قضايا وآراء

سماويّات (2) ينقدون .. ويمكر الشاعر .. بحث في نقد النقد / حسين سرمك حسن

تتناول الناقدة الدكتورة (فاطمة القرني) موضوعة المرأة في شعر "يحيى السماوي" فتلمس تحمسا بارزا للمتلقي الفاحص والناقد المحلل لـ "تطهير" السماوي من الإندفاعة العشقية الحقيقية (التجارب الفعلية) من ناحية ومحاولة تبرئته من "تهمة" الإنهمام الحسي بالمرأة من ناحية أخرى . تتناول الناقدة قصيدة "بقايا عبير" التي استهلالها :

قالت : "مساء الخير" .. فالحذرُ    أسرى بقلبٍ هدّه الضجرُ

فتقدم استنتاجها على الوجه الآتي :

".. هذا النص / الحكاية المسرودة في (27) بيتا يتبادل فيه كل من الشاعر والزائرة المؤانسة والبحر بكل مفرداته قلبا ومحيطا المواقع والأدوار فيما بينهم .. تجانسا واختلافا، ولعل ذروة المفارقة تتجلى في كون الشاعر "المشرّد" .. الغريب يغدو دليل تلك العابرة إلى البحر/ الفضاء الساحر الممتد، إلى الإنطلاق الحالم حيث لا طغاة ولا زنازين، بل إليه هو .. موطنا آمنَ من البحر وأحنى، وإن تشابها اصطخابا وأرقا وتطويحا في المجهول . البحر : قمرا، أشرعة، أمواجا، دررا، رياحا، مراكب ومراسي، والنديمة الحسناء : ضحكات عطرة، قناعا، جبينا، وَجَنات، شفاها، دلالا، وهو : جدبا وضياعا وظمأ لاهثا متعالقا بهما معا، كل هذا ينعكس متقدا بالحياة بحسية التصوير التي يميل إليها الشاعر كما تبدو في الأبيات السابقة وفي بقية أبيات النص، وهو ميل يغني قصصية البناء، ويجعلها أطوع للتشكيل الدرامي، الذي من خلاله يسعى الشاعر المستلب الوطن إلى تعيين وتجسيد وطنه الحلم في القصيدة وبها شاهدا على مأساة وجوده المُصادَر تأريخا وصيرورة- الشعر العراقي في المنفى ص 188 و189 ".

ثم تتناول قصيدة السماوي التي مطلعها :

جالت بحي الفيصلية مقلتي    وتنصتت لحفيفه أعصابي

وتقاطعها بقصيدة "حكاية في ليل بهي" من ديوانه "هذه خيمتي فأين الوطن؟" والتي مستهلها :

ليل حجابكِ حول وجهك قد سجا

فعجبت إذ جُمع الضياء مع الدجى

فتخلص إلى أن الطابع "العمري" للحكاية الأولى هي "بطولة من حقها أن تُستعاد وتردد.. لأنها بكل أولئك تتكرس ضربا من "الفروسية" الفنية / التحقق الذاتي / مقاومة الفناء في الغربة من خلال "مصادقة" المرأة، النظر إليها كظل ابتراد.. محطة استبراد.. إستئناس.. وهذه "المصادقة" .. هي الأقرب لدلالة "الغزّل" بمعنى : التودّد إلى المرأة والاستمتاع منها بمجرد الحديث اللاهي لا الفعل "فالرجل يطلب علاقة مع الآخر يُظهر فيها الآخر اعترافه به، فما يطلبه هو شوق الآخر إليه، إنه مشتاق إلى شوق الآخر، يريد أن يرى نفسه في عيني الآخر وفي حديثه، يريد أن يجد نفسه باعتباره موضوع شوق الآخر . ما يظفر به الغزِل ليس لذة إشباع الحاجة بل المتعة بالشوق ذاتها، فالغزل مظهر آخر من مظاهر افتراق الشوق عن الحاجة، وافتراق المتعة عن اللذة – ص197و198".

ثم تصل إلى نتيجة نهائية تقول فيها : "إن تغليبي لزيف مغامرات السماوي الغزلية، أو للجامح الحسي من فصولها يرجحه ندرة وجودها في شعره الذي كتبه في أديلايد / أستراليا بعد أن استقر هناك، مع أن طبيعة البيئة تناقض تماما ما كان عليه حاله في حجاز السعودية، بل إن حكاياته الغزلة كانت هنا/ أي في الحجاز أجرأ وأظهر شغبا وطرافة، ولعل ما سبق من نصوص خير شاهد على ذلك – ص 198 " .

