قضايا وآراء

ليلة القــــــــدر / محسن العوني

والكلوحة وتتفجّر فيها الحياة وكأنّها لم تغادرها بعد أن تقلّصت وانحسرت.. تعبّر بلسان الحال أبلغ تعبير عن حاجة حيويّة لدى كلّ إنسان تتمثّل في اكتساب القدرة على التجدّد والانبعاث كل يوم.. بل كل ساعة ولحظة وآن.. دورة الموت والحياة هذه وظاهرة الهدم والبناء لا تقتصر على الوجود الطبيعيّ الماديّ وإنّما تشمل الوجود الفكريّ والنفسيّ والرّوحيّ لكائن متحوّل اسمه الإنسان..

 

ارتبطت ليلة القدر في المخيال العربيّ الإسلاميّ بحالة توهّج نورانيّ قُصوى على الصعيد الداخلي والخارجي الذاتي والموضوعي.. ناتجة عن هُبُوب نفحة إلهيّة استثنائيّة فريدة ولفتة قـُـــدسيّة لا مثيل لها ولا نظير.. تحقق حالة من التوحّد بين الأرض والمـلإ الأعلى يعقبُها كرم لا نهائيّ وعطاء غير مُتناه.. حتى أنّ بعضهم كان إذا رأى ذا نعمة سابغة قال له : أنت مولود ليلة القدر.. أمّا إذا قابل صاحب وجه وضيء صبيح قسيم جميل.. فهو ممّن أدركته أنوار الليلة المباركة.. وقد جاء في الأثر:"إنّ لربّكم في دهره نفحات فتعرّضوا لنفحات ربّكم". أمّا النصّ التأسيسيّ  الذي جاء معلنا فضل ليلة القدر فهو قوله تعالى :" إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر". الفجر 1-5.

وكذلك قوله جل من قائل :" إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنـّا منزلين فيها يـُفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا" الدخان 3-5.

ورد في "مكاشفة القلوب المقرّب إلى حضرة علام الغيوب" لحجّة الإسلام الغزالي :" عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة (هكذا) من الملائكة يصلـّون ويسلـّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى. قال أبو هريرة رضي الله عنــه:" تنزل  الملائكة في الأرض ليلة القدر أكثر من عدد الحصى فتفتح أبواب السماء لتنزّل كما ورد فتسطع الأنوار ويحصل تجلّ عظيم وينكشف فيها الملكوت والناس في ذلك متفاوتون فمنهم من يكشف له عن ملكوت السماوات والأرض فتكشف له الحجب عن السماوات فيشاهد فيها الملائكة على صورها ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وذاكر وشاكر ومسبّح ومهلـّل ومنهم من يكشف له عن الجنة بما فيها من دورها وقصورها وحورها وأنهارها وأشجارها وأثمارها ويشاهد عرش الرّحمان وهو سقفها ويشاهد منازل الأنبياء والأولياء والشهداء والصدّيقين ويهيم في هذا الملكوت ويتنزّه في ذلك الرّحموت.. ومنهم من تنكشف حجبه عن جمال الله فلا يشهد إلا إيّاه" "في فضل ليلة القدر".

كما وردت نصوص وآثار عدّة جاءت تعلن فضلها وعلوّ شأنها عند الله "وربّك يخلق ما يشاء ويختار" مثلما أن الأرض بقليلها العامر لا بكثيرها المهمل البور.. كذلك الأيّام والشهور والأعوام ببركتها وخيرها وفضلها وما يتحقق فيها من صالح الأعمال وعظيم الإنجازات.. بهذا الاعتبار تحوّلت ليلة القدر إلى رمز ومثال لبركة الوقت.. هي ليلة لا كالليّالي.. فهي خير من ألف شهر وهو ما يزيد على 83 سنة.. وكما ضرب الحق تبارك وتعالى المثل على عظيم مجازاته للـّذين ينفقون أموالهم في سبيله "كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء" فتحوّلت الحبّة الواحدة إلى سبعمائة.. ضرب المثل على بركة الوقت في العبادة بمعناها الشامل الواسع بأن جعل الليلة الواحدة – ليلة القدر - تـَفضُل ألف شهر وبذلك فاقت بركة الأوقات بركة أي شيء آخر.. وهو ما يقود إلى القول بأنّ الجودة والنّدرة هي التي تصنع القيمة وهو ما يفتح باب الأمل والعمل على مصاريعه فلا يخطئه إلاّ الأشقياء الذين تنكّبوا عن الطريق وتخلّوا عن أنفسهم فتخلّى الله عنهم والذين دعاهم القرآن بعبارة فريدة "الذين تتوفّاهُمُ الملائكة ظالمي أنفسهم". إنّ أنوار الليلة المباركة جسر ذهبيّ – هل سمعتم بجسر ذهبي!؟ – .. يصل طالب الهداية بالمعاني الحيّة ويشدّه إلى ما ينفع الناس وينأى به عن الزّبد والغُثاء: ويبقى تساؤل هو أقرب إلى الرّجاء: كيف لو تحوّل العمر كلّه إلى ليلة قدر تكون بمثابة بقعة الضوء التي تتوسّع وتتوسّع لتغطي كل شيء وتمسح كل فضاء..؟!.

عندها يتوقف القلم ويبدأ التجلّي..

أ ُناديك يا خالقي

وأنت أقرب إليّ من حبل الوريد..

أناديك يا خالقي

وأنت أعلمُ منّي بما أ ُريد..

أناديك يا خالقي

وأنا النداء..

أناديك يا خالقي

وأنت الرّجاء..

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1507 الاحد 05/09/2010)

 

في المثقف اليوم