قضايا وآراء

النقد الادبي: حول نص "الصخرة والبحر والإلهام" لهيام الفرشيشي

 

أسئلة : الأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق

استلهم سرد هيام الفرشيشي في هذه القصة أسطورة عروس البحر، حيث الطالب الذي استلهم دور العاشق لهذه الحورية، أو المبحر عنها خلاصا من غدر الحبيبة هدى، حيث تمكنت المبدعة من الغوص في أعماق النفس البشرية أعماق الطالب العاشق المغدور لتصبح أيامه الحالم بها كالبحر مستعينا بحورية الحلم طالبا الخلاص ولو في حلم . الأسلوب والحبكة استدراج للقارئ إلى غوامض النص وعوالمه، بكل هذا استطاعت المبدعة أن تمنحنا متعة التواصل ومتابعة القراءة بل إعادتها كما حصل لي .

**************

 

وفاء: الصخرة في البحر أهي العاصم من غرق؟ أم المرشد إلى  الانتحار؟ صخرة استوجبت منها سؤال : كيف للعاصم أن يصبح واسطة للموت؟

هيام: يتشبث بطل القصة بالأسطورة " أوليس وعرائس البحر "، تخرجه الأسطورة من واقع مدنس، وترتفع به نحو حلم مقدس . فهو شخص يبحث عن المعنى، ويقاوم الفراغ، يبحث في حضور هذه الأسطورة في الآداب العالمية . يبحث عن أسطورة الإنسان، وعن حلم كبير يسع الإنسان على هذه الأرض ويعيده إلى بحر المعنى . وبين الواقع والحلم صخرة الإلهام، صخرة منقوشة برموز غريبة تدل على موطن عروس البحر، تلهم هذا الشاب الرسام، ثم تعود إلى الأعماق، فيكرر البحث عنها كلما انقطع الصوت، وغاب المعنى . هي صخرة الصراع بين الحلم والواقع، بين المعنى والفراغ، بين قدرة الشاب على تثبيت رؤيته الفنية، و تلاشي هذه الرؤية . هي صخرة الحلم، وهي صخرة متغضنة، صلبة، غير مكتملة . تحتل الصخرة الترتيب الأول في عنوان القصة، فهي العتبة الأولى في عنوان ثلاثي المفردات، تقوم مفرداته على التتابع . صخرة هي الحد الفاصل بين الواقع والحلم . بحر الأسرار والمعاني، ولكن الإلهام يأتي في المرتبة الأخيرة، فهو أمنية تتحقق كلما كشف البحر عن أسراره عن طريق رمزه الأسطوري عروس البحر، وهي أمنية لا تتحقق حين تتلاشى عروس البحر وتغيب ... الإلهام ينبعث من قاع البحر، وقد يتردد صداه عبر تلك الصخرة، فيبلغ الشاب صدى الإلهام، ويلاحقه، ويريد الوصول إلى منبعه، لكن منبعه مشكل بصور رمزية أيضا . قبة بلورية . مكان شبيه بمقبرة الذكريات . رسومات عنيفة مرعبة . الإلهام ينبع من النفس، لأن طريق الإلهام يسلك خبايا النفس البشرية وهي تعيش صراعا بين الواقع المحسوس والحلم المعنوي .

الصراع محسوم بين الإنسان والطبيعة لصالح الإنسان وذلك ما كشفته ذاكرة البطل منذ الصفحة الأولى، ولكن الصراع ليس محسوما بين الإنسان والغيب لصالح الإنسان الذي يمر بحالات امتلاء وفراغ، في أعمال فنية ينفذ منها المعنى، ويسكنها الوهم . وبذلك تقوم الأسطورة على الخلق، أما الفن فهو صراع بين الخلق واللاخلق، بين الوجود والعدم . بين تحقيق الرغبات المادية المباشرة وبين تحقيق البعد الروحي . والبطل هنا نكاد نراه معدما يعيش في عمارة قديمة مع فنانين معدمين، تكدست أمامها أكياس الزبالة تنبشها القطط، وتنبعث روائح البول وروائح السمك النتن . هو يعيش في تركيبة واقعية مدنسة، يعيش في الظلام لأنه لم يسدد ثمن فاتورة الكهرباء، ولكن الأهم من ذلك الدنس، وعي الشاب بأنه يعيش بروح مظلمة . و لكن، وهو يدرس حضور أسطورة " أوليس وعرائس البحر " تشكل الأسطورة حدثا مهما بالنسبة إليه. حدث يتجاوز الدراسة العقلية إلى ماورائيات ذلك العقل، وبذلك ينفتح طريق جديد يشق مسالكه في مسارب نفس دنسها الواقع.

 

وفاء: محاولة بطل القصة في الانتحار أهي انتحار وخلاص أم لجوء لأعماق البحر للبحث عن عاصم غير الصخرة؟

هيام: البحر بالنسبة إلى هذا الشاب هو خلاص، وهو بحر المعنى، ومنبع الأسطورة، منه ينبعث الصوت ويترك صداه، هو صدى ما تبقى في ذاكرة الطالب وفي ذاكرتنا جميعا من صدى البحر، صوت الأمواج التي تعيدنا إلى الأحلام القديمة والأجواء الأسطورية، وأمواجه ترتطم على الصخر أو تهمس ليلا، وتعود إلى الأعماق ولا نستطيع تعقب رحلاتها نحو الأعماق . فلا يبقى للمبدع غير خياله واشتغالاته الذهنية التصورية ليستعير صورا عن تلك العوالم . هل هو انتحار؟ لا أعتقد ... بل هو تعقب للمعنى المنفلت في تعقبنا لأمواجه، وتغرينا تلك الأمواج للإبحار أكثر كلما تقدمنا غير عابئين بمآلنا، لأن ما يهم الذات البشرية هو الإبحار لاكتشاف الأسرار الكامنة . ولكن الإنسان يدرك في النهاية أنه يصارع وهما، وأن أسرار الإلهام شبيهة بأسرار البحر . وقد أثبت العلم الحديث أن الإلهام حالة ذهنية سيكولوجية، كما ندرك أن ما يعبر عنه بالمعرفة الحدسية هو نتاج اشتغالات نفسية وذهنية وجسدية عميقة . وذلك ما يعوز هذا الشاب . ولكن يبقى شرف الإنسان في المحاولة . وهو يتشبث بحلم خارق لقدراته . وهذا جيد لاستحضار الأسطورة لنجعلها تعيش بيننا وننهل من لغتها الخصبة، واستعاراتها وترميزاتها لنتقدم بفنوننا ونكتب تاريخنا الحقيقي . أو كما بين الياد " التاريخ الحقيقي هو ذلك الذي يقص البدايات والأصول، أصل الكون، وأصل الإنسان، والأفعال الخارقة للكائنات المقدسة "، وذلك ما تعنيه الأسطورة للطالب والفنان الشاب، ولكنها في المقابل وبالنسبة للعامة، وبالنسبة للبحار الشاب فهي تمثل خرافة وحكاية لا تربطها بالإنسان أي جذور، وأن ملاحقة الأسطورة هي محاولة انتحار، ومن ثمة نعود إلى قولة الياد بأن " التاريخ الخاطئ تمثله الخرافات والحكايات "، فإلى حين ولوج الطالب الشاب للبحر كان في حالة حلم قد يذهب بحياته، ونحن ندرك جميعا وأنه في تجليات العملية الإبداعية ومراودة المعنى يعيش بعض الفنانين وخاصة الشعراء وأصحاب الريشة الموت مرارا ومرارا، ومع ذلك يتشبثون بأحلامهم الفنية، وتوقهم للخلاص من الأبعاد المادية لوجودهم الإنساني إلى ما هو أعمق وأكثر حفرا في الروح ..

 

وفاء: توقعت حين القراءة الثانية أن البطل استرجع الأسطورة ليكتب عنها لكني وجدته القاتل لهدى ... لا أدري ما زلت أبحث عن القاتل والباحث والمستلهم؟

هيام: سؤال وجيه وفي محله . نحن ندرك أن الأسطورة تدرس من خلال عدة زوايا، وتعريفاتها تختلف، فهناك تعريف نفسي وتعريف أنتروبولوجي وآخر سيميولوجي، وتعريف الأديان القديمة، ولكن هذا ليس منبت الحدث في القصة، وإلا لما وقع الإشارة إليه . لأن لحظة عودة الطالب للأسطورة حتمت استرجاع حلم قديم، حلم استعادته لمنزلته الإنسانية في صراعه مع الطبيعة، تحول إلى حلم بالصراع مع رموز الأسطورة (البحر وعروس البحر)، فما بقي من صدى تلك الحادثة، قد تكرر في تردد صدى الأسطورة من خلال استرجاع لحظة المواجهة . يستعيده كلما جلس على صخرة رابضة على البحر، استرجع من خلالها الأسطورة كحلم، وكمولد لأسئلة إنسانية لا تنتهي : " تذكر ذلك المشهد المحفور في ذاكرته عندما كان طفلا وقد خرج ليسوق العربة في العاصفة عبر منعطفات الجبل، مواجها المطر والريح والصقيع . كان الحصان حارنا يصك الأرض بحوافره رافضا السير على الطريق، ولكنه بقي يصارع الطبيعة والحيوان إلى أن انبسط السهل أمامه وبدت ذؤابات الأعشاب تتماوج تحت هبات العاصفة، عندها ترك العنان للحصان يسير خببا .

ما إن قرأ الأسطورة حتى عادت إلى ذاكرته تلك الحادثة، استرجع صوت الريح المزمجرة مقترنا بدوي الرعد والسماء الكالحة . بعثت فيه تلك الحادثة وهو طفل شعور بالرضا عن النفس . ولكنه الآن يقف أمام مغامرة أخرى تفتح هوة في خياله تبدو له كصدى هدير ذلك الرعد الذي كانت أذنا الحصان تنتصب لقعقعته .

ترك كتب التاريخ والفلسفة والأدب تنام على طاولته الهرمة، وأغمض عينيه وهو يتخيل " أوليس " ناشف الريق وهو يرتد من شاطئ إلى آخر دون أن ترتسم أمام ناظريه ملامح الطريق التي تقوده إلى نهاية الرحلة . تخيل البحر وهو ينفتح على تلك التساؤلات التي تولد تساؤلات أخرى ولكنها لا تنفتح إلا على أخرى إلى حد الإرهاق والشعور بالضياع وانتفاء تشكل الأفق المرتقب."

  لتمتزج الأسطورة مع النذور الخرافية، وتتحول إلى خرافة، بعد غرقه، وإنقاذه من الموت، واحتكاكه  بالبحار، وعودة إلى اللقاء الذي دار بين البحار والشاب بعد نجاته من الغرق، ندرك سبب التحول  الذي استعاض فيه الطالب عن الأسطورة بالخرافة، والخرافة هي مرايا لواقعه المهزوم، وعودة إلى الصخرة التي انكسرت عليها أحلامه ...

" كف عن التفكير حين لمح البحار الشاب يلوح له عن بعد . توقف وأسكت محرك السيارة ثم اتجه إليه . قال له البحار وهو يصافحه قرب قاربه : ـ" ما بك شارد الذهن كأنك تتصفح عالما غريبا عنك؟ " . وجد من الصعب أن يشرح له شعور الإنسان الذي يتحرك في عالم وعقله مشدود إلى عالم مغاير.

ـ لم أفهم ما الذي جعلك تتحدى البحر الهائج في ذلك اليوم؟...

ـ راودتني يومها رغبة تمزيق العلم الأسود المنتصب كالحارس .. وما إن اقتحمت البحر حتى تجهمت السماء وانعكس لونها الرمادي على الأمواج ووجدت البحر يلقي ما في جوفه على السطح ..

ـ لا تنكر أنك تصرفت بتهور! ..

ـ لقد قيل لي أن عروس البحر تسكن ذلك المكان وتتراءى حين تتعالى الأمواج ..

ـ ترددت هذه الأسطورة منذ زمن لكنها مجرد خرافات ! .. "

لا مجال للحلم بعد ذلك اليوم ... بل عاد إلى الظلام وهو يكف عن إلقاء الأسئلة ... وعاد إلى الجانب المعتم في ذاكرته كمرايا لخيباته و أزماته ... فلا إلهام ... ولا جدوى من العودة إلى البحر، بل عودة إلى الواقع، تتلاشى الأسطورة، يتلاشى الحلم، وأخيرا " تفطن إلى أن جلوسه على الصخرة لم يكن مريحا، بدت له الصخرة متعددة النتوءات، وشعر بها تنغرز في جسمه كالمسامير . أيقن أن رجوعه إلى البحر لم يجعله يقذف إلا إلى دوامة " كابريدس" . نخره الشك وبدأت الصور تتراكض في مخيلته وتتابع لكي يكمل بعضها البعض . وجد من الأفضل أن يختلي بنفسه لكي يراجع حساباته منذ لحظة تداعيات الحلم لأول مرة . انصرف ملوحا بيده، دون أن يلتفت إلى البحار الذي أمسك الجريدة وبقي يشيعه طويلا إلى أن غاب مع السيارة ".

وحين تحولت الأسطورة إلى خرافة، كان لا بد من نهاية تراجيدية، على خلاف الأسطورة المشبعة بالحلم وبأفعال الخلق والتخييل برموزها وصورها ... وكان لا بد من هزيمة الإنسان أمام القوى التي تحبط سعيه ... ولعل المزج بين الواقع والأسطورة، والواقع والخرافة في مرحلة لاحقة ما جعل القصة تبدو في ذلك الشكل الذي أشار إليه الناقد سلام كاظم فرج، و ستكون لي عودة لاستفهاماته قريبا .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1501 الاثنين 30/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم