قضايا وآراء

تركيا بين الديمقراطية والعسكرتاريا: كتاب جديد لإحسان داغي / بقلم : صالح الرزوق

الرئيس التركي الجديد، مسألة الأكراد، وأخيرا صراع القديم والجديد في الشارع وداخل المؤسسة.

و من الواضح أن الكتاب هو أنشودة طويلة في مديح الحزب الواحد والقيادة الجماعية لما يقول عنه علنا إنه الفجر الجديد ليمين الوسط، والذي يضغط بكل السبل لتخليص تركيا من الإرث الكمالي الثقيل، بعد أن خلصها أتاتورك نفسه من إرثها العثماني الغليظ.

و لا شك أن الطبول التي يدق عليها المؤلف هي إشارة تحمل معنى السلام والمحبة، ومعنى السعادة والطمأنينة لنصف العالم في الغرب وعلى رأسه أمريكا، ثم لأفراد المجتمع في الداخل وعلى الأخص رجال الأعمال والطبقة المتوسطة. ولكن في نفس الوقت هو يشعل نيران الحرب ضد النصف الآخر المتربص، وعلى رأسه روسيا والصين وإيران، وضد المتبقي الافتراضي من رجال الدولة السابقة . وهؤلاء لهم ثلاث حراب مسلولة هي : كبار الموظفين في القضاء والجامعة وكبار ضباط الجيش.

و أعتقد أن أطروحة الكتاب بشكل عام تقوم على عدة نظريات في الفكر السياسي، وفي مقدمتها نظرية المؤامرة. فهو دائما ينبه إلى النوايا الشريرة للضباط، وإلى تلك النواة الصلبة المتحالفة معهم والتي تفقد باستمرار مكاسبها في الشارع مقابل التشبث بأخلاق ورسالة المؤسسة القديمة.

و بتفكيك هذه العبارة ضمن عناصر السياق نتوصل للمفردات التالية : التعصب القومي، الإدارة المركزية، الشوفينية، وفوبيا الأجانب.

و إن هذه المعطيات ليست هي خلاصة رأي الكاتب فقط، ولكنه يوغل شوطا آخر في الاتهامات التي يحسبها بالورقة والقلم، ويضع إرث أتاتورك ثم الصورة المبهمة والغامضة لآخر رموز الجمهورية الثانية (وهو الرئيس أحمد نجدت سيزار) (1) بين قوسين : الفساد والبيروقراطية من جهة، والانحطاط المؤسساتي من الجهة الأخرى.

بمعنى أنه يفضل تصور القناعات التاريخية وفق منظور الأحقاب، وكانت برأيه تأخذ صورة ثلاث جمهوريات متتالية تبدأ بأتاتورك ونظامه اليعقوبي، ثم الحكومات الانقلابية التي تبادل عليها المدنيون وجنرالات الجيش، وفي الختام عبد الله غول القائد الرمز لتركيا الجديدة  ومرادفاتها.

و إن هذه الصورة العامة والتي تراهن منذ أول سطر على افتراض الدخول في البيت الأوروبي ومستلزماته، كانت أيضا ترسم لتركيا بطريقة مبسطة دور الوصيفة الأولى (للدولة الأمريكية).

و لذلك يرد إلى الذهن السؤال التالي : لماذا الرهان على أوروبا مع أن القلب هدية مجانية لأمريكا. ولماذا هذا التبسيط المبالغ فيه بخصوص الشمال والجنوب ثم اليوم والأمس.

و من هنا تبدأ الضرورة لفتح ملف حزب العدالة والتنمية.

أولا – يفترض الكاتب أنه حزب ديمقراطي غير إسلامي في بنيته، وله قلب أخضر يتسع للجميع. وهذا في الواقع هو المضمون الحقيقي للخطاب الإسلامي التنويري، ولكن الذي تحول من ماكينة أصيلة لصناعة وتصدير الثورات إلى مجرد رطانة إصلاحية.

ثانيا – ثم إنه يفترض أن الإسلام السياسي هو الحركة رقم واحد المؤهلة لقيادة المجتمعات نحو الضفة الأخرى : من الظلم والعسف والجور إلى الديمقراطية، ومن اللسان الأخرس إلى الروح الريادية الحرة. والواقع أنه طوال نصف قرن (منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم) تدور الشبهات حول هذه المبادئ، بدعوى أنها تتعارض مع مبدأ الحاكمية، ولأنها ترتبط عضويا بصور اليوتوبيات والاتجاه الرومنسي.

ثالثا – ولا يشير الكاتب إلى المخاطر التي من الممكن أن تتطور من وراء استراتيجية التقارب مع الغرب. هل يمكن لنا أن نسقط من حساباتنا تاريخ القاعدة وانتهاكاتها المستمرة لخطوطها الحمراء وطريقة تفسيرها لمعنى العقيدة والضرورة.

رابعا – وهناك ظاهرة العلاقة المشبوهة بين الأعضاء في حلف الناتو والانتماء لاقتصاديات العالم الثالث . وهذا يعني أن دورة رأس المال غير مستقرة وميزانها لا يميل للربحية، وبالعكس إنه بدخول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم دخلت بالتوازي استثمارات بقيمة 20 مليار دولار بشكل مصالح أجنبية . وكانت تلك إشارة أو نقطة انطلاق للمباشرة في بيع تركيا (كما يقول أنصار أجاويد وغيره من صفوف الطليعة القومية أو من اليساريين). وأعتقد أن التوسع بهذه السياسة، مع أنه يضع على وجهه مكياجات مبسطة من الديمقراطيات الغربية، فهو في نفس الوقت يضغط لتحويل صورة الاقتصاد في تركيا إلى نمر آخر من الورق، النمر رقم 8 .

خامسا – وتبقى نقطة أخيرة . فالكاتب لا يشير إلى المعاني الكامنة وراء تقارب العدالة والتنمية مع دول الممانعة.  ألا يفترض ذلك سياسة الكيل بمكيالين : نظرة باتجاه الاتحاد الأوروبي، ونظرة باتجاه المقاومة.

إن صوت العدالة والتنمية في المرحلة الراهنة يمكن أن يضغط أو أن يلعب بأوراق الشرق الأوسط، بمعنى أن يرمي ما لديه من فواتير على طاولة الاتحاد الأوروبي . ولكن في نفس الوقت لا يفقد الأصابع التي تضغط على الزناد. وهذا يحقق له ما يدعوه مكيافيلي وبامتياز (أن تحكم بشتى الطرق والأساليب) وأن تحقق شعار (أن السياسة هي فن السلطة).

وهكذا يمكن لغبار ومفرقعات قوى الممانعة أن تلعب لصالح تركيا، وأن تحولها من شبه قارة الأناضول الضائعة على مفترق الطرق والممزقة بين الإسلام والغرب والمهددة بجرس صراع الحضارات إلى صوت " التأسلم " في برلمان أوروبا الموحدة.

الكتاب من إصدار دار أوريون في أنقرة، وهو مكتوب باللغة الإنكليزية. ويعمل المؤلف حاليا بصفة أستاذ حقوق الإنسان والحركات الإسلامية في كلية العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأوسط للتكنولوجيا في أنقرة.

 

.......................

هامش:

1 – هذه التسمية من عندياتي . والأستاذ إحسان يفضل أن يعتبر الرئيس الراحل تورغوت أوزال زعيم حزب الوطن الأم  ANAP والرئيس التاسع لتركيا بعد الإستقلال، هو قائد الجمهورية الإصلاحية الثانية.

تموز 2010

 

في المثقف اليوم