قضايا وآراء

اندحار القطيع / عبد الفتاح المطلبي

كانت تلك مشكلتنا الأولى كان لابد للقطيع من تحقيق أهدافه التي تتطلبها الغرائز، وهنا يبزغ السؤال: هل الغريزة كانت بديلا للعقل الذي لم يفطم بعد أو ربما هي الوصية عليه،يبدو أن ذلك كان بديهيا إبان طفولة العقل، ويؤيد ذلك علم الحفريات حيث أن التجويف الجمجمي الذي يحوي أدمغة أجدادنا الأوائل كان بيضويا مائلا للأستطالة، ثم استحال هذا التجويف إلى ماهو عليه الآن قريبا من الكرة مع مرور الزمن، إذن كانت الغريزة هي الوصي على العقل القاصر، فهي إذن مخولة بقيادتنا حسب حساباتها المعبئة سلفا،  كانت الغريزة تخطط لأول مشروع أمن على مستوى الفرد في القطيع، بعد ذلك كان الزمن يوسع  التجربة ويصقل الخبرة  ليشحنها بمتطلبات القدحة الأولى التي ستشعل الشعلة الأولى للعقل ولو بشكل واهن، كان ذلك ضروريا بسبب  فشل الغريزة بالإحاطة بما يتناسل من أخطار متنوعة، ذلك يعني إننا عجزنا عن الإستمرار بحيوانيتنا التي تقودها الغرائز، والأمر المهم والجلي هو إننا تحت رعاية الغريزة كنا نسلك سلوكا موحدا بحكم نسخ نفس القدرة الغريزية  في كل فرد من أفراد القطيع، إلا إن الأمر لم يعد كذلك بعد تخلي الغريزة عن معظم واجباتها لصالح العقل ولو كان عقلا طفلا لا زال غضا،الغريزة لم تتخل عن أمر القطيع ببساطة كان ذلك مقابل استمرار بعض الغرائز بواجباتها ومنها  الزحام والتنافس على القيادة ذلك الذي كانت تمارسه في القطيع، ومن المعلوم إن ذلك جلي في حياة الحيوان فلا عجب أن تجد كبشا قائدا في قطيع الأغنام أو ثورا متزعما لقطيعه ينطح أي ثور يقترب من منطقة نفوذه أو أُناثه لذلك فأن الرغبة في القيادة والزعامة والإستقتال من أجل حيازتها ومحاولة القضاء على المنافسين بالنطح وبقر البطون والقتل والغدر والمطاردة ما هي إلا ردة غريزية ولو في عصر العقل وتقدم  الإنسان في تجريد العقل من عوالق الغرائز العدوانية وتطويعها لصالحه، لكن ذلك لا يشمل تحقيق الرئاسة والزعامة وحيازتها عن طريق العقل والرضى التام ، التي تتحول في الحالة هذه إلى واجب متعب أو مقلق وثقيل أحيانا يجب إنجازه لصالح المجتمع وبرضاه التام  لذلك لم يعد هناك من تبرير لوجود واستمرار زعامات تفرض نفسها بالقوة والسطوة والبطش والإدعاء  بالتفويض من قبل السماء لأن عصر عقلنة الأمور لم يترك مجالا لذلك، وكلما توغل العقل في الزمن وراح يصنع أنظمة جديدة من تراكمات حطام ما تنتجه الغريزة راحت الغرائز التي تجر ذيولها عند البعض محاولة ترميم مواقعها وترتيب أمر القطيع من جديد، راحت تسرق بعض أدوات العقل أو بمعنى آخر، راحت تعقلن بعض الغرائز وتقدمها للمجتمع بشكل مغاير لأهدافها غير المعلنه ألا وهي الرجوع بالمجتمع إلى عصر القطيع  تحت غطاء من شتى أنواع التزييف والخداع ولكن ذلك لا يدوم في كل مرة لأن الطبع يغلب التطبع ولأن جذر الغريزة عند هذا البعض أعمق كثيرا من خيوط الغطاء الزائف الذي يمارسون من ورائه الخديعة لذلك لا بد من ردة وانكشاف أمام عصر العقل.

لم يقف الأمر عند هذا الحد فبعد أن مني عصر القطيع بالهزيمة وانحسار عصر الطغيان البهيمي واندحار الدكتاتوريات على يد الحداثة التي شملت كل شيء  والتشابك التواصلي للعالم الذي جعله قرية كبيرة بدل مفهوم الإمبراطورية الكبيرة ، لم يعد بمقدور مفاهيم القطيع أن تجد لها مكانا بعد تشتت القطيع باتجاهات مختلفة بفعل وضوح الصورة الراهنة وحضورها على مستوى الفرد في أي زمان ومكان، عمد المرتدون إلى عصر القطيع إلى ابتداع طرقا جديدة للوصول إلى أهدافهم تحت جنح الحداثة والديمقراطية واستعارة بعض وسائلها ليبدو الأمر منسجما مع اتجاه العصر (عصر العقل) من ذلك الأتجاه إلى لم شتات بعض أفراد القطيع الموسومين بالضعف الإنساني والعقلي  مستغلين هاتين الصفتين عند هذا البعض لتكوين قطعانا صغيرة هنا وهناك تقودها أكباش نطاحة وثيران لها القدرة على بقر البطون ليتزعمها بعد ذلك فحلا من فحول الدواب مدعيا تمثيله لهكذا قطعان عصرية قارعا بعد ذلك طبول الحرب ورافعا رايات الخديعة بوسائل عفا عليه الزمن وتفسخت تاريخيا  ولم تعد ذات صلة بالحاضر إلا على سبيل الأرشفة والتوثيق ثم بعد كل ذلك الدخول عبر دهاليز دهرية ملتوية إلى عالم  الإنسان الحاضر وفي أكثر مؤسساته حساسية ألا وهي مؤسسة الحكم مستغلين ظروف استيلاد القوانين التي لم تكن موجودة في العصر البهيمي والتي لازالت غائبة لحد هذه اللحظة، وهنا ينجم السؤال الكبير : متى نشهد عصر الأنسنة في بناء عناصر الدولة الحديثة في العراق ؟ ومتى يثوب العقل  المدني والسياسي  إلى رشده في هذا البلد الذي آض إلى كومة رماد خلفتها المعارك العبثية والتي لا زال دخانها يثور بين فترة وأخرى على يد دعاة القطعنة(مفاهيم القطيع) المولعون بالنطح والإقتيات الإجتراري وبقر البطون بقرون طويلة يخفونها في تلافيف أدمغتهم النوكى.

 

عبد الفتاح المطلبي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1512 الجمعة 10/09/2010)

 

في المثقف اليوم