قضايا وآراء

ثم جاء بعد ذلك سقراط .. / غالب حسن الشابندر

 

فما الذي قال؟

لم يهتم بالتحليل الميتفايزي للوجود، فبعض هؤلاء ـ الأيونيون ــ يحاول كل منهم وعلى طريقته الخاصة حل مشكلة الوجود، طبيعة الوجود، ويشيدون نظرياتهم أو رؤاهم عن السماء والارض والانسان (طاليس /624 ـ 546 /، انكسيمندريس / 610 ــ 547 /، أناكسيمانس /588 ـ 524 / هرقليطس / 540 ــ 475 /، يوجين، هيرقليطس، أبوللني ...)، إ نّهم غرقوا بالبحث عن (قوام) الوجود / الهواء، الماء، النار، التراب / بين أخذ وعطاء، تارة بلغة المفرد الصلب المتعين، وأخرى بلغة الجمع المتفاعل المتغير المتطور المتحول، وثالثة بلغة الثنائية، إنهم أيونيون، نسبة إلى ايونيا، ساحل اسيا الصغرى، حيث كان طاليس (624 ــ 546) زعيمهم المُعلى، بل الأب الشرعي لفلسفتهم، وعندما اتناول فلسفة الوجود احاول أن اكتشف العلاقة بين التوجه الفلسفي لهؤلاء وبيئتهم الجغرافية وظروفهم التاريخية، كذلك مع كل مدرسة من المدارس الفلسفية التي سوف نمر بها .

هذا على جانب الفلسفة الأيونية ...

كذلك الموقف من الفلسفة الفيثاغورية، حيث يجسِّد ويحصر ذلك القوام بـ (العدد)، العدد وحده، فهو الحقيقة الفائقة، العدد هو الجوهر الاخير للشيء وليس هو الشيء بعينه، فالعنصر الذكري هو الواحد، والعنصر الانثوي هو الأثنان، وبالتزاوج ينتج ثلاثة، والعدالة يساوقها بالاربعة، لانها حصيلة ضرب المتسا ويين، اي أثنين باثنين !

لم تُشبِع هذه الفلسفة وجدان سقراط ...

كذلك الموقف من الفلاسفة الايليون ــ نسبة إلى أيليا على الشاطيء الغربي من أيطاليا جنوبا، سنة 540 قبل الميلاد ــ هؤلا ء (اكسانوفان / 570 ــ 480 / بارمنيدس / 540 ـ؟ / زينون الإيلي / 490 ــ 430 / ميلسوس / 440 ــ؟ /) ويعتبر اكسانوفان هو الاب الروحي للمدرسة، هؤلاء شرعّوا للوجود ذا ته وحسب، وَهبُوا الوجود للوجود بشكل مطلق، وابعدوا العدم عن المشاركة، الكثرة والحركة مظاهر وهمية، العدم خرافة، هناك وجود ولا شيء، ولا أغالي إنْ قلتُ كانت هذه التصورات بداية تشريع مدرسة فلسفية عميقة حول تأصيل الوجود، وحرفِ كلِّ عمليةِ تعريفٍ تحاول أن تتمكن منه!

لم يكن سقراط على وفاق مع هؤلاء (الأيليون) ...

كذلك كان موقفه رافضا للفلسفة التي تقحم المفاهيم الوجدانية في تفسير الوجود، مثل الحب والبغض وما شابههما، كأن يقولون: (هناك تلاحم وانفصال في الكون نتيجة الحب وا لحقد)، وقد برع في طرح هذا التصوير الفني الجسدي للوجود أناكساغور (500 ــ 428)، ذي النزعة المادية الشفافة .

الموقف من السفاسطة كان حاسما، فمن المؤكد يوجد شيء، ومن المؤكد يمكن معرفته، ومن المؤكد إذا عرفناه يمكن إيصاله للآخرين، وإلاّ أي معنى للمحاورات؟ وأي معنى للأكاديمية؟ ولكنه رغم ذلك استفاد منهم بصورة غير مباشرة عن أهمية الكلمة، ودور اللغة في الهداية والتضليل، كما سنرى فيما بعد .

لقد أعطى ظهره لكل هذه التوجهات والتاملات، وأعلن بكل وضوح إن الجوهر هو القيم، انطلاقا من أوالية الذات، الانسان، وكانت القيمة لكبرى في فلسفته هي (العلم بالنفس من أجل تقويمها)، فهو لم يحفل با لطبيعيات والرياضيات (ولم يكن موقفه بإزاء النظريات العلمية ليختلف كثيرا عن موقف السوفسطائيين، فآثر النظر في الانسان، وانحصرت الفلسفة عنده في دائرة الاخلاق) / تا ريخ الفلسفة اليونانية، كرم ص 53 /، وأشار الى ذلك صراحة في محاكمته، كما أوردها افلاطون في محاورة (دفاع)، فالغريب أن (مليتس) صاحب الاتهام لسقراط بالإفساد كان يتهمه بانه فيلسوف طبيعة، فما كان من سقراط إلا أن يجيب في المحكمة: (... وأخذ ـ مليتس ــ يلغو في موضوعات لا أزعم أني أعرف عنها كثيرا ــ لست أقصد بهذا أ ن أسيء إلى أحد من طلاب الفلسفة الطبيعية ـ فلشد ما يسؤوني أن يتهمني مليتس بهذا الاتهام الخطير) / محاورات ص 70 /

التفسر الميتا فيزي ـ وليس لذلك علاقة با لايمان بالله والألهة بطبيعة الحال ـ لا ينفع في تنظيم (حياتنا، وهو زندقة، ويدنس الحياة، والأجسام السماوية اسرار مغلقة، ولا يمكن الكشف عنها ...) / سقراط تاليف أندريه كريسون، تعريب بشا رة صارجي، ملخص ص 70 ـ 71 /

التفكير (الحقيقي الجيّد هو اكتساب مفاهيم رئيسية تُعنى بالحياة، التعريف العقلي لماهو الخير، لما هو الشر، والتأ كيد أن هذا عدل وذاك ظلم، أكشاف طبيعة الجمال والقبح، أي تكوين معرفة عملية تنظم سلوكنا ... ما هي الدولة؟ من هو رجلا لدولة؟

كل ميتافيزيق مستحيل ...) / سقراط اندرية كريسون ملخص ص 70 ـ 71 /

المحاورات الافلاطونية تُظهر شخصية سقراط بوضوح وصراحة، حيث ينهمك في تعريف جملة من المفردات الاخلاقية، الاعتدال، الصداقة، الشجاعة، وفي هذا السياق يركز على أن اكتساب الفضيلة ممكن ولكن شريطة المعرفة، وبالتالي (السبب في الشر هو الجهل) / حكمة الغرب ص 96 /

سقراط لم يدافع عن الفلسفة، بل حوّل تقريبا موضوعها، أقول تقرييا، لان محاوراته لم تعدم حديثا عن الإلوهية، وعن المعرفة بشكل عام .

الخير والحق والجمال تلك هي أمهات القيم في فلسفته الانسانية، وهي قيم ثابتة، تصمد في وجه أعاصير الزمن العاتية، ومن هنا يتجلى لنا عنصر الثبات في مواجهة فوضى المفاهيم والتصورات، خاصة فيما يتصل بالاخلاق، الخير على رأس القائمة، وقد تناوله فيما بعد افلاطون، تلميذه الوفي، الذي سجل محاوراته كما يقول بعض المؤرخين، وفيما ينهمك في معالجة الخير قيمةً أخلاقية جوهرية، تدور حولها كل القيم الاخرى، يتصعّد الخير معارج العلو والسمو والتجرد حتى يصبح مساوقا لله، بل هو الله !

هكذا اطلق عليه، (مُثل المثل) !

إذا أردنا أن نعدد قواعده الدالة على مذهبه فسوف لا تتعدى أصابع اليد الواحدة (اعرف نفسك، الفضيلة علم، لا أحد شرير بإرادت، الإنسان الفاضل سعيد) / مع الفيلسوف، الفندي ص 62 /، وفيما رغبنا في مسك مفتاح كل فلسفته حتى ندخل في مجالها الرحب، فإن مفتاحها ذلك الشعار الخالد (الذي نقله عن معبد ددلف /أعرف نفسك بنفسك)، ومن هنا، كان سقراط قد (جُعِل اسمه محورا لتقسيم الفلسفة اليونانية كلها) / الفندي ص 60 / لأنه قلب موضوع الفلسفة، تجاوز الطبيعة والعدد، وتسلّل بقوة الى النفس الانسانية ليجعل منها جوهر الفلسفة، هدفها، موضوعها الخالد .

هذه الفلسفة تبلغ شأوا من التوهج الموضوعي عندما يرفض ان ترشِّحه نبوءة راعية معبد دلفي ـ وكان الاهها ابوللو، وأبولوا ابن الإله ــ موقع العرش من الحكمة، فيما يسعى هو بحد ذاته إلى إسقاط هذه النبوءة، حيث يصل الى نتيجة قاطعة، تلك هي أن الله (وحده الحكيم)، سرد لنا ذلك مفصّلا ا فلاطون على لسانه في محاورة (دفاع سقراط)، وإنْ كانت هناك شكوك حول صحّة هذه المحاورة / محاورات افلا طون ، ترجمة زكي نجيب محمود، لجنة التأليف وا لنشر، القاهرة، ص 55 ـ 60 /، وكما جاء على لسانه في المحكمة بعد أنْ لا ينكر بأنه أحكم من الساسة والشعراء والصناع وغيرهم: [ ... وهذا الذي انتهيت إليه قد حرّك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءا وخطرا ... ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم، إذ خيِّل إليهم إنني ما فتئت أ حمل الحكمة ا لتي كانت تعوزهم، ولكن ( الله هو ـ أيها الاثينيون ــ هو الحكيم الا وحد) ] / نفسه ص 77 /

وبهذا يكون قد ضرب المثل الاعلى على صعيد التماهي بين النظرية والتطبيق .

كان حريصا على تشخيص الحدود وذلك انطلاقا من معركته الحاسمة مع السفسطة التي كانت تمعن وتمتهن التلا عب بالالفاظ مدخلا لإيهام المستمع بفوضى الوجود، وغبش المعرفة، على أن ننتبه الى أن هذا الاهتمام لم يكن بلاغيا كما كان يمتهن السفاسطة البلاغة لأغراض إيهامية، بل نقصد تحديد المعنى بدقة، كيما تصفو المعرفة، فالرجل كان ـ وهذا من مفارقات فيلسوف أثيني ــ عدو البلاغة (... ولا يعرف بلا غة غير الحق) / نفسه ص 57 /

ولكن ماذا عن سقراط والعقل؟

نطرح هذا السؤال لأن موضوع القراءة هو العقل أساسا .

 

   2 ـــ 2

ليس هناك حديث مباشر لسقراط عن (العقل)، العقل تعريفا، وعملا، وتشريحا، وفلسفة، كما أن الحديث عن العقل بهذه الآفاق وبهذه الموضوعات والإثارات لم يكن له حضور في الفلسفة اليونانية حتى ارسطو طاليس على أقل تقدير .

سقراط كان له منهجه الخاص في عرض الفكر، وفي المحاججة، ويتقوم هذا المنهج في ثلاثة قواعد أو أسس هي: ـ

التهكم

التوليد

الديالكتيك

يمكننا أن نصل لبعض التصورات السقراطية عن العقل من خلال تشريح هذه المفاهيم، الا سس، الأركان .

التهكم في منهج الفيلسوف ليس سخرية عابرة، ولا سخرية تتاسس في سياق موجبات ومسوغات ودواعي آنية، لا يمت التهكم هنا بصلة الى الإستهزاء، والاستخفاف با لمقابل أو الفكرة أو المشروع، يتصل التهكم هنا بالمعرفة المترددة بين الصحة والخطا، بين الواقع والحقيقة، وإذا ما قالوا أن التهكم السقراطي هو إرغام المقابل على الاعتراف بجهله، فإنما يضمِّنون التهكم نكهة معرفية، فهذا الاقرار يفصح عن جهل من جهة وعن علم من جهة أخرى، جهل الآخر وعلم سقراط هنا .

التهكم إذن يكشف عن معادلة متضاربة، عن علم هنا وجهل هناك، يلغي المجاملات، ويختفي في لسعته المعرفية لطف التعامل، وتنزوي البديهات المشبوهة، ومن ثم هو بداية مشروع معرفي، لأنه ينطلق من الا عتراف بالجهل الذي هو شر في فلسفة سقراط .

التهكم السقراطي يدور حول نقطة مهمة، أنْ يقتنع الأخر بجهله، لا أن تقنعه أنت بجهله، بذلك يكون التهكم نوعا من الاكتشاف، رغم إنك أنت الذي وضعت بذرة هذا الاكشاف، وبهذا يكون سقرا ط قد حرر المعرفة من احتكار الاكتشاف لمجرد إنَّ البداية كانت من جانب وا حد، حيث يلغي صاحب الاحتكار دور الآخر، الآخر الذي كان يمارس دور التلقي والفهم والاستيعاب، على أن الجهل موجع، سواء كا ن جهلا لفساد في الدليل، أو لأن هناك فهما خاطئا، أو لوجود شبهة كانت قد حالت دون ادراك الحقيقة، أو أي سبب آخر،والوجع يبلغ ذروته عندما يكتشف الانسان إنه وقع فريسة التناقض، يناقض نفسه بنفسه كما تقول العبارة الشعبية، من دون أن يعي ذلك، هذا اللون من التناقض قمة الالم، مأساة معرفية تجر معانات نفسية ووجدانية، وكان الفكر الاغريقي مغرما في فن التفنيد المستند إلى اكتشاف التناقض، ولهذا يتضمَّن التهكم السقراطي طرح الاسئلة المحرجة، من أجل تفجير ا لواقع، بل من أجل استخراج ما في داخل الآخر من معلومات وتصورات، ربما هي في طي الخفاء والتستر، فالتهكم هنا اشبه بالمحاكمة الفكرية، تعتمد استقراء ما في الداخل، ما في الداخل من مذخور فكري، وتهدف في الاثناء تجلية هذا الداخل، من خلال سطوعه الفذ بما يعرف ويؤمن، سواء كان ما يعرف ويؤمن به صحيحا أو خطا .

لقد كان (أوطيفرون) حزينا لان سقراط دلّه عبرَ الحوار المدروس على نقاط ضعفه، وهو يتهم أباه البريء بقتل ذلك الخادم البريء أيضا، ولكن كان أكثر ألما عندما كشف له سقراط عن تناقضه الفاضح في تعريف التقوى: ــ

سقراط: [إذن فيدهشني يا صديقي العزيز أن أراك ألاّ تجيب السؤال الذي سلكته، فلا ريب أني لم أطلب إليك أن تذكر لي الفعل الذي يكون تقيا وفاجرا معا، ولكن ها قد بدا لي أن الآلهة يحبون ما يكرهون، وعلى ذلك يا أوطيفرون فقد يرجح أن تكون في عقابك لأبيك فاعلا ما يُرضي (زيوس ــ أقدمَ على نفس فعل أوطيفرون، اي قتل أباه ــ)، وما يغضب (كرونوس أو أ ورانوس ــ لأنهما لقيا من ولدهما مثل هذا العقوق ــ )، وما يقبله ( همفيستوس ــ إله النار في الاساطير اليونانية ــ) وما يرفضه (هري)، وقد يكون من الآلهة الآخرين من يكون بينهم خلاف في الرأ ي شبيه بهذا) / محاورات افلا طون، ترجمة زكي نجيب محمود، طبع لجنة التا ليف والنشر، القاهرة ص 32 /

لقد وضع سقراط يده بدقة على موضع الوجع بالنسبة لصاحب الرأي، في أي حوار أو محاكمة فكرية، فإن الوجع كل الوجع عندما يرى أحدنا إنه كان فريسة تناقض من دون أن نشعر مسبقا .

أن مراجعة بعض الحوارات التي سجلها لنا افلاطون على لسان سقراط تكشف عن أن سقراط لم يكن يريد أن يلقي بالحقيقة جزافا، جاهزة، حاضرة، بل يريد الوصول إليها مع الآخر عبر معاناة، وعبر حالة من التوتر الحاد، ولك أن تعرف شعور الأخر وأنت تستدرجه عبر سيل من الاسئلة، ومن خلال ذلك تقوم بعملية تفنيد لكل جواب يُطرح، حتى تصل بالنهاية الى ا لحقيقة التي هي مختزنة عندك، تنتظر حضورها في اللحظة المناسبة .

هناك تقصي مثير وساخن لكل مفردة، لكل مفهوم يطرح اثناء الحوار، عبر شبكة متواصلة متداخلة من الاسئلة (وعلى ذلك فانا أتوسَّل إليك أن تنبئني حقيقة التقوى والفجور التي قلت إنك تعلمها جيد العلم، كما تنبئني بطبيعة القتل وسائر ضروب الاعتداء على الآلهة، ما هي؟ أليست التقوى في كل فعل هي هي دائما؟ وكذلك الفجور، أليس دائما دائما نقيض التقوى؟ ثم أليس هو دائما، فله تعريف واحد يشمل كل ما هو فاجر؟) / نفسه ص 25 /

كان يؤسس لحقول دلالية، فمن التقوى والفجور الى الحب والبغض الى العدل إلى ا لتقوى مرّة أخرى حيث ينتهي الحوار برغبة مشبوبة بالتواصل والمواصلة ــ وأسفاه يا رفيقي، وهل تُخلِّفني في يأس؟ لقد كنت أؤمل أنك ستعلمني طبيعة التقوى والفجور، وعندئذ استطيع أن أبريء نفسي من مليتس ــ شاهد الزور على سقراط بأنه فسّد الشباب ــ من دعواه، كنت سأ قول له:إنني استنرتُ باوفطين، ونبذت بِدَعي وتأملاتي الطائشة التي انغمست فيها بسبب الجهل، وإنني أوشك الآن أ ن أحيا حياة أفضل) / نفسه ص 54 /.

هل استعار جاك دريدا مفهوم أو مشروع المعنى المؤجل من سقراط ولكن جعله بلا حدود؟

ولكن لحد هذه اللحظة لم نجلِّ خطوة (التوليد) في منهج سقراط بعد أن جلينا إلى حد ما خطوة التهكم !

ما هو التوليد؟

كان قد حصلت محاورة ساخنة بين سقراط وأحد رواة الشعر الأغارقة، ذلك هو (أيون الراوية) حول الشاعر وقدرته على جذب الاخرين، في سياق حديث معمّق عن معايير الشعر، حيث كانت [المقاييس النقدية المعلنة .. هي (المهارة في الفن) و(الراي الرشيد لصالح الدولة) وربما كان المقياس الثاني أكثرها أهمية ...) /النقد الادبي، تاريخ موجز، جزء 1، وليام ك ويمزات، ترجمة حسام الخطيب ومحي الدين صبحي، مطبعة جامعة دمشق، ص 5 /

هذه المحاورة جرت في أثينا قبل وقت قصير من انتهاء الحرب البيلو بونيزية والإنهيار المؤقت للديمقراطية الأثينية ...) / نفسه ص 6 / وسوف نعتمدها رغم أن هناك شكوكا تدعي إن أصل المحاورة جرت بين أيون وافلاطون .

كيف كان سقراط يحاور صاحبه الراوية؟

كان سقراط يقول أو يدعي أن: (الشاعر شيء منور مجنح مقدس، وليس فيه ابتكار إلى أن يُوحي إليه،ويغيب عن حواسّه، ويخرج عقله منه: وحين لا يبلغ مثل هذه الحالة يكون عاجزا فاقدا القدرة على لفظ معجزاته) / نفسه ص 8 /

هذا الوصف او التقييم احرج أيون الراوية، فبادره با لاعتراض: (هذا حسن يا سقراط، ومع ذلك فأشك أنْ كا ن لديك من الفصاحة ما تقنعني بأنني لا أمدح هومر إلاّ إذا كنت مجنونا وممسوسا، ولو أ ستطعتَ أن تسمعني وأنا أروي عنه، فإنني واثق بأنك لن تظن أن الأمر على هذه الشاكلة)/ نفسه ص 9 /

في ضوء هذا الخلاف الحاد بين سقراط ورا وية الشعر الاغريقي أيون تجري المحاو رة التالية، ا نقلها من المصدر السابق مع الشروح والافكار العرضية التي يطرحها المؤلفان في الأثناء: ــ

[ سقراط: وإذن فمن هو أفضل القضاة على الأبيات ا لتي كنت تنشدها لهومر ـ كان أيون ينشد أناشيد هومر في الساحات العامة في اثينا ــ أنت أم سائق العربة؟

أيون: سائق العربة .

سقراط: لماذا، ألأنك را وية ولست سائق عربة؟

أيون: نعم .

سقراط: وهل يختلف فن الرواية عن فن سائق العربة؟

أيون: نعم .

سقراط: فإن كانت المعرفة مختلفة فهل تهم معرفة الاختلاف؟

أيوان: صحيح .

سقراط: لعلك تذكر الفقرة ا لتي وصف بها هيكاميد ــ ذات الشعر الجميل في إلياذة هوميروس ــ وصيفه نسطور،وهي تقدم لماخون المجروح حليبا بخمر حيث يقول: ـ

كان مصنوعا من نبيذ برامنيان ــ  ــ وقد بشرتْ جِبنا من حليب العنزة بمبشرة من البرونز،ووضعت إلى جانبه بصلا يعطي للشراب نكهة / الالياذة 639 ــ 40 /

هل لك الأن أن تقول لي بأن فن الرواية أم فن الطب أفضل للحكم على صحّة هذه الابيات؟ !

أيون: فن الطب .

ثم يسوق سقراط استقصاءه بهذه الطريقة لمدة من الوقت، مستخلصا الاعترافات عن عدم كفاية الرا وية في الفن تلو الفن،حتى يغدوا أ خيرا في وضع مريح، ليتسا ءل ما إذا بقي للراوية نفسه أي فن خاص به:

سقراط: أيون يا من تعرف هومر أكثر مني بكثير، اختر لي مقطوعات تتعلّق بالرواية وفن الرواية، يستطيع الراوية أن يتفحّصها، ويحكم عليها أفضل من حكم الآخرين .

أيون: لا بد أن كل المقطوعات تصلح يا سقراط .

سقراط: ليست كلها، أيون، هل نسيت ما قلته قبل قليل؟ على الراوية أن تكون له ذاكرة أفضل .

أيون: بلى، أتذكر .

سقراط: وإنك اعترفت بأن إختلافهما يؤدي الى اختلاف في موضوع المعرفة؟

أيون: بلى .

سقراط: وإذن فمن عرضك للراوية وفن ا لرواية يتبين أن الراوية لا يعرف كل شيء.

أيون: لا بد أن ا ستثني بعض الامور يا سقرط .

سقراط: تريد أن تقول إنك ستثني إلى حد كبير موضوعات الفنون الاخرى، فيما أن الراوية لا يعرفها كلها، فأياً منها سيعرف؟

أيون: سيعرف ما يجب أن يقوله رجل وما يجب أن تقوله إمرأة، ما يجب أن يقوله عبد وقوله حر، ما يجب أ ن يقوله حاكم، وما يقوله تابع .

سقراط: هل تعني أن الراوية سيعرف أ كثر من الربان ما يجب ان يقوله موجه سفينة تتمايل في العباب؟ ] / ا لنقد الكلاسي ص 10 /

المحاور ا لتي ينقلها لنا افلاطون، تلك التي يدعي إنها سقراطية، تمتاز بكثرة الاسئلة، بل قوامها أسئلة، يطرحها سقراط باستمرار، ولا يجيب عنها، بل يمهد للإجابة عنها على لسان المخا طَب، فنحن لو تفحصنا محاورة (أقريطون / أو واجب المواطن) على سبيل المثال، وهو أقصر حوار عرفه التاريخ الارسطي طبق رواية إفلاطون، لوجدنا هناك سيلا من الأسئلة تترى الواحد بعد الأخر، يطرحها سقراط على (افريطون / أعز اصدقاء سقراط وكان صاحب اقتراح الهروب من السجن)، وفي اثناء الاسئلة يجيب أفراطون بما يكشف عن افكاره وتصوراته في العدالة والموت والدهماء والحرية والروح وغيرها من الموضوعات، حتى يصل به سقراط الى نتيجة، مؤداها، إن النزوع أو التماهي او الاستجابة لرأي الدهماء جريمة تقترف بحق العقل والمنطق، بل وفي الصميم بحق العدالة / راجع محاورات افلاطون ص 114 ــ 146 /

هذا هو معنى التوليد !

ليس خلق أفكار، ليس تركيب أفكار، بل استخراج افكار، إن موطن الافكار هو الروح، النفس، والحوار سبيل سقراط لاستخراج هذه الافكار، من القاع النفسي للإنسان، فهناك ـ طبقا ـ لهذا الفن السقراطي تكمن الحقائق، وإن الانسان مهما وقع فريسة التناقض، إلاّ أن ذاته تختزن الحقيقة، والمطلوب استخلا ص، بل استخراج، بله توليد هذه الافكار، إيلادها بتعبير أدق وأفصح وأليق، هذه هي أحدى قواعد التفكير (الجوانية) في منهج سقراط .

يقول ما جد فخري: (... في جميع المحاورات التي وضعها تلميذه افلاطون ليخلِّد ذكراه، ولا سيما تلك التي يمكن دعوتها بالسقراطية يكاد يقتصر دوره على طرح الاسئلة على محاوريه بغية حملهم على اكتشاف ا لمعارف الكامنة في قرارة نفوسهم، وعندما يتصدّى لتعريف ما هيَّة المعرفة أ و العلم في محاورة ثياتيطوس، يقود محاوريه إلى الإقرار بان المعرفة ليست عبارة عن الحس، ولا عن الرأي، ولا عن الرأي المدعوم بالحجَّة العقلية ...) / تاريخ الفلسفة اليونا نية ص 70 / بل المعرفة هناك، في أعماق النفس، نفس المُحاوَر، وما عليه سوى أن ينصت لأسئلة سقراط، ثم يغور في داخله ليستخرج أو يُولِد الجواب، يكشف عن الجواب، فما (المعارف الخارقة التي ينتهي إليها ا لتلامذة على أثر مناقشاتهم معي،إلاّ ا كتشاف لحقائق كا نت كامنة في قرارة نفوسهم، فهم لم يتعلَّموا مني شيئا قط) / نفسه ص 70، نقلا عن محاورة ثباتيطوس م

ويتصور البعض إن سقراط ينطلق في حديثه هذا من فراغ، أو من خلال اعتقاد بدوي ساذج، فيما هو يستند إلى رؤية له بالنفس، والمُثل سوف نتطرق لها لاحقا .

الاستقراء في محاورات سقراط ليس تجميع قرائن حول محور محدّد، بل استقصاء ما عند الآخر من معلومات وتصورات تكمن في داخل الذات، فهو مهتم بالتعريف بالدرجة الاولى، تعريف المفاهيم الاخلاقية (العدل، الشجاعة ...)، وهو استقراء ينطلق من (أي مقدمة أُتُفِقَت ثم يتطرق منها الى ما كان يراه صوابا) / فخري ص 72 /، يستقصي الموا قف والتصورات المحتملة ثم يعمل على تفنيد ما يراه با طلا، ليصل إلى نتيجة معينة هو يرتضيها .

نستعرض ما يلي في محاورة فيدون، وهي محاورة سقراط مع بعض تلاميذه حول الموت والروح قبيل شربه السم: ــ

[سقراط: أنحن معتقدون في وجود ما يسمّى بالموت؟

سمياس: كن من ذلك على يقين .

سقراط: وهل يكون الموت إلاّ انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنّما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت ا لروح بذاتها مفصولة عن الجسد،وقام الجسد مفصولا عن الروح ــ أليس ذلك هو الموت؟

سمياس:هو كذلك،وليس شيئا غير هذا .

سقراط: وما قولك يا صديق في مسالة أخرى، أحبّ أن تدلي إليّ برأيك فيها، وقد تلقى أجابتك عنها ضوءا على موضوع بحثنا، هل ترى جديرا بالفيلسوف أن يعني بلذائذ الأكل والشرب ــ إنْ صحّ أن تُدّعى هذه لذائذ؟

فاجاب سمياس: لا،ولا شك .

ــ وما ذا تقول في لذّة الحب، أينبغي له أن يعني بها؟

ـ لا ينبغي بحال من الاحوال .

ـ وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد ـ كحيازة اللباس الفاخر، والنعال، مثلا، أو غيرهما من زينات البدن، ألا يجدر به بديلا من أن يعنى بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟] / محاورات افلاطون، زكي نجيب محمود ص 179 ــ 180 /

نحن في هذه النص الحوا ري السريع نقع على ظاهرتين واضحتين، الاولى هي السؤال، والثانية هي الاستقراء .

لقد مضى بنا في محاورة (دفاع) كيف اسقصى سقراط أصحاب المهن والوظائف ليشير إلى أنه امتحن فضيلتهم، فا تضح له أنهم دون مستوى المفهوم الكبير، وأنه أفضل منهم جميعا .

الاستقراء بمعنى الاستقصاء واضح في محاورات سقراط (ولنسأل انفسنا:أي الاشياء يجوز عليه التحلل والفساد، أهو البسيط أم المركب، الثابت أم المتغيّر؟ الفكرة الخفية أم المرئي المحسوس؟) / محاورات افلاطون ص 153 /

الاستقراء السقراطي استطراد الفروض والاحتمالات والممكنات وليس تجميع قرائن حول محور واحد بغية الوصول إلى نتيجة اكبر من مقدماتها .

يرى بعضهم أن سقراط زهد بالدليل الاستنباطي، ولكن النص السقراطي لا يؤيد هذا الراي تماما، هناك لمحات برهانية استنباطية، فهو يستتتج وجود الروح بدلالة ا دراكنا للكلي، حيث الحواس لا تقدر على تجاوز محسوساتها، فمن أين يأتي الكلي يا تُرى؟ من هذه المقايسة يستنتج سقراط وجود قدرة خارج الحواس، فوق الحواس، تستخدم الحواس، تلك هي الروح، ومن هنا، ربما لا نجازف إذا قلنا أن سقراط في بعض الاحيان يماهي بين الروح والعقل، وربما نقع على نص يطرح العقل كتجلي من تجليّات الروح .

سقراط كانه يقول إننا فيما (ادركنا بالحواس أشيا ء متساوية،فاستنتجنا وجود التساوي المطلق، فكأننا أدركنا هذا الاخير عن طريق الحواس،مع أنّه عقلي محض، وقل مثل ذلك في سائر المدركات الكلية، كالجمال والخير وما إليهما،فقد جاءتنا عن طريق الحواس أشياء جميلة: وردة، وأمراه، وشروق، وهكذا، فعرفنا عن طريقها فكرة الجمال المطلق) / نفسه، فيدون ص 205، الهامش /

ملاحظة:ا لمقال جزء من كتاب بعنوان (العقل) معد للطبع بإذن الله .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1500 الاحد 29/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم