قضايا وآراء

أزمة الأديب في العراق الجديد.. / جليل الخزرجي

 وأن الأديب في عافية وإذا أردنا أن نصغي إلى هذا الصوت، يتوجب علينا أن نستقرئ هذا الصدى المزدوج، بدون أن نتخذ موقف المتشائم مما يعاني الأدب!، ولا موقف المتفائل بسير الأدب!، وعند قراءاتي لكتابات الدكتور علي الوردي ولموسوعة الراحل (محفوظ) وغيرهم من الكتاب والشعراء وجدت أن هناك فعلا أزمة بل أزمة مرعبة ومخيفة، وإن أزمة الأدب نفسه تنحدر من أزمة الأديب نفسه والسؤال المطروح هنا : هل أدبنا يتمتع بحرية القول والنشر كاملة مثلما هو موجود في مصر أو لبنان، وهل أديبنا يطمئن في روحه ونفسه كامل الاطمئنان الى اسباب حمايته؟ ونحن لحد هذه اللحظة لا يوجد قانون يحمي الصحفيين والإعلاميين ومن سار في هذا الطريق الحر!، كنت ولا زلت أتمنى أن أزمة الأديب كانت واحدة، إذاً، لهان وسهل الأمر .... ولكنني وجدتها من خلال تجاربي إنها أزمات حادة وعصيبة لا يمكن حلّها بالقول في الندوات أو نشرها في الصحف والمجلات ما لم تتخذ الجهات ذات العلاقة قانوناً يعمل على تذليل كل الصعاب وحماية هذه الشريحة النادرة من الإرهاب بكل أنواعه وإعطاء (حرية فكر) معناها الحقيقي، ولو سردنا بعض الأزمات، لوجدنا إن كل أزمة أخذت بخناق أزمة ثانية، فلا يكاد يفلت من شباك واحدة، حتى تتخذه أزمة أخرى أشد وثاقا من سابقتها !.

إذن فما هي حقيقة هذه الأزمات ؟ وهل يمكنها أن تختلف في جوهرها عن أزمة العصر نفسه الذي يكابد الأن أزمات عديدة وخصوصاً التهميش ما لم يكابده عصر سابق ؟

هل أزمة الأديب ... هي رزق؟

كما هو معلوم إن الوضع الاقتصادي في بلدنا وخصوصا بعد سقوط الصنم عام 2003م في تباين ( أي غير مستقر ) فهناك الرواتب العالية لشريحة خاصة يقابلها 2 مليون من العاطلين بضمنهم أصحاب شهادات بكالوريوس وماجستير بمختلف العلوم، وبين هذا وذاك تبقى أزمة الأديب، وقبل كل شيء أزمة في عيشه يبحث عن كيفية حصوله على رزقه لأنه متى أضطرب رزق الأديب وضاقت عليه سبله فكيف يستطيع أن يفكر بحرية وجلاء ويكتب وينشر وهذا فليكس فارس الأديب الخطيب المترجم، كتب يوم انتهى من ترجمة كتاب ( هكذا تكلم زرادشت ) للفيلسوف الألماني نيتشه بأنه طبع الكتاب مما أدخره في حياته كلها، وقد أصيب بصدمة الإخفاق حين رأى كتابه كاسداً في مكتبات الأسواق ويقول بالعبارة الصريحة : ( إن الأديب العربي سيظل مدينا لي بهذا المبلغ الذي اقتطعته على نفسي وأهلي لنشر الكتاب )، وكأنه انتظر ولا يزال ينتظر في لحده من يرد عليه هذا الدين، ومتى استقر أو استكان الأديب، وخضع لأزمة العيش كان حساب ذلك على حريته نفسها والحرية هي مستلزمات الأدب الصحيح الذي يؤمن برسالته وكثير هم الذين يخضعون لسلطان الرزق ويخونون قضية الحرية كما كان سائدا في عهد الدكتاتور صدام من كتّاب وشعراء يمجدون شخصه، ومن حافظ على مبدئه الشريف، إما أعدم أو هاجر البلد خفية لينجو بنفسه أو يتعفن في زنزانات النظام المظلمة.

ولكن سؤالنا هو، إلى متى يبقى هذا الصمود ؟

هل للحقيقة وجهان ؟

لماذا نحاول أن نفهم الأمور في حياتنا اليومية إلا من جانب واحد هو جانبنا فقط، ولماذا لا نحترم رأي الغير فيما يراه ؟ إن فعل ذلك إشفاقا على الحقيقة كما هي معروفة عند الفلاسفة لها وجهان، وجه سرمدي لا يزول ولا يتحول، وهو وجه الحق الذي تجتمع عليه الاهواء والمشارب وهو وجه الإيمان بهذا الإنسان .. ووجه يتبدل تبعا لتبدل المذاهب والقضايا السياسية والاجتماعية ومن الخطأ جدا أن نعتمد هذا الوجه وحده، ونحاول أن نفرضه على الآخرين، مادام قابل للتغيير والتطور ومادام الذي يصلح منه اليوم قد لا يصلح غدا، وكم حقيقة في هذا المجال ظنها الناس حقيقة الحقائق، فإذا هي في مهب الريح.

والأديب أيضا في أزمة مع قرائه .... هؤلاء القراء الذين تنوعت أمزجتهم وتباينت أهواؤهم وتباعدت عقائدهم وتنافرت مذاهبهم في الحياة فأصبح الأديب أمام هذه الأمزجة موزعاً، لا يدري من يرضي ومن يسخط فإذا خاض في مشاكل عصره الخاصة قال بعضهم :

( إن هذا الأديب ابتعد عن محراب الأدب الصحيح الذي يتسامى عادة فوق المشاكل وقيّد نفسه وأدبه بمشاكل عصره الضيقة وقضى على نفسه وأدبه بالنسبة إلى العصور الآتية ).

وإذا تنكب مشاكل عصره اتهموه بالخيانة وتجمد الإحساس وأطلقوا عليه (أديب البرج العاجي) وما أهون عليهم أن ينعتوه مرة بالأديب الرجعي ومرة بالأديب الذاتي ومرة بالأديب التقدمي ! وقد تعاموا عن الأديب هو أن بيئته وانفعالاته التي تنبع حينا من موقف ذاتي، وحينا من مشهد جماعي .... والحكم الصحيح المجرد هو أن يكون الأديب في هذه الانفعالات صادقا مع نفسه ناقلا عن شعوره !

والأديب قد يتأثر لمنظر جميل في الطبيعة، كما يتأثر لمصرع أناس في عملية تفجير كما يحصل في العراق اليوم .

وللقراء أمزجة :

كما هو معلوم في الساحة الثقافية إن للقراء والمتلقين أمزجة خاصة متعددة، تعود تربيتها إلى تأثرها بنوع خاص من أنواع الأدب فمنهم من تستهويه الأبعاد السياسية والاجتماعية ومنهم من يوثر البقاء على قدسية القديم ومنهم من يحبذ التمرد على المفاهيم القديمة ويتطلع الى كل ما هو جديد، ومنهم من تجذبه العلاقات الجنسية بفضل بعض الفضائيات المتخصصة في هذا المجال إضافة إلى بعض الصحف والمجلات والأقراص التي تعرض نتاجاتها وخصوصاً في العاصمة بغداد.

وبذلك يذهب الأديب ضحية هذه الأهواء المتباينة فإذا كان يحمل المبادئ ومن أصحاب رسالة خاصة، لا يهتم بكل ما يثار حوله من غبار، ولم يبال، أراج أدبه، أم لم يكتب له الرواج والشهرة .

وإذا كان أصحاب الكسب سخر أدبه لإرضاء الجمهور وطلع عليه بما يؤمن وما لا يؤمن به مثلما نرى اليوم غزارة الأدب يقابله قلة في النقد.

وهنا تنفجر أزمة الأديب في تمزقه الداخلي سواء، ذلك الأديب المؤمن برسالته والأديب الممالئ لأن الممالاة نفسها لا تصل بصاحبها إلا إلى التمزق الداخلي الذي يجعل منه إذا شخصيتين متنافرتين ولن يكون الضحية في هذه المرحلة إلا الأدب نفسه كما يحصل في أيامنا هذه .

لأن الأديب الذي يؤمن برسالة ما لا يهمه أن تصل به هذه الرسالة إلى تقدير القراء ما دام مقتنعا بمبدئه ورسالته لأن له من ضميره ما يقنعه بأن العصر الذي ينكره اليوم سيعرفه ويقدره غداً .

وكم فقاقيع كتب لها الظهور والبريق في حاضرها ثم غابت وتوارت إلى الأبد !.

بينما الأديب الذي يتخذ رسالة الأدب وسيلة الى الظهور والتباهي والربح باكتسابه القراء السذج لا يستطيع أن يحظى إلا بوردة تتفتح في الصباح وتذبل في المساء، أما إكليل الغار الذي لا يذبل فهو نصيب الأديب الذي يؤمن برسالة ويحيا هذه الرسالة ويعزف عن إعجاب زائف لا يلبث أن يموت بموت المشاكل الحاضرة ! وهناك أزمة الأديب بين الحرية والالتزام، هذه الأزمة التي يعانيها أدب العصر في كل مكان بين الحرية التي هي أسمى ما يعتز به الإنسان وأثمن ما تتحلى به الإنسانية وهل كان كفاح الفكر وأصحاب الفكر في مراحل تاريخ التطور الإنساني إلا من اجل الحفاظ على هذه الحرية ؟ وبين الالتزام الذي يفرض على الأديب أن يلائم عصره في حاجاته وأن يتصدى لأبرز المشاكل ويتحداها ولا يفر منها باعتبار أن الأديب لم يعد يقنع (بأن يكتب كما يريد) وبأن القارئ يقرأ حين يريد.

ولكي يكون كاتبا لا يكفيه أن يلاحظ الحياة بصورة مجردة موضوعية بدون أن يتخذ موقفا ما منها .

ما هي رسالة الأدب الحقيقي ؟

من يتأمل في هذين المذهبين المتناقضين ظاهرا لا يجد أي تناقض في جوهرها لأن رسالة الأدب الحقيقي هي الانتماء إلى المثل العليا التي تتمثل في الحق والخير والحرية والجمال والأدباء الأحرار، والأدباء الملتزمون يتلاقون في هذه الغاية وإن لم يتحالفوا على اللقاء عندها.

ولكن هذا اللقاء ينبغي أن يكون نابعا من ضمير الأديب، لا مفروضا عليه من الخارج وإن لم تحركه مأساة نفسه ومن لم تشغله مصاير الإنسانية كما يشغله مصير قومه ومن لم يكن حريصا على نقل ما يتغلغل في أعماق ذاته على مستوى حرصه على نقل الصور والألواح التي تتزامن على مد بصره وخياله لا يستطيع أن يكون جديراً بالرسالة التي يحملها وإن كان هناك فضل فإنما يعود إلى أن تنكشف النفس بحقيقتها على العالم الذي يحيا فيه !.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم