قضايا وآراء

علي عبد العال .. اختصاصي أدب المنفى / حسين سرمك

خطيرة في حياة الإنسان في كل مكان عموما والفرد العراقي خصوصا ألا وهي موضوعة المنفى بوجهيه ؛ الاختياري كهجرة طوعية دافعها – أو وهمها - البحث عن فرص عمل أفضل وحياة أكثر رخاء أو –وهذا هو الأهم – القسري الذي يهج فيه الإنسان من وطنه بحثا عن الخلاص من جحيم البطش السياسي والعرقي ووحشية الأنظمة الشمولية التي تحول الأوطان ؛ مكافئات الأرحام الأمومية الهانئة إلى زنزانات مظلمة مغلقة تمتهن فيها كرامة الإنسان وتحطم إرادته .ومن الظواهر التي أعدها سلبية في الحياة الأدبية العراقية هو غياب التخصص . ولا أعني بذلك أن على الكاتب أن يمسك بجانب واحد من جوانب الحياة البشرية المتشابكة والمتناقضة الأبعاد  ويقضي حياته في معالجته مقتصرا عليه ومبتعدا عن معالجة أي جانب آخر .إن هذا ضد مفهوم الأدب وخلاف طبيعته أصلا . فالمبدع لا يهزه الحدث الإنساني الموجع من حيث ترتيبه المهني أو الطبقي أو الاجتماعي ..إلخ بل من خلال ما ينطوي عليه من كشف آسر وموغل في التعبير عن الصراعات الإنسانية واحتدامات النفس البشرية . وعليه فإن على المبدع أن ينفعل ويستجيب لعذابات الإنسان وهي كثيرة في هذا العالم للأسف ومسراته وهي قليلة جدا لحسن الحظ مهما كان نوعها أو حجمها أو طبيعتها حين تجتذب انتباهته الحادة وتقلق محتويات لاشعوره وتربكها وتثير فيها الفوضى المؤلمة بحيث أنها لا تستعيد نظامها إلا بعد أن تهضم المثير المقلق وتستوعبه ضمن بنيتها الداخلية العميقة . ولكن ما أقصده بالتخصص، وهو لا يلغي الفعل الشامل للمبدع، هو أن يسخر الكاتب قواه وطاقاته الإبداعية الخلاقة لمعالجة ظاهرة معينة من الحياة الإنسانية من خلال تقليبها على وجوهها المختلفة والغور في أعماقها المتناقضة وكشف الاستجابات هائلة التنوع لدى الشخوص في تعرضهم لضغوطها النفسية والاجتماعية والوجودية وأشكال التهديدات التي تحاول زعزعة أركان وجودهم وتقويضه . من أمثلة ذلك إخلاص " ريمارك " للحدث الرهيب الفاجع في الحياة الإنسانية والمتمثل في الحرب وما تسببه من خراب شامل يعصف بالواقع الخارجي المحيط بالإنسان مثلما يجتاح واقعه الداخلي ويهشمه بلا رحمة . لم تكف ريمارك رواية واحدة ترفع الأغطية الذرائعية – مهما كانت براقة – عن غولة الحرب وتعرّيها بلا هوادة وتنتصر للإنسان الذي تمزق روحه وأرواح أحبائه مخالبها الباشطة، فقدم العديد من الروايات لإدانتها بل وقف منجزه الإبداعي عليها ومن أشهرها : كل شيء هاديء في الميدان الغربي، ليلة لشبونة، الرفاق الثلاثة، للموت وقت وللحب وقت (ثلاثية ) وغيرها. وفي الأدب العراقي يقف أمامنا أنموذج بارز يتمثل في إخلاص المبدع الراحل (فؤاد التكرلي) في المعالجة الجسور اجتماعيا والمحكمة فنيا لعقدة المحارم على مدى أكثر من نصف قرن بدءا من قصصه القصيرة المبكرة : الدملة، همس مبهم، التنور، و .... ورواياته : بصقة في وجه السماء، الرجع البعيد، خاتم الرمل، اللاسؤال واللاجواب والأوجاع والمسرات . ويأتي الآن المبدع (علي عبد العال) ليضع بصمته على خارطة الإبداع السردي العراقي من خلال (تخصّصه) في التناول البارع والمقتدر لظاهرة المنفى وحياة المنفيين والمهاجرين والخراب النفسي والاجتماعي الذي يترتب على انخلاع الفرد من عرشه الأمومي – وطنه - وانقطاع جذوره عن تربة فردوسه الأول بعد أن جعله أعداء الإنسان جحيما ينبغي الفرار منه . لقد أصدر علي عبد العال – حتى الآن- الأعمال التالية وكلها تدور حول ظاهرة المنفى . وهي حسب تسلسلها الزمني :

1- المشي في الحلم – قصص - 1987 .

2- مقتل علي بن ظاهر ومتاهته – رواية - 1996 .

3- أنشودة الوطن .. أنشودة المنفى – قصص مشتركة - 1997 .

4- العنكبوت – قصص - 1998 .

5- أقمار عراقية سوداء في السويد – رواية - 2004 .

6- ميلاد حزين – رواية - 2005 .

7- أزمان المنافي – ثلاث حكايات - 2005 .

8- عالم صغير جدا – قصص – 2006 .

9- جمر عراقي على ثلج سويدي (جيسيكا) – رواية – 2008 .

ومن الضروري الإشارة إلى الملاحظة التي قلتها في البداية وهي أن عليا في تناوله هذه الموضوعة الخطيرة يطرح فيها ماهو كوني يهم الإنسان المنفي مهما كانت جنسيته من ناحية وماهو محلي يشمل المنفيين العراقيين من ناحية أخرى . وهذا البعد الإنساني الشامل يعود أولا إلى سعة هذه الظاهرة التي باتت نأخذ أبعادا سرطانية السمة المفارقة فيها هو أنها تستشري بصورة صادمة كلما تنفج الإنسان بتفرده  الحضاري وتعاليه على الدوافع الفجة للمملكة الحيوانية (ما بين عامي 1947و1950على سبيل المثال أرغم عشرة ملايين نسمة، ولأسباب سياسية ودينية، على الهجرة الإجبارية من باكستان إلى الهند، وسبعة ملايين نسمة من الهند إلى الباكستان !! ولم نسمع بهجرة إجبارية حيوانية بالملايين من هذا النوع  دفعة واحدة ! ) .بل على العكس من الإنسان من النادر أن تقتل الحيوانات أبناء جنسها أو تطردها من (الأوطان) التي تؤسسها وتجتمع فيها وتحتمي وتتوحد بها . ويبقى ماهو مشترك بين المنفيين من هموم ورضّات تفرضها الحالة الجديدة مهما كانت هوية المنفي . هذه الهموم والرضّات  يغوص في أحشائها علي عبد العال عميقا محاولا الإمساك بجذورها الغائرة عبر تأملات عميقة في الكيفية التي تفعل فيها فعلها في النفس البشرية المكلومة وكيف تتشكل تمظهراتها السلبية التي لن تؤثر في حياة الفرد المنفي – المهاجر حسب بل تتعداه إلى التأثير في حياة الأجيال اللاحقة للمهاجر. إن علي عبد العال يشرّح بمبضع الجراح النفسي الماهر وبهدوء لحم رضّة النفي – الهجرة في أشكالها الحادة والمتطاولة ويستكشف التمزّقات المباشرة وغير المباشرة التي تحدثها في نسيج شخصية المهاجر خصوصا في بطانتها الداخلية التي لا يستطيع الوصول إليها سوى المبدع أو المحلل النفسي، وكيف تكسّر أواصر علاقاته مع الآخرين ومع نفسه بشكل خاص والتي توصله إلى حدّ الاغتراب الكامل عن الذات والناس والموجودات، اغتراب موغل في الأذى والقسوة والشمول الذي يطول أدق تفاصيل حياة الفرد بحيث أن من الصعب الحديث عن "ولادة جديدة" في المنفى – المهجر كما تحدث عن ذلك عالما النفس : ليون غرينبرغ وربيكا غرينبرغ في كتابهما : التحليل النفسي للمهجر والمنفى، وأسهم في وصفها إجرائيا ولو بصورة جزئية المفكر الراحل " إدوارد سعيد " في كتابه : الآلهة التي تفشل دائما . بالنسبة لعلي عبد العال فإن حالة الإنسان المنفي الذي سيواجه انقطاع جذوره ونكوصه الطفلي العاري تشبه تلك الأسطورة التي تتحدث عن مغارة مخيفة من يجرؤ على دخولها لا يحصل له شيء، في الظاهر، سوى أنه يخرج وقد فقد القدرة على وصف ما شاهده في الداخل للآخرين ولم يعد بإمكانه العودة إلى حالته الطبيعية التي كان يحياها قبل المغامرة الملغزة . لا يمكن أن يعود المنفي ولا المهاجر إلى ما كان عليه قبل انخلاع جذوره ولا يستطيع وصف أبعاد التجربة وتحولاتها الصادمة الملغزة بدقة . من ينبري لوصفها بحرارة التجربة الملتهبة هو المبدع، في حين يتكفل المحلل النفسي باستقصائها ببرود محايد . وقد تصدى علي عبد العال لهذه المهمة حاملا امتيازا حاسما وهو أنه بالإضافة إلى حساسيته الإبداعية التشخيصية  يعيش تجربة المنفى الساحقة من داخلها منذ أكثر من ربع قرن حيث غادر بلاده مكرها منذ نهاية السبعينيات لـ (يستقر) في السويد (لا تقلق عليّ . عندي ربع قرن من الخدمة في المنفى – جيسيكا – ص 184) . إنه يحلّل لا يصف ويعيش لا يراقب ويعاني لا يتفرج ويتأمل لا يسجل . وهو يدرك أيضا خصوصية الاستجابات النفسية والمرارات الاجتماعية المتفردة التي يواجهها المنفي – المهاجر العراقي الذي دشن أول حالة هجرة في التأريخ قام بها النبي ابراهيم (ع) هربا من القمع الديني ومسخ حرية الإنسان وبحثا عن ملاذ آمن لمعتقده الجديد . وعلى أرض العراق شهدنا نتائج أول هجرة أسطورية رمزية تتمثل في لعنة إسقاط آدم من الفردوس (وطنه الأول) بعد تعدّيه مع حوّائه على الشجرة المحرمة . إن علي عبد العال في الوقت الذي يعيش ويحلّل الظاهرة ببصيرة المبدع الإنساني الذي ينشغل بآلام واندحارات الإنسان في كل مكان فإنه يدرك بحدّة أن أفضل ما يقدّمه للتجربة الإنسانية الكونية هو (شخصنة) تلك الآلام والإندحارات من خلال أنموذج بشري حي ونابض بعذابات النفي والهجرة ؛ أنموذج خبره علي حدّ لعنة التلبس والإنهمام العاطفي المضني وهو الإنسان العراقي .ويمكننا القول أنه إذا كانت تأملات علي عبد العال التحليلية للمنفى والهجرة في بعدهما الكوني المتن النظري لأطروحته فإن اشتغاله على الإنكسارات والاستجابات التي تحدثها هذه الرضّة الهائلة في روح الإنسان العراقي ووجوده هو جانبها التطبيقي . وهذا التعشيق المنضبط والمنطقي والخلاق بين الجانبين يجري تحت غطاء رؤيا نفسية عميقة تحاول الإمساك بتفاعلات مكبوتات اللاشعور المحتدمة التي تستثيرها الدلالات الرمزية لتجربة النبذ الموجعة ويقدمها علي عبد العال بصورة تؤكد السبق الإكتشافي الذي قدمه سيجموند فرويد وتذكرك به حول ريادة المبدعين - الأدباء تحديدا- في كشف آليات وصراعات اللاشعور قبل علماء النفس وأطبائها . فالأطروحات النظرية الحاكمة في التحليل النفسي التقطها الأدباء أولا في أعمالهم التي ترتكز أساسا على صراعات النفس البشرية وتصادم الإرادات والعواطف والأحقاد والمصالح . وأكثر هذه المواقف تنسرب تحت غطائها دوافع ومكبوتات اللاشعور. الأمر الذي يتيح للمبدع – ومنذ مئات السنين – تقديم القراءة " الانفعالية " المحتدمة للغة اللاشعور إذا جاز التعبير،  في حين جاء المحلل النفسي وعالم النفس متأخرين – بعد منتصف القرن التاسع عشر تحديدا أي منذ قرن ونصف - ليقدما القراءة العقلية والمعرفية المنهجية لهذه اللغة وحل شفراتها المركبة .فالعقد التي صار تداولها تقليديا في أدبيات التحليل النفسي طرحت أولا من قبل المبدعين مثل عقدة أوديب وعقدة ألكترا وعقدة قابيل وعقدة المحارم وغيرها .كما ضمت النتاجات الإبداعية والأسطورية الكثير من أساسيات التحليل النفسي وعلم النفس مثل الآليات الدفاعية - الإسقاط والإنكار والتبرير والإنشطار والإزاحة .. إلخ ودور الأحلام في التعبير عن الرغبات المكبوتة،وفعل  مكوني العقل من شعور ولاشعور وأدوار مكونات الجهاز النفسي وصراعاتها؛الأنا والهو والأنا الأعلى ووجه الأب الشرير (إبليس / الشيطان)، وصورة الأم الخاصية، وغيرها الكثير الكثير .

لننظر كيف جسد  (فرانتس كافكا) في روايته " أمريكا " الإحساس بالارتباك وعدم الثبات الذي يعيشه المهاجرون الجدد والذي لا يتحدد بالمخاوف والقلق إزاء  المجهول وحسب، وإنما بالارتداد والنكوص الذي لا يمكن تفاديه والمتأتي من تلك المخاوف أيضا . إنه النكوص الذي يستدعي الإحساس بالعجز ويعيق أحيانا الاستعمال الفعال " للمصادر " التي يعتمدون عليها، وتعد " حقائب السفر " جزءا منها . يصف كافكا هذه الحالة بطريقة بليغة ومؤثرة في قصته " أمريكا " . إنه يصف الإثارة الكبيرة التي يواجهها البطل كارل، حينما تصل السفينة التي تقله كمهاجر إلى ميناء نيويورك، وكان يتهيأ للنزول من على سلّم السفينة : " عندما رست السفينة على ميناء نيويورك، شاهد تمثال الحرية، وبدا له أن شعاع الشمس أصبح أكثر قوة "، ولكن سرعان ما تحولت نشوته إلى شيء مزعج، عندما اكتشف فقدان حقيبته، في الوقت الذي كان يبحث فيه عن مظلته ونسي الحقيبة في فوضى وصول السفينة : " ... الآن، لم يدرك تماما لِم كان يحرس حقيبته طوال سفرته، بحيث كلفته أحيانا عدم النوم، وهاهي الحقيبة نفسها تسرق منه بكل سهولة " .

إن الحرص المفرط على الحقيبة الذي كلف بطل كافكا المهاجر جهدا وأرقا يثير انفعالنا وتعاطفنا مع خسارته لآخر بقية (أمومية) حملها معه من وطنه الذي غادره . لقد سهر الليالي ليحافظ على هذه اللقية التي كانت مرتكزا يشيع في روحه القلقة الاطمئنان في رحلته الانتقالية المربكة من المعلوم إلى المجهول المتمثل في البلد الجديد .

هذه هي القراءة الانفعالية – لنقل الشعرية – التي يقدمها كافكا لحالة بطله المهاجر النفسية وهو يخسر حقيبته لحظة الوصول إلى ميناء البلد الجديد . لكن يأتي عالم النفس أو المحلل النفسي ليقدم القراءة العقلية – المعرفية – النفسية القائمة على فك المعاني الرمزية لمكونات المشهد الذي رسمه الروائي وصلتها بالواقع النفسي للمهاجر، فيقول : " يرمز فقدان الحقيبة إلى سلسلة من الفقدانات المرتبطة بمعاناة الهجرة . فقدان أجزاء من ملكيات قيمة . وعلى صعيد آخر يجسد الفقدان العابر والمؤقت – الأنا والهوية الشخصية المرتبطة بصدمة الوصول إلى البلد الجديد .... المجهول لدى كافكا كان ذلك الشخص الذي سرق حقيبة المهاجر .فهو يعبر عن المجهول بصورة عامة، الذي يثير اضطراب القادم الجديد واختلاله ..إلخ – التحليل النفسي للمنفى ص90و91" . وسنلاحظ أن الرسالة بعد أن أصبحت بين يدي " العالم " فقدت الكثير من حرارتها الانفعالية التي أججها " الكاتب " رغم أنها أصبحت أكثر منهجية وتنظيما .   

أما علي عبد العال فإن قدرته الفذة في ملاحقة أدق التفاصيل النفسية والسلوكية لأبطال قصصه ورواياته من المنفيين والمهاجرين تتيح لنا أن نجترح له وصفا آخر، بالإضافة إلى اختصاصي أدب المنفى، هو " اختصاصي سيكولوجيا المنفيين " لأنه يستكشف بنظرة ثاقبة وحيّة كل مسارات التحولات الظاهرة والدفينة التي تصيب شخصية المنفي / المهاجر . في تفكيره .. تداعياته .. صلات ماضيه بحاضره .. تقلبات مزاجه ..توترات حياته العائلية ..اضطراب مفهومه للزمن..علاقاته بالموجودات في الوطن الأم والبلد المنفى .. موقفه من الحياة والموت .. نظرته إلى الجنس كطريق دفاعية .. تساؤله عن الهدف من الوجود .. أساليبه التكيفية مع الحياة الجديدة ..حاجز اللغة وإشكالاته في تأسيس الهوية الجديدة .. الهوية الجديدة وصلتها بالهوية القديمة كديمومة أو انقطاع .. وغيرها بدءا من اللمحات السلوكية "الصغيرة" لكن الكبيرة بمعانيها الشائكة وتعبيراتها الدفاعية عن الارتباك النفسي وانتهاءا بالانجراحات الشخصية الكبرى التي يوغل علي في عملية " تأملها " من جوانب غير مسبوقة ليعتصرها ويحصل على خلاصتها الفلسفية والنفسية التي كثيرا ما تتكثف في صورة أقوال بليغة مركزة . في قصته القصيرة " رسائل ميتة إلى الفردوس المفقود " يتحدث عن عراقي منفي سياسيا يعيش في السويد، أقام له أهله العزاء للتخلص من مضايقات الأجهزة الأمنية ..وهو يواصل كتابة الرسائل مع إدراكه استحالة إرسالها إلى أهله، خصوصا أمه، في العراق ..في لمحة "بسيطة" جدا لكن هائلة الدلالات من الناحية السلوكية يقول الراوي الذي يعمل في مكتبة عامة هناك : "الطريق الذي اسلكه إلى المكتبة هو الممر الخلفي، حيث مرآب السيارات والمركبات الأخرى وليس الطريق الاعتيادي العام . لا اعرف لماذا على وجه التحديد، لكني استطيع التخمين من خلال اللذة القصيرة التي تراودني عند المرور من الطريق الخلفي، إن هذا الطريق يخصني وحدي . أوه.. كلا،لم تكن الفكرة دقيقة بما فيه الكفاية .أقصد عند المرور يوميا عن طريق المرآب أشعر وكأنني أعرف المكان أكثر، والناس الغرباء لا يفكرون بالمرور من هنا عادة، ذلك يمنحني إحساسا بالخصوصية له نكهة المعرفة بالمكان . من هذه الدرب المنزوية أستطيع رؤية العمال – عالم صغير جدا ص108" . إن الراوي المنفي الذي "مات "في موطنه الأصلي وانبترت كل امكانات تواصله مع الحضن الأمومي لا يمكن أن يمنح "ولادة جديدة في المنفى ..إن ارتياح الراوي المعلن لسلوكه الطريق الخلفي المهمل كطريق يخصه وحده هو في الحقيقة تبرير لعجزه الفاجع عن سلوك طريق "الحياة " الصاخب الأوسع . إن الراوي، من حيث لا يدري، قد روّض استجاباته وإلى الأبد على أساس العيش المجازي في الدروب الخلفية، وهو امتداد إلتفافي في المنفى لحالة موته التي أعلنت في موطنه الأصلي . إن الموت هو الطريق الخلفية للحياة التي لا يطأها أحد غيرنا . لكن في "تأمل" لشرخ وجودي كبير بين ماضي الفرد المنفي في الوطن الأصل وصلته بالزمن المستقبل الذي ينتظره في بلد المنفى يقول الكاتب في " أزمان للمنافي": (تصل في هذا اليوم إلى السويد، ثم تطلب اللجوء .. يجب أن لا تنسى تاريخ هذا اليوم المهم . لسبب بسيط يتلخص بكونك ستبدأ حياتك من جديد بشكل كامل . ربما لا تصدق ذلك، ولكنك ستصدقه عندما يسرق عمرك الزمان ؛ أي بعد فوات الأوان . تسجل في الدوائر الرسمية كمواطن جديد في هذه البلاد، تأريخك يبدأ من الآن . تاريخك القديم وماضيك الروحي ليس له أي اعتبار أو قيمة في مسار مستقبلك الجديد القادم .أنت الآن إنسان جديد كل الجدة، حتى لو كنت مجرد شخص صعلوك وتافه كما هم غالبية البشر على الدوام – ص 102) . هنا ينمثل الجانب الأكبر من كارثة النفي .. أن تسجل ولادة جديدة ليس لطفل مولود حديثا ولكن لإنسان راشد بلغ من العمر عتيا .. على وتر هذا التناقض المدوي بين ولادة جديدة ينبغي أن تعود فيها طفلا في كل شيء حتى في تعلم اللغة من جديد مثلا وبين ماض أنضجته تجارب طويلة ومريرة يطلب منك نبذه إلى الأبد، يضرب علي عبد العال بقوة ..وبقوة عاتية توقظ عنقاء قلق المنافي التي لا تموت والتي سيكون هذا التمهيد مدخلا لولوج جحيم الجانب التطبيقي القائم على تحليل نماذج من النتاجات القصصية والروائية لهذا المبدع الاختصاصي ؛ اختصاصي أدب المنافي .         

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1513 السبت 11/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم