قضايا وآراء

من مركز قرطبة إلى حرق القرآن / صالح الطائي

(ما لذي حدا بالقس للدعوة للقيام بهذا التصرف ؟ والقس نفسه يدعو إلى تطبيق تعاليم المسيح التي تدعو إلى نشر المحبة والسلام حتى مع الأعداء!)

 

لا ينكر أن لأمريكا تاريخا حافلا من التسامح الديني والحرية الدينية بل وتكاد أمريكا حتى وقت قريب أن تكون من أكثر البلدان الغربية تسامحا مع الأديان عامة والإسلام خاصة، وفي مدينة نيويورك كبرى المدن الأمريكية هناك كم كبير من المساجد الإسلامية التي تؤدى فيها الطقوس والعبادات بحرية تامة، ففي حيّ "هارلم" أقيم مسجد في بجانب واحدة من ثلاث كنائس متقاربة، وعندما يختلط المصلون الذكور على رصيف الشارع بعد انتهاء الطقوس يستحيل عليك التمييز بين من خرج منهم من الكنيسة ومن خرج من المسجد.

الحكومة الأمريكية من جانبها كانت تسهم في تنمية شعور التسامح الديني وقد أصدرت خلال السنوات السابقة مجموعة طوابع بريدية خاصة بأعياد المسلمين، كما أن أضواء "الإمباير ستيت" تحول في كل عام إلى اللون الأخضر احتفالا بحلول عيد الفطر الإسلامي.

أما تاريخ علاقة الإسلام مع أمريكا فتعود واقعا إلى بدايات نشوء التاريخ الأمريكي يوم  جاء قادمون مبكرون من المسلمين الأفريقيين خاصة على سفن العبيد التي عبرت المحيط الأطلسي متوجهة إلى أمريكا، وأسهم هؤلاء في بناء أمريكا وبناء ثقافة التعايش الديني في المجتمع الأمريكي ولاسيما منهم من تشبث بدينه ولم يفرط به تحت ضغط العبودية الذي تحدث عنه الكاتب "أليكس هيلي" في روايته " الجذور" إلى أن حانت لحظة تحرير العبيد

نعم في هذا المجتمع المتعدد الأعراق والثقافات لابد من وجود فئات تقف ضد هذا التوجه التسامحي وتحاول أن تعكر مياه الألفة وهو ما كان موجودا بشكل محدود من قبل، ولكن تأثيرها إلى ما قبل تفجيرات 11 أيلول كان محدودا ولا يكاد يذكر

ثم جاءت أحداث 11 أيلول لتعطي لهؤلاء المتطرفين فرصة ذهبية للظهور إلى السطح والتحرك بحرية والحصول على التأييد والدعم من الشارع الأمريكي الذي تتحكم به جهات مختلفة بعضها معاد للإسلام.

 ورغم ظهور الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بعد أحداث أيلول في أحد المساجد للتدليل في إشارة إلى أنه لا يحمّل المسلمين مسؤولية العمل الإرهابي، إلا أن إدارته بدأت بعد الأحداث مباشرة بانتهاج سياسة قمعية ضد كل المسلمين الأمريكيين بما فيها اعتقال مئات المسلمين وزجهم في سجون سرية وتعذيبهم والتحقيق معهم بشكل قاسٍ دون أن توجه لهم تهما أو يكونوا قد ارتكبوا جرما أو مخالفة للقانون، وإحالة البعض الآخر منهم إلى المحاكم العسكرية،وأخيرا توجت عملها المعادي للإسلام بغزو بلدين مسلمين هما أفغانستان والعراق وأحتلالهما، لتنتقل عدوى العداء إلى الشارع الأمريكي حيث بدأت أخبار التجاوزات تنتشر بسرعة، فخلال أسبوع واحد طعن في نيويورك سائق سيارة تاكسي مسلم من قبل أحد الركاب، واقتحم أحد المخمورين مسجداً في نفس المدينة وبال على سجادات الصلاة، وقام آخرون بإلقاء الحجارة على المركز الإسلامي في "ماديرا" بكاليفورنيا، وبعدها شب حريق متعمد في  مسجد بولاية "تينيسي".

 وعلى المستوى الرسمي تجد "سارة بيلين" المرشحة السابقة لمركز نائب الرئيس الأمريكي وحاكمة ولاية سابقة، ، و"نيوت غينغريتش" عضو الكونغرس وأعضاء آخرون من مجلس النواب يشوهون صورة المسلم الأمريكي وعقيدته.

لقد جاءت مسألة بناء مركز بارك 51 الإسلامي الاجتماعي المعروف بمركز غرناطة قريبا من "منطقة الصفر" أو "الأرض المقدسة" كما يسميها الأمريكيون ومقترح بناء مسجد في "مانهاتن السفلى" على بعد مربعين منها، وأربعة مساجد أخرى مخطط لها على بعد عدة أميال عذرا للمتطرفين الأمريكيين لتأجيج روح الحقد المعادي للمسلمين والذي انتشر عبر الولايات المتحدة كالنار في الهشيم.

ومع أن هناك أمريكيين آخرين ساندوا فكرة إقامة المركز مثل "جون ستيورات"  الذي يقدم برنامجا فكاهيا باسمه وعمدة نيويورك "مايكل بلومبرغ" وعضو الكونغرس "جيري نادلر" والسناتور "راس فاينغولد" والسناتور "آل فرانكلين" وصحفيين وشخصيات شعبية، وحتى سارة بيلين نفسها قالت عن المشروع:  (يجب ألا يُعتبر قرب بارك 51 من نقطة الصفر تحريضاً، وإنما رسالة بأننا من نفس الفريق في النضال ضد التطرف.) إضافة إلى تشكيل أربعين منظمة حقوق مدنية  تحالفا باسم (جيران نيويورك من أجل القيم الأمريكية) لدعم بناء المركز، كما أن لجنة مدينة نيويورك للمحافظة على المباني الأثرية صوتت بالإجماع ضد إعطاء المبنى وضع مبنى أثري تاريخي، بما يسر مهمة بناء المركز إلا أن ذلك لم يوقف تنامي روح العداء للإسلام بين المتطرفين الذين يؤمنون أن ليس في الإسلام ولا بين المسلمين احد من المعتدلين وطالما رددوا عبارة: (أين هم المسلمين المعتدلون ولماذا لا يرفعون أصواتهم؟)

إن الخلاف الذي أثاره بناء مركز غرناطة قد تكون له علاقة بفكرة البناء في هذا المكان بالذات، وبالممولين للمشروع ولاسيما أن واحداً من أكبر الممولين هو الأمير السعودي الوليد بن طلال أحد أكبر مالكي الأسهم في مؤسسة اليهودي "روبرت ميردوخ" الإخبارية التي تمتلك "فوكس نيوز"  وصاحب قنوات "روتانا" للأغاني والأفلام!!

في هذا المناخ المضطرب تأتي فكرة القس المتطرف (تيري جونز) لتقوض كل أواصر العلاقات بين المسلمين والعالم الغربي

 ومن هذه الخلاصة أود القول أنه يجب أن لا يلقى اللوم على الأمريكيين المتطرفين وحدهم فنحن أيضا ملامون، ولكن ذلك يجب أن لا يثني الأطراف عن التفكير جديا أن لكل منا معتقدات مختلفة وفكر مختلف ولكن ذلك لا يمنع أن نتشارك في نظام عالمي من الأخلاقيات يسمح لنا أن نتعايش معا للعمل من أجل مستقبل أكثر أمانا للكون يحترم فيه الإنسان لأنه إنسان أولا وأخيرا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1513 السبت 11/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم