قضايا وآراء

النقد الادبي: قراءة في نص "الصّخرة والبحر والإلهام" للقاصة هيام الفرشيشي.. / محسن العوني

عندما يحرن الواقع ويسدّ آذانه ولا يحتفي بالرغبة الإنسانية المشروعة ويصل به الأمر إلى أن ينكر على الإنسان آدميّته.. كيف يكون موقف الفنّان كائنا مرهفا وانفعالا قويّا وعاطفة تطلب مثلها استجابة وتفاعلا؟؟؟..

 

في هذه الحالة لن يجد أمامه سوى..الجنون.. أو.. الحلم.. فإذا أمعن في الجنون قد يصل إلى.. الجريمة.. وإذا أمعن في الحلم.. قد يصل إلى.. عروس البحر.. بحر الحرمان والضياع والتلاشي.. كما هو حال الشخصية المحورية في النص السردي " الصخرة والبحر والإلهام" للقاصة هيام الفرشيشي.. الجنون والحلم.. طرفا الدائرة الجهنميّة التي أطبقت عليه فحوّلته إلى.. قاتل.. بعد أن كان منشغلا بالبحث متطلعا نحو مستقبل أفضل يطرد به الظلام الذي يسكن أفكاره ويجعل الشمس تدخل غرفته وحياته..

مهما كان الحيوان حرونا.. فهو يظل أرحم من واقع يمعن في اعتصار الروح وتجفيف المنابع.. والفنان بين الجنون و.. الحلم شبيه بأوليس.. غير أن لا بحر.. ولا بيلينوب تهبه تيليماك ثمرة حلم متحقق..

الشخصية المحوريّة في النص السردي " الصخرة والبحر والإلهام" ظلت محكومة بالأمل وجها آخر للحلم.. حتى إذا انقطع الحلم وقع في الجنون والجريمة.. أليست الجريمة في النهاية جنونا.. أو إمعانا فيه؟!..

 

    المبدع في مجتمع طارد للإبداع ..

التساؤل الجوهري الذي يطرحه النص هو التالي :"كيف يجدون طريقهم إلى الإبداع بين روائح البول والسمك النتن وبقايا الأطعمة المتعفنة المنبعثة من القمامة التي ما انفكت القطط  تنبشها ليلا نهارا!؟" التساؤل أعتى من السؤال لأنه لا يركن إلى إجابة / إجابات.. ويظل ماثلا شاهدا.. يحيل النص على أوضاع لا إنسانية يعانيها الطلبة والمبدعون الشبان في مجتمع طارد للإبداع منهمك في تحصيل القوت خوفا من الموت.. فتكون النتيجة أن يؤتي من حيث كان يحذر.. مما يجعل منه نصا واقعيا إلى أبعد الحدود.. بل هو نص فاجع صاعق لو استبدلنا عينا فاحصة باحثة محللة هي عين النظر بالعين التي خدّرها وأغمضها الإلف والتعوّد.. الذي يجعل ويحوّل غير العاديّ عاديّا والشاذ طبيعيّا.. مما يحوّله إلى وثيقة سرديّة عن أوضاع اجتماعية ونفسيّة واقعيّة مريرة يعانيها المبدعون شبابا وكهولا وشيوخا.. هو من تلك النصوص التي وصفها همنجواي في قوله :" إن مقياس التزام الكاتب بالصدق ينبغي أن يكون عاليا لدرجة أن ينتج ابتكاره الناشئ عن تجربته شيئا أصدق من كل ما هو واقعيّ" فهو ابتكار ناشئ عن تجربة ينخرط في تلك النصوص التي ظهرت في العالم العربي وبدأت عن طريق السرد بعبارة "محمد برّادة : "تنزع أردية الوقائعيّة الفضفاضة وغلالات التلوين الوردي الرومانسي لترتاد مجاهل الذات والمجتمع عبر الاستنطاق المتعدّد المنظور لواقع تداخلت فيه القيم والسلوكات والمواقف" * أذكر ذلك المبدع الشاب الذي صرّح للصحافة الثقافيّة خلال الثمانينات من القرن الماضي :" أتنفس في محيط تحققت فيه كل أسباب الاختناق !؟.. قبل أن تدركه رحمة المؤسسة الثقافية الرسمية فيصبح مبدعا معترفا به ومكرّسا إعلاميا..

"الصخرة والبحر والإلهام" نص سرديّ لا يخترق الحلم والجنون تلك الأقاصي والتخوم البعيدة.. بقدر ما يتغلغل في الواقع ليفجّر ما يختزن من الألم والفجيعة والحرمان والإحباط واللاإنسانية .. يقول الدكتور محمد النويهي :"يتميّز الفنان بميزتين.. أن إحساسه أشدّ إرهافا وانفعاله أقوى وأعمق من غير الفنانين وأن عنده القدرة على نقل عاطفته في نوع من الأداء يثير فينا نظيرها.. واجتماع هاتين الميزتين هو الذي يدفعه إلى إنتاج فنّه وهو الذي يحقق للإنتاجه هذا خاصية الأداء الفني. أمَا والفنان يمتاز بتينك الميزتين.. فإن نتيجة اجتماعهما عجيبة حقا.. هي قدرته على أن يزيدنا فهما بالتجارب الإنسانية حتى التي حدثت لنا نحن في فترة ماضية فتأثرنا بها تأثرا كنا نظنّه عميقا.. دعنا نؤكد أن الفن هو الذي يتمّم إنسانيّتنا.."*

 

• خطاب الألم..خطاب الجنون.. خطاب الحلم..

بمجرد أن انتهيت إلى خاتمة النص السردي تذكرت ذلك الرسام الذي صرّح للصحافة وهو يتسلم جائزته الكبرى قائلا بكل شجاعة ووثوق :"عانيت من التهميش وهمت على وجهي وعشت مشرّدا وتعاطيت مهنا كثيرة لضرورة العيش طالما شغلتني عن الرسم.. وقد صمّمت ذات ألم : إما أن أصبح رسّاما أو.. مجرما!؟.."

في الحالة التي نحن بصددها .. نجد أن الباحث الذي يهوى الرّسم فشل في إنجاز بحثه كما فشل من قبل في الرّسم وتحوّل إلى.. قاتل!؟.. يظهر أن الواقع ازداد ضراوة وفتكا وإمعانا في تعذيب كل باحث وفنان ومبدع شاب عظمه طريّ في مواجهة واقع فظيع عينه أقوى من.. الرّصاصة.. لفرط وقاحته وعجرفته التي لا تعرف حدودا..

خطاب الألم.. خطاب الجنون.. خطاب الحلم.. تحيل على الدائرة الجهنميّة للواقع.. الغربة.. التهميش.. الفقر.. الكبت.. الوحدة.. الحرمان.. الجنون.. والذاكرة الموشومة لعالم سورياليّ.. دائرة جهنميّة تضطره إلى إدمان الحلم والبحث.. ملاذا ووقاية من صهد النار والهجير.. وفي بيت الشاعر الجاهلي الذي لا تنفد دلالته وإيحائيّـته  تعبيرا وتصويرا  وتمثيلا  لحالة اليتم التي يعانيها المبدع في مجتمع لا يعبأ به لأنه لا تنقصه المشاكل ووجع القلب كما يقال..

ذروني والفلاة بلا دليل            ووجهي والهجير بلا لثام

عبثية الواقع من القوة لدرجة أنها في أحيان كثيرة تتماسّ مع الجنون.. غير أنه جنون العقلاء والفنانين.. لا جنون الذهانيّين والمرضى.. وهو الجنون الذي صوّره ديك الجن الحمصي..

مجانين ولكنّ سرّ جنونهم عظيم           على أعتابه سجد العقل

أو ذاك الذي عبّر عنه أوليفر ويندل هولمز "إن العقل الضعيف لا يختزن من القوى ما يكفي لإيذاء صاحبه.. فالغباء كثيرا ما يقي الإنسان شرّ الجنون"

تحفل النصوص السرديّة العربيّة بخطاب الألم حدّ الجنون.. وخطاب الحلم حدّ الذهول عن الواقع الفاجع..

وكأنّ كتاب السّرد في العالم العربي قد استبطنوا عبارة تولستوي :"لا ينبغي أن تكتب إلا في الوقت الذي في كل مرّة تغمس ريشتك في الدّواة تترك فيها قطعة من.. لحمك"

وتظل الفنّية والأصالة والإضافة عاملا محدّدا في تقييم الأعمال حسب قدرتها على الإقناع والوصول إلى تلك المراقي العليا التي قلّ من يدركها..

"لا ينبغي أن نضع خلا في كتاباتنا .. ينبغي أن نضع فيها ملحا" مونتسكيو

 

    الإبحار.. والدلالة المعلّقة.. 

"جرّب الإبحار!" "البحر مورد رزق لا ينضب ولكن لا يلجأ إليه إلا من تضطرّه مرارة الفقر لذلك!.."

ظل معنى الإبحار في النص دلالة معلقة غامضة هلاميّة غير محدّدة.. لعلها إن ربطناها بركن "أحداث المجتمع" التي وردت في النص أكثر من مرّة.. تعني الهجرة غير الشرعيّة عن طريق البحر.. أو ما يعبّر عنه في تونس "بالحرقان" .. زوارق الموت التي تقطع البحر نحو بلدان الشمال.. هذه الظاهرة التي لم تعد قاصرة على أبناء الفئات الشعبيّة الفقيرة محدودة الدخل أو حتى المتوسّطة.. بل طالت حتى أبناء الفئات المحظوظة نسبيا.. فقد حدّثني أستاذ جامعيّ عن أولاده الذين يخططون "للحرقان".. عاد إلى الوطن بعد أن طلق زوجته الفرنسية وارتبط ببنت البلد وأنجبت له أولادا أرهقوا شيبته.. قائلين وكأنهم يردّدون كلمات أغنية راب.. "إنحب نعيش كيما الناس النظاف.. في النظافة.. إنت ميت ميت.. توّا عايشين أحنا! هنا الواحد ميتdéja! عاد يموت يقولو الله يرحمو خير.. ! كي ترىles gens bien كيفاش عايشين تعرف روحك إلّي إنتي ماكش عايش.. ميت تمشي ياكلك البحر خير ملي تعيش هكه.."

 

    رمزيّة أوليس ودلالته..

أوليس(Ulysse) واحد من الوجوه الأكثر جذبا وتمثيلية للهيلينستيّة (l’hellénisme) وهو ليس أحد الشخصيات الأساسية لحرب طروادة فحسب إنّما هو واحد من هؤلاء الذين يدين لهم الإغريق بانتصارهم النهائي.. نصائحه التي كان يزوّد بها حلفاءه مكنتهم من النصر في عدّة مناسبات غير أن مزاياه ظهرت خاصة خلال سفره الطويل الذي قصّه ورواه هومير(Homère) في الأوديسة(l’odyssée)  والذي قاده إلى الجزيرة الصغيرة حيث حكم وحيث كانت تنتظره زوجته بينيلوب وابنه تيليماك ووالده لا أرت.. ما يميّز أوليس في المقام الأول إنسانيته العميقة.. مرافقوه إذا كانوا يطيعونه فليس لأنه ملك فحسب كما يفعل المحاربون.. إنما خاصة لأنهم يرون فيه روحا متسامية قادرة على تجاوز كل الصعوبات والعقبات.. كان أوليس مقتنعا تماما أنه لا توجد ظروف حيث الذكاء والبراعة لا يمكن أن تفرض حكمها.. يظل حسب المثال الهيلينستي  رجلا معتدلا.. كانت آلهة أثينا تحميه دائما لأنه كان يونانيا بصورة نموذجية..

ويظل مصدرا للإلهام.. غير أنه في النص السردي "الصخرة والبحر والإلهام" يظل في عالم المثال.. فنجد الشخصية المحوريّة في النص تنتهي إلى جريمة قتل تحيل على سقوط الأسطورة وتحطمها على صخرة الواقع الصلدة.. هدى تلك التي كانت تقاسمه عشقه للفن التشكيلي تهجره لتتزوج كهلا مقتدرا بعد أن سخرت منه قائلة :"لا يكفي أن تكون كسولا وتصبح بعد ذلك شحاذا لكي تتوصل إلى ضمان حياة مشرّفة" فيفقد صوابه وهداه ويقتلها.. 

"لا بأس أن يكون الهدف شامخا ونخطئه.. الأنكى أن يكون بخسا ونناله" (ميكيلانجلو بوناروتي)

القاصة هيام الفرشيشي وضعت لنفسها هدفا شامخا وأدركته ونالته غير أنها أرادت أن تقول كل شيء دفعة واحدة.. ممّا أثر على دلالة نصّها وأربك القارئ وأوقعه في التخمين..

ويبقى الإبداع رغم كل شيء ومع كل شيء وبعد كل شيء.. ملاذا وذريعة رائعة للحياة ووعدا أخضر..

"هل غياب الحب.. أو الصداقة .. أو الإبداع.. هو الفراغ؟

وهل أستطيع إذا.. أن أقول : لا وجود للفراغ.. إلا على أطراف اللغة.. خارج الكلام ؟ "

 

.................

أدونيس "فضاء لغبار الطلع"

* برّادة، محمد "أسئلة الرواية.. أسئلة النقد.."

* د. النويهي، محمد "وظيفة الأدب بين الالتزام الفني والانفصال الجمالي"

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1515 الاثنين 13/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم