قضايا وآراء

الإنعطافةُ الكبرى- في الذكرى السنويَّة لصلاة الجمعة في العراق

لا يمكن إطلاقاً تخيُّلُ الحدود المائزة بين الحديث عن صلاة الجمعة والحديث عن مجمل ما يشكِّل عظمةَ وتفرُّدَ المشروع الإسلاميِّ الكبير الذي أسَّس له سماحة السيِّد الشهيد الصدر قُدِّسَ سرُّه، فتكاد الإشارة عن أحدهما تشير إلى الآخر، والعكس بالعكس كذلك، بل إنَّ اسم السيِّد الشهيد نفسه لم يعد يطرق الأسماع إلا تبادرت إلى الأذهان رأساً دعوته إلى إحياء هذه الشعيرة الإسلاميَّة المقدَّسة، التي ربما لعبت الظروف التأريخيَّة المختلفة دوراً فاعلاً وأكيداً في تجاهلها واطِّراحِها جانباً، بحججٍ شتّى، منها ما يتعلَّق بالمباني الفقهيَّة المتنوِّعة ذاتها، ومنها ما هو متعلِّقٌ بالظروف التأريخيَّة العسيرة التي اكتنفت مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم طيلة الزمان السالف، حيث لم تكن أغلب الدول لتتأسَّس إلا على أساس بغض هذا المذهب، أو على أساس عدم الإعتراف بما لأتباعه وأشياعه ومناصريه من الحقوق، فكان لمبدأ التهميش السياسيِّ والإلغاء المذهبيِّ الذي مارسته مختلف الدول التي نشأت باسم الإسلام على امتداد التأريخ الإسلاميِّ الطويل الدور الكبير في  إيجاد نزوعٍ نفسيٍّ عامٍّ لدى الشيعة بأن يبتعدوا عن مواطن غضب السلطان الجائر عليهم، ومن المؤكَّد أنَّ صلاة الجمعة منبرٌ إسلاميٌّ هامٌّ يتطلَّب من المسلمين أن يكونوا أمناءَ له، فلا ينطقون بكلمةٍ إلا إذا كانت ممّا ينتمي إلى دائرة الحقّ، أمّا إذا كانت الظروف تحتِّم على المسلمين أن يخضعوا كلِّيّاً لإرادة السلطان الظالم، وأن لا ينطقوا إلا بالباطل الذي يفرض السلطان على الناس الترويج له، فإنَّ من الطبيعيِّ أن يفضِّل المسلمون تعطيلها على إقامتها ما لم تكن باباً من أبواب الحقِّ والنطق به، وربما كان هذا الكلام بمثابة تفسيرٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ عامٍّ لما ظهر في الأعصار السالفة من الآراء الفقهيَّة وغيرها التي فضَّلت أو حرَّمت كلِّيّاً إقامة صلاة الجمعة، دون أن يعني هذا أنَّنا نعدُّ هذا التفسير النفسيَّ والإجتماعيَّ للأجواء التي حفَّت بالظروف التي أدَّت إلى منع صلاة الجمعة عند بعض المتشرِّعة في التأريخ من الفقهاء وغيرهم مبرراً علمياً وفقهياً كافياً لهذا المنع، لأنَّ الأدلَّة الفقهيَّة التي قدَّمها السيِّد الشهيد الصدر على رجحان إقامتها بل لزومها في عصر الغيبة متى توفَّرت شرائطها كافيةً جدّاً في جعل تلك التبريرات هباءً منثوراً في مقام السجال الفقهيّ، ولكننا ذكرنا ذلك من باب تقديم الموقف التحليليِّ والتفسيريِّ لمختلف الظروف التي دفعت بعض المتشرِّعة كما قلنا إلى أن يتخذوا لأنفسهم ذلك الموقف في التأريخ القديم والحديث على السواء. علماً أنَّ مثل هذا التحليل والتفسير لتلك الظاهرة التي سادت في التأريخ تحيل الجزء الأكبر من المسؤوليَّة الشرعيَّة على جكام الدولة الإسلاميَّة في التأريخ القديم، وتحمِّل حكّام الجور في العصر الحديث القدرَ نفسه من المسؤوليَّة أيضاً، لأنهم جميعاً مارسوا إرهاب السلطة بحقِّ المسلمين، لا سيَّما أتباع أهل البيت عليهم السلام، حتى وجدوا أنفسهم مضطرين في بعض مراحل التأريخ إلى الإمتناع عن إقامتها، ولولا إرهابهم وتسلُّطهم وجبروتهم الذي امتلأت به صفحات التأريخ الإسلاميِّ مع الأسف لما وجدت مثل هذه الثقافة التي تجعل الناس معرضين عن إقامة صلاة الجمعة في يومٍ من الأيام.

لكن هل ينتهي الكلام عند هذا الحدّ، فلا نلقي اللائمة كذلك على الفقهاء قدَّس الله أسرارهم ممن ساهموا في  إيجاد هذه الثقافة وصناعتها وانتشارها في الأوساط الفقهيَّة والإجتماعيَّة المختلفة، أم أنَّ قسماً من المسؤوليَّة الشرعيَّة واقعٌ عليهم في كلِّ الأحوال، رغم القول بأنهم معذورون أمام الله سبحانه، كونهم حكموا بما أوصلهم إليه البحث الفقهيُّ باستعمال آلة الإجتهاد، ومن المعلوم أنَّ للفقيه إن أصاب أجرين وإن هو أخطأ فلا يتحمَّل إثماً شرعياً بل يكون له أجرٌ واحدٌ فقط، وهذا ما عليه القناعة الأصوليَّة الإجتهاديَّة لدى جميع الفقهاء تقريباً من الفرق الإسلاميَّة المعروفة كافَّةً، فإذا لم يكن الفقيه المجتهد مطالَباً بأكثر من أن يفرغ وسعه في استنباط الأحكام الشرعيَّة ليكون معذوراً أمام الله بإنجاز تكليفه، فإنَّ هذا لا يلزم منه بحالٍ من الأحوال أن تسقط عنه المسؤوليَّة الدينيَّة من الناحية الأخلاقيَّة، التي يجب أن يكون كلُّ فقيهٍ ناهضٍ بالمسؤوليَّة الدينيَّة في أعلى ذروةٍ من سنام الشعور بها والإحساس بما تمليه عليه من التكاليف والواجبات.

ليس من همِّنا ها هنا أن نخوض غمار الإستدلال الفقهيِّ على أنَّ كلَّ ما اعتمد عليه الفقهاء الذين اتخذوا موقفاً سلبياً من صلاة الجمعة واعتبروها شيئاً فائضاً عن الحاجة في عصر الغيبة لم يكن تامّاً ولا قاطعاً للحجَّة من هذه الناحية، بل إنَّ الموقف الآخر الذي ينحاز كلِّياً إلى ضرورة إقامتها بالسعي الجادِّ والحثيث إلى استكمال شروطها، وتهيئة الأجواء والفضاءات المناسبة لإقامتها، هو الموقف الراجح قطعاً، طبقاً لكلِّ ما هو متوفِّرٌ من الأدلَّة الفقهيَّة الدامغة التي طفحت بها مصادر الفقه قديماً وحديثاً، أقول ليس من همِّنا إقامة مثل هذا الإستدلال، ولا السعي إلى إيجاد تلك البرهنة، لأنَّ هذا ممّا تكفَّلت به كلمات السيِّد الشهيد قدِّسَ سرُّه، وأثبت بالأدلَّة الدامغة القاطعة للحجَّة أنَّ مسلكه المنحاز إلى ضرورة إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة هو المسلك الإسلاميُّ الصحيح، وأنا في نهاية الأمر لست من الفقهاء، ولا أجد نفسي مضطراً إلى أن أجعل من نفسي بديلاً عن الفقهاء المتخصصين في هذا المجال الفقهيِّ وغيره، فإنَّ فيهم الكفاية ولله الحمد، ولكنني أجد نفسي ذا نفعٍ لو أنني خضت غمار الحديث عن القيمة الإجتماعيَّة والإصلاحيَّة العظمى لصلاة الجمعة، من الناحية الدينيَّة والسياسيَّة والإجتماعيَّة، باعتبار أنَّ لهذا الجانب أهميته الفائقة في إطار حثِّ المجتمع على العمل طبقاً لما أمر به السيِّد الشهيد الصدر من وجوب الإهتمام بهذه الشعيرة الإسلاميَّة التي أحياها، لتكون فاتحة خيرٍ كثيرٍ للمجتمعات الإسلاميَّة كلِّها في العالم في عصرٍ اجتمع فيه خصوم الإسلام، وتآزروا جميعاً من أجل تفريغه من المحتوى الإلهيِّ الواقعيّ، راغبين بأن تكون الأطروحات الماديَّة والإلحاديَّة والليبراليَّة الإباحيَّة الفاسدة بديلاً لها في ساحة الصراع الفكريِّ والثقافيِّ بينهم وبين الإسلام.

   

الفكر الإسلاميُّ الشيعيُّ بين مرحلتين

ربَّما يستطيع العديد منا أن يجري مقارنةً موضوعيَّةً بين مرحلتين من الزَّمان، أقصد المرحلة التي سبقت إقامة صلاة الجمعة والإندكاك المتبادل الذي حصل بين المرجع القائد والجماهير الإسلاميَّة التي ربَّما شعرت يوماً بأنها فاقدةٌ فعلياً لاهتمام الحوزة العلميَّة بها، والزمان الذي أعقب ذلك، حيث أصبحت الحوزة العلميَّة واقعاً ملموساً يعيش تفاصيله المسلمون في كلِّ يومٍ بل في كلِّ لحظةٍ، كما إنَّ الحوزة أصبحت تعيش تفاصيل مجتمعها الذي وجدت من أجل قيادته أصلاً في كلِّ يومٍ وفي كلِّ لحظةٍ كذلك، بحيث لم يعد من المستغرب أن يروي لك شخصٌ حادثةً لم تكن لتحصل إلا على مستوى اللقاءات الخاصَّة التي من الممكن أن تحصل بين المرجع بما هو الرمز الدينيُّ الأوَّل وأحد وكلائه المقربين جداً في السابق، فتصدِّق بيسرٍ أنَّ المرجع قد التقى بهذا الشخص وأعطاه درساً تربوياً دينياً من خلال موقفٍ نادرٍ يستغرب من حصوله أولئك الذين يستكثرون على الجماهير المؤمنة البسيطة أن تحتكَّ مباشرةً بمرجعها وقائدها، وأن تتلقى منه العبر والدروس التربويَّة الدينيَّة بلا فاصلٍ، إذ يكون المجتمع كلُّه، البرُّ فيه والفاجر، أبناءه الذين يحنو عليهم ويبذل وسعه في أن يرتقي بمستوى تربيتهم الدينيَّة والعقائديَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة إلى حدِّ أن يصبح أحدهم مؤهَّلاً لحمل هموم الأنبياء في فتراتٍ قياسيَّةٍ ربما لا يتجاوز بعضها الأيام القصيرة، وما ذلك إلا لسببين:

السبب الأوَّل: ما تتمتَّع به الشخصيَّة الإستثنائيَّة للمرجع القائد من المؤهِّلات والكمالات والمواهب الإلهيَّة النادرة فعلاً، بحيث يكون قادراً على إحداث الصدمة الدينيَّة والعقائديَّة والتربويَّة في نفوس العديد من الناس في زمنٍ قياسيٍّ قصير.

السبب الثاني: ما يوجد من طاقةٍ دينيَّةٍ حقيقيَّةٍ في نفوس الجماهير المؤمنة، بالرغم من أنَّ العديد من شرائحها الإجتماعيَّة قد زاغ بها الطريق، أو ابتعدت عن الإلتزام الحرفيِّ بتعاليم الدين وتكاليفه الشرعيَّة، إذ كان الدين موجوداً بقوَّةٍ بهيأة طاقةٍ كامنةٍ في النفوس والعقول، وقد تفجَّرت تلك الطاقة الكامنة، ووجدت سبيلها إلى أن تترك أثرها الحقيقيَّ المتوقَّع بمجرَّد أن قامت المرجعيَّة الدينيَّة بواجبها، ونبَّهت تلك الجماهير الغافلة إلى ما بين يديها من القوَّة التي لا يقهرها جبروت الظالمين، وهو الإسلام، وما عليها إلا أن تلتزم به وتتدارسه وتجسِّد تعاليمه على أرض الواقع حتى ترى بعينها حصول المعجزات على صعيد التغيير الإجتماعيِّ والسياسيِّ الذي بات مستحيلاً في نظر الغالبيَّة الساحقة من الناس إبان تلك الفترة العصيبة من حياة الإسلام في العراق.

إنَّ واحداً من الأسباب الرئيسيَّة في تخلُّف الدور السياسيِّ والإجتماعيِّ للحوزة العلميَّة وللمجتمعات الإسلاميَّة تبعاً لذلك، هو عدم الإلتفات إلى ما في صلاة الجمعة من القدرة على توفير مختلف عناصر القوَّة للشرائح المظلومة داخل المجتمع الإسلاميّ، فإذ تخلى الفقهاء عن الإهتمام بهذه الفريضة الإسلاميَّة المقدَّسة بذريعة أنَّ الحكام الظلمة يستغلونها للترويج لسياساتهم في مختلف مراحل التأريخ، أو بذريعة أنها لا تقام إلا في عصر ظهور الإمام عليه السلام، أو بأيَّة ذريعةٍ أخرى وجدت فعلاً أو يمكن تخيُّلها في هذا المقام، أصبح الفقهاء العادلون المتألمون على الأوضاع الدينيَّة المترديَّة فاقدين لأسلحتهم كلِّها تقريباً في مواجهة الظلم والجبروت والفساد، كما إنَّ المجتمع انفصل كلِّيّاً تقريباً عن قياداته الدينيَّة، وصار من الطبيعيِّ أن يعيش المرء عمراً ممتداً إلى سبعين أو ثمانين أو تسعين عاماً دون أن يرى أو يقابل المرجع الذي يقلِّده، ولك أن تتخيَّل مقدار ما يحصل من النتائج السلبيَّة بسبب هذه الحال، ولك أن تتصوَّر أيضاً مدى فرح الحكام الطغاة بهذا العزوف القسريِّ أو الإختياريِّ للفقهاء وللمجتمع تبعاً لهم عن صلاة الجمعة، لأنهم سيكونون في مأمنٍ تماماً من كلِّ ما يمكن أن يسبب لهم الإحراج أو الإزعاج نتيجة عسفهم وظلمهم واستبدادهم ومصادرتهم لحقوق البلاد والعباد، فاعجب من خدمةٍ مجانيَّةٍ قدمها فقهاؤنا السابقون كلهم للحكام الطغاة من حيث لم يقصدوا إلى ذلك طبعاً، وإلا لكانت مؤاخذتهم تتخذ لها وجهةً أعنف وأشدَّ بطبيعة الحال.

لقد أصبح من المعتاد الحديث عن مظلوميتنا التأريخيَّة، وأنَّ حكاماً عديدين من المتجبِّرين والطغاة قد ظلمونا وذبحونا وانتهكوا حرمات الدين وحرماتنا، ونكتفي بأن نصبَّ جام غصبنا عليهم وعلى التأريخ الذي لم ينصفنا في يومٍ من الأيام، والحقُّ أنَّ هذا التصرُّف يمثل في رأيي منتهى السطحيَّة والسذاجة، لأننا يمكن أن ننظر إلى الأمر من زاويةٍ أخرى تجعلنا مدانين بالدرجة نفسها مع هؤلاء الحكام، إذ من الطبيعيِّ أن يتكاثر الطغاة والمتجبرون ويتكالبوا علينا، ما دمنا نتبرَّع من أنفسنا بأسلحتنا التي وهبنا الله سبحانه إياها، لنقوم بإبطال مفعولها وتحطيمها أمام أعينهم من دون أن نكلفهم دفع أيِّ مقابل، وقد يشكل علينا بأنَّ الظلم لم يرتفع في يومٍ من الأيام عن أتباع أهل البيت عليهم السلام حتى في الأزمان التي كان فيها الأئمَّة على قيد الوجود بين الناس، فكيف تتوقع أن ترتفع تلك الظلامة التأريخيَّة أو أن تخفَّ عنا بعد غيابهم عليهم السلام عن الساحة الإسلاميَّة، فمن الطبيعيِّ أن يكون حجم الظلامة أكبر قياساً إلى الأزمان التي تشرَّفت بوجودهم عليهم السلام، لكننا نجيب بما يأتي:

الإجابة الأولى: إنَّ عدد الشيعة في تلك الأزمان لم يكن كبيراً جدّاً كما هو عديدهم في الأزمان التأريخيَّة اللاحقة، فقد تكاثروا ونشأت باسمهم الدول والإمارات، وأصبح لهم من الوجود الفعليِّ المفروض على الآخرين ما كان يجب عليهم أن يتنبَّهوا إلى أهمِّيَّة الحفاظ عليه، بوسائل إسلاميَّةٍ ناجعة، وأوَّل تلك الوسائل هي الحثُّ على صلاة الجمعة والإستمرار عليها، بحيث تكون هذه الصلاة منبراً هادراً لإيضاح الرؤية الإسلاميَّة الصحيحة لمذهب آل البيت  الذي هو الإسلام، ويكون هذا المنبر الأسبوعيُّ منصَّةً دائمةً للمطالبة بالحقوق الإسلاميَّة الضائعة في ظلِّ سلطان العسف والجور، وبحيث تكون صلاة الجمعة مناسبةً دائميَّة لتثقيف الناس على ذلك، وتربيتهم على الشعور بالمسؤوليَّة الدينيَّة والأخلاقيَّة اتجاه الوقوف في وجه الظالمين، والإمتناع عن أن يكونوا عوناً لهم أو عن أن ينخدعوا بهم وبسياساتهم في الأقلّ، وبحيث يكون المجتمع مندكّاً وملتحماً بقيادته الدينيَّة في كلِّ الحالات، كي تشكِّل حالة الإندكاك والإلتحام هذه بين المرجعيَّة الدينيَّة والجماهير حالة رعبٍ للحاكم الجائر، فيضطرّ إلى أن يحجم عن استعمال آلة عسفه وظلمه ضدَّ الناس، وهذا ما لم يحصل مع شديد الأسف، فكانت النتائج كارثيَّةً ومأساويَّةً على هذا الصعيد.

 الإجابة الثانية: إنَّ الأئمَّة لم يفرِّطوا بصلاة الجمعة، فالأدلة الفقهيَّة القاطعة برهنت على هذه النتيجة، وقد كان لالتزام أتباع أهل البيت عليهم السلام بها الأثر الفاعل والمؤثر في الحفاظ على ثمار جهودهم عليهم السلام في ترسيخ مبادئ الإسلام طبقاً للمنهج الإماميِّ المعصوم، فإن لم يكن هذا الهدف متحققاً على مستوى الأمة الإسلاميَّة جميعها، فهو متحققٌ وناجزٌ على مستوى أتباعهم ومريديهم ومن يتعاطف معهم عليهم السلام في الأقلّ، في حين أنَّ هناك مداً واسعاً تولَّد بين الفقهاء في مختلف القرون والأعصار الماضية كان فحواه المسامحة في أداء صلاة الجمعة، إلى أن انتهى الحال إلى امتناع الشيعة عن إقامتها بشكلٍ مطلقٍ، حتى إقامتها مرةً ثانيةً وإحيائها في إيران بعد قيام الثورة، وفي العراق بعد أن ظهر السيِّد الشهيد وتسلَّم زمام المرجعيَّة، علماً أنه قدِّسَ سرُّه كان يقيمها مع جماعةٍ من طلابه ومريديه في الخفاء قبل هذا التأريخ بزمنٍ طويل.

وإننا سوف نجري لاحقاً مقارنةً موضوعيَّةً بين تجربتين ارتبط بهما إحياء صلاة الجمعة في التأريخ الحديث، فلينتظرنا القارئ العزيز ولا يتعجَّل علينا، فإنَّ هناك فارقاً ومائزاً بينهما في إيران والعراق، من حيث أنَّ لكلِّ تجربةٍ منهما خصوصيَّةً نبعت من اختلاف الظروف الحافَّة بكلٍّ منهما، وباختلاف الثمرات الدينيَّة والتربويَّة والأخلاقيَّة التي ترتَّبت على ذلك الإختلاف الأوَّل، وسيتضح من خلال سير البحث مصداق ما نقول.

الإجابة الثالثة: بإمكان جميع المذاهب أن تقول إنَّ هناك فصلاً بين السياسة والدين، ولا تكون مع ذلك متناقضةً مع مبانيها الدينيَّة والعقائديَّة، إلا المذهب الإماميّ، فإنَّ لوازم اعتناقه أن يعتقد الإنسان بوحدة الموقف بين الدين والسياسة، من خلال إيضاح الحقائق الآتية:

الحقيقة الأولى: إنَّ المذهب الإماميَّ يقرِّر أنَّ مبحث الإمامة مندرجٌ في باب أصول الدين وليس في باب الفروع، خلافاً لما عليه مذاهب الأشعريَّة وسواهم من الفرق الإسلاميَّة المتعدِّدة، ومن الواضح أنَّ هناك لوازم لهذا الإندراج، أوَّلها أن تكون الإمامة وقيادة الأمة من الأصول الإعتقاديَّة التي لا يمكن التهاون فيها، وعلى هذا فإنَّ منبر الجمعة مهمٌّ من أجل ممارسة هذا الدور الخطير للإمام المعصوم في حال ظهوره بين الناس، وبالنسبة للمرجع الذي هو نائب الإمام في حال خفائه، ضمن الصلاحيات الموكولة إليه بحسب ولايته على الأمة كمرجعٍ وقائدٍ منصوبٍ بنصِّ الإمام نفسه، ولا يمكن إطلاقاً أن يمارس المرجع أو الحوزة التي هي بقيادته حتماً دورها في توجيه الأمة وقيادتها بدون أن تكون صلاة الجمعة معقودةً ومنصوبةً من قبله، مهما كانت الموانع، إلا أن تكون موانع قاهرةً جداً بحيث لا يتصور معها اجتماع الناس في الجمعة للصلاة.

الحقيقة الثانية: إنَّ فكرة المرجعيَّة ذاتها تتضمَّن أنَّ الأمة بحاجةٍ إلى رعاية وتوجيه القيادة الدينيَّة المتمثِّلة بالحوزة العلميَّة الشريفة، ولا أعتقد أنَّ أحداً يستطيع أن يزعم أنَّ الأمة مذ هجرت صلاة الجمعة، حصلت على الفوائد المرجوَّة من القيادة المرجعيَّة للحوزة، لا لأنَّ الأمة ليست مستعدةً لاستقبال توجيهات وتعليمات الحوزة كما يشاع عادةً في المناسبات التي يثار فيها مثل هذا الكلام، بل لأنَّ سبل الإتصال القريب بالحوزة مفقودةٌ في أغلب الأحوال، ولأنَّ إعلام الحوزة يكون معدوماً إلى درجة الصفر تقريباً، فلا يعرف المجتمع من الحوزة ماذا تريد منه بشكلٍ مباشرٍ، بل غاية ما يمكن أن تتوفَّر من قنوات الإتصال بين المجتمع والحوزة في هذا المجال هو بعض الكتيِّبات المنشورة التي تبيِّن فتاوى المرجع، والتي لا يتمكَّن المجتمع في غالبيته الساحقة من قراءتها وفهم مضمونها بشكلٍ واضحٍ وقاطعٍ، بالإضافة إلى الوكلاء الذين ينصبهم المرجع، والذين يتوزعون بحسب المناطق التي يوجد فيها أناسٌ مقلدون للمرجع، وتقتصر مهامُّهم في الأغلب الأعمِّ على جمع الأموال والحقوق الشرعيَّة وإقامة المآتم في موسم عاشوراء ورمضان وبعض المناسبات الدينيَّة الأخرى، حيث غالباً ما يبثون ثقافةً خرافيَّةً متخلفةً منحطَّةً، تساهم في تركيز الصفات السلبيَّة في المجتمع المسلم بدلاً من أن تقوم بتعزيز التربية الإسلاميَّة الحقيقيَّة التي تنهض بمستوى الفرد والمجتمع، فتكون النتيجة أنَّ المجتمع يزداد تخلفاً في كلِّ عامٍ ضعفاً أو ضعفين على ما هو عليه من حالات التخلُّف والتردي والإنحطاط، فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ الذهنيَّة العامَّة لبعض المراجع ولعامَّة الفضلاء في الحوزة العلميَّة هي ذهنيَّةٌ تميل بصاحبها إلى توخِّي السلامة والتقيَّة المفرطة في غير مواضعها الشرعيَّة المدروسة طبعاً، كانت الصورة مأساويَّةً أكثر، فلا نتعجَّب بعدها أن يفقد المجتمع الكثير من السمات الإسلاميَّة، بل إنَّ رعاية الله ولطفه وحدهما هما المسؤولان عن أن يحافظ المجتمع على دينه بشكلٍ ظاهريٍّ عبر هذه العصور كلِّها، أمّا من جهتي فلو قيل أنَّ المجتمع فقد دينه من الأساس فلن أستغرب أو أتعجَّب.

 

إذن لا يكون الشيعة الإماميَّة معذورين إذ يفرِّطون بهذه الفريضة، في حين نجد أنَّ سائر المذاهب مع أنها لا تقول بما يقول به الشيعة من اندراج مبحث الإمامة في الأصول، مما يعني أنَّ بإمكانهم أن يقولوا بالفصل بين السياسة والدين نوعاً ما، نجدها لا تفرِّط بإقامتها، بل واصلت القيام بهذه الشعيرة المقدَّسة طوال التأريخ الإسلاميّ، وهي مستمرَّةٌ عليها إلى الآن.

لكن مما يشكل على المذاهب الأشعريَّة أنَّ جُمَعَم في الغالب توحِّد منهجها ورؤيتها للأمور طبقاً لما يشاؤه الحاكم المتغلِّب، وهذا بالضبط هو ما يُفقد صلاة الجمعة روحها وجوهرها والهدف الذي كانت من أجله، وهو أحد الأسباب المهمَّة التي دفعت الشيعة إلى أن لا تقول بوجوب إقامتها في عصر الغيبة، مع أنَّ دليل ذلك غير تامٍّ بالطبع كما بيَّن ذلك سماحة السيِّد الشهيد محمَّد الصدر قُدِّسَ سرُّه الشريف.

 

لقد رأينا بأمِّ أعيننا كيف أنَّ حال المجتمع الإسلاميِّ تغيَّر في غضون سنةٍ واحدةٍ تقريباً، إذ كان السيِّد الشهيد الصدر خلالها باذلاً جهده وطاقته، وحاملاً روحه على راحته الشريفة من أجل استمرارها وتواصلها، حتى أصبح المجتمع العراقيُّ شبيهاً بالمجتمع الذي عاش في عصر الإسلام الأوَّل، حيث تماهى الناس كلِّياً بالمشروع الإصلاحيِّ الدينيِّ للسيِّد الشهيد الصدر، وصار مستعداً لأن يقدِم على مختلف التضحيات الماديَّة والمعنويَّة في سبيل تحصيل رضا الله سبحانه، وحيازة الدرجة العالية من التكامل الروحيِّ والدينيّ، وعاش المجتمع إبان تلك الفترة حالةً متدرجةً متصاعدةً من التكامل طبقاً لخطَّةٍ إصلاحيَّةٍ مدروسةٍ اتبعها السيِّد الشهيد في تربيته للأمة، إلا أنَّ الله سبحانه شاء له الكرامة في الشهادة بالرصاص الغادر للطاغية المقبور، فحال ذلك دون أن يبلغ مشروع الإصلاح مداه الأقصى بالطبع، من دون أن يعني هذا أنه قُدِّسَ سرُّه لم يضع الخطوات التأسيسيَّة التي لو واصل المجتمع سيرها على المنهج الإسلاميِّ الواضح للحوزة الناطقة التي وضَّح معالمها قدِّسَ سرُّه، فإنه لا بدَّ أن يبلغ الغاية في تحصيل تلك الدرجات العالية من التكامل، ما لم يحصل ارتدادٌ من قبل المجتمع، فيعاقبهم الله سبحانه بحرمانهم من الثمرات المرجوَّة، ولن يكون الله لو حصلت هذه الحالة إلا عادلاً، وسيكون المجتمع هو المسؤول الأوَّل والأخير عن سوء العاقبة وانقلاب المصير.

 

حالة المجتمع الإسلاميِّ العراقيِّ قبل صلاة الجمعة.

لقد خاطب الفيلسوف الألمانيُّ فيخته شعبه يوماً بأن قال له: "أتريدون أن تكونوا نقطة نهاية، آخر ممثّلي عرقٍ حقيرٍ ومحتقرٍ فوق كلِّ قياسٍ من قبل الأجيال القادمة.. أم أنتم تريدون أن تكونوا نقطة بدايةٍ، بداية عصرٍ جديدٍ سيتخطى بهاؤه أحلامكم الأكثر جسارةً.. فكِّروا أنكم الأخيرون الذين يستطيعون إحداث هذا التحوُّل الكبير.. خلاصكم يتوقَّف عليكم وحدكم".

   يخيَّل لي أنَّ حالة الشعب العراقيِّ كانت شبيهةً بحالة الشعب الألمانيِّ في تلك الفترة الزمنيَّة التي وجَّه فيها فيخته خطاباته إليه، إذ كان يعيش حالةً من التردي المادِّيِّ والروحيِّ جعلته مهدَّداً بالإنقراض على المستوى الثقافيِّ  والحضاريّ، ولم يكن من المناسب ألا يظهر من بين هذا السبات صوتٌ يدوي من أجل بعث الحياة في هذا الكيان الماثل للإحتضار، وكذلك فعل السيِّد محمد الصدر ((قده))، مع فارقٍ واحدٍ، وهو أنَّ سبيله في الإصلاح ليس علمانياً إطلاقاً، ولا هو سبيل من يدعو إلى نهضةٍ دنيويَّةٍ محضةٍ، مع أنَّ هذه النهضة الدنيويَّة داخلةٌ في حساب الأهداف بالطبع، إلا أنَّ الهدف الدنيويَّ داخلٌ في حساب السيِّد الشهيد محمَّد الصدر قُدِّسَ سرُّه بصفته طريقاً إلى عمران الآخرة، أو بصفته مندكّاً اندكاكاً تاماً بالهدف الأخرويِّ الذي هو مقدَّمٌ في النهاية طبقاً للحسابات الخاصَّة بالسيِّد الشهيد على أيِّ هدفٍ دنيويٍّ آخر.

ما يميِّز السيِّد محمَّد الصدر عن كافَّة العلماء المصلحين هو انشغاله الدائم بأمر المجتمع، فهو يفكِّر ليلَ نهار، وهو مشغولٌ خلال حركاته وسكناته كلِّها بإصلاح المجتمع وإنقاذه من مهاوي الجهل والضلال والفساد الأخلاقيّ، وهو مهتمٌّ من رأسه الشريف حتى أخمص قدميه بهذا الكيان الإجتماعيِّ الذي أحبَّه بدافعٍ دينيٍّ وإنسانيٍّ على السواء، ولا يجد معنى الدين متجسِّداً إلا في مضمون هذا الحديث الشريف الذي أصبح بمثابة اللازمة التي تتكرَّر بلا انقطاعٍ على لسانه"من لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس منهم" على حين تجد الغالبيَّة الساحقة من الفقهاء لا يتحرَّجون من أن يهملوا أمر المجتمع، فلا يجدون لزاماً عليهم أن يحملوا هذا الهمّ، ولا أن يعانوا في سبيل المجتمع كلَّ ما تحمَّله السيِّد الشهيد الصدر من العناء، ناهيك عن أن يكونوا مستعدين للإقدام على مشاريع للإصلاح الدينيِّ والإجتماعيِّ تكون عاقبتها الأكيدة هي القتل برصاص الظالمين والحصول على كرامة الشهادة.

لذلك فإنني أقول إنَّ الأسَّ الأخلاقيَّ والدينيَّ الذي تتشعَّب منه كلُّ أعمال السيِّد محمَّد الصدر قُدِّسَ سرُّه وأقواله ومشاريعه التي خطَّط لها ونفَّذ بعضها المهمَّ  في حياته القصيرة المباركة، هو هذه الرؤية التي تفرَّد بها لوظيفة رجل الدين عموماً ولوظيفة المرجع على وجه الخصوص، ومن الطبيعيِّ أن يكون كلُّ أفراد المجتمع المسلم مشمولين للقيام بهذه الوظيفة، بحسب الموقع والدرجة الإيمانيَّة لكلِّ واحدٍ منهم على انفراد.

فكلَّما استفاض في شرح مَعلَمٍ من معالم الشريعة الإسلاميَّة في كلِّ مؤلَّفاته نحا نحواً من البحث يبيِّن فيه هذا البعد الإجتماعيّ، ويوضِّح من خلال هذا البيان بعض ما يتضمَّنه التشريع المعيَّن من وجوه الحكمة التي يحدسها الإنسان مما هو مندرجٌ في حيِّز الحياة الإجتماعيَّة في كلِّ أبعادها السياسيَّة والإقتصاديَّة والأمنيَّة والدينيَّة والرياضيَّة والثقافيَّة إلخ، فيكون مثل هذا التوضيح دالاً على ما تحتويه الشريعة الإسلاميَّة المقدَّسة من الجدارة بأن تكون معجزةً خالدةً حتى نهاية وجود هذا الإنسان على ظهر البسيطة.

ولنأخذ مثالاً مناسباً من موضوع بحثنا هذا، فإذ يستفيض السيِّد الشهيد داخل كتاب فقه الأخلاق في شرح بعض الأبعاد الإجتماعيَّة التي تتضمَّنها صلاة الجمعة يقول: "وينبغي أن نلتفت أوَّلاً إلى احتواء صلاة الجمعة على صفتين مهمَّتين:

 الأولى: احتواؤها على خطبتين يستطيع أن يقول الخطيب فيهما أيَّ شيءٍ شاء مما يرى فيه المصلحة .

 الثانية: إنها تجمع أكثر أهل البلدة أو المنطقة الواحدة، لأنها لا تكون عندنا إلا صلاةً واحدةً في كلِّ منطقة، وهي تجب على نسبةٍ كبيرةٍ من ساكنيها، كما هُو المعلوم لمن يراجع شرائط وجوبها على المكلَّفين فقهياً.

 ويتحصَّل من هاتين المزيَّتين : أنَّ جمهوراً كبيراً في كلِّ بلدةٍ سيحضر ويسمع هاتين الخطبتين . فإذا كان الخطيب فصيحاً فاهماً فقيهاً أو متفقِّهاً عارفاً بالمصالح العامَّة، أمكنه أن يوصل إلى الجماهير جميع ما يحتاجون إليه أسبوعياً أوَّلاً بأوَّل . لا تختلف في ذلك الأمور الإجتماعيَّة عن الإقتصاديَّة عن الدينيَّة عن الأدبيَّة عن الرياضيَّة، وهكذا، بحسب ما يرى الخطيب المصلحة في إبلاغه إلى الناس، وإقناع الجماهير  به . أو تحفيزهم عليه أو تبكيتهم به أحياناً" .

إذن، لا يمكن تخيُّل الصدر قُدِّسَ سرُّه إلا مشغولاً بهمِّ المجتمع أكثر مما يهتمُّ كلُّ فردٍ من المجتمع بنفسه، وهذا ما يعطي مرجعيته طعماً خاصاً لم يكن من نصيب أيَّة مرجعيَّةٍ أخرى في التأريخ، فربما وجد هذا المعنى عند بعض المراجع السابقين أو اللاحقين، لكن لا يمكن أبداً أن يقال عن أيِّ مرجعٍ كان أنَّ الهمَّ الإجتماعيَّ كان أسّاً مركزياً من ناحيةٍ نظريَّةٍ وعمليَّةٍ كما هو عند السيِّد محمَّد الصدر قدِّسَ سرُّه.

ولقد أجريت مقارنةً في السابق بين مرجعيَّة السيِّد الشهيد الأوَّل محمد باقر الصدر ومرجعيَّة السيِّد الشهيد الثاني محمَّد الصدر في كتابٍ لم ير النور بعد، وكانت إحدى محاور المقارنة هي هذه النقطة بالذات، إذ لا يمكن إنكار الحقيقة القائلة بأنَّ مرجعيَّة السيِّد الشهيد الأوَّّل كانت متضمِّنةً لهذا المعنى، وأنَّ السيِّد محمَّد باقر الصدر قُدِّسَ سرُّه الشريف كان مشغولاً بالهمِّ الإجتماعيِّ جداً، وأنه كان يستهدف بمشروعه كلِّه إصلاح المجتمع، والإرتقاء به إلى مستوى وعي المشكل الحضاريِّ الدينيّ، ولكنه كان مشروعاً مجرَّداً من الكثير من السمات الخاصَّة التي منحت مشروع السيِّد الشهيد الصدر الثاني طعمه وتفرُّده الخاصّ، ومن المستحسن أن نجري ها هنا مقارنةً سريعةً بين المشروعين الإصلاحيين الكبيرين من هذه الناحية في هذا المقام.

المقارنة الأولى: إنَّ مشروع السيِّد الشهيد الصدر الأوَّل لم يكن متجهاً نحو الجماهير الإسلاميَّة بشكلٍ مباشر، بل كان يتخذ خطةً لنفسه أن ينفذ مشروعه الإصلاحيَّ الإسلاميَّ عبر وسائط من النخب الإسلاميَّة المثقَّفة، ولهذا فإنَّ اسم السيِّد الشهيد الأوَّل ارتبط بتكوين حزب الدعوة في المراحل الأولى من تأسيسه، ومن الواضح أنَّ المرجعيَّة بهذا المعنى لا تحقِّق اتصالاً معتدّاً به جداً بالجماهير، بل تبقى على حالها بعيدةً ومنزويةً إلا من ناحية الخطَّة المرسومة لها في التوجُّه نحو الجماهير عبر تلك النخب والوسائط، أمّا في حالة مرجعيَّة السيِّد الشهيد الثاني فإنَّ الحال اختلفت بشكلٍ جذريّ، إذ صار كلُّ إنسانٍ قادراً على الإتصال المباشر والتلمذة وتلقي التوجيهات من المرجعيَّة بلا توسُّط أحد، وهذا ما حقق تلاحماً وانسجاماً فاقا المستوى الطبيعيَّ المعهود بين المرجعيَّة القائدة والجماهير الإسلاميَّة التي لم تعهد من قبل مثل هذا الأسلوب المبتكر في القيادة المرجعيَّة، بحيث أصبح كلُّ إنسانٍ يشعر بأنه مكلَّفٌ من المرجع مباشرةً بأن يكون مسؤولاً وموجِّهاً بعد أن يخوض غمار المرحلة اللازمة من التربية الدينيَّة وصولاً إلى الحالة المعتدِّ بها من التكامل الروحيِّ والدينيّ، مضافاً إلى أنَّ السيِّد الشهيد نفسه كان يعمل بجدٍّ على استقطاب الطلاب الحوزويين من الشرائح الإجتماعيَّة التي لم يكن من المعهود في السابق استقطاب الطلاب الحوزويين منها، وهذا في الحقيقة ما أغاظ العديد ممن يرون العلم الروحيَّ والدينيَّ حكراً على طبقاتٍ اجتماعيَّةٍ بعينها، وألَّبهم ضده.

تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1086  الاثنين 22/06/2009)

في المثقف اليوم