قضايا وآراء

مع البياتي (1-2) / عدنان الظاهر

إلى القاهرة وإقامته فيها حتى عام 1972 (؟) ثم مغادرته القاهرة إلى بغداد ليعملَ مستشاراً في وزارة الثقافة والإعلام العراقية حيث كتب أشعاراً حمل البعض منها تأريخ 1977 وهو منشورٌ في هذا المجلّد الثاني، أعني قصيدة " النور يأتي من غرناطة "وقصيدة " قُدّاس جنائزي إلى نيويورك".

غطّت أشعار هذه الفترة المجلّد الثاني من كتابه (ديوان عبد الوهاب البياتي/ دار العودة، بيروت، الطبعة الرابعة 1990) بإستثناء قصيدة " أُفول القمر " كتبها عام 1960 " وأخرى كتبها عام 1962 " شيء عن السعادة " والثالثة عام 1964 هي قصيدة " رماد في الريح " . خلافاً لقصائد المجلّد الأول، جاءت الغالبية العظمى من قصائد المجلد الثاني خلواً من تأريخ كتابتها. غير أنه ثبّتَ تأريخ كتابة القليل منها في الأعوام 1973 و 1974 (قصائد كتاب قمر شيراز) ثم في 1975 و 1977 .

لماذا التركيز على هذه الفترة بالذات؟

الجواب لأنها تمثل الطفرة النوعية الكبرى في منهجه وأسلوبه في قول الشعر: الحقبة التي أسميها الصوفية – السوريالية الناجحة التي بدأت ملامحها تظهر مع آواخر ما نظم من القصائد التي إحتواها المجلّد الأول (قصيدة مرثية إلى ناظم حكمت … مثلاً) ونضجت حتى بلغت الأوج إبّانَ إقامته في القاهرة لما يقرب من ثمانية أعوام. لقد دشّن هذا النهج الصوفي – السوريالي بديوان " سِفر الفقر والثورة " وإختتمه بديوان " مملكة السنبلة ". لقد مثّلَ ديوان " قمر شيراز " السمت الأعلى في أفق هذا التحول في نهج الشاعر، ولا سيما قصيدة " حب تحت المطر " الذي يُذكّرني عنوانها بعنوان أحد الأفلام الأمريكية القديمة " غِناء تحت المطر ".

هل فعلت القاهرة في البياتي ما فعلته فسطاط مصر من تجويدٍ وتطويرٍ في شعر أبي الطيب المتنبي قبل ما يقرب من أحد عشر قرناً من الزمان؟ أقصد الفعل الذي أشار إليه الدكتور طه حسين في كتابه الشهير " مع المتنبي ". لا أظن ذلك. فلقد رحل الرجل إلى مصر جاهزاً مكتنزاً (بالغَ الرُشد) فإنفجر وإنفجرت طريقته الجديدة في قول الشعر مفيداً من جو الإنفتاح النسبي في مصر يومذاك بالقياس إلى ما كان سائداً في العراق من أجواء فكرية وثقافية وسياسية متشنجة لا تستسيغ ولا تهظم وجود شخصٍ كالبياتي بين ظهرانيها. ولعل من الطريف أن أشير هنا إلى أنَّ الشاعر البياتي كان قد إستهل قصائد هذا المجلّد الثاني بقصيدة " إلى عبد الناصر الإنسان " التي كتبها في القاهرة بتأريخ العاشر من شهر آذار

(مارس) 1965 ، أي بُعيد وصوله إليها قادماً من موسكو. ليس في هذا شيء من العجب فلقد سبق وأنْ نشر البياتي في صحيفة لبنانية يوم أنْ كان ما زال في موسكو عدداً من القصائد يمدح فيها عبد الناصر يُمهد فيها لرحلته إلى مصر ضيفاً عليها أو لاجئاً فيها. 

 

1- البياتي والصوفية والسوريالية:

ما كان البياتي وهو في موسكو بعيداً عن قراءة وتتبع آثار وأشعار ونظريات منظري وفلاسفة المدرسة الفرنسية السوريالية الأوائل من أمثال بريتون وأراغون وإيلوار ثم الشاعر الإسباني المبدع فيديريكو غارسيا لوركا ثم صداقته ومعاشرته للشاعر التركي ناظم حكمت.

إذا إنفجرت طريقة البياتي في القاهرة، حيث إبن الفارض ثم تأثير كبير متصوفة المسلمين محيي الدين بن عربي الأندلسي الأصل والمدفون في دمشق، وإكتشف الشاعر الموضع الصحيح لقدميه فيها فإنها إكتملت وبلغت مداها الأوسع والأنضج في بغداد حيث زعماء متصوفة الإسلام أمثال الحلاّج والسهروردي وعبد القادر الكيلاني وإبن شبل البغدادي وغيرهم. هل كان نهج التصوف الروحي في الشعر لدى البياتي ردة فعل لمادية النظام الإشتراكي في موسكو الذي عاش فيه قرابة الخمسة أعوام (1959 – 1964)؟ لا أظن ذلك. فمنظومة الرجل العصبية والنفسية وبيئته الفقيرة الأولى في أزقة بغداد قريباً من ضريح الكيلاني تؤهله لأن ينحو هذا المنحى الصوفي الذي مارسه شعراً دون أن يمارس طقوس الدروشة وطرقها المعروفة. كان الرجل بسيطاً متواضعاً في حياته لم يسعَ إلى جمع المال أو التفرّد بجاه خاص سوى جاه وتاج سلطنة الشعر الذي إستغرق جلَّ سنوات عمره حيث كان الخصوم والمنافسون كثرةً يقفون له بالمرصاد ويحصون عليه أنفاسه خاصة في الفترة الطويلة التي صمت فيها على ما كان يجري في العراق من ويلات وحروب وغزو وإستخدام الغازات السامة ضد خصوم نظام صدام حسين وحزب البعث الحاكم من مختلف فئات الشعب العراقي وقومياته وطوائفه وأديانه وأقلياته العرقية. لقد إنزوى في هذه الفترة معزولاً في مدريد لم يقل شعراً ولم يشارك في فعالية إجتماعية أو نشاط سياسي.كانت تلك فترة شديدة الغموض وتحمل الكثير من الأسرار التي طواها موت الشاعر قبل أن يشهد سقوط نظام العسف والجور والطغيان. لعل السيدة أم علي، قرينة الشاعر، أنْ تتكلم يوماً وتكشف ما كان مخفياً في الظل والظلام من تأريخ البياتي خلال تلك الحقبة من الزمن (1982 – 1992). أو قد تقوم بهذه المهمة كريمة الشاعر الآنسة أسماء. أو أن ينطق وزير الثقافة والإعلام يومذاك عبد اللطيف نصيف جاسم، الوزير الذي أبرم صفقة مدريد الغامضة مع البياتي والذي يرزح الآن في أحد سجون سلطات التحالف التي تحتل العراق اليوم، في حين يرقد صاحبه البياتي تحت تراب دمشق بالقرب من ضريح محي الدين بن عربي حسب وصيته.

ما هي مصادر أو ينابيع ثقافة البياتي الصوفية والسوريالية؟ لقد أبان الشاعر عنها بشكل لا يقبل التأويل أو الإلتباس. فلنتتبع المجلد الثاني ونقرأ عناوين القصائد والأسماء الطنانة التي أهداها الكثير من قصائده من المتصوفة المسلمين والشعراء الرمزيين والسورياليين الأوربيين:

عذاب الحلاّج. الصلب (يشير فيها إلى المسيح). محنة أبي العلاء. غاليليو. سقط الزند. قمر المِعرّة. لزومية. عمر الخيام. الليل في نيسابور. بول إيلوار (شاعر فرنسي). برتولد بريخت (شاعر ومسرحي ألماني). ألبير كامو (روائي فرنسي). لوركا (شاعر ومسرحي إسباني). ديك الجن. جيفارا. روميات أبي فراس (الحمداني). الإسكندر المقدوني. طرفة بن العبد. أورفيوس. عشتار. المجوسي. زُرادشت. هلدرين (شاعر ألماني).

 أراغون (شاعر فرنسي). محيي الدين بن عربي. وضّاح اليمن. الإمام الشافعي. أخناتون. نيتوكريس. طاغور. عبد اللطيف اللعبي. بابلو نيرودا. سارق النار (بروميثيوس). ناظم حكمت (شاعر تركي). رفائيل ألبرتي (شاعر إيطالي). ماشادو (شاعر إيطالي). طواسين الحلاّج. قمر شيراز (الشاعر حافظ). سلفادور دالي (رسّام إسباني). فريد الدين العطار. السهروردي. جلال الدين الرومي.

ليس من باب الصدف العمياء أن يذكر الشاعر كل هذه الأسماء المعروفة دون أن يكون قد قرأ لها وتأثر بها أو بالبعض مما تركت من تراث فلسفي أو شعري أو أدبي عام. خاصة وأنَّ أغلب متصوفة المسلمين المفكرين الكبار كانوا شعراء كتبوا الشعر الجيد بطرقهم المغرقة في السوريالية. أستطيع القول إنَّ البياتي جمع تراث فلاسفة المتصوفة المسلمين في واحد منهم وإتخذه رمزاً وعلماً يهتدي ويقتدي به ألا وهو محي الدين بن عربي. كما أنه ركّز شعراء الرمزية والسوريالية الأوربيين في واحد وإتخذه قدوةً ومثالاً يحتذي به، وهو غارسيا لوركا الإسباني. لقد إرتكز البياتي على قاعدتين عريضتين في طريقة كتابته لأشعار هذه الفترة من حياته ثم صعد على هاتين القاعدتين إلى الأعلى على عمودين شاهقين أحدهما يمثل المدرسة الصوفية الشرقية الإسلامية (إبن عربي) بينما يمثل العمود الآخر المدرسة السوريالية الغربية الأوربية (لوركا). فلا غرابة والحالة هذه أن نجد البياتي قد أكثر من ذكر إسم لوركا في أشعار هذا الطور من تطور فن عالمه الشعري المتميز، فضلاً عن إفراد قصيدة خاصة أسماها " مراثي لوركا / الصفحة 151 " مضافاً إلى ذلك الإشارات إلى لوركا تصريحاً أو تضميناً أو مجازاً كلما تطرق الحديث إلى غرناطة أو الحمراء أو إسبانيا. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فقد كتب على الصفحة 280 في باب هوامش قرابة العشرة أسطر فيها خلاصة سيرة حياة وفلسفة محيي الدين بن عربي، أستعير منها ما يخدم خط دراستي هذه ووجهات نظري فيما يتعلق بطبيعة شعر البياتي في هذه المرحلة:

(…وهو يقول بوحدة المحبوب وإن تعددت صوره و " عين الشمس " هو لقب النظام، الفتاة التي أحبها وجعل من الأشياء والصور مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه ثم عاد فجعل من النظام عيناً لتلك الصفات والأسماء، فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء إنما هي تجلٍ خاص من تجليات هذه الفتاة. وقد كتب من أجلها ديوان شعره " ترجمان الأشواق "). كما قدّم كتابه (الذي يأتي ولا يأتي / ص 57) بمقدمة قصيرة قال فيها

(سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولا يأتي). وقدّم لكتابه (عيون الكلاب الميتة / ص 100) بجملة للشاعر الفرنسي بول إيلوار تقول (أشعلتُ ناراً عندما تخلّت عني زرقة السماء). أما كتاب (الموت في الحياة / ص 131) فلقد قال البياتي في مقدمته (الوجه الآخر لتأملات الخيام في الوجود والعدم) ثم أتبع ذلك على الورقة التالية بكلمة للروائي الفرنسي ألبير كامو تقول (هناك شمس لا تغيب في قلب ما أكتب). أما كتاب (قصائد حب على بوابات العالم السبع/ ص 235)

فقد إفتتحه بكلمة ليست قصيرة للشاعر الألماني هولدرين وأخرى للشاعر الفرنسي أراغون. كما جعل مفتتح ديوانه (كتاب البحر) قولة الحلاّج الشهيرة (ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما - هكذا وردت خطأً. الصواب وضوءُهما – إلاّ بالدم / الصفحة 285).

إلى كل هذا من الممكن إضافة معلوماتٍ وردت في المجلّد من شأنها مساعدتنا على فهم الشاعر وفك بعض رموز أشعاره والطلسمات أو الدهاليز السحرية التي يستقي عالمه الشعري التهويمي منها. قال على الصفحة 310، قصيدة " الرحيل إلى مدن العشق ":

 

من قال بأنَّ القيثارْ

كان دليلي من قال؟

فأنا غاليلو- سقراطْ- الحلاّجْ

وأنا الحسنُ الصبّاحُ- الخيّامْ

 

غاليليو العنيد الذي خالف الكنيسة وتحدّاها وعرّض نفسه للموت بإصراره على حقيقة أنَّ الأرض تدور. سقراط الذي جرعوه السم الفتّاك ولم يتنازل عن فلسفته وأفكاره وتعاليمه. الحلاّج، الصوفي والمفكّر والثائرالذي صُلب في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 309 هجرية (26 آذار 922 م) على جسر بغداد زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله ثم قُتل وأُحرقت جثته ونُثر رمادها في نهر دجلة. ثم الحسن الصبّاح زعيم الإسماعيليين وعمر الخيّام الرياضي والفيلسوف الإسماعيلي وشاعر الرباعيات المعروفة.

وقال على الصفحة 433، قصيدة " تأملات في الوجه الآخر للحب ":

 

لا أكتبُ شعراً من ذاكرتي أو ذاكرة الموروث المُحبِط، لكني في حرب عصابات الشعرِ على الأعراف المحشوّةِ قشّاً والموتِ المجاني، وراءَ المتراسِ دماً أنزفُ، مسكوناً بقوى الثورةِ والكون المتغيّرِ، أصنعُ ذاكرةً لوجودِ الإنسانِ الغائبِ والحاضر. روحي مركبةٌ ترحلُ نحو الداخل والخارج باحثةً عن جوهرِ هذا الحب الثابت والمتحوّل…

 

إعجاب البياتي النظري والشعري بالثورة ورجالها لا حدود لهما. هنا أراه يحاكي جي غيفارا الذي أهداه قصيدة " عن الموت والثورة " فيقف وراء متاريس الثورة. ثم، وهذا هو الأهم في نظري، يرى الشاعر نفسه مسكوناً بقوى الثورة والكون المتغير والإنسان الغائب والحاضر والرحيل نحو الداخل والخارج ثم الحب الثابت والمتحوّل.

التغيّر… الغياب والحضور… الداخل والخارج… الثبات والتحول.

ثم نقرأ له في المقطع الرابع من نفس القصيدة:

 

قانونٌ جدليٌّ يتحكمُ بالكلماتْ فيفرغها من معناها أو يملؤها ويُجسّدُ فيها طاقاتٍ لا حصرَ لها، يُصبحُ من فرط غِناها هو إياها، يتحكمُ بالإنسان الشاعرِ، بالأرضِ المجنونةِ وهي تدورْ.

 

إيمان عميق بالجدلية (الكلامية، علم الكلام، المعتزلة…ربما) ثم التأكيد على قانون غاليليو الفلكي حول دوران الأرض. لقد تصدرت قولة غاليليو الشهيرة " ولكنَّ الأرض تدور " قصيدة (محنة أبي العلاء / ص 24). ثم وضع هذه المقولة عنواناً للمقطع العاشر من هذه القصيدة.

لا أجد بأساً من إلقاء الضوء على أمر آخر قد يصلح مفتاحاً لفك شفرة بعض أشعار البياتي. أعني ما قال في قصيدة (عن الذين يرفضون " تمثيل دور الذي يمثل "):

 

أكتبُ ما رواهُ لي مؤلفُ المأساةْ

وبطل القصيدةْ

وجوقةُ الإنشادْ

أعرضهُ مثل خيالِ الظلْ في لوحاتْ.

نعرف ويعرف القاريء لعبة " خيال الظل ".

 

2- ما الذي أفادَ البياتي من الصوفية والسوريالية؟

على الصفحة 357 من المجلد الثاني قال البياتي (سأطردُ المنطقَ من حظيرتي). وبالفعل، فشعره في هذه الحقبة خالٍ من المنطق وألفاظه لا تخدم معانيها المعروفة. يختلط الكل فيها بالكل ويسيح الشاعر سياحاتٍ كالماشي في نومه على غير هدى وفي كافة الإتجاهات ويهذي كالواقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي وينطق جُملاً لا رابط يجمع بينها كأنها هلوسات وتخريفات لا يخلو البعض منها من سرد سندبادي وقصص وحكايا أطفال. وفي هذا تطبيق حرفي لما يسميه السورياليون بالكتابة الآلية (تفتح الكتابة الآلية بإستمرار أبواباً جديدة على اللاشعور / بول إيلوار ص 271 / كتاب أدونيس، يأتي ذكره تفصيلاً على الصفحة التالية). فلا غرابة إنْ لم نجد حضوراً للبياتي في شعر هذه المرحلة، لا وجود له إلا في القليل النادر مما سأعرض لاحقاً. كيف يكون موجوداً في شعر يكتبه كالمنوَّم أو المُخدَّر أو المسحور أو الغائب عن وعيه والمصاب بضربة الغيبة الماورائية الميتافيزيكية أو غيبوبة القطب الصوفي أو المريد الذي جاهد فنزع الحجاب فدنا وأوشك على الوصول إلى الحضرة؟ لكأنَّ الشعر يستكتب الشاعر ويستنطقه ويفرض عليه لغته الخاصة ومزاجه الخاص ومنطقه الخاص الذي هو اللامنطق أو منطق اللامعقول. هنا نواجه ما يُسميه

(ميرلو بونتي) باللغة الناطقة Speaking Language ، لغة الإبداع الشعري التي هي ضد اللغة المنطوقة Spoken Language (كتاب نصيات بين الهرمنوطيقا والتفكيكية. المؤلف هيو. ج سيلفرمان. ترجمة علي حاكم صالح والدكتور حسن ناظم. الصفحة 260 / الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الأولى 2002).

نعم، (سأطرد المنطق من حظيرتي). أليس هذا هو أحد أركان السوريالية التي وضعها منظروها الأوائل في عشرينيات القرن الماضي؟ نقرأ في كتاب أدونيس

(الصوفية والسوريالية / دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 1992) مقتطفات قالها بعض هؤلاء المنظرين: (العقل عند السورياليين هو أسوأ أعداء الفكر/ ص 267). (المنطق يمثل وفقاً لتعبير بريتون السجن الأكثر مقتاً …/ ص 268). (يجب أن تكونَ القصيدة إندحاراً للذهن… القصيدة هي نقيض الأدب / ص 285).

لقد نهج البياتي في شعر هذه المرحلة نهج الشعراء السورياليين فكتب شعراً يخالف قواعد المنطق وقوانين العقل المعروفة لكن بعد أن طعّمه وأضاف إليه بعداً صوفياً آخر بالغ الخطورة والدلالة. يتمثل هذا البعد الصوفي بوضع مبدأ وحدة الوجود والكون الصوفي موضع التطبيق الحرفي فيما قال من شعرلم يسبقه إليه إلاّ شعراء المتصوفة الأوائل المعروفون. الكون واحد والمادة واحدة تتكون في الأصل من ذرات لا تفنى متعددة الوجوه (يا روحَ عناصر هذا العالم / ص 413). البحر صحراء وكوكب الزهرة هو الأرض وعائشة هي عشتار البابلية أو عشتروت السومرية أو بلقيس سبأ وسد مأرب أو ليلى أو لارا (أرى كلَّ نساء العالم في واحدةٍ تولدُ من شِعري / ص 390). وبغداد هي تونس أو صنعاء ومدريد هي أثينا أو لندن أو تهامة والنور هو الظلام والليل هو النهار والثلج أسود اللون والقمر أخضر أو أحمر أو أسود… وهكذا. ثم إنَّ الزمن واحد من الأزل إلى الأبد ليس له من ماضٍ أو مستقبلٍ وغير قابل للتجزئة (فزورق الأبد مضى غداً وعاد بعد غد/ ص 80 من قصيدة بكائية). فقصائده قريبة جداً من لوحات بيكاسو السوريالية. البياتي يرسم لوحاته بالكلمات (الرسم بالكلمات / نزار قباني) ويرسم بيكاسو لوحاته بالألوان والظلال والقدرة على إستغلال الفراغ على سطح اللوحة. وكنتيجة حتمية لهذا الإنفلات وهذا الهذيان الصوفي – السوريالي فقد البياتي القدرة على إختيار العناوين الصحيحة لقصائده. ففي الإمكان رفع عنوان هذه القصيدة ووضعه عنواناً لقصيدة أخرى دونما أي تأثير على سياق ومضمون هذه القصيدة أو تلك. ولكي يتلافى هذا الخلل يُضطر إلى حشر مقدمات ومقتطفات يستعيرها من غيره من الشعراء أو الفلاسفة أو الروائيين أو أن يُهدي الكثير من قصائده إلى واحد من هؤلاء سدّاً لخلل يحسه الشاعر نفسه قبل غيره من القرّاء. الهذيان غير المنضبط والهلوسة في الشعر تفرزان دونما أي ريب أمثال هذه الظواهر. 

يُخيّلُ لي أنَّ الشاعر البياتي يكتب قصائده أولا مقطوعة الرأس بدون عنوان. وحين ينتهي من كتابتها يُعطي نفسه فُرصةً للراحة والتفكير، قد تطول وقد تقصر، ثم يختار العنوان الذي يراه الأنسب من بين جملة خيارات. وليس بالضرورة أن يكون هذا الخيار هو الأفضل بالنسبة للقاريء.

 نجح البياتي في هذا الضرب من الشعر نجاحاً لم يعرفه الشعراء المعاصرون سيما وقد عرف بذكاء وكفاءة كيف يربط ما بين مبدأ وحدة الوجود الصوفي وما يسميه السورياليون

(النقطة العليا) حيث تذوب ثنائيات الوجود وتختفي التناقضات. نقرأ على الصفحة 49 من كتاب أدونيس مار الذكر (هذا المبدأ الأعلى هو ما يسميه بريتون

 " النقطة العليا " وهو يحددها قائلاً: كل شيء يدفع إلى الإعتقاد بوجود نقطة روحية ينعدم فيها التناقض بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل، ما يمكن إيصاله وما لا يمكن، الأعلى والأسفل، ومن العبث البحث عن محرّك آخر للفاعلية السوريالية غير الأمل بتحديد هذه النقطة). ونقرأ في الصفحة 50 (هذه النقطة العليا هي بمثابة مكان يتلاقى فيه الكون الداخلي- الذاتي، والكون الخارجي- الموضوعي. في هذه النقطة نتجاوز المثالية التي تنكر الأدنى بإسم الأعلى، ونتجاوز المادية التي تنكر الأعلى بإسم الأدنى. الأعلى والأدنى هما في هذه النقطة متساويان. إنهما تجليان لمعنى واحد. إنها نقطة تؤالف بين الأشياء، على تنوعها، وبين الواقع وما وراء الواقع. وفيها تتجمع الطاقات الإلهية التي حلم نيتشه بإستردادها، والتي عاشها التصوف العربي (هكذا !) ، أعني إستردها في نظرية الحلول وفي نظرية وحدة الوجود. في هذه النقطة العليا يتم الإنعتاق من عالم الظواهر العقلانية، الموضوعية…وتتم المعرفة. تنتهي الثنائية، تزول التناقضات. الثنائية هي التي تبقّي الإنسان في الجهل أسيراً لأناه الفردية – الإجتماعية التقليدية…).

 

3- تشريح النسيج الشعري / لغة البياتي

هل شعر البياتي هذا فوضى ضاربة الأطناب؟ الجواب نعم، هي فوضى تضطرب كالإعصار المدمر لكن في فضاء مغلق صلب من الفولاذ المزدوج والمسلح تسليحاً جيداً. كالقنبلة الذرية تماماً إنْ صحَّ التشبيه من باب المجاز. هذا الفضاء المغلق إنما يمثل أقصى درجات النظام، أعني إلتزام التفعيلة من جهة وهو واحدٌ من أسيادها الطليعيين مع بعض الزحافات هنا وهناك، وهي مطبات هوائية تحس بها ذائقة القاريء قبل سمعه.

أجلْ، التفعيلة نظام وسلامة اللغة قيد ونظام ورقيب على الشعر وعلى الشاعر معاً. فشعر البياتي والحالة هذه فوضى داخل نظام صارم مزدوج الطبيعة. فإنه يتمتع من ناحية بأقصى درجات الحرية في التعبير عن أفكاره وهواجسه وأحاسيسه ومشاعره، ويُلزمُ من ناحيةٍ أخرى نفسه بنوعين ودرجتين من القيود الصارمة. وإنه لهوَ الحاكم المطلق وإنه لهوَ القاضي الخصم في عين الوقت (فيك الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ / المتنبي). هو الحر الطليق لكنه هو العبد المقيد. حر بالإستسلام الصوفي الكلي لغيبوبته أمام سطوة وسلطان لغة الإبداع الناطقة والهذيان الذي تفرضه حالة اللغة هذه. ومقيد بالوعي الكامل لأحكام التفعيلة واللغة.

كيف تسنى للبياتي أن يجمع الضدين؟ الجواب لدى فرويد وأضرابه من علماء النفس والطب النفساني. إنه البياتي الشاعر والإنسان جامع الأضداد بجدارة. وهو في شعره شيء وفي حياته شيء آخر. ما تقرره النظريات شيء وما تقوله الحياة شيء آخر. جمع البياتي في نفسه الأضداد التي لا يعترف بها هو فيما كتب من شعر ولا تعترف بها أصلاً النظرية الصوفية – السوريالية سواء في الشعر أو الفلسفة أو الحياة. وخلافاً للبياتي، كان كبار فلاسفة المتصوفة المعروفين متصوفين في شعرهم وفي حيواتهم الخاصة والعامة. في حين كان البياتي صوفياً – سوريالياً في متون كتبه الشعرية حسب. سقط في التناقض الأكبر مُدعّي تحطيم جُدُر وأرضيات النقائض. قال أحد الشعراء:

 

             إلى الماءِ يسعى من يَغَصُ بلقمةٍ

             إلى أين يسعى من يَغَصُ بماءِ؟

 

4- بعض الخلل في لغة البياتي:

4-1 حذفه لألف النصب على المفعولية في آواخر الكثير من سطوره، وذلك بسبب ولعه المطلق بتسكين هذه الآواخر ليستقيم إيقاع التفعيلة على أُذن القاريء أو ليستقيم السجع الصوتي بالتقفية مع ما يأتي من سطر أو سطور. وهو أسلوب أشبهه بآليّة التصفيق بالكفين توخياً لرجع الصدى المتكاثر كحالة تردد قصف الرعود كثرةً وقوةً في السماء في إثر إندلاع شرارة البرق الأولى. أضرب أمثلة على ذلك وهي غيض من فيض:

 

من قصيدة " عذاب الحلاّج " ص 9 – 20 / المقطع السادس " رماد في الريح ":

 

عشر ليالٍ وأنا أكابد الأهوالْ (الصواب: الأهوالا)

وأعتلي صهوةَ هذا الألم القتّالْ

أوصالُ جسمي أصبحتْ سمادْ (الصواب: سمادا)

 

ومن قصيدة " محنة أبي العلاء " ص 24 – 27 / المقطع الثاني " العباءة والخنجر ":

 

أصبحتُ في بلاطه حجرْ (الصواب: حجراً أو حجرا)

ليلاً بلا سَحَرْ

قيثارةً مقطوعة الوترْ

عباءةً باليةً، مسمارْ (الصواب: مسماراً أو مسمارا)

 

وفي قصيدة " لوركا " ص 151:

 

يموتُ أنكيدو على السريرْ

مُبتئساً حزينْ (الصواب: حزيناً أو حزينا)

 

من قصيدة " المجوسي " ص 215 - 216:

وراقصتُ الفراشاتِ وعانقتُ الزهورْ (الصواب: الزهورا)

منحوني عندليبباً وقمرْ (الصواب: وقمراً أو وقمرا)

ولماذا استرجعوا مني القمرْ (الصواب: القمرَ أو القمرا)

كان حبي لكِ موتاً ورحيلْ (الصواب: ورحيلا)

وجدوه عند بابِ البيتِ في الفجرِ قتيلْ (الصواب: قتيلا)

 

وفي قصيدة " ديك الجن " ص 157 – 161:

صنعتُ من رمادها فراشةً ودُميةْ

وقدَحاً مسحورْ (الصواب: مسحورا)

أنامُ في الضفافْ

صفصافةً تنتظرُ العرّافْ (الصواب: العرّافا)

 

هنا نجد ما كنت قد قصدتُ بآلية التصفيق بالكفين من أجل الحصول على تضخيم أثر الظاهرة الصوتية في أُذن القاريء أو السامع بتكرير الصدى داخل القصيدة. المفروض أن يكون البيتان كما يلي:

أنامُ في الضفافِ

صفصافةً تنتظرُ العرّافا … بهذا الشكل اللغوي السليم يخسر الشاعر أثر رجع الصدى المدوّي في أُذن السامع. أرى تلك واحدة من مشاكل البياتي العويصة: التضحية بقواعد اللغة من أجل الظاهرة الصوتية وبعض (المُحسّنات البديعية … حسب لغة إبن المعتز). ثم يأتي البيت التالي مباشرة بعد هذين البيتين:

والبرقَ والعصفورْ (الصواب: والعصفورا)

 

وفي قصيدة " هكذا قال زُرادشتْ " ص 217 – 218:

فمتى يهبطُ زارا من جبالِ النومِ والموتِ إلى الشارعِ حُرّاً وطليقْ (الصواب: وطليقا)

وفي قصيدة " القصيدة الإغريقية " ص 382 – 385 / المقطع 12:

كانت ترسمُ فوق الرملِ عيوناً وشفاهْ (الصواب: وشفاهاً)

 

4-2 تصريف الممنوع من الصرف:

نقرأ في قصيدة " قراءة في كتاب طواسين الحلاّج " ص 372 – 375 ما يلي:

كان الحلاّجُ يعودُ مريضاً وينامُ سنيناً / الصواب: سنينَ أو سنينا، بدون تنوين.

 

كذلك صرّفَ السنين في قصيدة " النور يأتي من غرناطة " ص 403 – 405:

ويظلُّ الرجلُ الطفلُ سنيناً في سَفَرٍ.

 

4-3 ثم الخطأ في إستخدام أداة الجزم "لم " الواقعة بعد لماذا كأن يقول: لماذا لم بدل لِمَ لَمْ أو لِمَ لا – ص 411 -. لا تأتي لم بعد لماذا لأنَّ لماذا في الأصل هي مزيج مركّب من لِمَ هذا = لِمَ ذا = لِمَذا = لماذا . من هذا تتضح إستحالة القول: لِمَ هذا لمْ = لِماذا لمْ . لا مكان لإسم الإشارة " هذا " ما بين أداة الإستفهام لِمَ وأداة الجزم لمْ.

 

4-4 أخطاء أخرى في كيفية تهجّي وكتابة الهمزة:

وهذه لحسن الحظ ليست كثيرة. وربما يُلام ناشر الكتاب على ذلك لا الشاعر (أتمنى ذلك !!). أمثلة:

 

في قصيدة " مرثية إلى عائشة " ص 135 – 138 / على الصفحة 137:

عدتُ كتاباً باهتَ النقوشْ

يقرؤهُ العشاقْ (الصواب: يقرأهُ العشّاق … قرَأَ … يقرَأُ وليس يقرؤُ . حرف الراء مفتوح وهو يسبق الهمزة مباشرةً)

يبيعهُ الورّاقْ

(العشّاقْ… الورّاقْ … ظاهرة التصدية والتصفيق بالكفين مارّة الذكر…).

 

وفي قصيدة " مراثي لوركا " ص 151 – 156 / المقطع الثالث ص 153:

جاؤوا على ظهرِ خيولِ الموتْ (الصواب: جاءوا … الماضي المفرد هو جاءَ ، وفي حالة الجمع تبقى الهمزة مستقلة وكما كانت في الأصل، كحال الفعل قرأ …قرأوا، فقأ …فقأوا، ملأَ … ملأوا … وهكذا).

 

وفي قصيدة " قمر شيراز " ص 390 – 393 / المقطع الثالث ص 391:

أكتبُ تأريخَ الأنهارْ

أبدؤهُ بطيور الحبِّ وبالنهرِ الذهبيِّ الأشجارْ (الصواب: أبدأهُ … ما قبلَ الهمزة حرف مفتوح، حرف الدال. وصيغة الفعل الماضي المفرد: بدَأَ … وأنا أبْدَأُ … أبدَأهُ).

 

وفي قصيدة " حجر التحوّل) ص 442 – 446 / المقطع السادس ص 444:

يتقيأُ بعضٌ منكمْ والبعض يُغيّرُ كالحرباءْ

ألوانَ الأشياءْ

وجلودَ الحملانْ

بجلودِ الذئبانْ (الصواب: الذؤبان). ذئبان هو مثنى ذئب وليس الجمع كما أراد الشاعر.

 

قرأتُ الشعر بالروسية والإنجليزية ثم الألمانية فلم أجد (كما لم يجد غيري) أي خطأ في لغة الشعراء الذين كتبوا بلغاتهم هذه، بينما يخطأ شعراء العربية المعاصرون أو يسهون أو يتعاملون مع اللغة بدون إكتراث، فما سبب ذلك؟!؟! هل الخلل كامن أساساً في لغة هؤلاء الشعراء وفي تربيتهم الثقافية أم في تسامح وتهاون القرّاء والنقّاد وجهل الناشرين؟؟ أحسب أنَّ الكل مسؤول بهذه الدرجة أو تلك ولاسيما الشعراء أو قوّالة الشعر.

 

5- البياتي وعائشة

من هي عائشة؟

نقرأ في المقطع السادس من قصيدة " الرحيل إلى مدن العشق " / الصفحة 308 ما يلي:

           تبكي ليلى المجنونَ وعائشةٌ تبكي الخيّامْ.

 

عائشة هي صاحبة ومثال عمر الخيام.كما كانت عين الشمس أو النظام مثالَ محيي الدين بن عربي. وكماكانت إلزا للشاعر الفرنسي أراغون ومنوّر لزوجها ناظم حكمت.

ثم نقرأ في المقطع 16 من قصيدة " حب تحت المطر ":

 

" عائشةٌ إسمي " قالت: " وأبي ملكاً أُسطوريّاً كانْ. يحكمُ مملكةً دمّرها زلزالٌ في الألف الثالثِ قبلَ الميلادْ ".

 

هنا تنقلب عائشة إلى كائن أُسطوري، نراها تتحول وتتقمص أرواح وشخوص الكثرة من النساء وتخترق التأريخ وأحداثه جيئةً وذهاباً، لا تعترف بزمن أو حدود، ماضيها في مستقبلها ومستقبلها هو ماضيها. الزمن طريق مُعبّد ذو ممرين  Two – Ways Road . لا تعرف الموت بل موتها في حياتها وحياتها في موتها. تموت مراتٍ وتحيا مراتٍ. ومن هنا جاء إسمها " عائشة ". عائشة تحيا من الأزل إلى الأبد في جميع نساء العالم روحاً خالداً. أجساد ووجوه النساء تتبدل وتتغير وتتنوع لكنَّ الروح أو الجوهر يبقى هو هو دون تبدل أو تغيّر. فعائشة إذنْ كائن خرافي لا يعرفه إلاّ المتصوفة والغائبون عن وعيهم والقادرون على خرق وإختراق الحجب الزمانية والمكانية ورؤية المستقبل والرجوع بالحياة القهقرى إلى الوراء.

بل وأكثر من ذلك. قد تتجلى عائشة للبياتي على شكل مخلوقات رقيقة فيتخيلها صاحبته عائشة كما ورد في المقطع الثامن من قصيدة " رسائل إلى الإمام الشافعي " التي لا علاقة لمحتواها لا بالشافعي ولا بمذهبه الواسع الإنتشار في مصر. عائشة في هذا المقطع مجرد فراشة زرقاء:

 

تهدّلَ النورُ على الرياض في " شيرازْ "

وفتحت أبوابها ورفرفت فراشةٌ زرقاءْ

تطيرُ فوق سورها وفوق وجه العاشق الفقيرْ

صحا لكي يتبعها لكنها اختفت وراء السورْ

تاركةً وراءها خيطَ دمٍ يمتدُّ في خمائل الأصيلْ

ناديتها:

عائشةٌ !

    عائشةٌ ! لكنها لم تسمعْ النداءْ

ولم ترَ العاشقَ في جحيمه يزحفُ نحو النارْ

منتظراً في آخر الأبوابْ.

 

لا وجود لإسم عائشة أو لارا في قصائد المجلّد الأول. بدأ ظهور إسم عائشة ولأول مرّة في قصيدة " الموتى لا ينامون "، الصفحة 71 من كتاب " الذي يأتي ولا يأتي " الذي قدّمه بالقول (سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولا يأتي). حياة عمر الخيام الباطنية خلقت له مثالاً على شاكلته يعيش في كل العصور. ذكرها في هذه القصيدة مرتين في حين إفتتح القصيدة بذكر الخيام قائلاً:

 

في سنواتِ الموت والغربةِ والترحالْ

كَبُرتَ يا خيّامْ

شعرُكَ شابَ والتجاعيدُ على وجهك والأحلامْ

ماتت على سور الليالي، مات " أورفيوس "

ومات في داخلك النهر الذي أرضع نيسابورْ

عائشةٌ ماتت، وها سفينةُ الموتى بلا شراعْ

تحطّمت على صخور شاطيء الضياعْ

-     قالت، ومدّت يدها: الوداعْ

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها تذرع الحديقةْ

فراشةً طليقةْ

لا تعبرُ السورَ ولا تنامْ

الحزنُ والبنفسجُ الذابلُ والأحلامْ

طعامها في هذه الحديقة السحريةْ

-     أيتها الجنيّةْ !

تناثري حطامْ

مع الرؤى والورق الميّتِ والأعوامْ

وخضّبي بالدمِ هذا السورْ

وأيقظي النهرَ الذي في داخلي مات ورشّي النورْ

في ليلِ نيسابورْ

ولتبذري البذورْ

في هذه الأرض التي تنتظرُ النشورْ .

 

واضح أن البياتي هنا إنما يخاطب نفسه بإسم الخيام (كَبُرتَ يا خيّام …). وكما هو الأمر مع الكثرة الغالبة من أشعاره، يذكر البياتي في هذه القصيدة وبإلحاح واضح كلمات الموت والسور والنور. ثم إن عائشة المتوفاة تودّع الشاعر ثم تتحول إلى فراشة طليقةْ … يراها تذرع الحديقةْ… لا تعبرُ السورَ ولا تنامْ. لا تتخطى السور الحاجز الذي يفصل الأحياء عن الموتى. فهي إذن عائشة، لم يُمتها الموت ولا يستطيع. ثم هي يقظى أبداً لا تأتيها سِنةٌ من نوم. هي حية ما دامت في الكون حياة.

في القصيدة التالية " الذي يأتي ولا يأتي " كرر البياتي تقريباً كل ما قد قاله في القصيدة السابقة مع إعادة ترتيب الوضع المكاني لبعض الكلمات في بعض الأسطر. ذكر فيها السور ونيسابور وذكر عائشة ثلاث مراتٍ. بدأ القصيدة بموت عائشة التي تحولت في القصيدة السابقة إلى فراشة:

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها تذرع الظلامْ

تنتظرُ الفارسَ يأتي من بلاد الشامْ

-     أيتها الذبابةُ العمياءْ

لا تحجبي الضياءْ

عني، وعن عائشةٍ ، أيتها الشمطاءْ

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها مثلما أراكْ

قالت، ومدّت يدها: أهواكْ

وابتسمَ الملاكْ.

 

ذكر البياتي إسم عائشة في الكثير من قصائد المجلّد الثاني (أربعاً وأربعين مرةً وفق حساباتي الأولية) لكنه خصّها بخمس قصائد هي حسب تسلسلها في الكتاب:

5-1 بكائية / ص 79 . مخصصة أصلا كرثاء لعائشة، وإن لم يقلها البياتي صراحةً.

5-2 مرثية إلى عائشة / ص 135

5-3 كتابة على قبر عائشة / ص 192 . وهو المقطع الرابع من قصيدة كلمات إلى الحجر.

5-4 مجنون عائشة / ص 257 .

5-5 ميلاد عائشة وموتها في الطقوس والشعائر السحرية المنقوشة بالكتابة المسمارية على ألواح نينوى / ص 271 .

 

فهل كانت هي المقصودة بقول البياتي في قصيدة قمر شيراز / ص 390 (أرى كلَّ نساء العالم في واحدةٍ تولدُ من شِعري)؟؟ جائز.

نفهم من هذه القائمة أنَّ الموت غالبٌ على حياة عائشة !! تناقض ساخر: العائشة تموت.

الموت يتكرر كثيراً في أشعار البياتي، شأن كلمة النار والنور والأسوار.

بكائية

في قصيدة " بكائية " يبحث الشاعر في نيسابور عن عائشة التي ماتت وأنزلها حفّار القبور إلى قبرها وهي في ثياب العرس مكللةً بتاج من الزهور(مثل أوفيليا في مسرحية هاملت) لكنه لم يجدها في سرداب أو قبر. في القصيدة سياحة مذهلة وخلط بين رؤى الأحلام وما يشبه الحقائق. بين الأساطير والواقع. يستعير العالم السفلي في ملحمة جلجامش السومرية الذي ينزل فيه تموز (دموزي) لستة أشهر من السنة ثم تنزل إليه آلهة الجنس والخصوبة عشتار (عشتروت). عائشة إذنْ هي أوفيليا مرةً وهي عشتار السومرية مرةً أخرى. فيها خيال عجيب ساحر في سرده الذي يماثل قصص وحكايا الأطفال المكرّسة لمساعدتهم على النوم المبكّر. للبياتي قدرة فائقة على إقناع القاريء بما يقول من تخريف وبما يمزج من توليفات غير مألوفة في عالم البشر. لا تنسجم مع منطق أو عرف أو قانون. فالزمن واحد غير قابل للتجزئة. كأنه عجلة لا حدود لمحيطها دائبة الحركة الدورانية حتى أن ما كان ماضياً يعود كرّةً أخرى ليصبحَ مستقبلاً والعكس بالعكس. لا ماضيَ في الزمن ولا مستقبلاً. متصل من الأزل إلى الأبد دون توقف. هو سكة الحديد غير المتناهية ونحن البشر نتحرك كقاطرةٍ عليها ونتوقف، نُسرع ونُبطيء ونتحرك مخلفين وراءنا مسافاتٍ يمكن قياسها في المكان أو الفضاء غير المتناهي.كما يمكننا قياس سرعة حركتنا على سكّة الزمان بما نحمل من ساعات إخترعناها نحن البشر ولا يعترف بها الزمان ولا علاقة له بها. يثير الدهشة ويجعلك تشعر بحرارة وصدق ما يقول وما يرى في يقظته ونومه. يجعلك تصدّق الأكاذيب والتهويلات وتود لو يواصل السرد وسبر الأغوار غير المعروفة. نقرأ أكثرَ ما جاء في قصيدة " بكائية ":

 

عدتُ إلى جحيمِ نيسابورْ

لقاعها المهجورْ

للعالم السفليِّ، للبيت القديم الموحش المقرورْ

أبحثُ عن عائشةٍ في ذلك السردابْ

أتبعُ موتها وراءَ الليلِ والأبوابْ

كزورقٍ ليس به أحدْ

تتبعني جنازةُ الشمسِ إلى الأبدْ

-     من ههنا أنزلها الحفّارْ

للقبرِ وهي في ثيابِ العُرسِ، فوق رأسها تاجٌ من الأزهارْ

وغيمةٌ من نارْ

أتبعُ موتها بلا دليلْ

أجرُّ خلفي سنواتِ حبها كذيلِ ثوبٍ فاقعٍ طويلْ

طرقتُ بابَ العالم السفليِّ مرتينْ

فمدَّ لي حارسهُا يدينْ

وقال لي: من أينْ

قلتُ: أنرْ لي هذه السهوبْ

فالليلُ في الدروبْ

قال، وكانت يدهُ تعبثُ بالمكتوبْ

ليقرأَ المحجوبْ:

-     عائشةٌ ليست هنا، ليس هنا أحدْ

فزورقُ الأبدْ

مضى غداً وعادَ بعد غدْ

عائشةٌ ليس لها مكانْ

فهي مع الزمانِ ، في الزمانْ

ضائعةٌ كالريحِ في العراءْ

ونجمةِ الصباح في المساءْ

فعُدْ لنيسابورْ

لوجهها الآخرَ ، يا مخمورْ

وثُرْ على الطغاةِ والآلهةِ العمياءْ

والموتِ بالمجانْ.

 

(فزورقُ الأبدْ، مضى غداً وعادَ بعدَ غدْ)

كيف يتقبل القاريء هذا المنطق المقلوب؟ مضى فعلٌ ماضٍ وغداً ظرف زمان يفيد المستقبل، فكيف يستقيم جمع الماضي بالمستقبل؟ كيف يجتمع طرفا الخط المستقيم؟ في شعره يجمع البياتي البداية بالنهاية، طرفي الزمان.كذلك الأمر بالنسبة للفعل الماضي عادَ الذي وظّفه بدل الفعل المضارع يعود. خيالٌ خاص وسحرٌ (أسود) خاص جداً لا يمارسه ولا يُحسن ممارسته إلاّ شاعر صوفي – سوريالي جسوركالبياتي.

 

مرثية إلى عائشة

في السطر الأول من هذه القصيدة تضمين لأحد أبيات أبي الطيب المتنبي من القصيدة التي قالها في رثاء عمّة عضد الدولة البويهي التي توفيت في بغداد. وهي أخت معز الدولة بن أحمد إبن بويهْ، حاكم بغداد الفعلي يومذاك. قال المتنبي:

               يموت راعي الضأنِ في جهلهِ

               ميتةَ جالينوسَ  في   طبّهِ

قاصداً أنَّ الموت واحدٌ بالنسبة لكل البشر، يتساوى فيه الجاهل الأمي والعالم الجهبذ، راعي الشياه البسيط والطبيب النطاسي جالينوس الذي لم يدرأ طبه الموت عنه. لقد سبق وأن عبّر المتنبي عن هذه الفكرة ببيت شعري آخر إذ قال:

                فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

                كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

 

الموت واحد وطعمه واحد.

فما الذي قاله البياتي في هذا الصدد وفي معرض رثائه لعائشة؟

 

يموتُ راعي الضأنِ في إنتظارهِ ميتةَ جالينوسْ

يأكلُ قُرصَ الشمسِ أورفيوسْ

تبكي على الفراتِ عشتروتْ

تبحثُ في مياههِ عن خاتمٍ ضاعَ وعن أُغنيةٍ تموتْ

تندبُ تموزَ فيا زوارق الدخانْ

عائشةٌ عادت مع الشتاءِ للبستانْ

….

وهكذا يمضي البياتي- كما هي عادته أبداً – صافعاً قاريء شعره بالسجع المُقفّى في صليات أو جرعات مخدّرة مفرطة في السذاجة: جالينوس… أورفيوس… عشتروت… تموتْ…دخانْ… بستانْ…،

ماذا سنجد في هذه القصيدة إذا ما تجاوزنا مطلعها هذا؟ نجد أنه قد ذكر نهر الفرات ستَ مراتٍ وذكر عائشة خمس مرّاتٍ وبابل مرتين ثم ذكر تموز وأشار إلى جزء من ملحمة جلجامش السومرية – البابلية، فضلاً عن جالينوس وعشتروت وأورفيوس ماري الذكر.

" مرثية إلى عائشة " هي القصيدة الأولى في ديوان (الموت في الحياة) الذي قدّم له قائلاً

(الوجه الآخر لتأملات الخيام في الوجود والعدم). على الصفحة التالية ثبّت جملة قالها

الروائي الفرنسي ألبير كامو (هناك شمس لا تغيب في قلب ما أكتب).

كيف سنفهم رثاء عائشة بعد أنْ جعلنا البياتي محصورين بين مطرقة وجودية سارتر العدمية وسندان رمزية شمس كامو التي لا تغيب؟ أين نجد الشاعر، هل نبحث عنه في الرثاء الذي قال أم تُرى نجده مختبئاً بين الخيام وسارتر وألبير كامو؟ لا وجود للبياتي في الأغلب الأعم من شعره. لا يهمه أصلاً هذا الوجود. يخشاه فينأى بنفسه عنه. تلكم مشكلة عويصة وخطيرة، أن يسلخ الشاعر ذاته أو ينسلخ عما يقول ويتوارى خلف حُجُب وسُتر صوفية بحيث يتسنى له من خلال كوى خاصة غامضة رؤية ومراقبة ما في داخل القصيدة وما في خارجها. رغم هذا الإنسلاخ ورغم هذه المراقبة الدقيقة عن بعد ومن الخارج غير القصي نرى قصائد البياتي فالتة كالزوبعة والريح من قبضته. لا سلطانَ له عليها وعلى تحديد مساراتها وإتجاهاتها وضبط منطقها الذي هو في الحق اللامنطق. إنه في شعره يخالف ما قال المتنبي:

                   على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي

                   أوجهها جنوباً أو شمالا

 

فرياح البياتي هى التي توجهه وتمسك بزمام أموره.

لا يتوقع القاريء أن يفهم شيئاً ذا بال من هذه القصيدة. إنها كأغلب سابقاتها ولاحقاتها بلا هدف أو غرضٍ محدد واضح. لا رأسَ لها ولا أطراف. تتمدد كالإميبيا في جميع الإتجاهات عرضاً وطولاً، تأريخاً وجغرافيةً، رموزاً وأساطيَر يحشوها الشاعر حشواً مستخدماً آليات مكررة بعينها أتقنها لكثرة الممارسة جيداً مستهدفاً تمتين نسيج ولحمة شعره وزيادة كثافته مضافاً إلى ذلك المؤثرات الصوتية بالتقفية والرنين وتكرار بعض الأسطر أو الأبيات أو الأفكار وخلط مضمون بعض القصائد السابقة باللاحقة. ثم الإفراط في توظيف الديكورات الداخلية والخارجية المتعددة الأشكال والألوان. إنها سياحة عشوائية يختلط فيها الحابل بالنابل وتنتهي نهايات مبتورة ضائعة هزيلة… كما هو الحال

مع الكثير من القصائد.

قصيدة البياتي طنين نحل ثابت الموجة أو سوق كبيرللصفّارين…فوضى وضرب مطارق تهوي وترتفع بنغمة واحدة ومقام واحد لا يتغير… حسب وصف بعض الأصدقاء.

من باب التداعي والربط الجغرافي، يمارس البياتي حق أن يذكر الفرات وبابل وتموز بعد أن ذكر عشتار البابلية أو عشتروت السومرية التي تتبادل الأدوار بالحلول والتناسخ الصوفي مع عائشة. هذا هو خط البياتي وفلسفته في الشعر منذ ديوان " سِفر الفقر والثورة ". لقد إلتصق بعائشة بعد أن إختطفها من عمر الخيام وجعلها موضوعاً للكثير من قصائده. إنها تخترق التأريخ والحقب والأزمان وتتبادل الأدوار مع باقي النساء وتحل روحاً في جسد فراشة. قصيدة أو قصيدتان من هذا اللون من الشعر تكفينا وتكفي البياتي وتوفر له جهد الإعادة والتكرار الممل واللف والدوران واللت والعجن وإستهلاك الذات والموهبة الشعرية. لِمَ لم ينتبه البياتي إلى ذلك في الوقت المناسب وهو المثقف والذكي والممارس؟ لا جواب لديَّ.

وبعد، ماذا قال البياتي في هذه المرثية؟

 

عائشةٌ عادت مع الشتاءِ للبستانْ

صفصافةً عاريةَ الأوراقْ

تبكي على الفراتْ

تصنعُ من دموعها، حارسةُ الأمواتْ

تاجاً لحبٍ ماتْ

تعبثُ في خُصلاتِ ليلِ شعرها الجرذانْ

تزحفُ فوق وجهها الديدانْ

لتأكلَ العينينْ

عائشةٌ تنامُ في المابينْ

مقطوعةَ الرأسِ على الأريكةْ

أيتها المليكةْ

فصاحَ بي كاهنُ هذا العالم السفليِّ وهو يشحذُ السكّينْ

مَن الذي أتى بهذا الرجلِ المسكينْ؟

عائشةٌ عادت إلى بلادها البعيدةْ

قصيدةً فوق ضريحٍ، حكمةً قديمةْ

قافيةً يتيمةْ

صفصافةً تبكي على الفراتْ

عاريةَ الأوراقْ

تصنع من دموعها، حارسةُ الأمواتْ

تاجاً لحبٍ ماتْ

فارتفعتْ سحابةٌ من الدخانِ ومضى النهارْ

وثالثٌ ورابعٌ والنارْ

كانت فراشَ مَرضي، وكانت الأحجارْ

وها أنا أموتُ بعد هذه الرؤيا على الأريكةْ

مثلك يا أيتها المليكةْ

أكتبُ فوقَ ورق الصفصافةْ

على الفراتِ بدمي، ما قالت العرّافةْ

للريحِ والعصفورِ والرمادْ

أجوسُ في بابلَ وحدي منزلَ الأمواتْ

وحدي على خرائب الفراتْ

أُكلّمُ السحابْ

وأنبشُ الترابْ

أصيحُ من قبرِ انتظاري يائساً أصيحْ

أقولُ للصفصافةْ

ما قالت العرّافةْ

عائشةٌ عادت إلى بلادها البعيدةْ

فلتبكها القصيدةْ

والريحُ والرمادُ واليمامةْ

ولتبكها الغمامةْ

وكاهنُ المعبدِ والنجومُ والفراتْ

على فراشِ الموتِ أضجعتكِ يا عشتارْ

بكيتُ في بابلَ حتى ذابت الأسوارْ

فأيُّ خيرٍ نالني أيتها العنقاءْ

عُدتِ إلى الفراتِ، عُدتِ موجةً عذراءْ

وموقداً يخمدُ في البردِ وباباً لا يصدُّ الريحْ

أخذ البياتي السطر الأخير من خطاب جلجامش إلى عشتار على الصفحة 112 من ملحمة جلجامش (ترجمة طه باقر/ دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، طبعة خاصة 2001). نقرأ على الصفحة 112 من الملحمة ما يلي:

أيَ خيرٍ سأناله لو أخذتك زوجةً؟

أنتِ! ما أنتِ إلاّ الموقد الذي تخمدُ ناره في البرد

أنتِ كالبابِ الخلفي لا يصدُّ ريحاً ولا عاصفةً

أنت قصرٌ يتحطمُ في داخله الأبطال.

كان على البياتي أن يشير إلى مصدر كلامه هذا، كما فعل في العديد من المناسبات الأخرى. كذلك لم يُشرْ إلى أبي الطيب المتنبي في البيت سالف الذكر (يموت راعي الضأن…) وقد جاء البيتُ نشازاً غريباً على مجمل سياقات السرد الشعري في هذه القصيدة. فعائشة تموت كما يموت سائر البشر (ومن لم يمتْ بالسيف مات بغيره // تعددت الأسبابُ والموت واحدُ).

تذكرني أشعار البياتي بأناشيد الطفولة ومراحل المدارس الإبتدائية المبكّرة في العراق. لقد كنا نقرأ أناشيد من قبيل:

                   أليست النظافةْ

                   علامة الظرافةْ

                   فالولدُ النظيفُ

                   منظرُه لطيفُ

أو:

                   مليكنا مليكنا

                   نفديك بالأرواحْ

                   عشْ سالماً عشْ غانماً

                   بوجهك الوضّاحْ

                   حلّقْ بنا إلى العلى                  

                   مرفرفَ الجناحْ.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1516 الثلاثاء 14/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم