قضايا وآراء

تحوير الكلمات ..من الهزل الى الهذيان الجمعي / اسعد الامارة

انهم لم يفلحوا في ضبط هذا السلوك والتحكم فيه فجاء بشكل محور مقبول اجتماعيا لذا فإن مواهبهم الفكاهية تزودهم بما يمكن لهم من الظفر بقدر كاف من الاتزان ما كانوا ليحصلوا عليه بغير موهبة الهزل كما يقول استاذ الاجيال البروفيسور مصطفى زيور رحمه الله.

حينما تمر امة او شعب او جماعة او اقلية او طائفة بحالة كبت جمعي مفروض من حاكم متسلط او نظام قمعي يحسب الكلمة ليعاقب عليها او بفعل ضغط شديد بسبب انفلات الوضع الاجتماعي مع تغيرات جذرية في قيم المجتمع وتفسخ تقاليده وتفتيتها، او ربما كثرة الازمات الجمعية التي لا تستثني الغني او الفقير او السياسي او الانسان البسيط مثل حالة الوضع في العراق وانفلات الآمن يحدث مثل هذا السلوك ليصبح سلوكا جمعيا وهو تعبير عن عدوان في صورة مقنعة وهو ايضا تعبير عن طائفة من الكلمات التي تستبدل او تحور بشكل ساذج او عفوي مقبول بين الناس وهذه الحالة من (التسفيه) تعفينا برهة من التزام آداب المجتمع فتمكن حينها الميول التي لا تذكر إلا في المواقف الجادة والمقرونة بمشاعر الاحترام الاصيلة قد فلتت ولم يعد السامع يتأفف منها لشدة ما هو اكبر منها من هموم وضغوط آمنية او حياتية تهدد وجوده وهو في عمله او حياته اليومية، لا بل في بيته ايضا، لذا حينما سأل احد الاخوة المصريين صديقه بقوله : ان الشعب الفلاني بدأ ينكت، رد عليه وقال : اولاد الكلب جاعوا .

علينا الان ان نسبر اغوار سيكولوجية الفكاهة في هذه السطور بشكل مبسط ان سمح لنا التعبير عنه سيكولوجيا من وجهة نظر علم نفس الاعماق . ان التحوير بالكلمات المستخدمة الان في بعض المجتمعات وخصوصا التي مرت بدوامات متكررة من الحروب والازمات والكوارث ومنها الشعب العراقي ممن عايش كل تلك الكوارث المصطنعة سياسيا منذ اكثر من اربعة عقود مضت، تدلنا الخبرة التحليلية النفسية ان الاستخدام الواسع لهذه الكلمات وتحويرها هو استهتار بالمنطق، وهو حق طبيعي للانسان ان يلجأ اليه، اي هو خروج على قواعد المنطق برهة قصيرة وهو يدل ايضا الاستمتاع بعبث الطفولة ويقول (د. مصطفى زيور) هذا هو الحال ايضا في كل الوان الفكاهة التي تستند الى اللعب بالالفاظ او التي تستخدم كلمات ذات معنيين –احدهما مختلف نوعاً ً ولا يتفق مع منطق الموقف ولكن إذا كان العبث بالالفاظ كما يفعل الاطفال مما يستثير الضحك فهو ليس سببا ً كافيا ً لتأليف النكتة الناجحة بل ينبغي لذلك ان يتوافر شرط اساس وهو ان تمكننا النكتة بما في تكوينها من حذق، من مغالطة ضوابط المنطق والافلات برهة من مقتضياته التي لاشك في انها جهد لابد من بذله تمكينا ً لنا من البقاء والظفر في معترك الحياة الصعبة بكل مخاطرها اليومية في الاصابة الدائمة او ربما الموت والفناء، من هنا كان الهزل وتحوير الكلمات يبعث الراحة ولو لبرهة من الوقت لاسيما ان الجد اصبح وامسى عبء وتضييق.

ان تحوير الكلمة الآني في لحظة التحدث بحضرة الاخرين هو الانتقال من اللغة الفكرية الرمزية الى اللغة التصويرية وهو لانغالي اذا قلنا نص يقرأ الظاهر منه ويحيلنا الى النص الكامن عبر افكار قائله وهو بنفس الوقت لغز لتركيبة صورية مترابطة فيما بينها بمعان وصور مختلفة سريعة التشكيل، استطاع الشخص ان يخدع المراقب القيمي والرقيب المحاسب على السلوك والالفاظ عن طريق استبدال الكلمات الجادة بكلمات تميل الى التسفيه بكلمات مغايرة وهو صداقة مع النفس ولو لوقت قصير ليعيد التوازن ولا نستغرب انه يأخذ فعل اليات الدفاع "الحيل الدفاعية – ميكانيزمات الدفاع-" في استعادة الذات المضطربة حتى وان جعل الشخص ان يتعرى امام ذاته ويكشف نفسه بنفسه .

ان تحوير الكلمات لدى شعب خضع لضغوط وازمات وكواث قل شعب من الشعوب ان عاناها لفترة اربعة عقود واكثر ان يلجأ الى المصالحة مع النفس وان كانت هذه المصالحة صعبة لأن هذا يعني التوفيق والتناسق بين قدرات الفرد واهدافه وترويضه المشاكل الآمنية والحياتية القاتلة والماديه والبيتية والخاصة مثل العاطفية فهو بحق استطاع ان يزيح هذه الاستحالة من القدر اليومي في حياته من الاحباط والقلق المستمر الى الكفاح والخلق والاستمرار في الحياة .

 

د. اسعد الامارة *

الاكاديمية الاسكندنافية الامريكية

[email protected]

* استاذ علم النفس

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1515 الاثنين 13/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم