه، عبر إرادته الحرة كما يبدو له،  ولكن السرد بحاجة إلى ناظم مركزي،  لم تكن القاصة  الشرشيفي  تميل الى السرد الفوضوي، الذي لا يستند إلى مرجعية لفهم تداعيات النص وتشعبه، لابد من نقطة ثبات، فما هي هذه النقطة ؟ إنها الأسطورة، أسطورة (عروس البحر)، لا  لتنظم النص وحده، بل حياة (س) بالذات، وبهذا نمسك بتطابق فذ بين الذات والموضوع في السرد .

 

يقول (س): (... وسار نحو حوض عرا ئس البحر، كان يولي وجهته إليه كلما نشف فكره، وشعر  بفراغ مقيت ...)، وليس من شك أن الراوية هنا تبدع برسم هذا التماهي بين الكلمة وا لواقع .

 

عرائس البحر تختزن سرا عميقا، صحيح أنها حكاية تطوف على الألسنة، وهي حكاية خرافية أسطورية، ولكنها بالنسبة لـ (س) تختلط بصورة سابقة لعروس تسكن (البر)، وبذلك نلتقي بمحاولة أخرى، محاولة جادة، تماهي بين الواقع والخيال، بين الشعور واللاشعور، ولكن الغلبة للأخير، للحلم، للأمنية !

 

وإذا كان البحر هو مسكن تلك العروس الأسطورية، فإن صخرة تمثل الانتظار الحي، انتظار عروس البحر، هناك تربض على ساحل البحر، ولكن البحر هو أيضا يربض عليها، تربض على ساحل البحر مكانا، ولكن البحر يربض على حوافها ذكرى وأمنية وحلما !

إنّه صوت العروس، ينبعث من أعماق البحر، وهو يجلس على حافة الصخرة يسمع هذا الصوت الساحر الخلاب، ولكن هل كان يشعر إنه صوت منبعث من أعماق ذا ته ا ولا، ثم انعكس على البحر، ثم ألقي إليه مرّة ثانية ؟

لا !

تكثيف العلاقة بين البحر و الصخرة والأمنية والحلم فن روائي بارع تتمتع به السيدة الفرشيشي، وبلا ريب أن هذا التداخل في الأحداث، بحيث يتأخر زمانا ما هو متقدم، ويتقدم ما هو متأخر، وتحتشد المسافة بين بداية ونهاية بأكثر من حدث ملفت للنظر، كل ذلك يذكرنا فن التقنية الملتوي، فن التقنية الملتهب بلعبة القدر، لا  لعبة الإرادة في مسيرة الحياة .

 

3 :

اللاشعور يفرض نفسه بقوة في فن الفرشيشي، وبقدر ما كان الآخرون يشعرون  وبكل وعيهم أن ما يسمعه (س)  مجرد خيال، كان هذا الخيال يكتسب المزيد من الواقعية في وعي    (س)، كان يتجذر أكثر وأكثر، فهو ليس (اللاشعور) من حيث المبدأ، ولا هو (لا شعور) عابر، بل هو (لاشعور) قد حفر وجوده في أعماق (س) بعنف،  لأنه حدث ضخم، حدث وجداني مثير، ساخن، يبدو  أنه امتلك عليه كل وجوده، فكان حظه من مساحة الغيب النفسي سعة لا يمكن  تجاوزها، وعمق لا يمكن تجاهله، وكلما يسمع ذلك الصوت يصبح (أكثر ثباتا في الرؤية، كما ينعكس ذلك من خلال رسومه) !

كل ذاك قاد إلى تغير هائل في صورة الصخرة في تفكر وهاجس (س)، هي ليست مكان انتظار وترقّب، بل هي تاريخ، هنا يمكن أن يتشوف صورة تلك العروس، العروس الحاضرة الغائبة، حاضرة في البحر غائبة في اليابسة، حاضرة في اللاشعور غائبة في الشعور، ولذا تتسحق تلك الصخرة أن يتلمسها بأنامله، عله يقع على الأمنية الكبيرة، ولكن هيهات، فسرعان ما يكتشف أنْ لا شيء سوى (الصخر المتغضن)، فهل يُعقل بعد كل هذا العناء أن تبقى عروس البحر حقيقة ؟

نعم !

لانها صدى لتلك الحقيقة الرابضة في أعماقه، الحقيقة التي ما رست دورها قويا، ساحرا، نافذا في حياته، يبدو إنها كانت الحدث الأبرز في كل تاريخه .

يصل التناقض الى ضد عندما تبدي له عروس البحر بان منالها بعيد، وهو من عالم لا ينتمي إليه صاحبنا، فبدل أ ن يتحرر من هذا الوهم، يزداد يقنيا !

تقول له العروس الوهمية : (مجنون أنت يا من سلك دروبنا، من قادك الى موقعنا ؟ هذا الدرب عفت عليه الأيام، ومحوناه من الذاكرة، وضللنا من حاول الوصول إلينا) !

إنه خليط محير من الواقع والوهم، من الحاضر والغائب، ولذلك كان سؤاله  مشروع عندما يحدث نفسه قائلا (هل أنا في مقبرة ا لذكريات ؟) !

 

4 :

لقد غلبه تمازج الوهم بالحقيقة، وهم الخارج وحقيقة الداخل، وبين الوهمين  كان  صريع البحر، لم  تنقذه   غير الصدفة، وفيما ينشط الوعي فيه على أثر  صدمة، يبقى شبح المخفي، اللاشعور يلاحقه، فهو ما زال يتمنى (أن يعود إلى الصخرة، ويقتحم البحر من جديد)، لكن يبدو صحوة وعي حقيقية تهتف به بقوة، كيف انبعثت هذه الصحوة ؟ لا نعلم، فالحكاية تنتهي (دون  أن يمسك إلا ببقايا خيالات لا يعرف مدى صحتها) تُرى من أين جاءت هذه ا لصحوة، ما هي عوامل بعثها ؟ لا نعلم، ولكن هي محاولة بارعة من صاحبة النص لتعطي لخيال القارئ فسحة كبيرة للبحث عن الجواب، ورغم أن الحكاية لم تنته، بل يعود الصراع يمارس دوره وحقه في خلق السرد وتعميقه وتعقيده، إلا أن النهاية تأتي  ببساطة، تأتي من الواقع البسيط !

 

يتأمل الواقع البسيط  أمامه الذي لم يكن سوى جريدة يومية كان يأتي بها البحار كل يوم يتصفح ما بها، وفيما هو يعبث بحروفها وكلماتها تخرج عليه تلك الأمنية التي كانت تراوده بكل شغف، تغريه بالإبحار من أجلها، ولكن تغيب  ... تغيب ... فيسجل هذا الغياب  تفاصيل حياته المضنية !

  

للاطلاع على نص القاصة هيام الفرشيشي:

الصخرة والبحر والإلهام

وللاطلاع على القرءات النقدية حول النص:

نص: الصخرة والبحر والإلهام للقاصة هيام الفرشيشي

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1499 السبت 28/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم