قضايا وآراء

راهنية سقراط ومعنى حياتنا .. قراءة انطباعية في ديوان فوضى المكان للشاعرة رسمية محيبس زاير / سلام كاظم فرج

بضفاف غير تلك الضفاف التي يرنو إليها أزلام السلطة الماسكون بزمام الثقافة والمحركون لدفتها..

نبغت رسمية شاعرة وهي في ربيع شبابها لتجد نفسها أمام حلم مقتول.. في جنازته كل شيء يدعو للصمت..لكنها واصلت الكتابة رغم انشغالاتها البيتية وهمومها اليومية.. وما سمي بالقادسيات والحصارات الاقتصادية حيث عز الطعام في بلد النفط والحضارة.. وراجت سوق بيع الأقلام .والقصائد..من هنا يأتي اهتمامنا بتجربتها.. وإعجابنا بها..ودعوتنا لإعطاء تلك التجربة مزيدا من اهتمام النقاد.. والمسؤولين عن إدارة دفة الثقافة الجديدة...

للناقد كراند كرمود مقولة معبرة عن تأثير الشعر ودوره في الحياة الإنسانية ..

يقول في كتابه الموسوم الإحساس بالنهاية والمترجم من قبل الدكتور عناد غزوان (لاينتظر من النقاد مثلما هو منتظر من الشعراء أن يكونوا عونا لنا على وضع معنى لحياتنا.. أنما الجدير بهم  السعي لعمل اقل خطرا... بوضع معنى لطرائقنا التي نتبعها نحن القراء... لوضع معنى لحياتنا....).

لقد استطاعت الشاعرة رسمية في ديوانها (فوضى المكان) أن تحرك تلك المقولة الكامنة في ذاكرتي وانأ أتصفح مجموعة من قصائدها الشفيفة الغارقة في الرقة.. والمكثفة   بجمل شعرية سلسة في ديوانها الأنيق الصادر عن منشورات مؤسسة الفكر الجديد للثقافة والإعلام والفنون في النجف الاشرف..

(أي حزن ينام بقلب المغني

إذا هبط الليل..

أو أرقته الأماني..

ليمسك الناي......)........ من قصيدة مزرعة من غناء

ونظل نبحث عن جواب لمفردة أي..لنجد إن الليل سيتحول إلى مزرعة من غناء إذا امسك المغني بنايه..وفي هذه القصيدة  تتقلص مساحة الجملة إلى أدنى مستوياتها ..لكنها ترنو لفضاء  مفتوح ..  وتلك سمة تميز كل قصائد الديوان.. فالجملة الشعرية ترفل بتكثيف عفوي غير مفتعل..

وأي اغتراب سيعم العالم إذا كف ذاك المغني عن العزف..؟؟؟؟ أي اغتراب؟. ولولا إنها شاعرة تجيد العزف على إشتغالاتها الوجدانية والفكرية لقالت أي خراب؟!

في قصيدة موت سقراط استطاعت الشاعرة أن توظف الفجيعة بفقدان الرجل العزيز/ الحبيب/المحب/ الحليم/ الفادي/النقي كسقراط الذي لايلتفت لمصيره الفردي بل هو مهموم بمصير تلاميذه وما سيؤول إليه حالهم.

(كأس السم قريب من شفتيك..

وما زلت تحدث جمهورا..

جاء ليقطف ثمرة الحكمة..من بين يديك.......(من قصيدة موت سقراط)

وسقراط رسمية يتماهى معه كل الفادين..

(الليلة تغرس آخر أشجارك وتغيب..)

إنزياحات مفردة سقراط عديدة ... أهمها الحكمة وحب الحكمة.. لكن الشاعرة تركزهنا  على الإيثار .. وعلى راهنية الإيثار في زمن الأنانية هذا... فسقراط قد يكون حاضرا في أروقة الشعراء والمفكرين والفلاسفة والمنظرين كفيلسوف.. ولكن هل تراه  متوفرا كزارع شجرة وهو يعلم انه سيغادر الليلة؟؟؟

سقراط رسمية.... الذي ترنو إليه القصيدة كان كذلك..و كان موجودا.(أني أسعى نحو خلودي..

فلماذا تبكون؟

هذا الدرب ندي

والأتباع تغص بهم الطرقات).. موت سقراط..

هنا يتسامى الشعر ليدلنا على الطرقات الندية المؤدية لاكتشاف معنى لحياتنا!!! (ولكني كلما مددت يدا.....

إلى زهرة........ قطفت..

والى غيمة.......رحلت..

والى نجمة......... سقطت في رداء الصباح)..( من قصيدة لهذا أحب الشتاء)

إن رماد الفجيعة الذي يتناثر في عوالمها لايمنعها من التفاؤل والبحث عن المعنى.. فرغم إن الربيع مر على عجل ولم تتبينه فهي تجد بديلا فتحب الشتاء.. في رقتها تجازف فتقتحم جيوش العبث وتنتصربكل دماثة الأنثى ورقتها..  وتتعالى على كل مبررات العماء...

(كلما أمطرت..

تتجدد آصرتي بالسماء..

وفي الليل يفتح قلبي

نوافذه لجميع النجوم).. من قصيدة لهذا أحب الشتاء..

لم تقل للنجوم.. بل لجميع النجوم..

هي شاعرة متفائلة وتفاؤلها مطبوع  وليس مصنوعا... أو مفتعلا..ورغم إنها بحاجة إلى البكاء........لأن قومها........

(حثون الخطى صوب المعابر

التي تؤدي الى الموت..

المطر/ الدم/

يتدفق..

الصراخ يكبر آخر الليل..

يعبر المدن..

ويوقظ النيام........).. من قصيدة أنا بحاجة الى البكاء..

وحين نتساءل عن أي قوم تتحدث الشاعرة يحيلنا الديوان بكل قصائده الى تداعيات وانثيالات لنكتشف إن قومها هم.. الشعراء.. الفلاسفة..الفادون.. المغنون... الفقراء..أغنياء الروح.... . بل البشر كلهم..فليس مثل رسمية من تتأطر بحدود الزمان والمكان..(حين تكاثرت دماء الحسين...

هل انطفأت النجوم؟

هل توقفت الريح؟؟..)

إن استلهام الإرث الثوري للأمام الحسين يدلنا على نمط جديد من أنماط البحث عن المعنى في اعلى تجلياته  السلوكية المقترنة بالتضحية الباذخة من اجل ديمومة الحياة..  وتلك مثابة اخرى من مثابات إشتغالاتها الشعرية..

ولقد استغربت من بعض الأخوة القراء حين يتساءل.. هل تحولت رسمية الى شاعرة مناسبات وهي تكتب عن آل البيت؟؟.. وكأن تناول آل البيت شعريا مثلبة تحسب على الشاعرة  وليس لها.....  إن في تأريخنا الإسلامي تراثا فخما وكنوزا من المواقف.. ما زال الشعر  العربي مقصرا في تناولها.. وما قيل أكثره مجرد بكاء على الأطلال.. يفتقر الى الشعرية.. لكن رسمية تحاول أن تسد فراغا مهما.. ألا وهو تناول مواقف آل البيت شعريا وليس  نظما عاطفيا يكرر ما قيل ويقال.... تلك هي ميزة رسمية التي  نبارك منحاها هذا ونشجعه..

 

ولأن صنع الحياة لاينحصر في نمط واحد..وأروقة الشعر لايمكن أن تكرس لنمط واحد.. نراها تقول .. (حين مات عبد الحليم..

خيل لي إن عقربا قد لدغ القمر..)

ومن يعرف حجم المحبة التي كان يكنها لها زوجها الشاعر الراحل كزار حنتوش.. وما كان يعني اسم عبد الحليم  لهما.. يستطيع إن يعرف

أي قمر قد لدغ...!

هذه قراءة متعجلة انطباعية .. وديوان فوضى المكان يحتاج إلى دراسة متأنية وهو قمين باهتمام الاكاديمين لكننا أردنا أن نحيي هذه الشاعرة القديرة التي تطمئننا قصائدها. إن الشعر العراقي بخير ومازالت أشجاره مورقة واعدة..

إن إشتغالاتها في الشكل والمضمون تركز على قيم شعرية باذخة مكثفة..متضامنة بموسيقى داخلية هامسة منسابة دون ضجيج فلا قافية رنانة ولا خطابة مؤد لجة ورغم ذلك تجدها شاعرة ملتزمة بأعلى درجات الالتزام وفي ذلك يكمن سؤددها ومجدها....

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1500 الاحد 29/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم