قضايا وآراء

النقد الادبي: قراءة في نص: (الصخرة والبحر والإلهام) للقاصة هيام الفرشيشي .. تمزيق العلم الأسود أم تمزيق الذات

الذي فرضت علينا جماليته الأخاذة ومراوغته المحببة ليثير فينا حب ملاحقة صوره ومفرداته الغير مطاوعه للامساك به والاستمتاع بما تضمنه من المعاني والإشارات والرموز ونتمنى ان ننجح في امتحان الكفاءة في حضرة هذا النص الجميل بعد قراءتنا المتعددة له مما جعلنا تفاعل ونتعاطف ونستمتع ونشاكس النص في  سريانه المنعش لخلايانا المخية-(القراءة تفاعل دينامي بين النص القاريء، إشارات النص اللغوية وتراكيبه لا يمكن لها ان تضطلع بوظيفتها الا إذا اطلعت الأفعال التي تؤدي الى نقل النص الى وعي قارئه) (2)

وبالتأكيد ان هذه المتعة إنما جاءت نتيجة لموهبة إبداعية مكنت الكاتبة في توظيف الكلمات باعتبارها لغة لتكون بدلالتها أدبا راقيا وممتعا  تثري ذائقة المتلقي  قارئا او ناقدا وكما يقول رولان بارت:

-(انظر الى كلماتي، فانا لغة، وانظر الى دلالاتي، فانا أدب)(3)

يجري السرد بواسطة الراوي العليم الذي اظهر كفاءة غير عادية في رصد مكنونات ومعلومات وافتراضات الدال الأول او (البطل) في القصة حيث يتم التعريف بشخصه باعتبارها تنتمي الى فئة المثقفين الذين يهتمون بدراسة الأساطير والحكايات وأثرها على الأدب، كذلك كشفت لنا الكاتبة عن المستوى ألمعاشي البائس الذي يعيشه هذا المثقف البائس من خلال وصف مكان سكنه وأثاث غرفته المتهالك (الشعور بالاختناق في الغرفة الضيقة . هذا السرير الحديدي وهذه الطاولة القديمة والخزانة المتآكلة الحواشي هي أهم ما تضم هذه الغرفة المعلقة بأعلى هذه العمارة المتداعية للسقوط في هذا الزقاق الذي لا يؤمه إلا الطلبة وبعض الفنانين المعدمين من كتاب وشعراء ورسامين شبان)

بالإضافة الى علاقته الغرامية المهزوزة مع (هدى) وهو اسم العلم الوحيد المذكور في القصة ال(هدى) الذي يتحول من (هدى) مأمول الى (هدى مقتول)، في حين لم يظهر أي اسم آخر في القصة كما هو معتاد في اغلب القصص ويبدو لي انه انحياز الكاتبة  لأسلوب القصة والرواية الفرنسية خصوصا تأثرا بلما بعد حداثة المتأثرة بالفلسفة البنويه فلسفة موت الإنسان، لا نريد ان نذهب بعيدا في هذه الظاهرة المرحب بها او هي احد إفرازات رأس المال المعولم المتوحش الذي يسعى جاهدا لإخفاء وجهه البشع رغم كونه (بطل) أكثر الماسي والمجازر البشرية... فمن مصلحته ان يستتر  ويكون غير معلوم

(هذا الموقف العام الذي يتخذه المفكر الفرنسي "جاك دريدا" في نقضه لأسطورة "الذات"(او صاحب الكلام) التي تتمحور عليها وتتبار الحضارة الغربية وخاصة الطبقات المسيطرة فيها، التي قوضت دعائمها الماركسية والتحليل النفسي بشكل عام)(4)

ولكن للأسف سقطنا  الضحايا في هذا الفخ ضمن موضة الما بعد حداثة، رغم ان ابطالنا غاية في جمال الشكل والمضمون أفرادا وجماعات  - القوى المناهضة للعولمة- مثلا والذي تسعى لإقامة العدل والحرية والسلام والحفاظ على البيئة في عالمنا الأرضي المهدد من قبل وحش الرأسمال... ولاشك ان للأسماء دلالات  وليست معاني معجمية فقط فمن هي (هدى) ولِمَ ترمز في النص هل هي صوت العقل ؟؟ هل نهج البرغماتيه المتطرف؟؟؟ هل هي صوت الضحية المجتثة ممن قبل العقل المغامر  المتصحر؟؟؟.

لم يستشف القاريء ما يكفي من الأحداث والوقائع والممارسات بحق  - الرسام- التي تقنعه بدواعي (حلكة الظلام الذي يسكن أفكاره).

•يتدخل الراوي العليم في أكثر من تصرف او سلوك للبطل وتسطيح مشاعره الداخلية وفقعنة تحولاته وسلوكياته ودلالاتها لتنفجر في وجه المتلقي او (القاريء المجهول) ناهيك عن (القاريء المثالي) و(القاريء المتضمن)وفي وقتها بدون جهد فكري وهو جزء هام من متعة القاريء المتلقي ليتوصل الى ما يختبئ تحت النص والخروج بنتائج يلمح بها النص ولا يصرح، فيبدو الأمر  يشبه أستاذا يمتحن الطالب بورقة أسئلة تتضمن حلولها المثالية مما يحرم الطالب من متعة اختبار قدرته الذاتية وتراكمه المعرفي ومواظبته على الدراسة للتوصل للحل ونيل الدرجة التي يستحقها ويترك  حيزا من الحرية  لأكثر من إجابة ومن أمثلة ما ذهبنا إليه

    (ولكن الشمس لم تدخل إلى حجرته ولم تزح الظلمة من أفكاره ، بل فاضت دماؤه من الجرح واكتشف درجة حماقته البالغة وهو يدور في الغرفة باحثا عن خرقة يلف فيها اليد النازفة).

    "حاول أن تخلص الذاكرة من رواسب الزيف ! تطهر من أحلام لا حقيقة وراءها وارسم لنفسك حياة ذات جدوى ! .."

    .(وبعد مدة اكتشف أنها قد انتشلته من المرايا التي كانت ملامحها تتعدد على صفحاتها دون أن يدرك أيها تمثله حقا ، وبشكل من الأشكال أقنع نفسه بأن تلك المرأة قد نفضت عنه التربة التي تعلو ملامحه فأصبحت صورته الضبابية المتداخلة التقاسيم ، أكثر تعددا وتلونا وتماوجا ، وأصبح من الصعوبة بمكان أن تثبت في وضع يتمكن خلاله من التركيز على ملامحه كما يريد أن يكتشف نفسه من خلالها) .(يصبح غير قادر على التمييز بين ما هو واقع حواليه وما هو رغبات وتوق في أعماقه).

    (حاول ان تخلص الذاكرة في رواسب الزيف) (تطهر من أحلام لا حقيقية وراءها وارسم لنفسك حياة ذات جدوى)

يبدو لي ان كل هذا  الإيضاح وتفسير أفعال وتصورات –البطل- زائدة والقارئ يدركه من خلال سياق النص  وكأنها هنا تأخذ دور الناقد او (القاريء المثالي) لتأخذ دور (القاريء الضمني) للنص وتأويلاته. لاشك ان هذا يعتبر مثلبة في حبكة السرد الحديث كما يقول خليل احمد

(المؤلف- أيا كان- ينبغي الا يطل من بين السطور مخاطبا القاريء مباشرة فهذا يعد عيبا ومأخذا على الروائي)(5)

 

وتركيز القاصة على شخصية (المثقف) الفرد بمعزل عن فئته المهنية وطبقته الاجتماعية  وهو نهج متأثر بالمدرسة النفسية اليونكيه  حيث يقول يونك في هذا الشأن :-

(ان الفرد هو الواقع الوحيد. وكلما ابتعدنا عن الفرد باتجاه  الأفكار المجردة عن الإنسان، تعاظم احتمال السقوط في الخطأ)(6)

الدراسة لا تحتمل الخوض في الأسباب الكامنة وراء مثل هذا النهج .

كما اننا نود التوقف عند بعض العبارات والكلمات والجمل التي نرى إنها ملتبسة الدلالة

(الى حد يدفعه الى الجنون، وكم جرب الجنون).

التجربة عمل او فعل يقوم به الإنسان الواعي بإرادته ليخلص  من خلال نتائجه الى استنتاجات واجابات على أسئلة مطروحة او نفي او إثبات افتراضات واحتمالات تهم الفاعل، ولكن الجنون او الاختلال العقلي هو أمر خارج عن إرادة الإنسان وليس خيارا متاحا للإنسان ،هو غير قادر على تجنبه.

هناك بعض الارتباك في استعمال حروف الجر  مثلا يفترض ان تكون عن وليس على في (رغم محاولاته لكي يبتعد على ذلك المكان..).

تصحيح خطأ مطبعي  (اللالاه) لتكون (الإله).

ينبئنا النص عن مدى سطوة الفن ودوره الفاعل في تكون وعي وسلوك الإنسان الى درجة التماهي مع الخيال وكأنه واقع قائم وخصوصا إذا كان هذا الوهم (الحلم، الأسطورة، الخرافة، الدين) يمكن ان يكون بديلا يعوض الإنسان عن واقع قهره وحرمانه وضياعه وهذا هو جذر نشوء الأساطير والخرافات والأحلام كعامل توازن للذات البشرية المحبطة والمذلة والمهانة العاجزة عن  تفسير وتحدي واقع قاهر مؤلم وبهذا المعنى جاءت مقولة ماركس (الدين أفيون الشعوب).

أثرت القاصة النص بالمكان  ليكمل دلالات الفعل والقول  ويله انعكاس نفسي كبير على المراكز الدلالية للنص الذي يسميه خليل احمد(المكان النفسي):-

أي شعور البطل من المكان نبذا او انجذابا  انشراح او ضيق الصدر السرور او الكآبة  الألفة او ألغربه كما هو بطلنا في غرفته ال والضيقة  المتسخة التي تحجب جدرانها الشمس، في حين يسعى للبحر ليشكو له أوجاعه فضاء ممتد مليء بالإسرار والغموض الهدوء والصخب، الصخرة التي تقاوم موجات البحر وعواتي الرياح والإمطار ولهيب الشمس وما كان له  اثر كبير على سلوك الدال المركزي للنص (الشاب الفنان) وبهذا الشأن يقول خليل احمد

(ان للمكان بعدا نفسيا مثلما للمشاعر والاحسايس بعدها النفسي في الوعي وما بعد الوعي)(7)

 

كانت القاصة حاذقة حقا في الانتقال من زمن  ومن مكان الى آخر برشاقة ولباقة وحنكة لتكثف الصورة وتغني الحدث وتشد القاريء ضمن ما يدعى (الإضمار والحذف)  في فن الروي(وهو ان ينتقل الراوي بالقارئ من حدث لآخر متخطيا ما يتطلبه التسلسل الزمني من تتابع)(8) بما يعرف (مراوحة الزمن)

كذلك لم تغفل القاصة ان تثري النص  بحوار الفنان مع نفسه في أكثر من مكان مما جعل القاريء والناقد  مطلعا بما يكفي فضوله على مكنونات  الشخصية او الدالة الرئيسية في النص  وبما يدعى ب:-

(الحوار الداخلي  (المونولوج) وفيه يحاور الشخص نفسه وتتسلسل فيه الآراء والأفكار حسب حالته النفسية والوجدانية)(9)

الحياة هي المعلم الأول:-

المفارقة هنا ان يظهر الصياد الشاب الذي من المفترض ان يكون اقل وعيا واقل  حصانة بوجه  الخرافات والأساطير واقل إدراكا لتفسير الظواهر والوقائع من الشاب (المثقف) طالب الدراسات العليا نرى العكس فحين يذكر المثقف :-

(لقد خيل لي ان عروس البحر تسكن ذلك المكان وتتراءى حين تتعالى الأمواج...) يجيب البحار:-

(ترددت هه الأسطورة منذ زمن لكنها مجرد خرافات).

(... يقال إنها مسكونة لكنها خرافات من لا يجدون أشياء مهمة يملئون بها فراغهم... لم أفاجأ أبدا –منذ أصبحت أدرك –بشيء غريب قربها... كثيرا ما جلست فوقها طويلا في الليالي الحالكة السواد، ولكني لم اسمع عندها الا أصوات الأمواج الغاضبة...).

وهذه هي المفارقة التي يبدو غير مقنعة للمتلقي القاريء وكأنها شرخ او ركاكة في الحبكة السردية حيث ياخذ الصياد البسيط دور المثقف العارف، الا ان تكون اشارة الى كن الحياة العملية هي المعلم الأول  ومانح الخبرة العملية في فهم ظواهر الحياة.

البحار يرى الصراع حامي الوطيس بين الطبقات الاجتماعية في واقع الحياة الإنسانية المعاشة على الأرض والتي تشهد   أفرزت تفاوتا طبقيا كبيرا وهذا التفاوت هو السبب الكامن وراء فقدان – المثقف- لحبيبته (هدى) مفضلة عليه رجلا كبيرا ولكنه مقتدر ماليا يعيش في فقر وبؤس مدقع، وليس كحاله لا يمتلك غير شبابه وفرشاة الرسم هذا الوصف يماثل وصف ابتلاع الأسماك والحيتان والكواسج الكبيرة للأسماك الصغيرة في أعماق البحار... هذا الواقع لا يريد ان (يهتدي) إليه عاشق الوهم والخرافة

(لأنه يعتقد ان البحر ليس مجرد اسماك تنهش بعضها البعض).

المضطهد باجتثاث أسباب استغلاله واضطهاده وليس اجتثاث (هدى) التي اختارا الطريق الأسهل في العيش برغد بالاحتماء خلف هذا المثقف (الساذج) او فلنقل في  قاموس السياسة وعلم الاجتماع (البرجوازي الصغير) يحلم بحياة فاضلة رضية مثالية لا تتطلب منه الا ان يتمنى ما يشاء لتكون هذه الأمنيات  بين يديه على العكس من هدى التي تعوه الى ترك الكسل والإبحار في خضم الحياة وفهمها على حقيقتها سواء على اليابسة او في البحر هي صراع عنيف بين الصغار والكبار في عالم الرأسمال والاستغلال... التي من المفترض ان يفكر الإنسان صخرة  الكهل صاحب الثروة والمال....

(هدى) التي كان يلتقي بها في معارض الرسم المتعددة ، عبثا ظن إنها تقاسمه عشقه للفن التشكيلي  والمعاني التي كان يبدعها في لوحاته، والحلم بحياة مشتركة بينهما..).

فبدلا من ان يضع يده على السبب الحقيقي وراء قتل موهبته وعدم تقديرها باعتبارها (هلوسات لا ثمن لها) وفهم ماهية الصخرة التي (غابت) وراءها (هدى) إنها  قيم مجتمع استهلاكي استغلالي همه جمع الثروة والمال ، يجد كل متعته في زيادة الربح وتكديس الثروة وغير معني في تطوير و رعاية القيم الروحية والجمالية عند الإنسان، فقرر اجتثاث (هدى) خائنة أوهامه وليس الكهل المقتدر الذي اشترى (هدى) كسلعة معروضة في سوق رأس المال، وإذا جاز لنا ان نقول هذا هو وصف مثل هذه الشرائح الضعيفة المترددة الجز وع  الغير محصنة بوعي طبقي واضح  ولا متمثلة لمحتوى  ما تدرسه من علوم  لا تعرف ما تريد ... فتقع فريسة الخرافة والمغامرة الخاسرة والهذيان والتسكع، وقد أشارت الكاتبة الى ذلك بوضوح حين ورد في النص :-

(ترك كتب التأريخ والفلسفة والأدب تنام على طاولته الهرمة وأغمض عينيه)

بمعنى انه أغلق عينيه على تجارب التاريخ وحكمة الفلسفة وجمالية وتفاؤل الأدب ليعيش عالما من متلاطم الأمواج غامض عميق يجره لمصير مجهول بعد ان هيمنت عليه أسطورة(اوليس)  وهو:-

(ناشف الريق وهو يتردد من شاطئ الى آخر دون ان يرسم أمام ناظريه ملامح الطريق  التي تقوده الى نهاية الرحلة).

(اشعر إني ناصع الوجدان) – الخيال والوهم يخفف الم وقهر الواقع ويخفف و من جلد الذات وكما يقول كارل يونك

(يمكن للأساطير ذات الطبيعة الدينية ان تفسر كنوع من العلاج لمعاناة وحصارات البشرية عامة-الجوع،الحرب، المرض، الشيخوخة، الموت)(10)

فقد انجرف الفنان وراء الشعور العاطفي نابذا أية فرصة للتفكير والتدبير.

اشارة  الكتبة بوضوح الى دور الأساطير والخرافات في مد الفنان والمبدع بخيال واسع ورشاقة في حركة اليد والفرشاة وطلاقة الفكرة لدى الشاعر والفنان عبقر حيث   يرد في النص الى التطور الكبير في قدرة الشاب الفنان  على الإبداع   في رسم لوحاته الفنية بعد هيمن عليه خيال عروس البحر  وكلنا نعرف ماكان يسمى وادي (عبقر) وادي الإلهام الشعري عند العرب حيث تقول الأسطورة انه مسكونا من قبل (الجن) ربات الشعر

(ولم ينكر أحد أنه أصبح رساما جيدا منذ استماعه إلى ذلك الصوت الأنثوي الهامس .. وكان يتساءل : هل أن ذلك الصوت هو صوت الإلهام الذي يتشكل في مساحات السكون؟).

نشير بإيجاز الى  ما نرى انه استنتاج متناقض عند حالة الاسترجاع لحادثة حصلت في صباه والتي كانت توالجبل،وة وتحدي الصعاب نظرا للاستمرار الحصان في المسير وهو يصارع الطبيعة ويتغلب عليها:-

(تذكر ذلك المشهد المحفور في ذاكرته عندما كان طفلا وقد خرج ليسوق العربة في العاصفة عبر منعطفات الجبل ، مواجها المطر والريح والصقيع . كان الحصان حارنا يصك الأرض بحوافره رافضا السير على الطريق ، ولكنه بقي يصارع الطبيعة والحيوان إلى أن انبسط السهل أمامه وبدت ذؤابات الأعشاب تتماوج تحت هبات العاصفة ، عندها ترك العنان للحصان يسير خببا)

في حين يكون رد الفعل سلبيا عند قراءته للأسطورة،(م إن قرأ الأسطورة حتى عادت إلى ذاكرته تلك النفس. ، استرجع صوت الريح المزمجرة مقترنا بدوي الرعد والسماء الكالحة . بعثت فيه تلك الحادثة وهو طفل شعور بالرضا عن النفس . ولكنه الآن يقف أمام مغامرة أخرى تفتح هوة في خياله تبدو له كصدى هدير ذلك الرعد الذي كانت أذنا الحصان تنتصب لقعقعته) وهذا (الإحساس بالرعب والخوف والعجز)

وهذه حالة من التناقض الغير مبرر  في ثنايا السرد.

واضح ان القاصة تسلط الضوء على هذه   الشخصية الهشة الغير متوازنة التي لا تحتمل توجيه النقد ولا تقبل من الآخرين نصائح تقويم السلوك والنهج ومنها  أستاذة الرسم(لوحاتك باهتة ، تنبعث منها رائحة الموت ! ... لا تواصل الرسم بروح سقيمة !).

وعلى لسان حال عروس البحر المتخيلة تقول:-

(إنا من أفقدتك صوابك وأدخلتك مملكتنا..)

(مجنون أنت يا من سلكت دروبنا... من قادك الى موقعنا؟؟..هذا الدرب عفت عنه الأيام ومحوناه من الذاكرة...).

وهنا انعكاس الى بقايا وعي ناقد لدى  -الشاب المثقف- يحاول  إعادته الى رشده ولكن دون جدوى نظرا لسيطرة الشعور والعاطفة على التفكير والتدبير وكما يقول يونك في هذا الشأن.

"التفكير والشعور متعارضان تماما بحيث ينبذ التفكير تلقائيا تقريبا قيم الشعور)(11)

يترآى له  وحشية وسادية (هدى) (حورية البحر) (الأنثى) وهي تمالآخرين. والتعذيب في غرفتها البلورية لمن يقع في شباك حبها، يسبح وراءها  وهي تغطس خلف  صخرة لم يكتمل نقشها بعد...

(، وبقي وحيدا ، سجينا داخل غرفة بلورية ، تطوف بها الأمواج من كل جانب . تأملها جيدا فوجدها واسعة وقد رسمت على جدرانها كائنات بشرية غريبة ، تبعث الرعب في النفس . وعلى الجدران أيضا، صور أشخاص يتم تعذيب كل منهم بطريقة مختلفة عن الآخرين . أخرسته المشاهد ومزق قلبه الشعور بالرهبة . فهذا قطع لسانه وذاك مزق قلبه ، والآخر يشطر إلى نصفين والآخر يصلب ورأسه إل أسفل ...).

يظهر شبح (الراوي المنقح) في حدس الشاب الصياد ان –المثقف- سيتعرض الى حوادث أخرى وكأنه يمهد الى خبر قتل هدى من قبل (المثقف) عند قراءته الجريدة التي حاولت الكاتبة انعنه.ها أمرا عاديا  يمارسه الصياد وخصوصا قراءة – أخبار المجتمع- وهو الباب الذي تنشر فيه عادة أخبار الوفيات وحوادث القتل والسرقة، وهي تحاول ان تسد باب السؤال حول كيفية وصول الجريدة  للصياد وكيف لفت نظره خبر مقتل (هدى) من قبل الشاب المغرم بعروس البحر

(قلب البحار الشاب صفحات الجريدة وقد أصبح يشتريها بنفسه منذ غاب ذلك الرجل الذي يهوى الحديث عن عروس البحر شدت انتباهه في ركن" أحداث المجتمع" صورة لوجه بدا له غير غريب عنه . كان وجه ذلك الرجل الذي يهوى الحديث عن عروس البحر وتحت الصورة تفاصيل عن قتله لصديقته "هدى" لأسباب تعلق بهجرانه إياه).

 

الصور الشعرية باقات ورد تعطر  جسد النص:-

ضم النص بين سطوره صورا وجملا شعرية جميلة تدل على مقدرة القاصة على صياغة قلائد رائعة من  زهور اللغة الممتلئة بمعناها لتزين جيد النص كي ياسر القاريء ويشده الى جماله الباذخ،  مما يدل على عمق المشاعر  الإنسانية والحس الشعري المرهف للكاتبة .

نورد هنا ما استطعنا ان نحسه من عطر منعش حسب حاسة الشم لدينا من  باقة الورد الملونة المبثوثة بين  ثنايا النص:-

-     (نشف فكره)

-     (شاحبة شحوب روحه)

-     (يقرع  إذنيه  بضجيج  رهيب).

-     (أشواك ألمي).

-     (الحنين الملتهب).

 

بعد ان أثقلنا النص بملاحظات وإشارات وتنويهات مما اعتبرناه هنات او هفوات او ضعف في حبكة السرد، إنما أتت من كون فكرة النص وتشعبانه تدل على كونه عصي على الإمساك بعنان كلماته وفكره التي فتحت لها الكاتبة المبدعة أكثر من باب ومنفذ تحاول ان تلجه او تأوي إليه او تلتقط أنفاسها في محطات استراحته، ومثل هكذا نص  مشبع بالرمز والإيحاء والشاعرية، متشعب الاهتمامات يعتمد علم النفس والأسطورة وعلم الاجتماع  ومهنية أدبية  رفيعة لا يمكن ان يكون خاليا من فواصل وهوا مل لا يمكن ان تسيء الى جماليته ودلالاته ، في أي روض لابد ان تكون هناك بعض الحشائش والأدغال والأوراق اليابسة بين أشجاره السامقة وزهوره الرائعة وإلا سيخرج من حيز  الأرض ليكون ضمن حيز السماء وهو بالتأكيد نصا ارضيا منتج إنساني يمشي على ارض الواقع باركته آلهة الجمال، وكما يقول بارت:-

(ان الجملة (الجملة الأدبية المكتوبة) هي جسد يجب ان يحفز)(12)

وبالفعل استطاعت القاصة بكفاءة عالية ان تبعث الروح والحيوية في هذا الجسد ليبدو شابا معافى رغم  ثقل ما يحمله على أكتافه من رموز ودلالات.

(ألقصديه)رسالة النصِ:-

 

يبدو لي ان النص يرسل رسالة الى عموم المثقفين وبالخصوص اهل الفن من الشعراء والأدباء والرسامين، في الوقت الذي يتوجب عليهم ان يطيروا بجناحي الخيال والإبداع والحلم للإفلات من اسر الواقع الراكد  والقاتم ، يجب ان  لا ينسوا ان مسكنهم و ومحطهم الأرض بكل تفاصيل واقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي، والعمل بواقعية لاغناء ما هو ايجابي إزاحة وتغيير ما هو سلبي يناهض قيم الحب والعدل والجمال،  يخبر النص ان العمل ومعايشة الواقع هو المعين الأكبر لاكتساب المعرفة والخبرة والتجربة، حيث يظهر الصياد البسيط الأقدر على التعامل مع البحر وفهم أسراره وخفاياه، بعيدا عن ألخرافه والوهم.

    الدعوة الى مغادرة روما نس المثالية والنرجسية الزائدة لفئة غير قليلة من البرجوازية الصغيرة وخصوصا من الأدباء والفنانين، لتكون واعية لقوانين وارتهانات قوى الرأسمال ، وان تعي الأساليب المنتجة ففي المقاومة والتغيير لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم.

    لفت النظر الى الواقع البائس والمزري والمقيد لشريحة منتجي الثقافة والفن والأدب في عالم غير عادل وغير متوازن يفتقر الى الإحساس  بالجمال وقيمه ومتعه ، عبر سلعنة الإنسان، أمام مغريات المال التي اختفت خلفه الحبيبة (الهدى) وضاع  من يفترض ان (يهتدي)، ولكن النص لا يفصح ولا يلمح الى طريق الهداية في الوقت الذي يُشّكِلْ فيه على سلوك (الفنان) وتصرف (هدى) ليترك القاريء والمتلقي هو صاحب الخيار في التفتيش عن البدائل ولحلول  لمثل هكذا أزمات وواقع بائس وهذا  نظنه  منحى محمود بالابتعاد عن إقحام الحلول والخيارات المؤدلجة التي تفرض الوصاية على عقل وفكر وسلوك المتلقي القاريء المرسل إليه .

 

المراكز الدلالية في النص:-

المثقف\ شخصية غير مستقرة مهزوزة تعاني الضياع والتخبط  أدى ذلك الى ارتكابه جريمة قتل من يرى إنها خانته .

هدى \ تمثال شخصية براغماتيه  تسعى الى  امتلاك الثروة ، ما قبل بيع الجسد والتخلي عن قيم الحب والجمال.

المرآة \  تمثل شخصية تلعب دور عكس الواقع الفعلي المعاش من قبل الشخصية الرئيسية (المثقف)، الذي استفزه هذا العرض الغير مزوق البائس  للمثقف مما أدى الى ردة فعل غاضبة بتحطيم (المرآة) العاكسة ،للواقع وليس الوهم الذي يهيمن على  ذهنية الشخصية.

البحار \ يظهر شخصية متوازنة تعرف ما تريد تتعامل مع جبروت البحر وأسراره بدراية خلصته  تجربته من الوهم والخرافة ، وهو الشخصية  ذات الفعل الايجابي هو ووالده اللذين بذلا جهدا كبيرا في إنقاذ حياة (المثقف) من الموت غرقا وهو يلاحق الوهم في البحر.

يمكننا ان نصف النص ب(النوفيلا) فهي اكبر من قصة قصيرة واقل من روايه.

نخلص الى تهنئة الأخت القاصة على هذا النص المبدع، واختيارها الموفق في اختيار شخصياتها، وجهدها الغير قليل في الإمساك بتشظيات ومشاكسات النص وشخوصه  المتُعَبةِ والمُتْعَبة. نتمنى عليها ان تغفر لنا هفواتنا او  شططنا في تفسير وتأويل بعض مجريات وأحداث النص.

ختاماً

نعود  ثانية لشكر الأستاذ سلام كاظم فرج ومن خلاله  هيئة  تحرير موقع ومؤسسة المثقف لمبادرتها هذه في تحريك راكد الفكر النقدي، وتشجيع  رياضة الفكر عبر النقد، الهادف والمنتج مبتعدين عن  مرض نقد الاخوانيات (امدحني وأمدحك) والمجاملات الفارغة الغير منتجة والتي لا تطور المبدع ولا تثري المتلقي والقار يء بما يرتقي بقابليته على التذوق وحل عقد النصوص وما يسستر وراء العبارات والجمل الادبية، وتدربيه على إتقان فن القراءة الناقدة خصوصا وان هذه الممارسة المنتجة تجري برعاية وإشراف ومتابعة أسماء   لها باع طويل وخبرة مشهود لها في  النقد.

 

......................

المراجع:-

1-   ص249 فولفانغ إبراز عملية القراءة مباديء تحليل النصوص الأدبية\ الدكتور بسام بركه، الدكتور ماتيو قويدر، الدكتور هشام الايوبي ط1 2002. الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان.

2-   نفس المصدر ص248.

3-   نفس المصدر ص272 (رولان بارت) تجارب نقديه

4-   ص91 ابراهيم خليل بنية النص الروائي درلسة ط1 2010 الدار العربية للعوم ناشرون.

5-     نفس المصدر ص146.

6-  ص70. الإنسان ورموزه:-كارل يونك

7-  نفس المصدر ص.110.

8- ص109 مباديء تحليل النصوص الأدبية\ الدكتور بسام بركه، الدكتور ماتيو قويدر، الدكتور هشام الايوبي ط1 2002. الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان.

9- الإنسان ورموزه:-كارل يونك ،(ص98). وجماعة من العلماء  ترجمة سمير علي منشورات  وزارة الثقافة والإعلام- سلسلة الكتب المترجمة (130) دار اشؤون الثقافية والنشر 1984.

10- نفس المصدر.

11-نفس المصدر  ص127. كارل غوستاف يونغ .

12  -   ص36 مباديء تحليل النصوص الأدبية\ الدكتور بسام بركه، الدكتور ماتيو قويدر، الدكتور هشام الايوبي ط1 2002. الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان.

 

..........................................

للاطلاع على نص القاصة هيام الفرشيشي

نص: الصخرة والبحر والإلهام

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

في المثقف اليوم