ولإثبات استثناءات منفى السماوي الغربي الغزلية التي تتجلى فيها المرأة آنا، تأخذ القرني قصيدتين كلتاهما يبرز "المقهى" الخلفية المكانية لميلاده، الأولى هي قصيدة :

سألتني : أين مقهى العربي ؟   قلتُ : في قلبي، فهل من طلبِ ؟

من ديوان زنابق برية ص 81

والأخرى التي مطلعها :

ولدي أنت وإن كنت أبا    وأنا لازلت في وهج الصبا    

من ديوان الافق نافذتي ص 138 – 145

ثم تؤسس استنتاجا خطيرا مفاده أن الفارق بين التناولين / النصين يعود إلى أثر الزمان والمكان : "فزمنيا كان زمن الحكايات السابقة مرحلة توقّد الوطن ذاكرة، وأملا في أن "سيكون" مرة أخرى، في حين تتشابك خيوط هذه القصة والعراق في طريقه إلى التهاوي تحت أقدام الغواية الأمريكية، ينزف ذاكرة وآنا وغدا أيضا.

أما من حيث المكان، فاستلهام امرأة محجبة أو منقبة متوارية غالبا ما يفضي إلى تغليب صوت الشاعر كسارد موجه لدفة الحوار، طالب لا مطلوب، في حين يتيح "انكشاف" المرأة في المجتمع الغربي جسدا ولغة للشاعر فرصة تحميلها هذا العبء، بينما يحاول هو الإسترخاء على توقيعات مراودتها له / لملمتها لذانه لمشظاة – ص 201" .

وتكمل وجهة نظرها في القصيدة الثانية بعد أن تتوقف عند خاتمتها :

ساعة مرت .. وأخرى وأنا   ألثم الورد واحسو الشهبا

بالقول :

"لا يمارس مثل هذا القفز أو التقافز بمواجهة موقف شبيه إلا من هو هارب متخفف حتى من ظلّه: من طال به أمد النضال، وتشعبت به سبل التخبير والحكي والتبرير، فلم يغنم سوى الخيبة، ولم يظفر بغير الإنكسار، هي ممارسة قسرية ترتهن لها كثير من التجارب الإبداعية لشعراء المنفى الذين عانوا - وظلوا - من الإضطهاد السياسي، وقاسوا محن الحروب وتبعات التشريد، فهم أسرى ذاكرة موجوعة متخمة بالفجائع والنكبات والمنغصات، يستغرق برؤها عقودا من الزمن لو تغيرت الحال إلى النقيض/ الأحسن، فكيف بها ولا تلويح إلا لمزيد من الخذلان والتردي ؟ - ص 203 ".

تقول أيضا :

وفؤادا طفلا كوثره    إيمان وأخلاق العرب

إذ لا تتناسب جهرة الفخر في "إيمان وأخلاق العرب" مع وداعة الفؤاد "الطفل" في الشطر الأول ؛ ناهيك عن مفارقتها للغة الموقف إجمالا، وكان من الأنسب أن يقابل الشطر الأول بتصوير ينتهي بمفردة "الشغب"، أو "الطرب" ..، إلى غير ذلك من بدائل، وقس على هذا قلق الصورة في : "كالنجمة في حضن السحب "، ثم اصطباغها بنبرة العنف في :

أطلبت يدي ؟ يا من فمه    ويداه وخافقه طلبي

... فهذه اللغة "المتنمرة" لا تلائم حداثة تجربة الساردة في التواصل مع الآخر/ الرجل، ولا موقف تغنيها الرومانسي الهامس ولكنها من خيانات إرث الشاعر، بل من دلائل وفائه لذلك الإرث المتأصل نزفا وعزفا – ص 206 " .

وفي المقدمة التي كتبها الأستاذ "عبد المقصود خوجه" لديوان السماوي "قليلك لا كثيرهنّ" موقف مماثل حيث قال في البداية إنه "عندما حل الأستاذ الشاعر الكبير يحيى السماوي  بأستراليا مواطنا له من الحقوق والواجبات ما لأي مواطن استرالي وذلك عام 1997 م، كنت على يقين بأنه لن يغير جلده أو يخلع قدميه من طين السماوة ليركض بهما في ساحات ومتنزهات "سيدني" بل سيظل أبدا طفل النخل في غابات "أديلايد" يحن باستمرار إلى رغيف التنور... لم يخب ظني أبدا، فقد ظل شاعرنا الكبير وفيا لحنجرته ومبادئه وقاموسه، وعندما أهداني ديوانه "قليلك .. لا كثيرهنّ" حسبته يركن – ولو لمرة واحدة- إلى استراحة محارب يستجمع من خلالها قواه في بلاد الغربة التي صار احد مواطنيها. إلا أنه أبى إلا أن يأتي بقصيدة يتيمة أهداها لرفيقة دربه زوجته الفاضلة السيدة أم الشيماء .. ثم عرج على هموم وطنه الأصلي..- قليلك لا كثيرهن ص 7".  

لنبدأ الآن بالسير مع الشواهد الفصل بيننا وبين الأطروحات النقدية السابقة التي ترى أن السماوي عليه – بفعل همّه الوطني العاصف- أن يتعالى على أي منحى عاطفي عموما وحسي خصوصا من جانب، وأنه –أي السماوي- قد بقى أمينا على هذا الموقف "التطهري" حتى في منفاه من جانب آخر. ودعوني أنطلق أولا من شاهد مضاف كتمهيد على أن أعود إلى تحليل النماذج الواسعة المختلف عليها سابقا لاحقا.  

# في الصفحة (214) من كتابها، تعلق القرني على قصيدة يحيى "يحدث في خيالي" ( قليلك لا كثيرهن، ص 49-55) بالقول : (يغلب الطابع "العذري" على لغة السماوي المتولهة بزهرائه، ولطالما صرّح بأنه "عروة" و"قيس" و"جميل"، أو حفيد كل أولئك، وسليل الظمأ العذري المغتص وجدا وتلهفا، اللاهث إلى حبيبته إلف روح، وسكينة قلب، المتعفف بانصرافه الخالص إليها عن كل غواية حتى غدت عاصما وهاديا بحبه تُستنهل المغفرة!!.. وهو لا يكتفي في عذرية مناجاتها بحرارة النبرة الهامسة وحميمية المناشدات الملحة بتدفقها العفوي النازف كما تنثال ارتسامات الأبيات السابقة (تقصد قصيدة "شبيه الياسمين يدا وخدّا" التي سنتوقف عندها أيضا) وإنما يمعن في تجذّره البدوي إلى حدّ استلهام صور لا تكاد تخطر على بال:

(سيدة النساء يا مسرفة الدلال

لا تأخذي بما يقول عاشق

في لحظة انفعال

قلبي – وإن خذلتهِ لمّا يزل

طفلا بريء النفس والنبال – القرني ص 214)

ثم تقفز على مجموعة من الأبيات هي:

(لستُ الذي يمكن أن ينتهر النهر

وأن يغضب من تشبّث الجبال

هل يزعل العصفور من سماحة البيدر

والزهر من الربيع

والنسر من الأعالي؟- قليلك، ص 49و50)

وهنا نلاحظ أن الأبيات السابقة لا يمكن أن تُفهم دون أن نضع في الحسبان النقدي المعاني الرمزية المستترة للنهر والجبال والعصفور والبيدر والتي سنتوقف عندها أيضا لأن القرني تغفل دائما المعاني الرمزية الحسّية (الجنسية تحديدا) للكثير من المفردات (أسماء وأوصافا وأفعال).. تقفز الناقدة فوق هذه الأبيات لتقدم المقطع التالي:

(لا تأخذي بما يقول عاشق

أغضبه أن التي هام بها

عصيّة الوصال

يحدث أن أشيد في خيالي

منارة فرعاء مثل جيدك النائم

خلف برقع وشال

يحدث أن أجعل من عينيك

قنديلين في معتكف ابتهالي – القرني ص 214)

ومن هنا ستهمل الناقدة سبعة أبيات تقريبا وهذا من حق الناقد حين يريد أن يرص أمثلته واستشهاداته التي تؤكد فرضيته عندما تكون الشواهد طويلة وتفضي إلى الاستنتاجات نفسها، لكن حين يغفل عامدا الأبيات التي تحمل مضامين وصورا وأفكارا تخالف أطروحاته وهو على درجة عالية من الثقافة من ناحية ومن الإحاطة الشاملة والتفصيلية بمنجز الشاعر موضوع البحث من ناحية ثانية، فإننا سندخل دائرة تفسيرية أخرى شديدة الأهمية تتعلق بسيكولوجية الناقد . في الفجوة (الإصطناعية) التي أحدثتها الناقدة يتغزل السماوي بحبيبته منتشيا بلا تحديدات تطهريّة .. طبعا ليس بلا ضوابط معروفة.. لكن ليس مع الشعور بالإثم من الممارسة التغزّلية الغنائية التي تتيحها المخيلة الشعرية التي ترفض التابوات .. هذه المخيلة موجودة خلف أروع منجزات الشعر الجاهلي .. خذ الملك الضليل الذي يتماهى معه يحيى في بعض القصائد كما سنرى لاحقا :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع     فألهيتها عن ذي تمائم محولِ

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له   بشقٍ وتحتى شقها لم يحوّلِ

وهذه الاستخدامات موجودة في كتاب الله حيث يتحدث سبحانه عن فروج المؤمنين و"جلودهم" وعن معاشرة الذكران.. لكننا حين نقع تحت تاثير عوامل اصبحت لاشعورية في بنيتنا العقلية وفي السلطة الكابتة القيمية فإننا سنُسقط – PROJECTION، حتما ما نضمره –ولا نشعر به في كثير من الأحيان- على النص المطروح للتحليل، مثلما سنعيد بناء النص حذفا أو إغفالا أو استنتاجا بما يناسب تلك البنية ومتطليات تلك السلطة اللاشعورية الكابتة. يتغزل السماوي في تلك الأبيات المغفلة بخصر حبيبته وبساتين البرتقال التي تحيطها.. وعن ما ينسجه لحبيبته في خياله من أثواب العشب ومناديل الهدب وشالات ورق الدوالي:

(يحدث أن أزرع في خيالي

حديقة فوق سهول الخصر يا حبيبتي

يحيطها بستان برتقال

يحدث أن أنسج في خيالي

ثوبا من العشب

ومنديلا من الهدب

وشالا مزهرا من ورق الدوالي – قليلك، ص 50و51)

إن العوامل المحددة الدينية والاجتماعية التي تحدثت عنها القرني والتي رأت أنها أسهمت في تأطير غزليات السماوي في حدود منضبطة، كان لها تأثير في "ضبط" المديات الـتأويلية لدى الناقد ذاته، ضبطا قد تتململ تحت قيوده الطاقة الثقافية للأخير فيعمد إلى "تسويات" يقتنص فيها ما يسند فرضياته من النماذج المطروحة للتحليل من جانب، ويقوم بتغطية الفجوات بمهاراته اللغوية من جانب مكمل حيث يكون المتن النقدي بالغ الإفاضة يقلّب الثيمة الواحدة على وجوه متعددة هي تمظهرات لوجه محدد في واقع الحال، حيث تعلق القرني على هذا المقطع وهو الذي يلي الأبيات التي أهملتها:

(يحدث أن أجعل من يديك في خيالي

سورا

يقيني من ذئاب وحشة الليالي

يحدث أن اسوق نحو بيتك

النوق العصافيرية ... الغزلان

والهوادج التي تئن تحتها جمالي- القرني، ص 215)

بالقول: ( أي مخيال عنيد هذا الذي يقاوم سطوة المكان – إستراليا هنا- متوسلا بـ "طفولة النبال" و"شموخ المنارات" و"هدى القناديل"! بل أي عربي يسكن نجدا أو العراق أو مصر لم تزل في هاجسه أثارة من "النوق العصافيرية" و"الغزلان" و"الهوادج" و"الجمال"، فكيف بمغرّب تفصله عن موطنه آلاف الأميال؟؟ - القرني، ص 215).                               وهذا يتجانس مع الأطروحة الأولى التي لم تهيمن على تحليل هذه القصيدة و"إعادة بنائها" بل على الموقف النقدي بأكمله من شعر السماوي. وكلما كان الإحتفاء اللغوي مفرطا كلما كان علينا أن نستعيد إحدى الآليات الدفاعية النفسية ممثلة في التكوين الضدي – REACTION FORMATION مع تطويعها بطبيعة الحال، فالشكل اللغوي الباهر الذي يتعالى أمام أنظارنا قد يخفي تحته إقرارا نفسيا مقموعا بما هو مخالف للإعلان النقدي الإحتفائي المفرط. فالناقدة وهي تقدم لنا المقطع السابق لابد أنها قد أمعنت النظر مليّا بفعل اقتدارها النقدي ونظرتها الشمولية التي تتضح من مقاربتها النقدية لمنجز السماوي في كتابها، في الأبيات السابقة عليه وفي هذه الابيات التي تليه:

(يحدث أن تسافري يومين عني

فأحطم الكؤوس كلها

وأعلن الإضراب عن كتابة الشعر

وعزف العود

والجلوس في حديقتي الوارفة الظلال

يحدث أن تزفك البحار لي

حورية يرمي بها الموج إلى رمالي – قليلك، ص 51)

نحن الآن نخرج من إطار صورة المتيم البدوي الذي يعد حبيبته بالنوق العضافيرية التي تورّط بها جدنا عنترة والغزلان والهوادج التي تئن تحتها الجمال، وندخل في إطار صورة شاعر "حديث" يغضب .. وينفعل بصخب بل بنزق تكون ضحيته أكباش فداء بريئة كالكؤوس .. ومن المفروغ منه أن المقصود بها كؤوس الخمرة وليس كؤوس العصير أو الشاي فهي التي تتسق مع محتوى الإنفعال الشعري الغرامي فهي التي تجعل العاشق "يشرب" طيف محبوبه ويستدخله في ذاته.. هي التي ترقق دفاعات الأنا الأعلى فتتيح للعاشق أفعالا وممارسات لا يمكن أن تحصل من دونها. إن انفعاله "حديث" تماما حين يضرب عن عزف العود وعن كتابة الشعر مادامت ملهمته قد غابت عنه يومين فقط.. وهو في هذا الشكل من الإنفعال مخلص لوصف ذاته الذي قدمه في استهلال القصيدة: (طفلا بريء القوس والنبال).. فهذه الإنفعالات هي سلوكيات طفلية نكوصية يعود فيها الشاعر الراشد إلى استجابات مراحل عمرية مبكرة يزيح – DISPLACED، بها انفعالاته الناقمة من الهدف الأصلي إلى أهداف بديلة بريئة تماما. لكنه يبقى قادرا على مداراة خيباته بمخياله.. بأحلام يقظته التي هي أيضا – ومن منظور آخر- دفاع طفلي نكوصي في جوهره .. فرغم غياب المحبوبة هاهي البحار تزفها له حورية بحر .. ثم يأتي التعويض الذروة الذي قد يخدش حياءنا النقدي في حين أن لا حياء في النقد:

( يحدث في خيالي

أن تزعلي مني لأني لم أقبلك مساء

غير ألف قبلة

يحدث أن أكتب في خيالي

قصيدة

تعجز أوراقي وأبجديتي عن نقلها

من مرجل اشتعالي

يحدث أن يجلسني خيالي

عرش المنى

يجلس عن يميني الأطفال والطيور

والملوك عن شمالي

وكلما صفقت كفي

يقف المارد ما بين يدي

ملبيا سؤالي – قليلك، ص 52)

وحين يراجع القارىء الكريم الحلقة السابقة وهي الأولى من هذه السلسلة والتي حددنا فيها مفاتيح الرؤيا والرؤية "السماوية" في منجز يحيى الشعري في هذه المجموعة "قليلك لا كثيرهن" كأنموذج تطبيقي وذلك من خلال تحليل قصيدة "الإهداء" فسنجد الشاعر أمينا على تلك المفاتيح في هذه القصيدة .. فماتزال الأنثى ركيزة أساسية أو الركيزة المحورية في بناء القصيدة. وبحضورها تنتعش المشاعر الإنتمائية إلى الرحم الأمومي .. وتزدهي الإحساسات النرجسية التي هي نتاج البيئة الرحمية الفردوسية التي يتربع على عرشها صاحب الجلالة الطفل الشاعر والتي ستتسع مدياتها من إشادة المنائر الفرعاء .. وزرع الحدائق فوق سهول خصر الحبيبة .. وجلب النوق العصافيرية لها .. وتقبيلها ألف قبلة مساء .. إلى التصدي للأدوار النضالية التغييرية الحاسمة في حياة الأمة .. يمنع الطغيان والعدوان.. دائما يمزج السماوي ما هو فردي بما هو جمعي منطلقا من المرأة/ أما وحبيبة :

( يحدث في خيالي

أن أهزم الطغاة والعتاة والأباطرة

وكل ما في لأرض من جبابرة

يحدث أن أطهر الحقول من كل الجراد البشري

في بساتين الفراتين

وفي "الجليل" ... "يافا".. ورياض "الناصرة" – قلبلك، ص 52و53)

وفي محاولته تأسيس عالم جديد يعود الشاعر إلى مورده الأول الذي هو مكافىء للأمومة الكونية : الطبيعة، فهو لا يستفيد من عطاياها حسب بل يحاول قلب مظاهرها المستعصية بل المستحيلة ساعيا باستماتة إلى بناء "يوتوبيا" / مدينة فاضلة عجز عنها الأخوة ارسطو ووريثه الفارابي. يوتوبيا تتصالح فيها الشاة والذئب .. ومن هذه الآمال المستحيلة صمم العقل البشري ( أو لاشعوره) صورة الفردوس الذي سنتنعم فيه بعد الموت بإذن الله :

( وأسرج الخضرة في القفار

حت تستحيل جنة أرضية

ضاحكة السلال

يحدث أن أقيم جسر الودّ

بين الشاة والذئب

وبين الصقر والعصفور

بين الضبع والغزال – قليلك ص 53)

ومن المشروع التخييلي والحلم اليقظوي العصي على التحقق إلى ما هو جمعي عملي مقبول واقعيا .. فإلى ما هو فردي : العلاقة الحبية التي بدأ بها قصيدته واشاد على إيحاءاتها ومنطوياتها معمارها:

( يحدث في خيالي

أن الطواويس التي تسلقت سقيفة النضال

تخرج من كهف التنازلات

نحو شرفة النزال

يحدث أن أموت في خيالي

لكي أرى دمعكِ

حين يحفر الرفاق لي

حفيرة الزوال

يحدث أن أفيق من خيالي

على صياح ديك جوعي

وصدى سعالي

أو

عطشي لمائك الزلال

يحدث في خيالي

أن أستحي مني لأني قد اضعتُ العمر

في برّية الخيال – قليلك ص 54)

ومن هنا تتجلى بوضوح صارخ قدرة السماوي على الحفاظ على وحدة قصيدته العضوية فقد بدأ نصه بخطاب وجهه إلى "سيدة النساء" وسوف يختمه بسيدة النساء نفسها.. ولكن بعد ان حلق طويلا في سماوات الأماني المتخيلة وجال في سواحل بحار الأحلام وعاد إلى أرض الواقع الصلبة في نهاية المقطع السابق وهو المقطع قبل الأخير في القصيدة ( يحدث في خيالي / أن أستحي مني لأني قد اضعت العمر / في برّية الخيال) .. وعلى أرض الواقع الصلبة تثقل المشاعر نسبيا.. وتخف درجة الإنفعالات كثيرا.. فيمسي الخطاب أكثر هدوءا ورصانة.. خطاب يكشف أن كل تلك الخيالات السابقة الجامحة.. وكل أحلام اليقظة الباهرة المشبعة.. وكل محاولات أسطرة المحبوب .. وبناء المدن الفاضلة ما هي إلا محاولات تعويضية لسد فم الحرمان .. الحرمان النفسي المزمن من الظفر بالمحبوبة سيدة النساء والإلتحام بها حيث يكون الموقف الإنفعالي المهيمن – كما هي طبيعة الصلة المحارمية- هو "التضاد الوجداني – AMBIVALENCE" :

(سيدة النساء .. يا مسرفة الظنون

سيدة النساء

بين ضفاف الأرض والسماء

جسر من اليقين

وبيننا نهران من ضحك

ومن بكاء

وحقل ياسمين

تشكو سواقيه احتراق الماء- قليلك ن ص 55) .

(وللحديث صلة)  

 

............

* للاطلاع على الحلقة الاولى:

سماويّات: (1) مفاتيح الرؤيا والرؤية: "يا يحيى .. خذ الكتاب بقوّة" / حسين سرمك حسن

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

في المثقف اليوم