قضايا وآراء

المجتمع العراقي مابعد العلامة علي الوردي / اسامة حيدر

وكان التحليل الاكاديمي والتاريخي والسلوك المجتمعي وتنوعه الذي اسسه ابن خلدون واطره اكاديميا العلامة المرحوم علي الوردي.... لكننا مازلنا بحاجة الى استكمال المستجدات والمتغيرات التي حصلت خلال النصف الثاني من القرن الماضي وما تلاه ..

وللتعطيل المتعمد للعقل المبدع في البحث العلمي لاي دراسة تهم المجتمع كونها تسلط الحقائق بشكل دقيق لتبعات تحديث التخلف من قبل اجهزة الجهل الحاكمة في جميع زوايا الحياة في البلاد.

ولوجود انفصال جيلي بين ابداعات الجيل السابق وما تلاه من جيل المعاد والمقلد من الموروث والمخيال ترك فجوة هائلة في ديمومة تجديد البحوث والدراسات ... لمعرفة ماجرى من تدهور رهيب في مفاهيم المنظومة القيمية للمجتمع.

ورغم محاولتي المتواضعة هذه في اقتحام هكذا موضوع في غاية التعقيد وبرؤيا مختلفة عما عرفناه عن الشخصية العراقية لانها اصبحت ليست تلك الشخصية المؤثرة كفاعل بيئي يحمل سمات بيئته بكل ايجابياتها وسلبياتها وناقل لها كسلوك وعادات واعراف وتقاليد في المجتمع بل اضحت شخصية مختلفة تحتاج للدراسة لانها ببساطة لم تكن موجودة حينها لا بل لم يتوقعها علماء الاجتماع بان تلكم الشخصية قد فقدت مقومات بنيتها الذاتية بهذا ا الزمن القصير نوعما. لكن افرازات الحروب والحصارات الداخلية والخارجية عجلت في تدهور طبقات المجتمع ابتداءا من الطبقات المتوسطة ذات الحواضن الثقافية المبدعة والتي اثرت بشكل فاعل على انتاج عقل كسول..

وكم كان بودي كما غيري ممن يهمه اعادة تاسيس المفاهيم ان يستعين بمراجع علمية ليقارن بين الشخصية الرافدينية وشخصيات اخرى تتعدى الشخصية النيلية وتاثير الانهر على المركب الانساني مكانا وزمانا. لنتخذ المقارنات الجغرافية معيارا لرصد السلوك المجتمعي اينما يكون...

 

المحور الاول

تعتبر الدولة حاضنة للوعي المعرفي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع، لذا فهي بنية فوقية لبنية تحتية، تمثل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة والمستوى المعرفي، فإذا كانت هذه العلاقات متخلفة، فالدولة متخلفة وهكذا.

فهناك علاقة تأثير وتأثر متبادل بين المؤسسات والمجتمع، فكلما كان تأثير البنية التحتية للمجتمع على البنية الفوقية (المؤسسات) كبيراً، كانت الدولة أكثر ديموقراطية، وكلما كان تاثيرالبنية الفوقية (المؤسسات) على البنية التحتية (المجتمع) كبيراً، اتجهت الدولة باتجاه القمع والديكتاتورية. فالدولة الديمقراطية هي حالة الوسط في التأثير والتأثر المتبادل بين البنى المختلفة، والدولة كمؤسسات قانون لا مؤسسات قمع.

كذلك فان محنة الامة تبدأ من نقص او فقدان كفاءة النظم السياسية السائدة وضعف قدراتها على توريط شعوبها في ما زق جديدة بين حين واخر ... فتتحول النظم السياسية الى ادوات سلطوية لتعالج محنها بانشاء مراعي تقود التجزءة الاجتماعية وذلك بتغير الايكولوجيا المجتمعية بولائاته المتعددة كشعب متجانس الهوية والولاء الى جمهور مصنف تصنيفا يفقد معناه الانساني والوطني ويحوله الى حشد يسهل انصياعه .

وعندما ينخرط الانسان في جمهور كفرد يحمل صفات وسلوك مثقف او متعلم فسيهبط عدة درجات على سلم المعرفة ويفقد كثيرا من تعقله للاشياءوكثيرا من سلوك شخصيته المعتادة.فيكون في وسط الجمهور غريزي، همجي، عفوي، بدائي، ويكتسب كل انفعالات الجمهور.ومن سمات الجمهور كما يصفه علماء النفس والاجتماع بانه:

جمهور اندفاعي سريع الحركة سريع الانفعال ويكاد اللاشعور ان يكون دليله الاوحد . لاشئ عنده مسبق التصميم، يخضع للرغبة الانية البدائية العارمة.

فالجماهير لاتعرف معنى الحقيقة فهي تطلب اوهاما وتقدم على الدوام اللاواقعي على الواقعي ويصعب عليها التميز بينهما. ولغرض السيطرة على قيادتها فانها تؤمن بالقائد الذي يطلق عليه ( الهيبة) سواء هيبة مكتسبة او مصطنعة .

ولكي تستمر السلطة القمعية في حماية نفسها لابد لها من اضعاف النسيج المجتمعي وتهرئته.. ليستبدل بجمهورا اصطناعيا و حشدا بلا تنظيم او شبه تنظيم.

عمدت الدكتاتورية بشكل ممنهج ومبرمج ولربما بشكل عفوي نشاء بين اللاوعي او من مناخ الطقوس الاجتماعية التي منها يتم صناعة جمهور جديد على اسس:

 

# الغاية تبرر الوسيلة ...

## في السياسة كل شئ مباح ... المكر والخداع والكذب والوحشية والقتل والتستر برداء القيم والاخلاق والدين ليؤسس فنا من فنون الاحتلال والهيمنة وفن اخضاع الجمهور للتجويع وحصوله وبالكاد على لقمة العيش، منشغلا بالصراع من اجل البقاء كحشد تطعمه السلطة شهريا وهي اكبرعملية ترويض سايكولوجي لفقدان الذات الانسانية بكل ما تحمل من معاني وقيم ضاعت بها المدينة وتحول الريف الى فاقد لصفاته الزراعية وعمت السادية بديلا لقساوة الصحراء والبادية. فتغيرت بنيوية ماكان يصنف بالحضر والريف والبداوة فقد توجهت وبشكل فوضوي للزحف الى المركز المديني والحاملة لمورثها الجغرافي تلكم السمات المختلفة عن، المدينة.. اودية وسهول وجبال وصحراء الانسان الفاعل المتفاعل معها فاغتربت مفاهيمه وسط مفاهيم المدينة المازومة بين مجمل الهويات الفرعية القاتلة منها والمقتولة،

 

المحور الثاني

صناعة الجمهور- صناعة الجماهير

عندما تتاقلم وتنحدر اخلاق المجتمع، يتوقف التطور والنمو فيها عند مستوى،، الغريزة،، فتتخذ سلوكا اجباريا الزاميا لنوع العادات والتقاليد باخضاع الفرد لمصلحة الجمهور فتسود الاخلاق المنغلقة داخل الجماعة بما تملك من بقايا ضمير............. العكس صحيح عندما تتفتح الاخلاق لتفتح ابداعا انسانيا وأفقا واسعا لانهائيا نحو القيم السامية التي تجهلها الاخلاق الاجتماعية.

لكي يتم صناعة بدائل للاعراف الاجتماعية واستبدال النخوة والشهامة والامانة والصدق والاخلاق الحميدة والايثار وغيرها من القيم التي تعود المجتمع على ممارستها والافتخار بها والتي تضعف السلطة والحاكم لان سياسة الاستحواذ تتصادم مع هذه القيم،، فلابد من تقطيع اوصال هذه الروابط التي توحد المجتمع بولاء وانتماء الوطن والدولة عمدت الميكافيليا السلطوية على تمزيق انسنة الاشياء كل الاشياء فصنعت بديلها جمهور مجزأ مختلف الولاءات سهل الطاعة غريزي الحاجات فتكونت جمهرة من جمهور فيه كل ميزات الحشد الفاقد للاخلاق الاجتماعية المتعارف عليها . ومن بعضها الاتي:

 

 جماهير المساجد

جمهور المنافع الدينية و تسيس الدين لخدمة السلطة وليس حبا بالدين والدعاء لها ولاحفادها بطول الحكم والمدد انه جمهور سلطة وحاكم تابع ومطيع سياسيا وطائفيا. في حملة ايمانية يقودها حزب علماني لتحقيق مصالح طائفية ولفرز مجاميع يحدد ولائها لهيبة النسب المفقود في هيبة مصطنعة لجمهور مصطنع تقوده الغرائز.

 

جماهير المدن البيضاء والمدن السوداء

تحولت المناطقية حسب ولائها للسلطة الحاكمة ..مدن سوداء حملت هويات مجروحة لاتنتمي لذاتها مغتربة مهمشة بين مهاجر ومهجر ومغيب ... تمثل المدن المقتولة .. ومدن بيضاء صنع معظم جمهورها بسطوة الصحراء وسادية الحكم ليؤسس ولاءأ على ولائه من جديد .. لكن سرعان ما تحولت المدن البيضاء القاتلة الى مدن منتحرة لانها احتضنت جمهور غريبا تاصلت فية صناعة التطرف فتصارعت صناعتان متناقضتان رغم انهما من مصنع واحد وان اختلفت المسميات.......

 

جماهير مصنعة كل حسب تشكيلاته وولائاته

الجيش صناعة سلطوية فقدت مقومات مفاهيمها الاصيلة في فترات مختلفة نهايتها ترك ساحة المعركة بعد ان خاض صراع ضد هويته الشعبية فتحول الى صناعة من نوع خاص تحركه التعبئة العاطفية الشعاراتية ذات المصالح الانانية والمنفعية كجيش سلطة ارتبط مصيره ببقاء التسلط .. وليس كجيش دولة ..

جمهور النقابات المهنية التي تركت مواقعها من عمالية الى وظيفية ما كان يسمى انتماء نقابي منظم له اهداف يمكن له ان يحقق ولو جزأ من اهدافه . كما هو الحال مع تنظيمات الطلبة والنسوية والفلاحية وبقية المهن الاعلامية المنطوية تحت نقاباتها الخاصة كل ذلك تم اعادة صناعته من جديد لتلبي متطلبات مغناطيسية الولاء والهتاف والانصياع الواحد للرجل الواحد،، كلها حشود تملك سايكولوجية واحدة باساليب متعددة.

افرازات الماضي وتبعاتها على الشخصية وعلى المجتمع

تعدى مفهوم الفردانية والذات والانا في ما كان ومازال يسمى بالشخصية الى سلوك جمعي انصهرت الشخصية فيه فتائر الجمع بها كما تأ ثرت هي فيه فضاعت بنيتها ضمن مفهوم الجماهير السيكولوجي كحشود تعمها الغرائز.

ومما لاشك فية ان هنالك بقايا من شخصيات احتفظت بقيمها الخلقية وتملك ضمائر حية تتصف بالارث القيمي الذي قرئناه وعشناه . وبشكل عام لايمكن تعميم ووصف للشخصية او للمجتمع لانهما ببساطة شخصيات ومجتمعات تختلف باختلاف ثقافاتها البيئية والبايولوجية بعضها مازال حيا يعيش معانات البقاء والديمومة.... لكننا نحاول ان نلتقط الشائع من المنتج المجتمعي فرادا او جماعات .. التي امكن رصدها بعد الفوضى العارمة من سقوط السلطة الحاكمة مايمكن تسميته او تصنيفه على النحو التالي :

 

اولا .الاستسهال الجمعي لكل ماهو قيمي يمثل المصالح العامة فاستبدل العام بالخاص لتبرز الانا الجمعية المتفاعلة مع الانا الفردية.

ثانيا. ثقافة الصدفة والطائفة والعشيرة بديلا للهوية الرئيسية الجامعة لكل الفرعيات الطبيعية والوسطية فظهرت الشخصيات الهدمية الغريزية.

ثالثا:الشخصية التسويقية في العرض والطلب بين تسويق نفسها ليس للدفاع عن هويتها بل لاستخدامها كهوية عنفية بلا اخلاق وطنية. فانتجت هويات اميبية بلا عناوين .

 رابعا. ثقافة المظلوم الحاكم مبررا لتميز مظلوميتها عن غيرها والتي تؤمن بان السلطة والحكومة والمواقع السيادية هو البديل لمفهوم دولة المواطن الانسان لتنتج مجتمع سلطوي بديلا لمجتمع الدولة .

خامسا.شخصيات وجماهير استقال عقلها الابداعي والمعرفي واستبدل بالمنهج التعليمي المؤدلج باسلوب ببغائي لاينتج الا الامية الثقافية الخالية من اي تاهيل للابتكار.

سادسا: الشخصيات الخائفة الكاذبة المتملقة المجاملة المضطربة المتضادة التي تتلذذ بجلد ذاتها .. كمنتج لثقافة العلن والسر..وتبعات التهميش وجنوسة الدماغ .

سابعا: شيوع ثقافة الطقوس بديلا لثقافة الابداع الفني في الرسم والنحت.. والمسرح والموسيقى والسينما والادب والكتب والترجمة وفنون الاعلانات الترويجية فانتجت جماهير

طقسية لا تتجدد الا بطقوسها.

ثامنا: ظهور شخصيات نهجت تعظيم الذات الكاذب لامتلاكها وعيا زائفا جعلها بهلوانية مخادعة اعتمد بعضها رغوات مراحل سياسية بحجة المعارضة تتظاهر بالتسامح وحب الاخر لكنها تفعل العكس .انها شخصيات الانبهار المؤدلج.

 

الخلاصة:

اولا: التخطيط لبناء انسان المستقبل

اعادة تاسيس المناهج العلمية في مجالات التربية والتعليم والبحث العلمي من مراحله التاسيسية الى الجامعات ومجالس البحث والتطوير وجعلها برامج استراتيجية ضمن التخطيط المتوسط والبعيد المدى بما ينسجم مع تطور التكنولوجيا وعصرنة التحديث وذلك بخلق حواضن متخصصة تستوعب التقدم الحاصل في مختلف المجالات لنؤسس قواعد رصينة لجيل متواصل مع اجيال يتم تهيئتها تقنيا لتكون نواة المعرفة الابتكارية التي تستفاد من خبرات وتقدم العالم المتحضر تكنولوجيا في مختلف الاصعدة.

 

ثانيا: تعميق الثقافة القانونية

كلما تعمقت الثقافة القانونية بالمجتمع كلما نضج الوعي الجمعي ويزداد الانتماء للدولة بدلا من الانتماءات الجزئية وبهذا يشعر الفرد بان القانون قد ضمن حقوقة فاصبح الواجب جزء من الانتماء والولاء للوطن .. بهذا نؤسس لبناء مواطن وطبقات مجتمعية تؤمن بان مصالحها مرتبطة بمصالح الدولة وتشريعاتها القانونية .

 

الخاتمة:

فكما ان الولاء من اساسيات التكوين الذاتي للامم والجماعات فوجود الدولة وتقدمها مرهون بالولاء لها اولا. ومن الصعب لاي مجتمع ان يزدهر من غير ان يقوم فيه اعتقاد مشترك او اراء مشتركة تربط الناس بعضهم بعضا ولايمكن ادارة هذه الخلافات الا عن طريق القوانين والتشريعات التي هي من اهم واجبات الانظمة الديمقراطية.

 رغم ان حجم الكارثة كبيرا ومفاصلها متشعبة متعددة التعقيد نحن بحاجة لبناء منهجية لاهم الخطوات الهادفة لمعالجة ماحصل من تدهور مجتمعي بحاجة الى ثورة نهضوية تقوم بها كل مؤسسات الدولة الغائبة حاليا حيث ان اعادة عمليات بناء الدولة الرصين تحتاج الى خبرات كل الخيرين من مثقفين استراتيجين ومن خبرات متراكمة وطنية واجنبية للنهوض من قاع الكارثة التي تركتها الانظمة السياسية السابقة والحالية . ومهما تكن الخطوات فلابد من البدء في اولا و ثانيا مما ورد اعلاة لنؤسس لنواة الهوية الضميرية في المجتمع.

 

د. اسامة حيدر

28 اب 2010

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1500 الاحد 29/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم