قضايا وآراء

الشعر في صولة المعنى .. قراءة في نص (حارسة الزمن) للشاعرة السورية انتصار سليمان / فائز الحداد

ولديها مخطوطات  تنتظر الطبع في قابل الايام ..

أن مايميز شعر انتصار قدرتها على خلق المعنى باستهداف الجمال، بجرأة التصدي للقبح والزيف في عموم العوامل المحركة للحياة .. وباسلوب وحس رقيقين وعبارة نافذة .

تعرفت الى انتصار سليمان في اخر مربد شعري في بغداد، ولم التقيها الا بعد اعوام في دمشق بمعية شاعرين عربيين .. فارادت حينها أن تخترق الزمن وتلغي المسافات وتختزل القول باقصى مقتربات الشعر، فقرأت من شعرها الكثير الا أنني تفاجأت بشعرها باللغة المحكية الذي  غردت به وافاضت .. ومن ثم أهدتني بعدها جميع منجزاتها الادبية، واستمرت زمالتنا من خلال النشاطات الثقافية والاماسي الشعرية .. استطعت من خلالها تكوين فكرة راكزة عن انتصار الشاعرة والانسانة . وها انا اعرض نصها الجميل (حارسة الزمن) موضوع هذه الدراسة، فهي لاتؤجل  قيامتها في صولة المعنى كما عهدتها من قبل .

هذا النص ينتمي الى نصوص اللازمة البنائية المتكررة في جرس اللفظ الشعري والمختلف في ايقاع البوح المرسل .. أي أن اللازمة شفرة الفعل في المعنى الشعري وفي رسم بيانات التشكيل الجمالي لجميع مفردات وجمل ومقاطع النص .. تلخص ذلك ثيمتا (السبب في التسبيب، والنتيجة في الناتج) وبين (أنا - هو) النائيين والمقدرين في حسيهما اللغوي والشعري، تفصلهما وتجمعهما ترادفا وتعاكسا (فاء) السبب وتغيبها الشاعرة في ناتج اجمالها الامثل ، منعا للآسراف وللأندثار في ادوات البناء والتشاكل وفي المعنى والجمال ايضا.

اللآزمة الشعرية التي استخدمتها انتصار  هي (عولت على ....) وتحمل من التعليل الكثير لمسمياتها القريبة  الى  روحها، فوضعت الشعر أولا والجسد اخيرا ، راسمه لهما صور متعددة منها (القلب، الشمس، النار، العين) ..ولنتأمل الدقة باختيار مسمياتها، فالشمس والنار تقعان بين (القلب والعين) والشعر قبل القلب .. والنار قبل العين، وحميع هذه المستهدفات هي حواضر لشيئين مقدسين بالنسبة لها هما (الشعر - الجسد) .. وهنا تكمن معادلة الاضطراب المقلق لها عبر معوّلين هما اساس المراهنة والاغراء معا، اذ تحمل مكنونات جمالها كشاعرة وانثى .. وكذلك معولين تهدد  بهما مخاطبها ب (الهجاء والهجر) واخطرهما هجاء الجسد في المعنى الشعري الباطن باعتبار  (أن الشعر يبطن أكثر مما يظهر) ..

ولكي أضع القاريء أمام خصوبة الشعر في تداعيات  امرأة عاشقة جميلة وشاعرة أجمل .. أتركه مع (تعويلاتها) تلك وله سحر اكتشاف جماليااتها دون عناء ..

 

                           " حارسة الزمن "

عوّلت على الشعر ..

فايقظ الغافي والمسكوت عنه ..

ورماني بدلالات شتى

عوّلت على الشمس، أغوتني بلهيبها  الاحمر .. ثم

قذفتني في ثقبها الاسود !

عوّلت على النار .. فكان الزيف في الزرقة ..

حديث أوجاع الحطب

عوّلت  على العين .. ان اتبعني، ففي وصايا القلب :

العيت تعشق

والطيف يُلحق بمآثر النارنج

والنبض يطرق في صالة الروح

عوّلت على الجسد ..

فأورق خريفه في صحراء

وتركني ألهج باسم الحرّ والقرّ

وأنا الوثيرة في الخواء

وأنا الشحيحة في السراب

وأنا ابريق نشوة

أرتمي في صولة المعنى ..

وأهذي ..!!

أن تلك التعويلات في هيئة شكلها البائن تبدو عبارة عن قصائد قصيرة، لكن رابطها هو .. استمرار الفعل الشعري في البوح المضطرد، وهذا ما يرفع عنها استقلال الجزء لصالح الكل الشعري، عبر وحدات متسلسلة ومتراصة في مداميك متوحدة البنية والبناء .

التعويل السابع في هذا النص يأخذ شكل الشكوى القاتلة، ويعبر عن آلام انتصار المتزامن مع العرض الدقيق لمعاناتها الانسانية المبرحة ... فهي وأن تبدو شخصية بحتة لكنها تعبر عن (الأنا) الجمعية في حقائق مفرداتها .. الحقائق التي تكون فيها الانثى أضحية القرين الأخر بعد أن ينالها بالعبث الرجولي المحموم  وبنهم مجنون ، ثم يتركها سادرا بالغي والغرور ولا من شفيع لها .. لا الشعر ولا الجسد ..!!  وهذا تلخيص لمأساة نساء الشرق حين يعوّلن بالنزق على نصفهن الأخر طمعا (بحلوه) ولا يذقن منه غير صابه المر ، فأولائي كما تقول انتصار (هم نفسهم من عشقوني) ..

عوّلت على البشر .. علقوني بمشانق آلسنتهم

أورثوني صناديق النميمة

نفروا آفواههم في لظى القيظ

وعلموني فن التهكم على بساط الريح

هذبوا ملوحة الشفتين

واغروا العين بالغبش

أفردوا مساحة للسكر والشعر

وفروا شماتين بنوع النبيذ ؟!

عبأوا مناضد المقاهي بلفاف الانتظار

شوهوا حفيف الروح بأصوات الملاعق

....

 

هم نفسهم من عشقوني

ومثلما يقول الأولون (أن في التكرار تأكيد القصد)  يجيء القول الشعري على لسان انتصار سليمان في بوحها الثامن والتاسع متواصلا في مبعث الحدث (على الحب) .. الا أن ضالة الحزن ظلت تلا حقها بدبيب الخطى ..

عوّلت على الحب

كان في وضح النهار ..

يدي تنسل في يده الرقيقة

كما اعلان الهوى.. مشروعا

وكان عمري قد تبدل ..

فما أ، هزّ اغصاني حتى ابتلاني

بفضيلة السهر .. وصرت حارسة الزمن

وصرت انحت للحزن قبرا

وصرت اسمى من سموّه الحب

حتى البسني الكفن

نلاحظ كبف أن التدرج في السرد الشعري أخذ يتصاعد ويتشظى باتجاهات مختلفة، لكن ضالة الحزن تلك  كانت الاقوى في  مآل مآساة الحب حين صارت .. ( تنحت للحزن قبرا)، فسمقت في تماه الروح ونأيها عن الذي غدر بها،  ولكن من يسمو على الحب.. ؟ وها قد البسك الكفن..!!  وماذا بعد يا انتصار ..

عوّلت على الحب كثيرا

وأنا يا شيخ ضريرة،

يقودني حيث يشاء، أتلمس الاشياء

فيدلني المولى الى ينبوع نور

وقال :

سبحاني ومن سواني .. على قدّ لهفته عليّ

هيا اقترب، اني آراك سابحا

لمكامن العشق لدي

هيا قد ضاع عمر بلا  سبب

فعولت عليك

في هذا المفصل يحس المرء بجرس انتقالة (الانا) في تجسيد افاعيل الحب .. وصفا وعرضا رغم التمويه المتعمّد، فهي تحب مخاطبها الذي تفصح عنه (وعليه من تعول) ولنا أن ندرك مواطن الجمال حين تحب المرأة .. (هيا اقترب، أنتي اراك سابحا، لمكامن العشق لدي) ولنرى ايضا .. أن لازمة البوح ستأخذ شكل المباشرة الصريحة في الافصاح والشعر معا..

عوّلت عليك ..

جئتني من يحث لاتدري الينابيع موردها

قبلتني ودبيب النمل موحش حدّ الاتحاد

(وتركتني أضرب الكف على الخدّ لأصحو)

رجفت جحافل الانثى تضج في دمي

أمدد يديك، لاتخشى تمنع الانثى

أنا طفلة غجرية أضرم النار

فعود الكبريت قد اشعلوه .. بفلم عربي

هذا المقطع يكرس اشتعالات الحب عند انثى كانت قد (عولت على النار) ليكون ناتج فعل الشعر في وجهين أو  له وجهان  .. عوّلت (عليك والنار) بدلالة الاصرار على اضرامها وعبر تتابع افعال الماضي (جئتني وقبلتني وتركتني)... في انفعالات الوصف الساخن لتأخذ افعال البوح صيغة فعل الامر (أمدد يديك، لاتخش تمنع الانثى) .

اذن : هي واغلة في النار وعاشقة اليها بعبث الغجر مع تأكيد سابقة الاحتراق  المرّ ..  للذين (هم نقسهم عشقوني) ونعود الى ( الكبريت .. قد اشعلوه بفلم عربي) أي (قبلك) .. فلا تخش عاقبة الفعل المستمر .. بتضارع النار وطفلة الغجر كيف ولماذا .. لأنها  ..

عوّلت عليك..

لاتدر ظهرك

ىتفتعل النظر الى المكتبة

لاتنشغل بترتيب معطفك

لاتؤجل قيامتي ..

فأن القلب قد جنّ

أمدد يديك

لأنحني د رويشة .. على حواشي قميصك

وضمني من غير أن تخشى

احتراق النابض الاصم في قلبك

هو قلبي .. من فتح غرفة الانعاش ؟!

أن انتصار سليما ن ودون أدنى شك شاعرة مجيدة، تدرك تماما خطورة الشعر وتعرف اسراره فيما يخفي ويبطن لهذا تمسك بعنان القصيدة وتسيّرها حيث تشاء، وتمسك بنا هنا وتسير بنا الى واقعة فعلها الواضح حين تذكر وتستذكر حال من تستهدفه في  انثيالات بوحها الشعري،  وهو الراقد في (غرفة الانعاش) لبيان توحدها معه في محنته، وتذكيرها له بأنها كانت معه دائما.. وهنا لابد وأن يأتي البوح بسردية مباشرة فيها شيء من الشعرنة الوصفية لحالة الحدث لا لسبب غير التوصيل والتواصل على حد  سواء  ..

ألم  أقل :

اني انزلقت مع أبرة التخدير

ولم تر في الزائرين غير وجهي

لما لا تأتي

وكلي كثافة الوقت القصير ؟

من قال :

أنك تسلمُ  الروح بعيدا عن حناني؟!

أني أغار.. من شراشف صمتك

من ذاك السائل المحقون في ذاك الوريد

من طبيب لامس المعنى بصدرك

من حبة المسكّن التي انحلت

ولم  أ كُ  أحظى بحلولي بك

فما هذا الاسى الجميل يا انتصار ؟! ..

وبعيدا عن ترسيخ  مفضيات الحزن ..فأن الشعر في أقصى خيبات (الأنا) الشاعرة ، يحمل في وصفه دلالات الجمال  حتى سواده، ولنقف عند مقطعين يضجان بحلاوة الشعر وشهد التعبير .. (لما لا تأتي، وكلي كثافة الوقت القصير .. وأني اغار ... من طبيب لامس المعنى بصدرك) .. فهي على ما يبدو .. تريد أن تعطي وتجود في اقصر وقت كمستدرك ، وكم هي غيرتها جاحمة  ربما من طبيبة كادت أن تلامس ( المعنى بصدره ؟ )، ناهيك عن حسرتها .. (لم أك احظى بحلولي فيك) .

أن خاتمة هذا النص الجميل ستفرقنا مع لحظة الحب في رحلة الغيب المحتملة ، والتي ستشعل جذوة النص على غير ما أوقدته نارها.. لأنها تطرق الموت سبيلا بسؤال يفجرالمعنى .. ويضع احتمالات التأويل بغير احتمالاتها المألوفة ..

من قال :

وأنا البصيرة  قد رأيت ..

ثيابك قد علقت في مشجبي ..؟

صوت حنانك يرتب الآتي الي ّ

وساعة الوقت التي أهديتها .. كسرتها

لأرتب الباقي اليك .. !!

وفي هذا المقطع تنهي الشاعرة رحلة (من تعوّل عليه) بكل احتمالات شأوها في (الشعر والنار والجسد) ..

هذا النص .. الذي أردت له عنوانا غير الذي وضعته له الشاعرة ، ومن جسده تأكيدا على حبي له  ولشعر زميلتي الشاعرة انتصار سليمان ... ولكن يبقى للشاعر اسراره باختيار عناوين نصوصه وهذا ما يمثله ويتماثل معه ايضا

 

للاطلاع على نص الشاعرة انصتار سليمان

حارسة الزمن

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1500 الاحد 29/08/2010)

 

في المثقف اليوم