قضايا وآراء

هيفاء بيطار في "امرأة من طابقين".. جماليات الخطايا التي تحمل وتلد / حسين سرمك حسن

" أنا الكتابة .. والكتابة أنا " .. (هيفاء بيطار)

في جولة بدمشق، قال لي صديقي الناقد العراقي: قرأت أكثر من سبعة كتب نقدية لك، ولم أجد في أي منها أي ملاحظات سلبية على أي من الأعمال التي حلّلتها، فلماذا؟ " . فأجبته: يجب أن تكون لكل ناقد "فلسفة " يؤدي عمله النقدي على ضوئها . وأنا لدي فلسفة تقول أن القبح هائل الانتشار في هذا العالم الجائر، لكن الجمال فيه نادر، بل نادر جدا . أنا أحاول اكتشاف مواطن الجمال في النصوص التي أحلّلها وهي مهمة عسيرة جدا، أما السلبيات ومواطن القبح فيها فالعثور عليها عملية يسيرة، على طريقة النقاد الذين يضعون في نهاية مقالاتهم جدولا بأخطاء الكاتب اللغوية، قال الكاتب غيوم بيضاء والصحيح بيض " . مطّ صديقي الناقد شفتيه وقال: لا أعتقد أن هناك نقدا دون ملاحظات سلبية، لأن معنى النقد هو التقويم . دخلنا إحدى المكتبات، أبحث عن كتاب " افتتاحية للضحك " للكاتبة " عالية ممدوح " لكي أكمل مخطوطة كتابي عنها، لأنني تركت مكتبتي في بغداد المحروسة . عثرت على بغيتي وشاهدت كتابا آخر بجوارها، هي رواية " امرأة من طابقين " لـ " هيفاء بيطار " التي لم أقرأ لها من قبل، فحسبتها صيدا سهلا اشتريته وقلت لصديقي – بعد أن سمّم أفكاري بأطروحته -: سأحاول البحث عن مواطن القبح وتثبيت السلبيات . ومن عادتي أنني أقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، وهو أمر يوصى به في علم النفس وهو اختصاصي أنا كطبيب نفسي، لكن الكتاب الذي يستولي علي يتنقل معي في السرير والمطبخ والحمام والباص والمقهى والحانة .. وهذا ما حصل مع رواية " امرأة من طابقين " التي أنهيتها في نهار واحد بعد أن حولتها إلى كتلة سوداء بفعل تأشيرات قلم الرصاص على صفحاتها في (محاولة مستميتة للبحث عن القبح وتثبيت السلبيات) . فما الذي حصل؟ جاءتني دفعة جمال على صدري جعلتني أتراجع متعثرا إلى أن استندت على جدار يقظتي، جمال السرد الضاري، جمال اللغة " الشعرية " المتوهجة، جمال الانفعالات الحسّية الحامية والمنضبطة، جمال الصراعات الإنسانية العدوانية التي تثبت أن الإنسان يعمل الخير رغما عن طبيعته كما يقول الملك لير، جمال المعضلة " المقدسة " الشائكة التي تجاسرت الكاتبة على تناولها، جمال فضح القبح المساوم المنغّل الذي يسود حياتنا في الشرق العربي خصوصا والذي يذكّرني أيضا بمقولة للملك لير: " الكلب يُطاع حين يحتل منصبا "، جمال بطلة الرواية " نازك " المحاصرة بالعذابات والمؤامرات والاحباطات والخسارات من كل جانب، جمال الارتباكات " السادومازوخية " الآسرة التي صورتها الكاتبة في حياة بطلتها بصورة باهرة، وغيره، وغيره . ثم الجمال الكلي في هذا العمل الروائي الذي هو من نوع " الجمال المذعور "، " الجمال المهدّد " الذي هو أعلى درجات الجمال وأبهاها من وجهة نظري – هذا ما علمتني إياه الحروب الثلات التي خضتها دفاعا عن وطني – و تتمثل في اللحظة التي تقف فيها الحياة أمام الموت والحب أمام الكره والنماء أمام الخراب . فقط عندما يحضر الموت – المثكل حسب وصف جلجامش الموفق – يصبح وجه الحياة ناصعا وبهيا كما يقول " معلم فيينا " . إن الجمال المحصّن جمال كريه ورخو . " ياه .. كم هو رائع هذا الجمال المهدّد "، هذه هي صيحة دهشة السحر التي ينبغي أن تطلقها بعد أن تكمل هذه الرواية حيث ستنتقل عدوى الـ " ياه " المحببة من الكاتبة إليك، فهي لازمة من لازماتها الأسلوبية اللغوية . فقد كرّرت استخدامها أكثر من خمس وعشرين مرة، مثلما كررت الفعل " أطل "، وصيغة التساؤلات المتلاحقة . ولكل كاتب لازمات أسلوبية لغوية أو مضمونية أو صورية . فحين تقرأ قصيدة عمودية تتلاحق فيها مفردات الدم والرياح والجراح والعواصف فهي على الأرجح للجواهري الذي هو الرائد في إدخال موضوعة العنف الخلاق في بنية القصيدة العمودية العربية، والتي تسلم رايتها منه جيل التجديد السيابي . وعندما تقرأ رواية يتكرر فيها تعبير: " صدرها العالي " والمواقف المحارمية لسبب ولغير سبب فهي لفؤاد التكرلي، وحين تقرأ قصة تتكرر فيها صياغات تستهل بالفعل " جعل " مثل: " جعل يتأمل " و" جعل يتنامى " فهي لـ " فرج ياسين " وهكذا . ولهذه اللازمات دوافع ووظائف نفسية وفنية ليس الآن مجال تناولها . ومن السمات الأسلوبية للكاتبة في هذه الرواية هو سيادة التساؤلات، تساؤلات متلاحقة لا أجوبة لها، أو أن أجوبتها الشافية مدفونة تحت أكوام من قيود منظومة الحرام والعيب الخانقة . هذه القيود التي تطوق حركة الحياة في مجتمعنا وتخنق براءتها مثلما خنقت حياة " نازك " وشوهت براءتها . وتساؤلات نازك مدوّخة بلا جواب لأنها أصلا بلا مبرر أصيل يرتبط بمقومات حياتها ويكتسب حق تعطيل مقدراتها . و " نازك " هي بطلة الرواية الثانية التي تقوم بطلة الرواية الأولى – الأم بكتابة قصتها في الرواية التي كتبتها " هيفاء بيطار "، أي أننا نقف أمام رواية من طابقين إذا جاز هذا التعبير وهو أقل دقة من وصف آخر نستعير فيه عطايا عالم الأنوثة المدهش فنقول: أننا أمام رواية " حامل " برواية ثانية . وفن الرواية ليس كما يقال خطأ فن ذكوري مبتكر . إنه فن إنثوي مبتكر، هو من نتاجات الأمومة .. فـ " كل امرأة حامل بروايتها " كما قال أحد النقاد، ولهذا لا تجد ضرورات قاهرة لتسطيرها على الورق مادامت تعيشها، لكن الرجل الذي يحسد المرأة – وليست الأنثى فقط التي تعاني من عقدة حسد القضيب – penis envoy كما يقول فرويد – " استولى " على هذا الابتكار كدفاع لاشعوري خلودي وكان الفضل له في استخدمه وإشاعته . والمرأة خالقة ومبدعة بطبيعتها – وليس عبثا أن الإله الأول الذي عبده البشر كان أنثى – في حين أن هذه السمة دخيلة ومكتسبة لدى الرجل دون أن يعني هذا أنه لا يجوّد فيها عندما يلتقطها . ويكفينا القول أن سيدة الحكّائين هي شهرزاد وأن سيدة الحكايات هي الليالي العربية . وما يثبت رأينا بقوة أكثر هو الخطأ التاريخي الذي وقع فيه مؤرخو الأدب ونقاده حين وضعوا في أذهانهم البحث عن " مؤلف مجهول " لألف ليلة وليلة بدلا من أن يحلّلوها أسلوبيا ليدركوا أن مؤلفتها " امرأة مجهولة " لم تستطع وضع اسمها عليها في ظل ثقافة دينية كابتة وقامعة ومليئة بالتابوات . والبطلة الروائية (نازك) تريد ممارسة حقها الأصيل في الإبداع ككاتبة رواية مقتدرة . كانت تنظر إلى الكتابة كفعل إنقاذي وجودي على طريقة (أكتب لكي لا أموت) التي قالها شاعر عراقي لا أتذكر اسمه . ورغم أنها كانت محاصرة بالعديد من عوامل الإحباط والانكسار: (الاختناق العاطفي في العائلة تحت غطاء حرص الأبوين، الشعور بالعدمية والهامشية في المجتمع، الضغوط الدينية والاجتماعية المنافقة، موظفة بطالة أبدية براتب حقير شحيح، تجارب حب مريرة فاشلة، زواج مدمر انتهى بالفشل لتصبح مطلّقة – والمطلقة هي " نيجاتيف " المومس في مجتمعنا -) إلا أنها كانت توازن الشعور بالمهانة والانذلال بشعور لائب أشد قوّة هو إحساسها بموهبتها العالية في الكتابة التي كانت تقف منها موقفا صوفيا:

 

 

 

" رغبتي بالكتابة كانت تطفو فوق شخصيتي وفوق حياتي . كنت قادرة أن أكتب حتى وأنا أحتضر من العذاب، حتى وأنا أتخذ قرارات بتبرير انتحاري . كانت الكتابة شيئا لا علاقة له بما حولي، هوى قائم بذاته، نقطة من ماء إلهي نزلت في روحي، لا تجف ولا تنضب مهما اشتدت حرارة القهر الخارجي (....) كنت أسيرة تلك القوة الإلهية التي تسمى الموهبة . وكان يحلو لتلك القوة أن توقظني من عزّ نومي لتقودني إلى أوراقي كي يتدفق نسغ روحي حبرا . وإذا كان البعض يعتقد أن الكاتب يحتاج لمؤثرات خارجية كي يكتب، فإنني كنت أخضع لمؤثراتي الداخلية .. كنت أنصت مبهورة لهذا الهدير الأشبه بصوت المياه الجوفية أو مياه الينابيع المتدفقة في أعماقي – ص 24 " . كان شعارها الأثير هو: (أنا الكتابة، والكتابة أنا) وهو شعار ذو طبيعة عشتارية حفلت به أساطير الإلهة الأنثى الأم . لكنها ككاتبة أنثى لم تستطع الحصول على فرصة نشر نتاجها والانتشار الواسع بسبب السطوة الذكورية الحاسدة على الإبداع . أين تجد منفذا لها وسط أكوام نتاجات " قدور الضغط " الأدبية – والوصف للعلامة محمد حسين الأعرجي –؟ . لقد وضعت في بالها – وكأنها تداوي الداء بالداء حسب مبدأ الراحل أبي نواس – أن تقرّبها من " كاتب البلاد " كما لقبته، ذي الخمسة وسبعين عاما – والذي تربع على عرش الكتابة الروائية الرسمية واكتسح سوق النشر لعقود هو المصباح السحري الذي سيطلق إبداعها المحبوس من قمقمه عندما يقتنع بموهبتها الفريدة ويقدمها إلى ناشر رواياته الذي يلقبونه بدوره – وكلها ألقاب بدوية وذكورية متنفجة - بـ " شيخ الناشرين " . لكن مصباح كاتب البلاد هذا لا تفركه النوايا الحسنة لتطلق مارده الحاني الذي سينقلها على بساط ريح النشر . إنه " يُفرك " بالعهر، عهر الجسد . هذا العهر الذي نستكمل به ليس مسيرة التعهير الدامية التي مرت بها " نازك " في طفولتها ومراهقتها وشبابها، خصوصا في تجربة زواجها الفاجعة قبل عشرين عاما – كأنموذج لعملية انمساخ المواطن العربي حسب، بل حلقات التعهير المجتمعي العام أيضا . فالكاتب الذي صدمته موهبتها الكتابية العظيمة وقدرتها الهائلة على التعبير كما قال لها كان يؤكد لها دائما على أن لا تستعجل الشهرة والانتشار، وان عليها أن تنتظر الفرصة التي ستأتي إليها . وهو موقف منافق، فقد كان يتلمظ ليبطش بها كفريسة جنسية إن كان يمتلك الأسلحة القادرة على البطش في هذا المجال وهو قد تجاوز الخامسة والسبعين . شعرت هي بذلك منذ اللحظات الأولى لمقابلتهما الأولى حين رمق ساقها بإعجاب لم يتعمد إخفاءه، وحين لحظت انه كان يفترس بنظراته النهمة وجهها وساقها عندما أوصلها بسيارته . وللمرأة رادار خاص يلتقط بكفاءة موجات غريزة من يشتهيها حلالا أو حراما من خلال نظراته، العين هي يد الغريزة المحرمة ولذلك فقأ أوديب عينيه، ولذلك أيضا يتفق علماء النفس على حقيقة أن النسوة اللائي يُغتصبن يسهمن في إغواء واستدراج الغاصب " من حيث لا يعلمن " من خلال سلوكهن والأهم من خلال نظراتهن . وفوق ذلك فإن لدى نازك كما تقول وكما تكرر ذلك في أربعة مواضع " عينين نفسيتين " راصدتين . كان كاتب البلاد يسمّيها " ابنتي " حين حدّثها في مكتب صديق والدها، ولكن ها هو يسمّيها: " حبيبتي " بعد أن استدرجها إلى كمين غداء " أبوي " راودها فيه عن نفسها فاستسلمت لقبلاته هو صاحب طقم الأسنان البديل الذي خشيت أنها لو تبادلت معه قبلة عميقة فسيسقط في فمه . كانت كما تقول هي نفسها متقززة من كل شيء فيه، كل شيء فيه مغث، أسنانه الصناعية التي لونتها صفرة النيكوتين، شفاهه اليابسة، لثته المهترئة، صلعته، كرشه الرخو المتهدل، وفوق ذلك – وحسب وصفها " الشعري " – رائحة شيخوخته المنفرة . والأهم من ذلك كلّه غروره الطاووسي المسموم وتنفّجه الذكوري المميت . كان شعوره بالعظمة يقترب من الهذاء المرضي (البارانويا) حيث وصل حدا كان يقول فيه: " أن النساء يتباركن بقبلاته " . ونازك ذاتها كانت مقتنعة بأن لا أساس إبداعيا لشهرته وحضوره الخانق في عالم النشر . إنه في مرحلة شيخوخة الفكر وذبول الموهبة ولا جدوى أعماله الأخيرة التي يطرحها كتابا وراء كتاب، فلا تحس بالفرق بين كتاب وكتاب، بل تحس أنك غارق في كلام ممجوج . ناشره نفسه الذي جنى من نشر رواياته ثروة طائلة يقول لنازك أن كاتب البلاد كان يجب أن يعلن موته الإبداعي الرسمي منذ عقود، وأنه لولا ضربه على وتر الجنس الأحمر الحساس منذ روايته الأولى لما أقبل الناس على رواياته، وأنه ما كان ممكنا أن يحقق شهرته لولا مساعدة صديق طفولته الذي أصبح نائبا (نازك كانت تسمع أن بينهما علاقة جنسية) . لقد شعرت – خصوصا حين دعاها إلى سهرة مع أصدقائه – أنه كاذب . فرغم أنه لم يتردد في الإعلان عن عجزه الجنسي بشكل فاضح نجده يعلن أمامهم حين سألته إحدى الجالسات عن الفتاة البولونية في روايته الأخيرة عن أنها فتاة تركت صديقها وتعلقت به وجاءته إلى غرفته في الفندق وتعرت أمامه فـ " ضاجعها " بعينيه أكثر من ساعتين: " كنت أضاجعها بنظراتي، تأملتها ساعتين، وغمرت جسدها بالقبل، وكانت تتأوه بنشوة، أقسمت أنها لم تشعر بمثلها في حياتها – ص 74 " . تعلق نازك على ذلك بالقول: " كنا نصغي للقصة المثيرة التي يرويها كاتب البلاد، ووسط حسد أصدقائه له، كنت وحدي مستعدة أن أقسم أنه كاذب – ص 74 " . وأضف إلى ذلك – وقائمة الخطايا تطول – أنه كان سببا وأداة لتعهير ذاته وإبداعه، بل هو جزء مهم جدا من مؤسسة التعهير العامة بحكم موقعه المرجعي الإبداعي . هذا ما أعلنه الصوت الداخلي لنازك، صوت " أناها الأعلى – السلطة الاجتماعية الرقابية التي لا تنام في جهازها النفسي الداخلي ": " أكاد أسمع صوتا بالغ النقاء يسألني: من هو هذا الكاتب؟ .. كيف تشوّه عبر الزمن، وكيف خان مبادئه، وكيف افتقرت كتاباته للصدق والحقيقة، رغم أن الثوب ظل جميلا، والأسلوب آسرا . لكن كتابته ما عادت تتمخض عن شيء، صار كاتب المصلحة والتملق والأضواء الزائفة .. الناس البسطاء يعرفون هذه الحقيقة ويقولون ببساطة: خير له أن يتوقف عن الكتابة ... صوت الحقيقة يهمس لي بساطة: أن الكاتب لا يعيش شيخوخته الجسدية فقط، بل شيخوخته الأدبية ....للأسف عرفته في سقوطه ...وتعهّر أدبه – ص 62 " وهو لا يتورّع عن " تعهير" الأديبات حين يدّعي أمامها أنهن يطاردنه ويلححن عليه بأن يضاجعهن !! . وهاهو الآن يصل ذروة محاولاته التعهيرية في محاولة اغتصاب نازك التي كان يناديها " يا ابنتي " . إنه يريد أن يعهرها جسديا قبل أن يطلقها إبداعيا كما تقول . سيثور تساؤل مهم هو: إذا كانت نازك تعرف كلّ هذه الخطايا والسلبيات الصارخة والآثام المتجمعة في شخصية كاتب البلاد هذا وسلوكه، فلماذا سلّمته مقاديرها " الأدبية " وتواطأت معه في تلويث جسدها في حفل الغداء؟ هنا تضعنا " هيفاء بيطار " – ووفق نظرة نفسية محكمة وسط الدائرة الجحيمية التي ينصب فيها اللاشعور الماكر مصائده الخلاقة وتجري على أرضها ألعابه المميتة – وليس عبثا أن معلم فيينا كان يقول أن الأدباء، ويقصد بهم سوفوكل وشكسبير ودستويفسكي، هم أساتذتي – ويؤكد على أن " الشعراء والروائيين هم حلفاء لنا موثوق بهم وشهادتهم يجب أن تقدر كثيرا، لأنهم يعلمون أشياء بين الأرض والسماء لا تستطيع حكمتنا المدرسية أن تحلم بها . إنهم معلمونا في معرفة لنفس البشرية، نحن الرجال العاميون، لأنهم ينهلون من مصادر لم نجعلها بعد في متناول العلم " . تنزرع العقد والمركبات النفسية العصابية في تربة اللاشعور منذ الطفولة، وتكمن حتى الرشد تحت وطأة قبضة الكبت والقمع للسلطتين الدينية والاجتماعية الجائرتين . لكنها تبقى لائبة متململة تتربص وتتحين الفرص . واللاشعور ذكي، يعرف كيف يخلق مسارب تفريغية لهذه الحفزات التي تبغي الإنطلاق والإشباع . لكن لأن الرقيب الداخلي – رجل الشرطة النفسي صاح ومتيقظ – رغم أنه قد يغفو وقد يتصافق أحيانا – فإن عليه الظفر من خلال مداورات لا يمكن الإمساك بها، مداورات معقلنة – intellectualized وتبريرية – rationalized وإسقاطية – projected وغيرها، وكل هذه الآليات الدفاعية التخديرية تستخدم الشعور ككاسحة ألغام أمامها تتستر بها وتتخفى وراءه، من خلال تغييب بصيرة الشعور وعين الرقيب بضغوط موجة الانتفاخ النرجسي العارمة . ابتداء كانت نازك – كما قلنا – تدرك فرادة الموهبة الكتابية الخلاقة التي تمور في داخلها، وتشعر أن من الكفر الاجتماعي والإبداعي أن تُقبر هذه الموهبة ولا ترى النور، خصوصا وأنها مقتنعة وبقوة أن ما تكتبه يفوق – بمراحل – ما يكتبه الديناصور المجفّف: كاتب البلاد . وبحثها عن منفذ يطلق إمكاناتها المحتبسة هو حق مشروع تماما . وهذا هو الغطاء العقلاني ذو النوايا البيضاء – ودائما تكون النوايا البيضاء الطريق المستقيمة إلى الكارثة لأن حفزات اللاشعور الآثمة تتستر بها - . كانت تشعر – وهي محقة تماما أيضا – بأنها تعيش في زمن لا يستطيع الشخص ذاته أن يثبت موهبته ويجبر الآخرين على سماع صوته، إن لم يسنده طرف قوي: " قوة ما يجب أن تساعدني . لكني لا أعرف كيف أجدها، ولا صفاتها الحقيقية . كنت في آن واحد محبطة بشدة وذات طموح لا محدود من جهة أخرى . وكان اجتماع هذين الشعورين القويين والمتنافرين يتركانني في حالة من الضياع والإعياء، لكني وجدت متنفسا الآن، سأثبت موهبتي الأصيلة للكاتب الكبير، سأحاصره بموهبتي من جهة، وأنوثتي من جهة أخرى، التي أثارت أمواجا من الحنين لشبابه . عندها سيضطر لمساعدتي، سيتعهدني ويعرّفني بناشره الأكثر شهرة وثراء بين الناشرين . عندها ... – ص 18 " .... وعندها ستنفتح أمامها أبواب الشهرة الساحرة فتضيع في أحلام يقظة عن المؤتمرات الصحفية التي ستعقدها وعدسات المصورين واللقاءات (والاستعراضية اختصاص أنثوي) . لكنها لا تتردّد في الإعلان – وحتى قبل المناورة الاسقاطية الاغتصابية التي حاول الكاتب القيام بها في دعوة الغداء المبيّتة – أنها تكره كاتب البلاد، لأن شهرته كانت تذلها – هي المحبطة – بطريقة ما . كانت لديها قناعة عميقة في أنه لن يساعدها أبدا، وأنه يغار منها، ويحسب حسابا لتفتح موهبتها الكبيرة . ولكنها تريد أن تلعب معه " لعبة لي الذراع " المشرّفة التي كانت موقنة أنها ستكسب جولتها الأخيرة . لكن تحت هذا الغطاء العقلاني نسبيا الذي تدّعيه نازك، يمرّر اللاشعور دفعاته المشبوهة خلف ستارة شرعية . وأخطر ما يمكن أن يمرّره – وهو كثير شائك، هو ما يمكن أن أسميه " ألعاب ألكترا " . السعي المحارمي للإلتحام بالأنموذج الأبوي المنهي عنه – موضوع الحب المحرّم . تتساءل نازك الروائية – الروائية لنميزها عن نازك الشابة الشاعرة -: " لا أعرف أية نجاسة كانت مختبئة في روحي حين أخذت كتاباتي له تأخذ منحى غزليا عشقيا؟، صرت أبثه أشواقا لا أحسها، وعتابات مفتعلة كونه لا يتصل بي ولا يكتب . في الواقع لم يكن يعنيني هل كتب لي أم لا، لأن غايتي في الكتابة إليه كانت منافسته في أدبه، لعبة لي الذراع كما أحب أن أسمي ما بيننا – ص 21 " .وتيسّر المسمّيات البريئة انسراب المضامين غير البريئة – ولا أعلم لماذا يسمّون الملاكمة رياضة الفن النبيل !! -، ففي غمرة الإنشغال بلي الأذرع الإبداعي يموّه ما هو جنسي نفسه ليتحقق عبر مراحل بسيطة لا يشعر بها الفرد المهدّد بالحفزات المورطة نفسه . فإذا كانت نازك مخلصة في اللعبة – المبارزة الثقافية، لماذا انحدرت إلى سفح الإغواء المربك الذي زرع في أعماق الكاتب الشيخ شعورا بالتصابي والفحولة لم يكن السبب بأكمله يعود إليه . إن نازك الروائية كانت تهيج غلمة الشيخ كاتب البلاد " من حيث لا تدري " شعوريا و " من حيث تدري " لاشعوريا . فرغم أن رسائلها إلى الكاتب – واختيار الرسائل من جانب الكاتب يتفق مع انهماماته المثلية وعجزه الجنسي اللذين تعرفهما نازك ويتفق مع ميول أخرى لديها هي سنتناولها لاحقا – لم يكن لها ترتيب معيّن ولا نهج، إلّا أنها لم تكن تسهم في إيقاعه في شرك حبها وتعلقها العشقي به حسب بل تستثير " عقدة الإنقاذ " الاوديبية الكامنة في أعماقه، ولتحفز الدوافع المحارمية المتعبة بحكم الضمور اللااستعمالي لأسلحته المقابلة أيضا . لقد كتبت له بضمير الغائب عن حال فتاة طحنتها التابوات الأبوية والكنسية والاجتماعية، فتاة هشّة " بريئة " النوايا تتطلع إلى الحرّية والتفتح العاطفي والجنسي، ولكنها لا تجد غير دخان الخيبة الخانق . فتاة مسيحية " ترفض التعليم الديني الذي أرهق روحها وأعصابها بمفهومي الحرام والحلال، تتوق حلمتاها لشق القميص والتعمّد بنور الشمس، تتوق شفتاها لقبلة تعطي فيها روحها وتأخذ روح الحبيب . الفم لم يخلق للطعام، بل للقبلة . واليدان لم تخلقا للاشتباك والصلاة فقط، بل لاحتضان جسد الحبيب وتحسّسه، ثورة الحواس تتفجر في مسامها، لم يعد شبح الدين قادرا على قمعها . جسدها مشبع بهورمونات الحب . غددها الفتية تفرز عسلا فيزداد الهدير الشبق في دمها . الحياة تدعوها للارتماء في حمام النور والهواء، والتمرّغ في متع الحواس . فكيف ستقاوم؟ وأي سخف أن تقاوم؟ - ص 37 " . إن النص الأدبي الذي سلّمته لكاتب البلاد هو في حقيقته: رسالة . وهو دعوة من حقّه أن يؤولها وفق اندفاعاته النفسية والجنسية . كل رسالة تفرض تأويلاتها النفسية والاجتماعية والنقدية من خلال تفاعلات المتلقي التي تتأسس على ركائز محتويات لاشعوره . ولكن الأهم والأخطر من بين هذه التأويلات هي التأويلات " النقدية النفسية " التي تحيكها " رؤية " اللاشعور الضامر المقابل . عن طريق هذا المقترب التآمري استنهضت نازك الروائية حفزات الانقاذ الأوديبة النائمة، والتصابي – عودة الشيخ إلى شبابه – هي تورية عن عودة الأب إلى لعب دور الإبن المبارك لاشعوريا في المشهد الذي تنصب الشابة المغدورة – التي لا يعرف الكاتب حتى هذه اللحظة أنها نازك الشاعرة التي يتحدث عنها النص الذي بين يديه قبل عشرين عاما لكننا كقرّاء نعرف ذلك لأنها تقول لنا: " رسالتي الأولى التي اعترف لي أنها فتنته، وكان يستعيدها كل يوم، بدأتها بشحنة قوية من الانفعالات الغامضة، وانتبهت عرضا إلى أن دموعي كانت تنهمر وأنا أكتب، حين لمحت الحبر يذوب في نقاط الدمع المتساقطة . كنت أحب أن أتحدّث عن نفسي بضمير الغائب، الذي كان يعطيني حرية أكبر في التعبير – ص 25 " . ولا أعلم كيف يموت المؤلف وفق الأطروحات الحداثوية وما بعد الحداثوية . إن شخص الغائبة - وهو ورقي - تسلمه كاتب البلاد في رسالة نازك، أي أنه متخيّل، أهاض في أعماقه شعورا مفاده أنه محرك إنقاذي لموضوع حب كسير ومستلب ومحطّم، هو عبارة عن التكوين " الحروفي " لموضوع حبه المختزن " اللحمي – الحي " للروائية . احذروا رسائل اللاشعور . وقد حفزت في الكاتب صورة الأب حفيد الكاهن الذي يكره – وبتعبير أدق " يعهّر " - كل الأديان والمذاهب الأخرى، صورة ألكترا العطشى لحب الأب الذي يناسب تشكيلته الحياتية والأخلاقية ومنظومة تأويله السلوكية الفكرية التي قطعت شوطا طويلا في " التعهّر " و" التعهير " . ومثلما كانت نازك المراهقة تشعر أنها تركب في زورق يقوده الأب عابرا بهم نهر الوهم، ومغلقا عقولهم عن التفكير الحر، فإنها هنا تعيد ترسيم الأدوار مسلمة قيادها إلى انموذج أبوي آخر مخاتل وممسوخ، لكن بمبادرتها الذاتية هذه المرّة رغم نوبات السخط والتذمّر والنقمة والتكفير . لقد استلم الكاتب الشيخ " الرسالة " وصاغ لها " جواب " التأويل المناسب الذي تمثله ضمن منظومته الإدراكية المعرفية والنفسية . وقد تعزّز هذا التمثل وصحته التأويلية من خلال دلائل مادية " انفعالية " ملموسة كسلوكات قامت بها نازك الروائية في حفلة الغداء . لقد ساءلت نفسها وهي تتجمل أمام المرآة لمقابلة شيخ متهالك يكبرها بأربعين عاما عن السبب الذي يجعلها تريد الظهور بأجمل صورة أمامه . فتجيبها ذاتها المرآتية – المتجسدة في المرآة، والمرآة من أساسيات التأثيث المكاني في النص النسوي والتي تحتاج بحثا مستقلا – بأن المرأة تحب لفت نظر الرجل حتى لو كان على فراش الموت . وهذه حكمة نفسية، المرأة كائن نرجسي حتى الموت . كانت كما تقول تتسلى بإغواء عجوز والتفرّج عليه كيف يفرح بالفتات . بعدها تبدأ مصائد اللاشعور الماكرة التي تحوّل ما هو مقصود شعوريا إلى – وببراءة ظاهرة – ما هو مبيّت لا شعوريا، جنسيا أو عدوانيا . تنهض نازك بعد أن ضبطته وهو يتأملها بشبق، وتستأذنه لإطفاء بعض أنوار الغرفة .. مبررها أنها تنزعج من البهر الضوئي، ولكن بالنسبة له يشكل هذا التصرف خطوة تمهيدية للتعتيم على الدوافع الممنوعة . يمدح ركبتها المضيئة وبياضها الآسر فلا تنزعج لأنها لم تبال حين انحسر الفستان كاشفا ركبتها وجزءا من فخذها، وتشعر بأنه أرضى غرورها بمديحه لأنها جعلت شهرته تجثو عند ركبتها . لم يكن شعارها الصراعي الهائل الذي اقتبسته من معلم فيينا وهو: " يجب قتل الأب "، والذي بعث قشعريرة في جسدها، هو الشعار الدقيق في هذه المرحلة المتأخرة عن حماسة المراهقة، بل شعار " إسقاط الاب وتلويثه "، لأن موته يتسق مع خيالات الطفولة الأوديبية الجامحة وهي ليس لها مكان في نفس البنت مهما كانت شراسة الأب بخلاف تعلق الولد بالأم الذي لا يتغير طول الحياة حيث تبقى موضوع حب يجب " إسقاطه " ولا يتحقق إلا من خلال قتل الأب والقضاء المبرم عليه . ننتقل إلى خطوة إغوائية أخرى ينصبها اللاشعور الماكر وذلك حين تحس نازك – بعد أن شربت الكأس الثانية – والخمرة ترقّق دفاعات الضمير، وللسرّ، كما يقول الشاعر القديم، نافذتان: السكر والغضب، وقد اجتمعا الآن لدى نازك في هذه الظهيرة الحمراء – حيث ترى أن من واجبها – ولا نعرف مصدر هذا الواجب – أن تمتدحه، فحكت له عن انبهارها بروايته الأولى التي قرأتها وهي في الثامنة عشرة – تعيد إليه ذكرى الصبية المحاصرة الخائبة التي سطرتها في الرسالة – والتي – أي الرواية – كان يدور موضوعها حول معاناة رجل فقير، لم يستطع أن يتخذ زوجة بسبب فقره، وكان شهوانيا، يقضي الليل وسط أحلام شبقية زاخرة بالنساء العاريات، وهو مقلوب حالة بطلتها في الرسالة التي تلهث باحثة عن الإشباع المتيسر فيصدّها الدين ودروس الكنيسة وتابوات الكهنة فتسرح في الخيالات والتبصص وممارسة العادة السرّية – إنها تذكره بأيام عرسه بعد أن ضاقت نفسه بالشيخوخة والعجز الجنسي - .

 

ثم تذكّره بقصيدته (سخف الذكريات) التي تحبها فيلقيها أمامها بصوته المتهدج فتذكره بـ " انتصابه " الشعري الشبابي من ناحية وتذوب مسترخية وكأنها تهيء نفسها للاستجابة المأمولة من ناحية أخرى .. إيغال غير محسوب في نتائج لعبة الإيهام .. وحين يمد يده ليتحسّس ركبتها ثم فخذها بوله مستميت " تبرّر " استقبالها الهاديء للفعل التحرشي وتبرز رد فعل استقبالي موشح بالفضول والشفقة، الفضول: مشاركته اللعبة، والشفقة: عطف على شيخوخته المستجدية . وحين يطلب منها أن تجلس في حضنه تتردد أول الأمر، ليس لأن هذا الطلب تحرشي ومناف لقواعد السلوك بينهما ولكن لأنها تخاف أن يتسبب وزنها في آلام في فخذيه النحيلتين !! وحين لم يستطع فك الزر الأول من فستانها لكي يبطش بنهدها النابت الشامخ – حتى نحن تستدرجنا - كما تصفه قامت بمساعدته في إنجاز المهمة . ولا ننسى أنها حين خرجت من بيتها لمقابلته تعمدت فتح الأزرار العليا من فستانها الأزرق، الذي سيدوّي لونه حين تسقط ظلاله على قبتي الفضة – وهذا وصف حسّي مهيب لم أقرأ مثله في حياتي . وبين كل حركة وأخرى تعلن لنا إلكترا الراشدة عن كرهها لما تقوم به وما تشمه من روائح الشيخوخة، رائحة النهاية، وهو التعبير الظاهر عن محنة التضاد الوجداني – ambivalent المحارمي المغروس في تربة اللاشعور الطفلي في سيكولوجية الأنوثة أصلا بصورة عامة، وفي ذات نازك منذ مراهقتها بشكل خاص، والذي تسنّن وجوده فصار مسلّحا . وسيلفت انتباهك أن نازك ذات الثمانية وثلاثين عاما لم تستقر الآن بعد جولات الخيبة إلّا على علاقة مع أنموذج أبوي هو صديق أبيها الذي صار صديقها بعد وفاة الأخير وكانت تسمّيه (الرمز) وهي عملية مثلنة الهدف المحارمي، وتمتد صداقتها بالشيخ الودود إلى ما قبل عشرين عاما أي منذ أن كان عمرها ثمانية وعشرين عاما، عمر الذروة في النضج الجسدي والغريزي الذي تبحث فيه الشهوة عن شيطان جزار في إهاب شاب . وتقدم لنا نازك مفتاحا يعيننا على فهم مضمون العلاقة ذات الغطاء الإنساني الودي فتقول أن صداقتها بصديق أبيها، بديله، قد تعززت بتأثير حادثتين: الأولى وفاة والدها والثانية طلاقها (وفاة زوجها مجازا)، وهي ترجح العامل الثاني كعامل أكثر قوة من الأول، أي ليس للعب دور الأب الحاني دور أساس في تأسيس هذه العلاقة، ولكن لأن المطلقة تتمتع بسحر وجاذبية لا يقاومان بالنسبة للرجال، لأنها تتعلم بعد طلاقها كيف تعطي ذاتها بسخاء وتواضع كما تقول . وفي نهاية جولة لي الذراع الثقافية تملّصت نازك من بين ذراعي الكاتب بعد أن فتح لها سرواله، هذا الفعل الجنسي المباشر الذي جاء بعد أن " أشفقت " عليه بقبلة على شفتيه اليابستين الضامرتين واحتضنت كفيه المرهقتين المنقطتين ببقع الشيخوخة المقززة، بحس من " البنوة " الحقيقية . لقد أعلن لها في خضم انفعالات هذه المحنة أنه لم يرتبط بأية امرأة – وقد يكون هذا من نتائج الميول المثلية – لأنه لم يعثر على المرأة التي تجعله " يركع " . وعملية " الركوع " في أعراف هؤلاء تورية عن الحفزات المثلية والمازوخية . وقد يكون خادشا لصفاء تجربة حبها الأول الذي تسميه " الحب العظيم "، التجربة التي عاشتها في نهاية مرحلة الدراسة الثانوية – ذرة المراهقة – مع الشاب الذي كان يكبرها بعامين ويدرس الفلسفة في جامعة بيروت، ويحضر من وقت لآخر الاجتماعات الدينية الأسبوعية لفرقة المحبة التي كانت واحدة من أعضائها، أقول خادشا، أن نعتبر نوعا من الحفزات العصابية اللّاسوية الكامنة في أعماق حبيبها هي سبب فشل التجربة . لقد اندفعت نحوه بجموح – وفي الغالب تكون الاندفاعات الجامحة مؤسسة على الحفزات المحارمية الطفلية الفعلية أو المؤمثلة، تطابقا أو تناقضا، مثلما يرى شاب فتاة لأول مرة ويصرخ: وجدتها، هنا تقفز صورة الموضوع المكبوتة المختزنة التي يقاس عليها الموضوع الجديد -، وقدمت له أوصافا شديدة المثالية: وجهه متسربل بالنور ومشع بالسلام، ضميره مرتاح .. وقد انكتبت قصة حبهما من خلال " الرسائل " أيضا، وكأنها قد تخصصت في " الحب عن بعد "، وهي طريقة تلائم النتيجة الصادمة التي تحققت من ردة فعل حبيبها المعصوبة: " إن طريقي ليس طريق الحب البشري .. لقد اخترت طريق الحب الإلهي .. المسيح هو طريقي " إن هؤلاء الذين يتركون الحب البشري الملموس والمشخصن في الجسد الأنثوي الإلهي – وأقول الإلهي لأنه بعد الاستنساخ الوراثي سحب البشر البساط من تحت أرجل الآلهة ولم يبق لها من امتياز سوى الموت، ولا دليل على عظمة الله من أمثال: الجبال (ينسفها الانسان) البحار (يجففها ويحلّيها) ..إلخ، وكل ما قالت الآلهة أنها خلقته كدليل على وجودها يستطيع الإنسان المتشيطن بالعلم أن يتلاعب به عدا الموت .. ولا دليل ملموسا وكاسحا على وجود الحياة، نقيض الموت، وبالتالي وجود الله، سوى جسد المرأة بتركيبته العجيبة .. فقط عندما يتجسد أمامك جسد المرأة يتجلى الله الجميل القدير، لأنك لو جمعت مليار فنان من الذكور قبل خلق المرأة – قبل الخليقة – وطلبت منهم " صنع " رفيقة لهذا الذكر – الآدم المستوحد في الفردوس فلن يفكروا بصنعها وفق هذه التركيبة التي شكلتها أنامل الله). هؤلاء الذين يتركون الحب البشري الملموس ويتجهون إلى الإلتحام بموضوع حب تجريدي هم معصوبون لا يستطيعون الجهر بموضوعات حبهم المكبوتة، ومخصيون يستكملون عملية خصائهم النفسية الإجرائية . وهم أيضا من عتاة الأثّامين ولا تخدعنك مسالمتهم المعلنة . وببرائتها الغاطسة في شهقات خيبتها وتمزّقات روحها المغدورة تشخص نازك العلة: " .. قال: المسيح هو طريقي ... ودت لو تصفعه .. وتصرخ بصوت كالجعير: والرسائل، والأشواق، والحب الخجول !! . لكنها أفلحت في كظم ثورة غضبها، وسألته ببقايا صوت تشظّى من الخيبة: كيف تفكر أن تعيش حياتك؟ .. قال: المسيح هو طريقي .. ودت لو تصرخ: لكن هل المسيح يريدك مخصيّا؟ .. تحوّل الصراخ لدموع رشفتها إلى بلعومها، مانعة إياها من الإنسكاب على خدها . كانت هذه أول خيبة عاطفية تعيشها مع شاب خصاه إيمانه . لكن، ماذا يمكن أن تسمي ما بينهما سوى حب؟ كان عويل في داخلها يشتد حتى الجنون، وتارة تدخل روحها في أنفاق الذهول . عجبا كيف يكون الحب إذا لم يكن كالعلاقة بينهما؟ - ص ص 33و34 " . تعود بذاكرتها إلى واحدة من اللحظات التي شرقت روحها بالحب فيها وهي تقص على الأطفال معجزات المسيح، شرقت روحها بحب الأطفال والطبيعة والصفاء والمحبة والمسيح والله والإنجيل، كلها تحت ظلال نظرات موضوع حبها الوارفة وابتسامته الوديعة المنتشية، شرقت روحها حتى سال الحب من عينيها دموعا ساخنة صادقة مسحها بيده: " تحلّق الأطفال الصغار، الفقراء وأشباه العراة، يلمسونها ويقبلونها ويعبرون لها عن حبهم الكبير، بكت تأثرا، ضمت أجسادهم النحيلة بحب لا محدود شمل القرية كلّها والكون بأسره، حب كوني كما أحسته يطوف من قلبها الصغير وينتشر مع الأثير . انتابتها قشعريرة وهي تدرك أن هؤلاء الأميين والمعزولين قد مسّتهم كلمة الله وسحرتهم، وهي الوسيط الذي سكب كلام الله في قلوب الصغار . لقد تكلم المسيح من خلالها . لم تستطع منع دموعها الروحية من الانسكاب . كانت نشوة روحية تهز جسدها كله، وهي ترنو لأجساد الصغار تبتعد عنها وضحكاتهم وصيحاتهم تتباعد، ويترجع صداها سياجا من الأمان يحيط بها . اقترب منها، وجثا على ركبتيه بجوارها، ومسح دموعها بظاهر كفّه .... إنه يجثو أمامها، يتأملها بعينين دامعتين من الوجد . أيعقل أن يكون هذا حبا أخويا؟ لو تجسّد المسيح في تلك اللحظة أما كان يبارك حبهما؟ هل كان يمانع لو ارتميا على العشب ومارسا لعبة الحب الروحية الجسدية، أو الجسدية الروحية؟ – ص 35 " هنا، وفي هذه القطعة الشديدة الإحكام جماليا وفنيا ولغويا ونفسيا، تتجلى الصوفية الحقّة، الصوفية المنتجة التي يلتحم فيها الإنسان المحب بموضوع حبه تحت رعاية الله الحنون . وهي موجودة حتى في الصوفية العطالة والبطالة العصابية التي تقترب من الحدود الذهانية – psychosis (ولا أعرف لماذا يصوم المتصوّف والشاعر " ابن الفارض " شهرا، وحين يحاول الإفطار يخرج له شاب جميل الطلعة من الجدار ويأمره بأن يكمل الصيام إلى أربعين يوما، لماذا لم يخرج له شيخ ورع ينصحه؟ ابن الفارض كان يحب أحد صبيان القصّابين قبل تصوّفه) وإلا كيف نفسر ما قرأته نازك بعد هذه التجربة بسنوات وبطريق الصدفة أن المتصوفين والرهبان الذين يقضون حياتهم بعيدا عن الناس في صومعة في جبل أو دير كيف أنهم في لحظات توحدهم الكلي مع الله، وتحوّلهم إلى صلاة، كانوا يصابون بالانتصاب والقذف (وهذا ما كنت ألاحظه أيضا لدى الجنود في المعارك خلال فترات الانتظار ليس لأن الجهاز العصبي اللإرادي (السمبثاوي) يشتغل بكل طاقته في حالات القلق المفرط – قلق الموت - حسب ولكن لأن الحياة " ترتجف " في حضرة الموت . في هذه القطعة – الوصفة العلاجية يكمن دين جديد للإنسان والله والمحبة . لكن حبيبها هرب إلى أحد الأديرة البعيدة في اليونان فكرهته نازك بقوة حبها له، فـ " الحب والكره وجهان لعملة واحدة " بالنسبة لها، وهي حكمة نفسية أخرى مهمة . فمن أساسيات التحليل النفسي هو: " أن الحب في بدايته كثيرا ما يكون إدراكه بحسبانه كراهية، وأن الحب حين يُحرم الإشباع، يمكن أن يتحول في يسر وبصورة جزافية إلى كراهية . ويحدّثنا الشعراء عن أنه في المراحل المشبوبة من الحب يمكن للعاطفتين المتناقضتين أن تتعايشا برهة جنبا إلى جنب وكأنهما في تنافس أحدهما مع الأخرى .(هذا ما عبر عنه شاعر أغنية ناظم الغزالي الشهيرة: أحبك وأريد أنساك -). وأما التعايش المزمن بين الحب والكراهية في اتجاههما معا إلى نفس الشخص وبأعظم شدّة لهما، فلا يمكن إلا أن يثير دهشتنا . فنحن نتوقع أن يكون الحب المشبوب قد اجتاح الكراهية أو اجتاحته الكراهية العرمة منذ زمن طويل . ولكن الحب نجح فحسب في دفع الكراهية وكبتها في اللاشعور . وفي اللاشعور حيث الكراهية في مأمن من أن تدمرها العمليات الشعورية، يكون بوسعها أن تستمر في البقاء، بل وأن تنمو في مثل هذه الظروف . وكقاعدة عامة، يبلغ الحب الشعوري من قبيل ردّ الفعل، درجات عالية من الشدّة بشكل خاص، حتى يكون من القوة بحيث يتمكن من الاضطلاع بهمته الدائبة في الإبقاء على خصمه (الكراهية) تحت الكبت . وهذا ما يحصل لدى الطفل حين يمر بمرحلة " عقدة أوديب " بما تتضمنه من مشاعر الغيرة والعداء نحو أبيه الذي يحبه بالرغم من ذلك حبّا عظيما " . وهذا هو ما ينطبق على نازك المراهقة في علاقتها بوالديها . تشخيصات أضطرابات الآخرين تنبثق من أعماقنا المضطربة وتُسقط عليهم . فقد كانت تعاني من حفزات وجدانية متضادة تجاه والديها، فهما يعطيانها كلّ شيء عدا أن تكون حرّة .، وكثيرا ما كانت ترزح تحت وطأة شعور قاس بأنها مجرد آلة، وكانت تطيل التحديق فيهما، كيف يمارسان الحياة بتناغم جميل ظاهري، فيما هي تحس بحقد لاذع تجاههما . لكن هذه المشاعر المتضادة يترتب عليها شعور شديد بالذنب، فقد كانت تتعرض لعذاب ضمير قاس بسبب اتهامها لهما بأنهما يخنقانها، كانت تبكي ندما، وهي تستحضر صور شقائهما وكفاحهما، كم ساعة تنكب والدتها على ماكنة الخياطة لتخيط لها ولإخوتها الثياب الجميلة، كي لا يشعروا بالغيرة وعقدة النقص تجاه رفاقهم الأثرياء في الجامعة، وساعات العمل الإضافي التي يفني والدها نفسه فيها، لأجل تأمين أقصى ما يستطيع من البحبوحة والرفاهية لأولاده . وحبهما اللامحدود لهم، يا لجحودها، كيف تشعر بعد كل هذا الفيض من النبل والعطاء، أنهما يخنقانها؟ - ص ص 99 و100 " . وهذا الشعور بالذنب تجاه جحودها المفترض تجاه والديها هو جزء بسيط ومظهر متأخر لصورة سوداء أعم وأشمل من الإحساس الموجع بالإثم – guilt feeling الذي استولى على وجدانها منذ صغرها، خصوصا حين بدأت بممارسة العادة السرّية التي ينبغي أن نعرف لماذا يترتب عليها الشعور بالإثم ولا يترتب ذلك على الممارسة الجنسية الصريحة !! فما كان يعذب نازك الصغيرة هي أنها تشعر بندم حارق حين يضطرها الشوق العميق للرجل إلى ممارسة العادة السرية: " كانت تنتهي من فعلها الآثم مبللة بالخجل، لدرجة كانت تغمض عينيها خجلا حين تلمح الإنجيل حزينا على طاولة دراستها فتشعر أنها خيّبت أمل الله فيها . كانت تحس بنظرات الله تحرق كتفيها، ترصدانها بألم واحتقار وهي مكورة حول نفسها غارقة في فعلها الآثم – ص 30 ".. وبعد مراحل من المحاولات اليائسة للخلاص من القبضة الأبوية الخانقة، ورغم أنها " وجدت " وظيفة جديدة لميولها الإستمنائية متمثلة في اعتبار ممارسة العادة السرية تحدّ لأبويها لأنهما رسّخا في أعماقها أن كل انفعال صادق وغريزي يدخل ضمن إطار المحرّمات ويجب خنقه، إلا أنها كانت تعود لتسقط في بئر الإثم المظلم من جديد . لكن العامل الأهم في نشوء هذه " العقدة "، عقدة الشعور بالذنب هي الثقافة الدينية التي ترعرت في أحضانها، ثقافة تقوم على أساس أن الإنسان ليس حيوانا آثما حسب بل أنه يجب أن يسحقه " الاعتراف " بذنوبه أيضا، وأن يقوم التكفير على ركيزة إذلال الجسد وسحقه كدودة حقيرة , يجب إخصاء غريزة الحب، والمشكلة أن كل هذا الموقف القامع المعادي للشهوة يرتكز على افتراض أسطوري حصل قبل آلاف السنين ولا يمكن أن يستوعب ترابطاته بواقعها الراهن عقل نازك الصغير المشكك: " كانت قصص القدّيسين تحتل القسم الأعظم من الدرس، قصص متشابهة تملؤها غما ورعبا من بشر اضطهدوا وتعرضوا للحرق والتعذيب ولافتراس الوحوش الجائعة، لكنهم استمروا سعداء بإيمانهم . كانت مفاصلها تتقصف رعبا، وقشعريرة الرعب تهزّ جسدها وهي تصغي لهذه القصص، وتتخيل مشاهد التعذيب المرعبة – ص 26 " . هذه الثقافة جعلتها تشعر أنها مطلوبة لإثم ما – المصيبة أنه غير محدد ولم تقم به - إنها ضحية خطيئة أسطورية غائرة في القدم لا يد لها فيها . وإنه لظلم فادح وجائر أن تتلو كل صباح ومساء الصلاة الربانية وتستغفر الله عن ذنوبها الموصولة بذنب آدم وحواء اللذين خالفا مشيئة الله وأكلا من الشجرة المحرمة . ولو دقق الأصوليون - مزارعو الإثم – في أصل الخطيئة وتجلياتها لوجدوا أنها تعبير عن اعتراف إلهي بقوة غريزة الحب والشهوة الجنسية التي لم ترتدع رغم أنها تجري تحت عيني الله . هذا يشبه حال اللص الذي يمد يده في جيب الشرطي الذي يراقبه . ولو علموا أن السقوط يعني عواقب السقطة المحارمية، لأن الله أصلا هو الذي بادر في خلق موضوع جنسي – أنثوي هائل السحر بتكويناته الجسدية لآدم، فلماذا يلومهما إذا كانت الممارسة: المعرفية أو التعرفية – ومن معاني الفعل " عرف " في اللغة هي المواقعة الجنسية – اللغة من عطايا الأنوثة - هي نتيجة طبيعية لخلوة ذكر وأنثى؟ ولو علموا أن الأنثى هذه قد خلقت من ضلع آدم وكان من الممكن أن تخلق من طين لازب وأن الخلق من الضلع يعني " قلبا حلميا " لكونها أم أو أخت .. لو علموا كل ذلك، ما جعلوا نازك الصغيرة ترتجف من الرعب، شاعرة أنها آثمة خطّاءة وهي المراهقة الهشّة التي لم تقترف جرما .. أوصلوها إلى حدّ أن تؤمن أن آلام الدورة الشهرية ودم الفداء الرحمي الخصبي هو بسبب سقوط جدّين جسورين من الفردوس، وهو نوع من العقاب لأنهما عصيا أوامر الله وليس لأنهما قاما بالفعل المحتم الذي نسيته الآلهة ونسيه حبيبها في تجربة الحب الأول العظيم !! جعلوها – باختصار وحسب تعبيرها الدقيق: " تشعر أن الله يتربص بها في كل لحظة، ويسجل في دفتر كبير خطاياها، ليحاسبها يوم القيامة – ص 27 " . ولأنها لم ترضخ لسياسة الـتأثيم الجائرة بفعل اندفاعة روحها الصاخبة الطفلية البريئة الطافحة بالنشوة والنزوع نحو الإشباع والإمساك بلحظة الدهشة الفطرية الفائقة، فقد امتلأت روحها بالتساؤلات التي لا جواب مقنعا لها أولا ولا معنى لها أصلا ثانيا – وهذا هو سبب شيوع البنية التساؤلية والاستفهامية في الفضاء الحكائي للرواية وطغيانه عليه بصورة شديدة . لقد جعلوا حياتها الغضة عبارة عن علامة استفهام، وفي أسوأ الأحوال، في المواقف التي تصبح فيها الحياة عبئا ثقيلا يجب التخلص منه، تصير حياتها علامة استفهام في نهايتها نقطة على شكل طلقة حسب تعبير مايكوفسكي . لماذا هي مخطئة وهي لم ترتكب إثما؟ لماذا عليها أن تعترف راكعة مرة في الشهر أمام الكاهن لتعترف بذنوب لم تقم بها؟ لماذا يجب عليها أن تردد ثلاث مرات وبخشوع: (يا الله اغفر لي أنا عبدك الخاطيء) وهي التي لم تخطيء وطلعت على الحياة كنسمة نقية من عمق بياض البراءة . لماذا ولماذا ولماذا ولماذا .. لكن بلا جواب . هي تعرف الجواب الذي لا يصلح لأي سؤال يطرحه " الأخوة " أو الكهنة او الآباء . والجواب يكمن في التصالح المنعش بين الروح والجسد، بلا تبعات، ودون خطايا أو آثام، هكذا: تصالح لوجه النشوة الكونية والإلتحام بالخالق من خلال المخلوق . يا الله ,, أي فلسفة عظيمة هذه ! أي دين عظيم هذا !! . ووسط موجات الإرهاب – إرهاب السلطة الذكورية - الخانقة، لا يمكن للاشعور – المراهق الحي خصوصا – أن يخضع بمهادنة جبانة .. قد لا يستطيع الهجوم .. لكنه يقاوم ملتفا .. أو ينسحب .. ولكنه حتى حين ينسحب فإنه سينسحب كأسد جريح . ولأن الغريزة الحيّة مجبولة من روح الله فلا تفنى ولا تموت .. هي الحي الذي لا يموت .. فإن نازك تتصدى للإلتفاف على المحرّم .. تفلح فتخترق حدود الممنوع لكنها تتألم وتأثم .. لقد بدأ المكبوت ينسرب من بين أصابع قبضة السلطة الكابتة الحديدية . بدأت الحفزات المحرّمة تنهض داخل قوسي الحلال والحرام اللذين يحاصرانها . وهذا الفعل التعرضي يحمل معه من الألم قدر ما يحمل معه من اللذة التي تكون ناقصة دائما . صارت الهواجس الجنسية والانفعالات اللذية " الدنسة " تأتيها وهي غائبة وسط الأجواء النقيضة " المقدسة "، أجواء الممارسات الدينية الصارمة التي تبغي تطهير النفوس . .. ممارسات تريد إذلال الجسد فإذا بحواس الأخير تنتصب وتشمخ في ظل عدوان التطهير . تقول نازك:" كان الأخوة يطلبون من أفراد الفرق الدينية، الركوع والخشوع التام والصمت المطبق، ثم التأمل العميق والتدريجي بالذات والآخر والكون، ليتمكن كل فرد بالنتيجة من محاسبة نفسه في ابتعادها عن الله . ... كانت تمتثل لأوامر الأخوة بضرورة التركيز الذهني العميق ونسيان العالم الخارجي .. لكنها كل مرّة كانت تروّع حقا من هجوم صور جنسية شديدة الإثارة إلى ذهنها . لا تعرف سببا لتلك الإثارة الجنسية التي تحسها وهي تركع بين رفاقها مغمضة العينين فيما صمت مطبق يسربلهم كوشاح من حرير .. والشفاه المغلقة باستسلام المنداة كأنها تنتظر قبلة – ص ص 28و29 " . كان الشيطان يهاجمها ويغويها وهي في حضرة الله . وهناك – كما يقول معلم فيينا - لوحة للفنان " فليسيان روبس " تفصح على نحو تعبيري موح لا يجاريه فيه أي شرح وتفسير عن تلك الحقيقة التي نادرا ما تسترعي الانتباه مع أنها جديرة بأن تأسره: فقد صوّر الفنان حالة الكبت النموذجية لدى القدّيسين والزهّاد . راهب متنسك هرب من إغراءات الدنيا وتجاربها بدون أدنى شك – إلى جذع الصليب الذي عُلق عليه (يسوع) المخلّص – فإذا بالصليب ينخسف وكأنه طيف وتنتصب مكانه وكأنها لسان حاله وترجمانه صورة باهرة لامرأة عارية رائعة الجمال أخذت وضع المصلوب عينه . ولما أراد رسامون آخرون، ما أُتوا مثل هذا الحس السيكولوجي المرهف أن يشخصوا إغراءات التجربة، صوّروا الخطيئة في وضع تحد وانتصار إلى جانب المخلّص المصلوب . أما " فيليسيان " فقد أدرك أن المكبوت ينبجس لدى عودته من داخل السلطة الكابتة نفسها " .وليس أدق من هذا الوصف ما حصل لنازك وهي تجسر – بعد عذاب تردد وصراع تحسبات – على مقابلة الكاهن العجوز المشهور بكتبه ومقالاته وبتأثيره الساحر والفوري في تهدئة النفوس المعذبة الممزقة وقيادتها إلى بر الأمان والإيمان، الكاهن الذي كانت تجمعه مع والدها صداقة تعود لأيام الشباب حين جمعهم العمل في الجمعية الأرثوذكسية . في صالة الانتظار قبل المقابلة وباب خشبي فقط يفصلها عن هذا الرمز الديني تتذكر رعشة القبلة الأولى اللاهثة الوجلة التي تبادلتها مع زميل لها في رحلة جامعية: " قبلة ساحرة لا يمكن لها تذكرها ما لم تستعد يذاكرتها روائح الأرض والعشب المندى وثغاء خروف بعيد، وهسيس أغصان الأشجار . أحست بالخجل كونها تنتشي بخيالاتها العاطفية وهي على بعد دقائق من موعدها مع القديس – ص 81 " . هاهي تقف مضطربة في حضرة الكاهن لتطرح كارثتها أمامه: مسيحية تحب مسلما معها في الجامعة وتريد الزواج منه !!! اعترفت وبكت وسمعت توجيهاته وأطاعت وامتلأت روحها الصغيرة بالندم وغسلتها بالدموع: " قام إليها يحضنها ويقول لها: نازك يا طفلتي لا تعذبي نفسك بالندم، سأصلي من أجلك .. " وهنا، وعندما يحتضنها الكاهن العجوز، وهي في موقف التكفير الخاشع المثير للرهبة ينبجس المكبوت الآثم:" كان وجهها مدفونا بلحيته أمكنها رغم تماهيها في هيمان كلماته أن تشعر بقوة قبضتيه تشدّانها إلى صدره، ولم يفتها وقتها سماع سؤال خبيث انبعث من مكان ما في فضاء الغرفة، كأنه فقاعة صابون انفجرت لتوّها: ألا يشعر هذا القديس بمتعة وهو يحضنها؟ .لكنها طردت بقسوة هذا السؤال الذي اعتبرته همسا شيطانيا – ص ص 85 و86 " . " لقد زارت امرأة – والقول لمعلم فيينا - تشعر بدوافع غريبة راهبا للاعتراف ثم قدّمت له هدية فلم يشكرها، فغضبت ولكنها بدأت تحس بميل جارف نحوه تطور إلى حبّ يدفعها إلى البحث عن الراهب للتحدّث إليه (تذكّر حكمة نازك في أن الكره والحب وجهان لعملة واحدة) . سافرت أكثر من مرة لتتخلص من هذا الميل فهي امرأة تحب زوجها، وحاولت مقاومة هذه المشاعر لكن عبثا . وحدث أن مرت من أمام بيته فدخلت وصعدت السلم من غير أن تعرف ماذا ستفعل، ثم قامت بزيارته أيام أعياد الميلاد وحدث أن تقارب رأساهما فلم تستطع الامتناع عن أن تلمس بشفتيها رقبة ذلك الرجل المسكين الذي ألقى إليها بنظرة مندهشة ولم ينبس ببنت شفة . فعادت إلى بيتها مضطربة أشد الاضطراب وهرعت في اليوم التالي إلى الاعتراف . لقد كانت هذه القصة هوى غراميا نما لدى امرأة ورعة وشريفة شديدة الحرص على سلامة ضميرها . لقد ارتبطت فكرة الراهب منذ طفولة هذه المرأة بفكرة المقاومة ضد الغريزة . فقد كان هناك تداع بالتضاد يصل بين تصور رجال الدين وبين تصوّر الغريزة، وكثيرا ما يحدث في مثل هذه الحال أن ينغمر الكابت بالمكبوت، وأن تصبح أداة الكبت، مع الأيام، مثيرا جديدا للجنس . إن حب هذه السيدة للراهب هو العودة الظافرة للغريزة الجنسية الطفلية من خلال تصورات الكبت الدينية " .وهذا ما عانته نازك . وهي معاناة تتكرر كثيرا في حياتها . ففي تجربة حبها الثانية مع الشاب الذي يصغرها بثلاث سنوات، أخو صديقتها، ذي الرجولة المتفتحة والقوام الممشوق والعضلات المتينة، والذي حين انحنى وكشف شق قميصه صدره الفتي تكسوه الأشعار السوداء، اخترقها سهم حارق شطرها نصفين (والسهم الحارق الذي يشطر يتكرر في الرواية) . وفي أثناء صلاة الغروب – والكاتبة تتحدث عن ذاتها – بطلتها بضمير الغائب الذي يتيح لها الحرية في التحدث عن ذاتها كما تقول في حين هي، أيضا محاولة لإسقاط المشاعر الآثمة – واللعب على الضمائر سمة حكائية خلاقة في هذه الرواية – تصف احتدام مشاعرها الجنسية في المكان الذي يحضرها ويعمل على تطهير روحها منها: " كانت تقف في الصف الأخير في كنيسة الدير، تتحرق شهوة لجسده المتناسق الذي كان محصورا في قميص قطني ضيق، وبنطال جينز أسود، وحين ركع على عارضة المقعد الخشبي واتكأ بمرفقيه على مسند المقعد أمامه، انحسر القميص كاشفا مساحة من ظهره الأسمر، تمنت بكل شوقها الدفين لو تداعب بحنان تلك المساحة الساحرة من جسده – ص 39 " . بهذه الحركة التبصصية – والإبداع كلّه تبصّص – تحاول التنفيس عن رغباتها المحاصرة بقبضة القمع . ثم تنصب كمينا لهدفها – الشاب المراهق، هي الأخت في فرقة المحبة التي تقص على الأطفال معجزات المسيح، " وحين كانت تفتح عينيها السابحتين في النشوة، كانت تلمح حبيبها الأول يتعبّد محاربا طيفها في أحد أديرة اليونان . كانت تشعر بسخرية شديدة منه، وتعطي نفسها بزخم أكبر للشاب الذي خرقت عذرية جسده، ودعته لخرق عفتها الزائفة – ص ص 40و41 " . وفي وقفة محسوبة تعود بنا الكاتبة إلى رواية محنتها الحاضرة مع كاتب البلاد وعصبته من الذكور، خصوصا ذكور الثقافة الذين يكافيء قلمهم قضيبهم، فتعرض علينا نماذج بالغة الخسّة والدناءة . فهذا محرّر في المجلة الثقافية الأكثر شهرة وفي عقده السادس يهاجمها في مكتبه الرسمي ويحاول افتراسها . وهذا مثقف طبع أكثر من خمسة عشر كتابا يطلب منها وهما عاريان وفي أكثر اللحظات حميمية، أن تساعده ماديا، في حين كانت أصابع يمناه تداعب عقدها الذهبي الثخين المحيط بعنقها . وهذا ثالث متغطرس مصاب بالهوس الجنسي طرح خلال عشرين عاما أكثر من خمسة عشر كتابا يعرض عليها مقايضة صريحة: (أعطني جسدك، أنشر لك) يهاجمها وهو يوصلها بسيارته فتهرب بصعوبة . ولا تقلل الجملة الدفاعية التي قدّمت بها الروائية لروايتها في صفحتها الأولى: " كل شخصيات الرواية من الخيال "، من الاستقبال التأويلي للقاريء شيئا . كما أنها ليست مهمة لسببين: الأول يتعلق بمن أين يأتي الخيال؟ . وبخلاف ما يعتقده الكثيرون فإن الخيال لا " ينزل " من سماوات الخيال، إنه يتصاعد من أرض الواقع . خذ أي كائن " خيالي " يبتكره " ستيفن سبيلبرغ " أو " ستانلي كوبرك " ستجد له عينا وأطراف وأحشاء توزيعها وتناسباتها " غير معقولة " . وهل هناك أي تكوين " خيالي " في ألف ليلة وليلة لم تكن مفرداته مشتقة من الواقع؟ . أما الثاني فإن إسلوب الكاتبة كان مشحونا بعاطفة شديدة الصدق والعدالة في عرض مفاسد شخوصها وهي منهم ورسم صورة تتكرر أمامنا " أخذتها من الواقع " جعلت مسألة قيام القاريء بالتفتيش عن " مرجعية " فعلية يقيس عليها أمرا لا مفر منه . إنها تقدم درسا غير مباشر مفاده أن ليس " أعذب الشعر أكذبه " أو بالعكس ولكن أعذب السرد أصدقه . كانت هذه الوقفة التي تكشف دناءة بعض المثقفين محسوبة كما قلنا، فهي ترسخ في أذهاننا لماذا لا تجد المواهب الجديدة الأصيلة – مثل موهبة نازك – فرصتها مادامت الساحة محكومة بلهاث مثل هؤلاء الذئاب – ذئاب الغريزة – أولا، وكيف تنطلق مواهب أنثى في وسط ذئبي مثل هذا دون أن يتعهر جسدها على أيديهم ثانيا، وهي تكشف السلوك المزدوج والمتناقض لأفراد هم مثقفون على الورق وبهيميون على أرض الواقع ثالثا، كما أنها تشكل نقلة تهيئنا نفسيا لاستقبال سلوك كاتب البلاد مع نازك في كمين غداء الظهيرة الحمراء كما حلّلناه سابقا . ويبدو أن هذه الجرعات السلوكية اللاأخلاقية ضرورية للقاريء كجرعات تمهيدية مرّة وصغيرة تعده لتجرّع حنظل جرعة الفساد الكبرى في الاستضافة الداعرة التي عادت نازك منها كخرقة بالية مهترئة من المهانة والإذلال ودوامة الضياع تجتاحها النقمة على الكاتب وسلوكه الشائن معها، قاطعة العهد على نفسها بأن تقاطعه وتحتقره فيما لو اتصل بها، لكنها – وبعد ثلاثة أيام، وبعد أن تصلها باقة اعتذار منه: نازك يا ابنتي، سامحيني إن استطعت – تنسى عهودها الحاسمة، وتغفر له محملة نفسها المسؤولية (الباديء أظلم) وتوافق على دعوة العشاء الجديدة مع أصدقائه والتي أشرنا إليها، لتعد نفسها من جديد " دون أن تقصد " لجولة من عذاب الذات المازوخي التي توغل في " تعهير الذات " من خلال التواطؤ المبرّر – بطريقة " مكيافيللية " ترى أن الغاية تبرّر الواسطة - . وهاهي – بعد موجة لعنات على الكاتب وعلى الذات وعلى الشهرة – تستقبله في بيتها وتعطيه الفصل الخامس من مخطوطة روايتها لكي يقرأه في رحلته الطارئة ملاحقة إياه بعينيها النفسيتين . في هذا الفصل والذي أشرنا إلى جوانب منه سابقا تتصاعد محنة نازك الشابة المدوّمة بعد أن أحبت – وهي المسيحية، زميلها في الكلية، الشاب " صفوان " المسلم . نعلن في كل مكان أننا أخوة ومواطنون في وطن واحد يجمعنا منذ آلاف السنين، ثم لا نستطيع الزواج من بعضنا البعض، فياله من وطن واحد يجمعنا فيه مصير واحد !! هل يمكن أن نلتحم في ساحات القتال الشاسعة و " هم " يحرمون التحامنا في سرير الزوجية الصغير . هل يمكن أن نحب بعضنا البعض جمعيا، و" هم " يحرمون علينا أن نحب بعضنا البعض فرديا . رسالة خطيرة هذه التي توجهها هيفاء بيطار إلينا . ولا أعتقد أن مبدعا عربيا – رجلا كان أو امرأة – قد تناول هذه المحنة الخطيرة المحظورة بمثل هذه السعة والاقتدار والجسارة . لقد أحبت صفوان بصدق حارق، وكانت تتسلل إلى شقته في الطابق السادس دون أن تبالي بنظرات الجيران التي تخترقها . كانت تحبه بلا حدود سوى صلابة حد أن الزواج مستحيل بينهما . هاهي تراوح بين أحكام أهلها ومشيئة حبّها، بين تعاليم دينها وتوجهات قلبها . كل شيء في حياتها صار يحكمه التشوش والاضطراب، ولا شيء مفهوما فيها . لماذا يكون أعز أصدقاء والديها من المسلمين ثم يحرم الزواج منهم؟ تتذكر أنها كانت ما تزال طفلة حين سألت أمها المفتونة بالمطرب عبد الحليم حافظ: - ماما، لو تقدم عبد الحليم حافظ لخطبتك قبل أبي، أما كنت توافقين؟ ضجّوا بالضحك .. قالت أمها بقناعة مطلقة: بالطبع لا، لأنه مسلم . - لكنك معجبة به كثيرا؟ - لكنه مسلم – ص 95 " . ماهو الحل؟ إنها تعلم بأنها بحاجة إلى عمل " بطولي " تخرق به هذا التابو .. وهذا العمل هي غير قادرة عليه في حين أنه في حقيقته الفرصة الذهبية لتطبيق كل التعاليم الدينية التي حشو رأسها بها . هذه هي فرصة " الفداء " التي لا تعوّض . ألا يحملوننا تعاليم الدين كي نطبقها؟ أم أننا جميعا كحمار يحمل أسفارا حسب الوصف القرآني الدقيق؟ أليس المفروض علينا تطبيق الأخلاقيات والمفاهيم والمباديء التي يلقنوننا إياها في الكنائس والمساجد؟ هذه رسالة خطيرة أخرى تقدمها الكاتبة تفضح فيها ازدواجية حياتنا المنافقة (كان والدها لا يمانع أبدا أن تلبس المايوه أمام عيون الناس وتسبح، لكنه يتمنى لها الموت إذا ارتبطت بمسلم) . لكنهم مسخوا إرادتها على الفعل تمهيدا لتعهيرها في صراع ترويضي لا يكل من الطفولة حتى الموت . ورحى هذا الصراع التعسفي تدور على ساحة روح غضة هي روح نازك التي عادت من لقائها الإعترافي مع الكاهن الشيخ الذي أمرها بالتوبة وبالاستغفار والركوع . ولم تعرف لماذا يكون الركوع وأن تلامس جبهتها المتخاذلة الأرض ضروريا للتكفير بحيث تكون مؤخرتها أعلى من مستوى رأسها (وهذه الوخزات التحرّشية البسيطة لها معانيها السيكلوجية الهائلة في الصراع بين المقدس والمدنس . وخزات توصل عبر تكرارها إلى التخدير واستقبال جرعات الكفران المرّة . هذا ماتقوم به هيفاء بيطار . لقد قصُت نازك على الأطفال الفقراء العراة الممصوصين معجزات المخلّص وهو يكثّر السمك .. فتساءل طفل لماذا لا تتكرر هذه العجائب، فاحتارت . يذكّرني هذا بمكر أدونيس في كتابه: " المحيط الأسود " حين قال: سألني طفل: هل يحلق الملاك شاربيه؟ فوجئت ولم أعرف أن أجيبه . غير أنني وعدته بأن أستفتي العارفين وأنقل إليه جوابهم " . عادت نازك وقد " اقتنعت " – وهي المسيحية بضرورة هجران حبيبها المسلم " صفوان " الذي كان غارقا في حبها حتى أذني روحه والذي التحم بها جسديا وروحيا وكان يعد للزواج منها . وهي التي أحبته رغم حاجز الدين الحديدي المخيف الذي ينتصب بينهما، صار المطلوب منها الآن نسيانه ونبذه كأي شيء نبيذ مخصص للإستعمال الواحد، صارعت نفسها ليال مضنية عديدة فلم تستطع أن تقنع نفسها بوصفة الكاهن لأن الله لا يمكن أن يكون قاسيا على هذه الصورة (في الثاني من كانون الثاني 2005 تناقلت القنوات الفضائية نبأ تخلّي رئيس أساقفة كانتربري وهو الدكتور " روان ويليمز " عن الإيمان بالله بعد إعصار تسونامي المدمّر قائلا: - المسألة هي: كيف بمقدورك أن تؤمن بإله يسمح بمعاناة على هذا النطاق؟ مضيفا أن الصلاة لا تقدّم حلولا سحرية " . وكان " هاينه "، شاعر ألمانيا العظيم شديد التجديف، وحين كان أصحابه يلومونه ويخوّفونه من ردة فعل الإله كان يقول: إن من واجبه الغفران) . لكن إله نازك كان شديد القسوة، كان بلا قلب وهو الرؤوف العطوف، ولا يظنن أحد أنه الإله – الأب الحاني الحامي المنعم، إنه الوجه الخاصي من العملة الأبوية الذي يصعده الأبناء الذكور المعصوبون إلى السماوات القصية، القصية إلى حد أنه لا يستطيع رؤية عذابات الأبناء المحاصرين المعذبين بوضوح ولا سماع نداءات أرواحهم المحطمة بدقة، فلا يستطيع إيقاف مسيرة التعهير التي تنتقل رايتها السوداء من جيل إلى جيل، والتي لن تكون نازك آخر ضحاياها . نازك التي " لم تكن تعرف أنها من حيث لا تدري ستبدأ بتعهير نفسها، ومحاولة خلق إنسانة جديدة انتهازية تلعب على الحبلين، تحب المسلم وتستمتع بحبه، لكنها في أعماقها تعرف أنها لن تتزوجه، تحوّل الحبيب إلى عشيق عابر، وفي الوقت نفسه تنمي في ذاتها القدرة على قبول الزواج الذي يحلمان به لها من ثري مسيحي، لكنها لم تقدر أن تمنع موجات غثيان حادة من الطفو على سطح روحها، إنها في العمق تحتقر نفسها وما ستؤول إليه – ص 100 " . وفي خلجة مقاومة أخيرة قبل السقوط النهائي الكارثي، تلقي نازك بكتاب الصلوات وتعليمات الكاهن ونواهي أبويها خلف ظهرها، تقرر اقتراف " الخطيئة " الجميلة مع صفوان للمرة الأخيرة . ولكن حتى هناك يلاحقها الرمز الأبوي القمعي .. فقد لاحقها شبح الكاهن إلى شقة حبيبها وهاهو يجلس على الكرسي الهزّاز يرمقهما وهما متعانقان، فتنتفض من السرير لتخرج الكرسي من الغرفة .. لكن شبح القمع يتناسل وترتسم صورته على حمالة الثياب الطولانية .. ثم نصل أشد المراحل قسوة وإرهابا حين تدفن وجهها في صدر صفوان لتمحو صورة الكاهن، فترتسم صورته على جلد صدر حبيبها الأسمر . بمثل هذا الحصار المميت هل هو ممثل للرحمن أم للشيطان؟ . لقد قلبت الكاتبة الحالة المريرة السابقة التي صورتها لوحة " فيليسيان روبس " حيث ينبجس المكبوت المحرم من أحشاء السلطة الكابتة نفسها، إلى حالة عجيبة مدمّرة حيث ينبجس الكابت المعاقب من المكبوت المهدد فيسد حتى المسرّات الصغيرة . هنا تصبح حياة المرء كلها عبارة عن جرعة هائلة من السم تؤخذ ثلاث مرات يوميا مدى الحياة . هكذا سمموا حياة نازك إلى الأبد، وهم وتحت أغطية مقرّة اجتماعيا، يفصلونها عن حبيبها الذي بذل المستحيل لاستيعاب صدمة الانفصال غير المقنعة بالنسبة له أبدا فكان آخر ماوصفها به بعد أن سافر إلى أمريكا قبل أن يغلق السماعة هو: - أنت قحبة .. وهو وصف دقيق رغم مرارته وبذائته . فالقحبة – وهذه " نظرية " نازك نفسها هي التي تستبدل بعلاقة الروح علاقة اللحم . هاهم الأهل يخطون الخطوة " المباركة " الحاسمة في تعهير ابنتهم حين وجدو لها طبيبا ثريا ليتزوجها بصورة مطابقة لأوامر دينهم ويأخذها معه إلى باريس – مدينة الحرية، في صفقة زواج تختلف عن الدعارة في حضور الماذون وجماعة الزفّة، أي أنه دعارة بالإشهار العلني . وتأتي اللطمة المنافقة التي وجهها نفس الأهل الإنتهازيين لتهشم القيم الدينية نفسها التي حطموا بها حيلة نازك من خلال القيام بالسلوك الكافر المناقض، فقد تزوجت ابنة عمها من أخ وزير مسلم ولم يقاطعها أحد، وهبّوا جميعا ليباركوا زواجها فقد صاروا أقرباء وزير، وقد سافر أخوها بمعاونة الوزير في بعثة إلى أمريكا بعد شهرين من زواج ابنة عمها من أخ الوزير . ولا أدري لماذا أشعر أن هناك شيئا من الظلم يقع على المومس المسكينة التي تقدم لك المتعة مقابل ثمن، وبعض المومسات يتسامين في دورهن إلى نوع من عطاء الأمومة وهو الذي وصف بـ " المومس الفاضلة " حسب وصف سارتر الأعور . والزوجة الشرقية لا تحصل حتى على ما يوازي عدد ونوع المتعة التي تمنحها لزوجها . ولكننا في صفقة زواج نازك نقف أمام حالة غريبة، فقد عادت إلى " عش " الزوجية في باريس لظرف طاريء ذات يوم لتجد زوجها عاريا مع امرأة فرنسية هي " إيزابيل " التي ظهر لاحقا أنه على علاقة بها منذ خمس سنوات وأنه يحبها لكنه تركها لأن أباه هدّده بحرمانه من الميراث – على طريقة المرحوم زكي رستم - . وحين تشتعل أعصاب نازك المغدورة وتبدأ بشتم زوجها على خيانته تتكشف أمامنا حقيقة تعهير أشد قسوة حيث يعلن الزوج بكل صراحة بأنه يعلم بعلاقتها بصفوان وكيف كانت تزوره متنكرة بعد اشتداد الرقابة ,وأنها أجرت عملية ترقيع لأعادة عذريتها المفقودة قبل الزواج به !! . فإذا كانت نازك قد تحولت إلى مومس شرعيا فإن ماهر – زوجها قد أصبح قوادا بصورة شرعية أيضا . هكذا تكتمل دائرة التعهير وتنغلق على نفسها بإحكام حديدي يتأسس الآن ليس على التحريم ولكن على " العيب " حيث يتفق الطرفان – الغادر والمغدور – على تأجيل الطلاق لأنهما ما زالا في شهر العسل وأن الناس سيؤولون طلاقهما بألف شك وسبب و" في الشرق العربي الزنا مشكلة إذا لم يستتر، والشرق يخشى الفضيحة ولا يخاف المعصية " هذه المقولة العالقة في ذهن نازك من قراءة قديمة والتي استعادتها الآن لأنها تنطبق على وضعها بحق . لكن الكاتبة التي تحب أبطالها جميعا – حتى كاتب البلاد الفاجر – لأنها خالقتهم، وعلى الخالق أن يوزّع فيوض المحبة بالتساوي على جميع مخلوقاته حتى الأشرار منهم، وقد عزز هذا الموقف موروثها الديني المتسامح – وهي الباحثة عن الجمال، جمال روح الإنسان وسط قبح الفجيعة،، تنظر إلى الإثنين: نازك وماهر كمغدورين منكسرين، كضحيتين لمؤسسة جبّارة أشد بطشا وإرهابا ووحشية، إنها مؤسسة التعهير الاجتماعي المتحدة . وهي من أقدم المؤسسات في الحياة العربية . مات جسد نازك بعد أن تعهر، ثم ماتت روحها بعد أن تعهرت، لتموت كلّها وتتحول إلى روبوت وظائفي ذي فتحات تستقبل وتلفظ .. صار همها ليس معالجة المحنة وحلها بل الإبقاء عليها لأنها لا تستطيع تخيّل المهانة التي ستلحق بوالديها إذا طلقت وعلموا بعملية ترقيع العذرية . حالها اليائس الآن يشبه حال الذئب الذي تطبق على ساقه فكا الفخ الحديدي المسننتين، والذي يحاول الإفلات، لكن حين تفشل محاولاته المتكررة يجلس منتظرا بيأس لحظة وصول الصياد للإجهاز عليه . ضاعت ... ضيعّوها . استجابت لحضور شاب تونسي جميل اسمه " كمون " ومنحته نفسها لأنها لا تعرف لماذا لا تمنحه نفسها وكانت مستعدة أن تفعل ذلك مع الفرنسي " هيوم " الذي مزقت الورقة التي تحمل رقم هاتفه ثم ندمت .. من أجل من لا تمنح نفسها؟ .. كيف لا تتمزق روح الناقد؟ .. ويتحدثون عن الناقد الموضوعي المبني من الطابوق .. أين هو هذا الناقد الموضوعي البنيوي .. الناقد إذا صار موضوعيا أولا فهو من طابوق أولا .. الناقد الإنسان هو ذاتي أولا ثم موضوعي ثانيا .. وإذا أراد أن يكون مفرط الموضوعية، فعليه أن يكون ذاتيا أولا وذاتيا ثانيا ثم موضوعيا ثالثا .. أصيب النقاد الأوربيون بالإحراج من تهديدات العلم الكاسحة الخاصية فانبروا يقعّدون الإبداع على قوانين ومعادلات ورموز وإحصائيات .. ووضعوا أسسا للناقد الموضوعي تجعله " علما " .. ما تعيشه نازك ليس الضياع الذي نعرفه، إنها حالة " ما بعد الضياع " .. حالة لا تعرّف من الألم .. من ما بعد الألم الذي لا يؤلم .. حالة تسكّنها باللعب اللغوي الباهر المعبر عن المركبات السادومازوخية مثل: اليأس الجميل، الاختناق الأنيق، الغياب الجميل، الذل اللطيف . هذه المركبات التي تختصرها عبارة دستويفسكي المعروفة: " جاء الحل كأفضل ما يكون: القبلة والطعنة سويا، وهو أكثر الحلول منطقية " . عجزت كل المنشطات الجسدية وحقن العلاقات العابرة عن إنعاش روحها أو التخفيف من وطأة فاجعتها .. فقط الكتابة كانت تعالج جراحها لوجه الله .. جعلتها المحنة شاعرة .. يذكرني هذا ببيت شعر لشاعر عامي عراقي أمّي يقول فيه ما معناه أنني لم أكن، من قبل، شاعرا، لكن العشق هزني بكل قواه فجعلني شاعرا . لكن شتان بين الحالين .. شتان بين أن يهزّك الغرام ويجعلك شاعرا ولم تكن من قبل شاعرا وهو شيء عظيم، وبين أن تلوك كيانك المحنة وتطحنه ثم تهرسه لتلفظك شاعرا .. شتان .. شتان .. لكن حسنا اختارت نازك الأصل، الحكاية مثل جدّتها شهرزاد ولم تختر الشعر لأن قصائد النثر التي كتبتها لا تصل مستوى المهارات الحكائية لديها . ويبدو أن الكتابة تعدها لاستكمال شروط كتابة أخرى أعظم كمالا وأشد فعلا في الوجود: وجودها الشخصي من ناحية رسوخه ووثوقه، والوجود العام من ناحية تجاوزه والترفّع عليه . كانت الخطوة التمهيدية الأولى أن تشعر أن الحياة تستحق أن تُعاش (ما أوسع الدنيا وما أضيق الذات خاصة حين تلتف حول قضية واحدة شديدة الخصوصية، ملّت من آلام روحها، فليذهبوا جميعا إلى الجحيم)، وأن تعود إلى كتابة " الرسائل " – اليد تكتب بمختلف الطرق، حتى استمنائها كان كتابة بشكل ما - وأن تمزق أغطية الافتعال والتمثيل ولعب الأدوار التي يفرضها العيب والناموس، الأدوار المخاتلة التي أنستها ذاتها " الطبيعية ": " أن تعود إلى انتمائها الأصلي، إلى الأرض، إلى الطبيعة الأصل غير المزيفة كالبشر، الراسخة والنقية، إنها بحاجة أن تضرب جذورها في الأرض وترفع عيونها إلى السماء، هكذا ستجد نفسها، هنا ستتعلم الدروس الأولى في التعامل مع الحياة . وهنا عليها أن تتعرف إلى نفسها . الطبيعة، وليس الأهل، ستجعلها تتعرف إلى ذاتها الحقيقية – ص 120 " . " كانت الطبيعة عزاءها الوحيد في اختناق روحها وحيرتها – ص 142 " . لا يفهم الأنثى سوى أنثى أم صموت . عادت إلى مشيتها الواثقة تضرب الأرض بقدميها بعد أن كانت تمشي بخطوات لص تلاحقه نظرات شرطي العار .. عادت تستمع لتعليقات الشباب .. كان يحلوا لها أن تتخيل نفسها " رومي شنايدر " .. لإعجابها الشديد بتلك الممثلة .. وقد تعتقد نازك أن هذا الإعجاب أمر عفوي .. كل شيء يتحرك وفق حتمية لاشعورية – القدر الذي تتساءل عن كنهه نازك كثيرا وعن أن لم يكن السبب في خراب حياتها - .. رومي شنايدر الساحرة، الفرنسية ألمانية الأصل، فوق أنها عانت من الخيانة مع زوجها " ألن ديلون " وقُتل سائقها تحت شبهات معقدة، فإنها " انتحرت " بالإدمان بعد موت ولدها الجميل الوحيد عندما سقط واخترق قضيب حديدي جمجمته – سنرى معنى ذلك لاحقا - . عادت .. نعم عادت نازك تتكيء على جراحها .. عادت لتكتب روايتها العظيمة التي لا يستطيع كتابتها حتى إله من الذكور الطاووسيين .. لقد بدأت بطنها تنتفخ .. هذا هو الله . . وهذه هي الرواية العظيمة في تاريخ البشرية .. لا ذكور ولا سفالات ولا خيانات: " ما أشبه الرجال بذكور النحل، هذا ما قالته لنفسها وهي تتحسس بحنان نبض الحياة في بطنها – كنت أتمنى أن تتحول الكاتبة إلى ضمير الأنا هنا، الناقد -، ليس هناك أسعد ولا أكثر توازنا من امرأة حامل . هذا الجنين الذي ينمو في رحمها يعيد تشكيل روحها التي عفرتها الأحزان، ولوّثتها الخيانة بدنس ظل يرافقها كغثيان لا تعرف كيف تعالجه . إنها تشارك الكون في سمفونية الخلق الخالدة . تحس بنبض مختلف في أحشائها . إنه ابنها الذي بتشكل من وهج روحها، ويتشرب نسغها، وينمو في جنان حبّها، كانت تفكّر بطفلها كأنه يعنيها وحدها، ظلّ زوجها مهمّشا وبعيدا، ظل من لحم ودم، ولم تخرج علاقتها معه من إطار الالتزام الزوجي . وفي كل مرة كانت تشعر أنها تهبه جسدا ميتا، أما روحها فكانت تشرد في فضاءات بعيدة لا تزال مبهمة، ثم تغرق في نوم ثقيل مغيّبة هذا الرجل من أحاسيسها وأفكارها . إنه لا يشاركها فرحة انتظار الطفل – ص 150و151 " . لا أعتقد أن كاتبة استطاعت – وهذا اختصاص أنثوي – أن تصوّر المشاعر التي تكتسح المرأة التي تكتشف أنها حامل في تاريخ الكتابة وتصف التحولات النفسية والسلوكية والاجتماعية والوجودية والكونية مثل هذه الكاتبة: " إنه طفلها الذي يعيد إليها الفرح الخام، الذي نسيته، غابت كل الوجوه، وما عادت توجعها الذكريات، طفلها سيكون رجلها الحقيقي الوحيد . خرجت من عيادة طبيبة النسائية تلجم خطواتها المتقافزة سعادة، إنها تريد أن تشتري كل الألعاب، وألبسة الأطفال . داهمتها حمى الشراء لدرجة أنها اشترت فرشاة أسنان للأطفال، لها شكل تمساح صغير، ولأول مرة تغسلها دموعها، ويكون لها فعل شاف، جلست على مقعد خشبي في حديقة قرب منزلها كوّمت الأغراض في حضنها وبكت بغزارة لم تعرفها من قبل، لكن دموعها الآن مختلفة، فهي لم تعد منكسرة ومهزومة، دموعها هي السائل السحري الذي ينزلق على جروح روحها فيشفيها . إنها تبكي لأنها تعي بكل حواسها ذلك النسغ الجديد الذي يترشح في ملامحها .. إنها أم، تحس أنها راسخة كالأرض ومطلقة كالسماء، إنها تعبد هذا المخلص الصغير الذي ينمو في أحشائها وستكون أما رائعة . لن يعرف حبها له فتورا ولا خيانة ولا جفاء – ص 151 " . " لا تتحقق شخصية المرأة تماما إذا لم تصبح أما "، حكمة نفسية يفسدها " فرويد " بالقول أن المرأة من خلال الحصول على الطفل، تظفر بالقضيب الذي كان ينقصها ويشعرها بالدونية تجاه الرجل، القضيب الذي انتظرت طويلا أن يمنحها إياه الأب . لكنني أرى – فوق هذا العامل – أن المرأة حين تحمل تمتلك مشاعر إله . فقط قبل قرنين – بعد اختراع المجهر – تأكد البشر أن تلقيح بويضة المرأة ينتج عن " حيمن " ذكري يسبح وله رأس يخترقها ليكمل كروموسوماتها - . قبل ذلك ولآلاف السنين كانت المدة الزمنية التي تفصل بين ليلة الزفاف – أو المواقعة الحرة في الوقت الحاضر – وبين انتفاخ بطن الأنثى وظهور أعراض الحمل عليها، والتي تمتد لشهور، قد جعلت البشر يعتقدون أن لا علاقة مباشرة للحمل بالرجل .. الرجل زائدة جنسية كمالية .. وأن المرأة تخلق .. في الواقع هي المخلّصة . و" مخلّصها " الصغير هو هي .. روحها التي تلبي النداء .. جاء المخلّص " حبيب " – وانتبه إلى رمزية الاسم وكذلك إلى رمزية اسم الأم البطلة " نازك " – ليكون هو الحبيب النهائي والأخير الذي يعصمها من العثرات وهو في الواقع الحبيب الأول . يشكو الكثير من الأزواج من تناقص شهية زوجاتهم الجنسية بعد الولادة – البعض يجد ذلك عذرا للخيانة - .. لنسمع نازك تتحدث عن وليدها – مخلّصها وسنفهم الأبعاد الحقيقية لهذه الشكوى: " الزوج كان غائبا من احتفال حبها . إنه الوسيط في عملية الخلق – سلب الاستنساخ الوراثي هذا الامتياز من الذكر، تلقح الأنثى الآن بخزعة جلد من ثديها، الناقد – ذكر النحل الذي يموت بعد إلقاح الملكة، صحيح أنها غدت أكثر رقة ولطفا مع زوجها، لكنها لا تستطيع أن تخدع نفسها .. ظلّت تغيّب زوجها كرجل وكإنسان . إنه يعيش في الضواحي القصية من حياتها . إنه ديكور حياتها . لكنه لا يقترب أبدا من العصب الأساسي لوجودها، فهي والطفل مترابطان بحبل سرّي أبدي .. أنستها الأمومة المتدفقة كونها أنثى . لم يعد للجنس أي إغراء لديها . نسيته كأنها لم تتورط في لهيب عواطفه فيما مضى . اكتشفت في روحها ميلا للعفة ولم تستسيغ على الإطلاق أن تتعرى بين ذراعي الرجل الذي يسمى زوجها . إنها لا تشعر بأي ميل نحوه، ولا نحو جنس الرجال . تساءلت: كيف يمكن لامرأة يمتليء نهداها بالحليب أن ترغب برجل؟ في سرّها تمنت لو يجد زوجها عشيقات عابرات لترتاح من إلحاح غريزته التي صار يمارسها بصفة أقوى الآن . كونه أبا الطفل الذي تعبده . إنها تسمح له أن يقربها بين وقت وآخر إرضاء للصغير كأنها تهمس لوحيدها: لأنه أبوك فقط أسمح له أن يلمسني . أتقدر حبّي لك يا حبيبي الوحيد؟ - ص 154و155 " . ثم تشرع في تصوير تفصيلات مضنية ترصد فيها تطور طفلها ومنتجاته السلوكية " السخيفة " وتحولاته العضوية، وكيف تسجلها لحظة بلحظة، وزقزقة زقزقة، ورضعة رضعة . حتى الآلهة ليست لها مثل هذه الدقة والحرص في متابعة تطور مخلوقاتها .. بالعكس، الآلهة تسهو في أحيان كثيرة فتحصد الأعاصير والحروب الملايين من أبنائها دون أن تنهض من نومها . لكن .. يا لهذه الـ " لكن " التي تكون أحيانا وقفة استدراك كارثي . يقولون: إحمد الله إذا جاءت المصيبة لوحدها، لأنها تأتي دائما ومعها أولادها وأولاد إخوتها وأولاد أخواتها . هكذا تتعامل الحياة – القدر – والقدر وجه الله المتجبر – المصير المرسوم على لوح اللاشعور . فبعد مصائب نازك المتلاحقة جاءتها الآن المصيبة القاضية الطبية، وهذا هو حبيب – حبيبها الأوحد والأخير، الكتلة اللحمية الغضة الصغيرة التي شكلتها من روحها، ملقى في وحدة العناية المركزية تخترق جسده المحبب الأنابيب الطبية لتي لا تعرف الرحمة . لقد طرحه التهاب السحايا الدماغية الخطير الذي قلّما ينجو منه أحد وغاب فاقدا الوعي تماما . (لاحظ أن نازك والأطباء والروائية وهي طبيبة حسبما قرأت في السيرة المثبتة في نهاية الرواية لا يعلمون ما هو السبب، لكن نازك ومن شدة التغير الإنساني العطوف الذي اجتاح كيانها بعد الحمل جاءت بقطة عرجاء إلى البيت، ومن مصادر الإصابة بالتهاب السحايا الدماغية لدى الأطفال هو الحيوانات الأليفة، وقد يكون هذا شكل من أشكال تدمير الذات اللاشعوري بفعل الشعور بالإثم) . لكن من الذي يخطط لمثل هذه الإصابات المحكمة التي تنشب سهامها في لب سويداء الروح؟ هذه مقدرة إله قاس وشديد المهارة في اختيار مواطن العذاب .. تنهار نازك .. وتبرع الكاتبة الفذة في تصوير انهيارها الكاسر، وتهاوي أركان وجودها مثلما تنسف الناطحات الضخمة بالديناميت بطرقة هندسية ذكية تقوضها على حدودها .. تقوضت على قدر " روحها " بلا زيادة أو نقصان .. هكذا يأتي العذاب الإلهي رشيقا ومفصّلا على قدر جسد وجودك .. ولو صور مخرج هوليوودي مشهدا لأم مثكولة بابنها الداخل في غيبوبة عميقة ولا رجعة منها بسبب إلتهاب السحايا، ويُلبسها الأطباء قناعا كي لا تلتقط العدوى المميتة من وليدها المريض، ثم غافلت هذه الامرأة الأطباء ونزعت القناع بطرفة عين وانهالت على قدمي وليدها المحتضر الرقيقتين تقبيلا وهي تعوي من الألم، أما كان ممكنا أن تعد هذه اللقطة واحدة من بين أفضل مائة لقطة في تاريخ السينما . لن تقترب منها سوى اللحظة التي اكتشفت فيها الممثلة " دايان كيتون " أن طفلها الساكن في المهد والذي حبلت به من حبيبها وليس زوجها كان ميتا . هذا في فيلم " طفل تحت الورقة " . مات " حبيب " رضيع نازك - ولم يتعد الشهور الستة من عمره – نازك المثكولة أبدا – ثكلت منذ أن كانت طفلة عندما فصلتها معلمة الصف الأول الابتدائي عن صديقها " سعد " المصاب بالربو لأنها يجب أن تلقن أناشيد المسيحية بعيدا عن المسلمين – ثم ثكلت بحبيبها الأول فالثاني فالثالث .. مات وليدها " حبيب " – وفي الواقع خُطف ولم يمت – هؤلاء هم الضحايا الذين لم يتغن بهم أحد . وفي الصفحات الأربع التي سطرتها الكاتبة تحت عنوان: " ما كتبته نازك بعد وفاة صغيرها " يكمن الجواب الشافي الكافي . لو لم تكتب هيفاء بيطار غير هذه الصفحات الأربع لكان يمكنها أن توضع قطعتها هذه في مصاف القطع الفنية المشهدية التي لا تتكرّر . وأقول المشهدية حيث أتذكر مثلا: مشهد الجواهري في مغازلات الضفادع على شواطيء دجلة، مشهد المومس التي تحن إلى مبغاها القديم بعد زواجها كبلبل أطعم فلفلا كما يقول محمد خضير، مشهد " منيرة " بطلة الرجع البعيد وهي تريد الانتحار بعلبة حبوب الفاليوم فوق السطح لدى فؤاد التكرلي، مشهد إيما بوفاري حين تفكر بالانتحار فيصعد إليها الرصيف وفي احتضارها وهي تسمع العازف الأعمى في الشارع لفلوبير، ومشهد نازك هيفاء البيطار وهي " تحتضر " بعد اختطاف وليدها " حبيب " من قبل أخّاذ الأرواح، ملك الموت: " أنت لم تمت . أنا التي تشبع موتا كل لحظة . لم يروك حيا ولا ميتا يا طفلي الحبيب . يعرفونك من صورك فقط التي تزين صالوناتهم . لن تتلقى الهدايا التي أعدوها لك . ولن تتمكن أن تناديهم: تاتا .. جدو . لكن لماذا خرّبت تلك الجراثيم اللعينة دماغك؟ وأنت لم تستطع المقاومة . أتذكر كم أنك رقيق ومسالم لدرجة لا تقاوم فيض قبلاتي التي تستهدف خدودك الطرية . سحبوا الأنابيب الداخلة والخارجة منك، سحبوا المفجر من رأسك وسلموك لأمك جثة . أنت لا تعرف ماذا يعني أن تحمل أم جثة طفلها . أتعرف وددت لو أشق صدري بضربة سكين وأرمي رئتي الإسفنج خارجا، والقلب المنخور بالحب، وأسكنك سجن أضلاعي لنتعفن معا، ونورق معا، ونزهر معا، شجرة حب خالدة بين أم وطفلها . تذكرت حبلك السري، رأيتهم كيف قطعوه، وكيف لقطوا طرفه قرب سرتك بملقط . أتعرف: لحظتها غمزتك . قلت لك وأنا أسمع صراخك الأول: لا تزعل .. هذا مجرد حبل ليفي، الحبل السري بيننا أوسع من الدنيا كلها، فلا تعتقد أنك انفصلت عن أمك . فهمت رسالتي لأنك سكت فورا . وضعوك قليلا على بطني معتقدين أنهم بذلك يدخلون الطمأنينة إلى روحك المفصولة عن الحب الكوني . أجل يا حبيب، داخل صدري يكمن الحب الكوني، وفي رحمي يتكون الخلق . أنا أبدعتك يا حبيب – ص 163 " " كسرت جهاز الهاتف حين اتصلوا بي ليقولوا لي: احملي مجددا وستعوضّين بطفل ينسيك طفلك الذي مات . السفلة لا يعرفون أنني حملت من رجل أحتقره، لا يجمعني به سوى الغش، لذلك آثرت أنت النقي كالضوء أن تغادرنا . سأحكي لهم كل شيء يا حبيب، الألم يحرّر من الخوف ... أين تهيم روحك الآن؟ هل تراني يا حبيب؟ هل أنت ذلك العصفور الصغير الذي يحط أحيانا على النافذة، نافذة غرفتي في قسم الأمراض العصبية؟ . أنا لا أحترمهم لأنه يتعاملون مع آلامي كما يتعاملون مع دمّلة لم يحن وقت شقها وتفريغها من القيح . ألمي عليك يأخذ شكل كرات صغيرة حمراء متراصة، إنه دمي، دمي هو ألمي، وألمي هو دمي . الموت ياحبيب هو تحقيق للحب العظيم .. سأكتب آلامي كلها لأتطهر، لأصير لائقة باحتضانك حين تجمعني بك هوّة الموت، لنصعد منها إلى أبدية الحب – ص 166 " . ومن الناحية النفسية فإن هذه القطعة علاجية يمكن أن توصف لأي أم مثكولة . ولا أعلم لماذا لم تكن نازك الروائية قادرة على تصديق صديقها – صديق والدها – (الرمز) حين قال لها أنه بكى حين قرأ روايتها . ولكن حين تتحدث نازك عن أوردة طفلها الرقيقة التي غطتها كدمات التأبير .. والجانب الحليق من فروة رأسه المرضوض بسبب جرح المفجر .. وعن دفنه واستمرار شعورها بضرورة إعداد وجبة السميد مع الحليب وكيف يجب أن يقول أح أح أح ... لتسأله أخيرا: حبيب أسألك وحدك يا صغيري: ما الحكمة في أن تموت؟ فأنا مضطر أن أعود إلى السؤال الآن: ما جدوى البحث عن القبح في النقد؟ في الفصل الختامي تعود نازك الروائية بعد أن أعجب كاتب البلاد بالفصل الذي قرأه من روايتها إلى السلوك المتضاد المتناقض: سلوك التعهير، تعهير الذات، لكن هذه المرّة تقدم لنا العودة إشارات شديدة الإحالة إلى بنية تلويث لاشعورية قائمة في ذاتها مبعثها تلويث الإنموذج الأبوي الذي لا يتحقق دون تعهير ذات الإبنة فركضت إلى بيروت للقاء بالناشر السافل الذي لقبته بـ " القناص " – الأكثر سفالة من الكاتب – والذي تسلم راية الفجور الحمراء من الأخير، والذي يكبرها، مثل الكاتب، بأكثر من ربع قرن . لكن الآن في غرفة استأجرها لها في أرقى فنادق بيروت .. تصوّر ناشرا يستأجر غرفة حمراء لكاتبة ناشئة وفاتنة ويهديها ساعة سويسرية غالية جدا ..ويحاول الإعتداء عليها وهي حاولت وناولت وداورت وناورت .. إلخ .. وإلخ .. وتعيشون وتسلمون .. لماذا أجهضت هيفاء النهاية الدرامية العظيمة؟ كنت أتمنى أن تصمّم الكاتبة إخراجا دراميا آخر بحيث تصبح النهاية السوداء عند فاجعة موت حبيبها " حبيب " التي أدمت قلوبنا هي الخاتمة – تحيدا القسم المعنون بـ " ما كتبته نازك بعد وفاة صغيرها " ففيها وصلت شهقة الروح المكلومة ذروتها القصوى، ولا عذر لمن يحبس دموع التعاطف والمشاركة والتطهير . فلا تبرد ملحمة الأحزان والثكل في برودة الخمريات والتواطؤات التي تكرّر سيناريو ما حصل في الظهيرة الحمراء مع كاتب البلاد . إن من أروع ما قدمته هيفاء في روايتها هذه هو إدراكها الحاسم لأهمية ما أسميته في دراسات سابقة: " الفسح التأملية " أو " الوقفات الفلسفية " في الفن الروائي . هذه الفسح والوقفات هي عصب وجود الرواية الحديثة وهي التي ميّزتها من الرواية القديمة . في سيدة الحكايات كان هناك حكي لواقعة تتسلسل، طبعا هذا لا يعني أن ليس فيها معان وموقف من الحياة والوجود – لكن هذا التسلسل لا تتخلله فسح تأملية تنتقل من الموقف اليومي الحدثي العابر الذي يهم الفرد المعني في الرواية إلى المعضلة الوجودية المأزقية الثابتة التي تثير في نفس المتلقي ما هو أبعد من التساؤلات الهامشية فتدخلها في أتون التساؤلات الجوهرية التي لا جواب لها، لكن الأهم هو أن نجعل القاريء يلتفت نحو الداخل .. الداخل الموجع الذي يتغاضى عبثا ليتملص من مخالب المثكل متبعا سلوك النعامة الحكيمة . بغير ذلك تظل الرواية وقائع تتقطر سلسلتها مثلما كانت الحوادث تنطلق من فم الحجواتي أو " القصّخون – راوي حكايات المقهى الشعبي: تتعرض نازك لإهانة من مديرتها وبدلا من أن ترد عليها تجد نفسها تقدم لها هدية وهي ابتسامة الإنخذال والامتنان المهادن التي تدربت عليها طويلا بفعل المهانة والإنذلال الاجتماعيين . هذا حدث مبتذل يحصل كل يوم، لكن كيف ننقله إلى خانة المحنة الوجودية الأشمل والأشد والتي تبقي لها تأريخا، وبغيره تظل حكاية . تحوّل نازك إهانة المديرة إلى وقفة تأملية واسعه الأبعاد فتقول سارحة في أعماق مهانتها: " فكرت أن أهم شعور يميز الإنسان، ومن دونه يكون مسخا هو الإحساس بكرامته الشخصية وبأنه محصّن ضد الإهانات . كنت ضحية شعورين متناقضين في آن: أولهما أنني لا أساوي شيئا، وثانيهما أنني أمتلك موهبة كامنة في أعماقي كدرّة لا تقدر بثمن . وكنت أستطيع أن أعيش الشعورين في وقت واحد، وكان الزهو الذي يولده إحساسي بموهبتي يتأبط إحساسي بعدميتي وتهميشي في مجتمعي . كنت مجرد موظفة، عملي في الواقع هو البطالة الأبدية، وراتبي حقير، وحياتي الاجتماعية مقفرة لسبب رئيسي هو شح الراتب الذي كان يضطرني أن أبقى في حالة شلل . لكن رغبتي بالكتابة كانت تطفو فوق شخصيتي ... إلى آخر المقطع الذي اقتبسناه سابقا (راجع الصفحات 23و24 و25 من الرواية) . هكذا ننتقل من حدث يومي مبتذل إلى مراجعة الكرامة الانسانية وشروطها وعملية الخلق كوسيلة للسيطرة على الاغتراب والتهميش الذي يسحق الفرد وشروط العملية الإبداعية الملغزة، قوة الإلهام، شروطه الداخلية، عملية التخمّر الإبداعي، السيطرة على قطرة الزئبق اللغوية .. وغيرها . وتستمر الكاتبة في سياحة التأمل هذه التي بدأت على الأرض مع المديرة متصاعدة مع فكرة الحياة والخلق شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى السماء لتستنتج: " كنت أقتنع كلما أمعنت في الكتابة معتصرة روحي أن الصمت هو أكثر بلاغة من كل الكلمات، وأن الله حين خلق الكون كان صامتا " . وحينما تعطي الفصل الخامس من مخطوطة روايتها للكاتب وتتساءل إذا كان سيعرف أنها تتحدث عن نفسها هي، تأخذنا إلى الحديث عن الذاكرة البشرية وصلتها بالزمن وفعلها الانتقائي الذي يفرضه الصراع بين الشعور واللاشعور والنظرة الفائقة للكيفية التي تصبح فيها ما لنفسها حين تكتب سيرتها: " للذاكرة عالمها الخاص . أحسها تلعب في حياة الإنسان ما يقوم به الاصطفاء الطبيعي بالنسبة للأحياء . لقد اجتهدت أن أكتب بنزاهة الفصل الخامس من روايتي التي لا تزال ضبابية . كتبت عن نفسي، وبيني وبين تلك الفتاة التي كنتها حوالي عشرين سنة . لا أعرف إلى أي حدّ محت ذاكرتي حوادث، ورفعت من شأن حوادث أخرى، لكنها بالنتيجة أنشأت عالمها الخاص الذي سجلته لي تلافيف دماغي . رؤيتي للأحداث بعد عشرين سنة من وقوعها يختلف كثيرا عن رؤيتي لها حين كنت أعيشها . ترى ما الذي يربط تلك الفتاة الرومانسية في العشرين من عمرها – التي كنتها – بتلك المرأة التي تحاول باصرار عنيد أن تكون كاتبة (...) حين كتبت هذه الأوراق أحسست بأمان، ربما أمان زائف، وأحسست بسعادة كبيرة . شعرت أنني أمسح برفق على رأس تلك الفتاة العشرينية التي كنتها، جميل أن أصير أما لنفسي، وبعد سنوات أغدو جدة أيضا – ص 78 " . إن هذا هو ما أدخله " مرسيل بروست " صاحب البحث عن الزمن الضائع، في فن الرواية، وخذ على سبيل المثال تداعياته منطلقا من كعكته الشهيرة . والكاتبة عن هذا الطريق تنقلنا من الفردي إلى الجمعي ومن اليومي العابر إلى الوجودي الثابت، وبذلك لا نكون " متفرجين " على وقائع تعرضها الكاتبة مثلما كان الحاضرون " مستمعين " لحوادث يقصها الحكواتي، بل مشاركين فاعلين في معضلات الكاتبة التي أصبحت ترتبط بهمومنا وشؤون حياتنا بأكثر من وشيجة . لقد استخدمت الكاتبة مفردات فصيحة يغلب عليها طابع الاستعمال العامي اليومي، لكنها انتقت لها الموضع المناسب والصياغة الملائمة فجاءت موفقة ودقيقة في التعبير عن الحركة أو الصورة المطلوبة:- كنت أنصت لبقبقة التفاعلات الداخلية ... شياطين الشهوة تنطنط في ذهنه .. ثمة سوسة تؤرقها ... طبطبا على كتفها ...الأذيّات التي حصلت لها كبيرة جدا .. في حين أنها استخدمت تعبير " يا للورطة " في جملة تعجبية لم تكن بمستوى حرارة الموقف: كانت تمشي على إيقاع جملة واحدة: يا للورطة .. يا للورطة !! مقابل الاستخدام الموفق لمفردة (طز): تضافرت أصواتهم جميعا وقالوا: طز في حبه .. حاولي أن تكوني مغرية .. تابعي أفلام البورنو !! وحين تحدثت عن لغة الروائية وصفتها بـ (الشعرية) المتوهجة ووضعت مفردة الشعرية بين قوسين لأنني لا أؤيد أن تكتسح لغة الشعر ساحة القص .يجب أن تكون للشعر لغة شعر وللرواية لغة رواية، وهذا ما حافظت عليه الكاتبة من خلال استخدامها اللغة الشعرية بصورة منضبطة، الأمر الذي جعلها في موضعها مثلما يتدلى منديل أحمر من جيب جاكيته نسوية بيضاء – والوصف ليس لي – مثل: شهق شهقة استحوذت على روحه وهو يطل على قبتي الفضة، وقد انعكست عليهما زرقة الفستان (وهذه الصورة تعبر عن حساسية لونية تشكيلي مرهفة ... انغرست يده بين حمالة النهدين السوداء والنهد، فطعنت الحلمة راحة يده بتحد صريح .. وغيرها (قليل) وهي الستراتيجية الصحيحة . وحين أتأمل الغلاف الذي لم يثبت اسم مصمّمه، أجد أن مصممه قد قرأ الرواية بدقة وغاص في معانيها وتوفر على ثقافة نفسية عالية أيضا: طابق سواد الآثام في اليدين اللتين " تقترفان " والرأس حيث تترعرع الأفكار الآثمة، وطابق حمرة الغريزة الدموية المحاطة بصفرة نوايا اللاشعور الماكرة، طابقان. والبياض لـوجه " الإبداع .. روح الله .. الأنوثة الخالقة . تبقى الرسالة – عدنا إلى الرسائل - الأخيرة، المسكوت عنها في الوقت الذي لا ينبغي السكوت عنها، رسالة تثور في الأذهان من خلال استدعاء الموقف المناقض ويمثله التساؤل البغيض: لو كانت كاتبة هذه الرواية – وهي رسالة في مسلمة وتطرح الكيفية التي تتحطم فيها أحلامها وآمالها ووجودها على صخرة التابوات الدينية، فهل ستستقبلها الجهات المرجعية بهذه الطريقة؟

آه .. ياله من مجتمع منافق !!

وأخيرا، وليس آخرا كما يقال، أقول لصديقي الناقد الذي يبحث عن السلبيات وجداول الأخطاء اللغوية التي قد يقع فيها حتى الناقد . قالت في الصفحة (152): الصفحات البيضاء، والصحيح هو الصفحات البيض،فهل ارتحت؟.. وشكرا هيفاء بيطار .

 

 

 

 

في المثقف اليوم