قضايا وآراء

مع البياتي (2-2) / عدنان الظاهر

قصيدة " مجنون عائشة "

القصيدة موزعة على ثلاثة عشر مقطعاً بعضها قصير جداً يتكون من سطر واحد أو سطرين. لو غربلنا ونخلنا هذه القصيدة ثم جمعنا وكثّفنا ما يسقط بعد الغربلة والنخل لوجدناها لا تختلف من حيث الجوهر عن باقي القصائد التي كرّسها البياتي لموضوع عائشة. سياحات منفلتة لا رابط يربط بين أجزائها ولا نجد أي محاولة أو جهد بيّن لربطها ذاك لأن الشاعر نفسه غائب عن مسرح الأحداث. لا وجود لمخرج المسرحية والمؤلف يجهل مضمون ما قد ألّف. إنه حكواتي شعبي يعتلي منفرداً خشبة مسرح خالٍ ليس فيه سامعون أو مشاهدون. أو يجلس على قارعة الطريق ويقدم حكاياته إلى جمهور لا يقرأ ولا يكتب ماضٍ في السوق لقضاء حاجاته وحاجات أسرته اليومية.

وكما هو الأمر مع الكثير من القصائد، نرى البياتي يُعبيء هذه القصيدة بأسماء المدن مُشرّقاً ومُغرّباً فيذكر عائشة مرتين ويذكر عشتار (اللوح السالب لعائشة) مرتين ثم يتنقل سائحاً بين المدن على صاروخ كوني فيزور مدينة بُخارى (في أوزبكستان) ويعرّج على بحر قزوين (في إيران) ثم يعوج على حلب السورية فدمشق. وما دام وصل دمشق فلا بأس من ذكر جبل قاسيون المطل عليها. بعد ذلك يغير إتجاه صاروخه الكوني من الشرق إلى الغرب فيزور باريس. وفي باريس لا بدَّ من زيارة متحفها الشهير اللوفر. بعد هذا التجوال الممتع والمُضني في عالمنا الأرضي يفر الشاعر إلى عالم آخر، يتوق إلى الخلاص من أجواء الكرة الأرضية ومن أحكام زماننا فيتشبث بأساطير وقصص التوراة متكئاً على قصة خروج بني إسرائيل من مصر فيذكر سفر الخروج.

سأذكر بداية القصيدة ثم إنتقل إلى المقطع الثاني الذي وجدت فيه شيئاً مثيراً وجديداً. ففي الفحم نجد الماس وفي التراب نكتشف العقيق والزمرد:

 

أيقظني في الليلْ

غناءُ عصفورٍ فأوغلتُ مع العصفورْ

في الغيهب المسحورْ

لم تستطعْ سجنَ الربيعِ آه في بستانها

رأيتُ غصناً مزهراً يُطلُّ في الديجورْ

علىَّ من فوقِ جدار النورْ

 

عائشة بالطبع هي التي لم تستطع سجن الربيع في بستانها. أنتقل إلى المقطع الثاني:

 

خبّأتُ وجهي بيدي

رأيتْ

عائشةً تطوفُ حول الحجرِ الأسودِ في اكفانها

وعندما ناديتها هوتْ على الأرضِ رماداً وأنا هويتْ

فنثرتنا الريحْ

وكتبت أسماءنا جنباً إلى جنبٍ على لافتة الضريحْ.

 

في هذا المقطع قدرات كبيرة على الإدهاش والإيحاء. (خبّأتُ وجهي بيدي)، الشاعر لا يريد أن يرى عائشة ملتفةً بمحارم الحج البيض والطواف حول الكعبة. يخبيء وجهه بيديه كما يفعل الأطفال هرباً من عقوبة الأب أو المعلم في المدرسة. أو كالنعامة تغرس رأسها في الرمل هرباً من خطر قادم داهم. ثم نرى شيئاً عَجَباً حين تسمع عائشة صوت الشاعر ساعةَ أن كانت تُطيف بالحجر الأسود فتحترق هي ويحترق هو فيتناثرا رماداً. الريح التي نثرت الرماد عادت لتجمعه وتوسده القبر وتضع عليه إسميهما. 

وهناك صور شعرية قليلة فيها إبداع قد يكون غير مسبوق من مثل:

 

وكانت الغزلانْ

مذعورةً تبحثُ في مصيدة الموتِ عن الغدرانْ.

أو:

في زمن الفوضى وعصر الرعبْ

أشعلتُ نارَ الحبْ.

 

قصيدة ميلاد عائشة وموتها في الطقوس والشعائر السحرية المنقوشة بالكتابة المسمارية على ألواح نينوى

حملت القصيدة وهذا العنوان الطويل بدون مبرر معقول أخطاءً تأريخية قتالة. لو رجع الشاعر إلى المصادر ذات الصلة ولو تأنى قليلاً لكان في إمكانه تجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء. لقد حمله إستسلامه الكامل والأعمى لفلسفة التحول والتناسخ أن يخلط أوراق التأريخ وأحداثه المعروفة حد أن يربط عملية شنق مواطنين عراقيين عام 1968 (وبينهم يهود) وتعليقهم بطريقة بربرية وحشية في ساحة التحرير في قلب بغداد، بسبايا الغزو الآشوري ليهود السامرة (الأجزاء الشمالية من فلسطين، إسرائيل) الذي حدث قبل الميلاد بثمانية قرون، والذي لم تسفر عنه عمليات شنق أو أعدام معروفة.

أجمل أخطاء البياتي في هذه القصيدة بما يلي:

5-5-1 ما كانت الكتابة الآشورية كتابة مسمارية. كانت أبجدية سامية ما زالت آثارها قوية في لهجة سكنة الموصل (نينوى) وضواحيها ولا سيما في لهجة السريان والآثوريين.

5-5-2 لا وجود لإسم آشور بانيبال في التوراة على الإطلاق. ولا علاقة له بالغزو والنفي والسبي. كان رجل ثقافة ومكتبته الشهيرة تحمل إسمه. على أنَّ عدم وجود إسمه في التوراة لا يعني أنه لم يكن موجوداً على مسرح الأحداث. كان الرجلُ وما زال مِلء َ السمع والأبصار.

5-5-3 تذكر التوراة (سِفر الملوك الثاني) أسماء خمسة من ملوك آشور، قام إثنان منهم فقط في عمليات غزو وسبي وسلب السامرة. ملوك هذا السِفر الخمسة هم حسب تواريخ حكمهم:

-     الملك الآشوري فول (… فجاء فول ملك آشور على الأرض فأعطى منَحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه ليُثبّت المملكة في يده. .. فرجع ملك آشور ولم يقم هناك في الأرض / سفر الملوك الثاني / الإصحاح 15/ 19- 20).

- تغلث فلاسر (جاء تغلث فلاسر ملك آشور وأخذ عيون وأبلَ بيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي وسباهم إلى آشور/ سفر الملوك الثاني / الإصحاح 15/ 29).

-     شَلَمنأسر (وصعد ملكُ آشور على كل الأرض وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لِهُوشع أخذ ملك آشور السامرة وسبى إسرائيل إلى آشور وأسكنهم في حَلَح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي (سفر الملوك الثاني/ الإصحاح السابع عشر / 5-6).

- سنحاريب يندفع جنوباً صوب يهوذا وأورشليم (في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها. وأرسل حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشور إلى لخيش يقول قد أخطأتُ. إرجعْ عني ومهما جعلتَ عليَّ حملته. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاث مئة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة من الذهب (سفر الملوك الثاني/ الإصحاح الثامن عشر/ 13- 14).

-     أسر حدّون،إبن سنحاريب (لا ذِكْرَ في سفر الملوك الثاني لغزوٍ أو سبي قام به هذا الملك).

إثنان فقط من بين ملوك آشور قاما بغزو وسبي السامرة. وما كان آشور بانيبال واحداً منهم. أما الملك الآشوري الآخر الذ ي لم يذكره سفر الملوك الثاني فهو:

- سَرْجُونُ. جاء ذكره في الإصحاح العشرين من سفر إشعياء قصيراً مختصراً دون ذكر لسبي أو قتول (في سنة مجيء تَرْنانَ إلى أشدود حين أرسله سَرجُونُ ملكُ آشورَ فحاربَ أَشدودَ وأخذها…/ 1). الغريب أنَّ التوراة قد سبق وأن ذكرت تَرنان كأحد قادة الملك الآشوري سنحاريب الذين أرسلهم لمحاربة حزقيا بن آحاز ملك يهوذا في اُورشليم نفسها بعد أن سقطت في أيديهم مدن يهوذا الأخرى الحصينة. حاصرت جيوش سنحاريب مدينة أُورشليم طويلاً لكنها عجزت عن دخولها فرجعت مندحرةً بعد أن كبّدهم " ملاك الرب " خسائر فادحة في الأرواح (سفر الملوك الثاني/ الإصحاح التاسع عشر/ 35 – 37).

5-5-4 أوقع البياتي نفسه في خطأ تأريخي جسيم آخر إذ قال في هذه القصيدة:

 

وأرى آشور بانيبالْ

يطعنُ في حربته شمس الغروبِ، وأرى الأسرى على مشانق الإعدامْ

معلّقين في ظلامِ الغسقِ المخيفْ

وكاهناً يرتّلُ الصلاةْ:

ربُّ الجنودِ أرميا النبيُّ - قالَ هكذا سأدعُ القوّادْ

والأمراءَ يثملون وينامون إلى الأبدْ

ربُّ الجنودِ هكذا يقولْ.

 

النبي إرميا لا علاقة له بالحقبة الآشورية. كان إرميا نبي اليهود زمان الملك البابلي نبوخذنُصّر صاحب السبي البابلي المشهور الذي وقع بعد الإمبراطورية الآشورية بأربعة قرون تقريباً. نقرأ في الإصحاح التاسع والثلاثين من سفر إرميا (ولما أُخِذت أورشليم في السنة التاسعة لصدقيّا ملك يهوذا في الشهر التاسع أتى نبوخذراصرُ ملكُ بابلَ وكلُّ جيشهِ إلى أورشليم وحاصروها. وفي السنة الحادية عشرة لصدقيا في الشهر الرابع في تاسع الشهر فُتِحت المدينة…. فسعى جيش الكلدانيين وراءهم فأدركوا صدقيا في عَرَبات أريحا فأخذوه وأصعدوه إلى نبوخذناصر ملك بابل إلى رَبَلة في أرض حماة فكلّمه بالقضاءِ عليهِ. فقتل ملِكُ بابلَ بني صدقيا في رَبَلة أمام عينيه وقتل ملكُ بابلَ كل أشراف يهوذا. وأعمى عيني صدقيا وقيّده بسلاسل نُحاسٍ ليأتي به إلى بابل… وأوصى نبوخذراصر ملكُ بابلَ على أرميا نبوزَرَدانَ رئيس الشُرَط قائلاً خذه وضع عينيك عليه ولا تفعلْ به شيئاً رديئاً بل كما يُكلّمكَ هكذا إفعلْ به / 1 – 12). كما نقرأ في الإصحاح الأربعين من سِفر إرميا

ما يلي (الكلمة التي صارت إلى إرميا من قِبل الرب بعدما أرسله نبوزَرَدان رئيس الشُرَط من الرامّة إذ أخذه وهو مُقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أُورُشليمَ ويهوذا الذين سُبوا إلى بابلَ. فأخذ رئيسُ الشُرَط إرميّا وقال له أنَّ الربَ إلهكَ قد تكلّمَ بهذا الشر على هذا الموضع… فالآن هآنذا أحُلّك اليومَ من القيود التي على يديك. فإنْ حَسُن في عينيك أنْ تأتي معي إلى بابلَ فتعالَ فأجعلُ عينيَّ عليك. وإنْ قَبُح في عينيك أنْ تأتي معي إلى بابلَ فامتنعْ. أُنظُرْ. كل الأرض هي أمامكَ فحيثما حَسُن وكان مستقيماً في عينيك أنْ تنطلقَ فانطلقْ إلى هناك. وإذ كان لم يرجعْ بعدُ قال إرجعْ إلى جَدَليا بن أخيقامَ بن شافانَ الذي أقامه ملكُ بابلَ عل مُدن يهوذا وأقمْ عنده في وسط الشعب وانطلقْ إلى حيث كان مستقيماً في عينيك أنْ تنطلقَ. وأعطاهُ رئيسُ الشُرَطِ زاداً وهديةً وأطلقه / 1 – 5). وأخيراً نقرأ في الإصحاح الحادي والخمسين من سِفر إرميا (لأنه جاء عليها على بابل المخرّبُ وأُخِذ جبابرتها وتحطّمت قسيّهم لأن الرب إلهُ مجازاة يُكافيء مكافأةً. وأُسكِرُ رؤساءها وحكماءها وولاتها وحكامها وأبطالها فينامون نوماً أبدياً ولا يستيقظون يقول الملكُ ربُّ الجنود. / الإصحاح 51 / 56 – 57).

ذكرتُ هذه التفصيلات المطوّلة لأهميتها التأريخية التي تبين خطأ البياتي في رصده وتفسيره وخلطه لبعض وقائع التأريخ القديم من جهة، ولطرافتها التي تلفت نظر القاريء والباحث: كيف يعتني نبوخذ نُصّر الملك الذي غزا وسبى أُورشليم قبل الميلاد بثمانية قرون (كذلك يأتي إسمه في التوراة بشكل نبوخذ راصر وبشكل نبوخذ ناصر) … كيف يعتني ويولي أمر السبي النبي اليهودي إرميا إهتماماً إستثنائياً ويكلّف رئيسَ شُرَطه أن يكون مسؤولاً عن حياته ثم أن يُعطى حرية إختيار المكان الذي يرغبُ أن يُقيمَ فيه: أنْ يأتي إلى بابلَ أو أن يختار بلداً آخرَ أو أنْ يبقى مع بقية من بقي من اليهود في أُورشليم. الملك القاهرالبابلي الجبّار يمنح النبي اليهودي المقهور المسكين حرية التعبير وممارسة العقيدة ثم حرية التنقّل والإقامة حيثما يريد. أليست هذه هي عين الحريات التي يطالب بها البشر اليوم شرقاً وغرباً وتنادي بها منظمات ولجان حقوق الإنسان وهيئة الأمم المتحدة ودُعاة العولمة والقطب الواحد؟؟ 

كان نبي اليهود زمن الملك سنحاريب الآشوري هو (إشعيّا بن آموص). ثم إنّ مدينة نينوى قائمة على نهر دجلة وليس الفرات.

القصيدة:

ليس في هذه القصيدة منطق سوي يستهدي به القاريء، وذلكم أمر متوقع. فآشور بانيبال يقع في حب سبيّة يهودية أعطاها إسم عائشة لكنها لا تبادله هذا الحب، فالمقهور لا يهوى قاهريه.

 

أحبني آشور بانيبالْ

مدينةً بنى لحبي وبنى من حولها الأسوارْ

ساق إليها الشمسَ بالأغلالْ

والنارَ والعبيدَ والأسرى ونهرَ الجنةِ الفراتْ

أجبني وكان نصفُ قلبه مأسورْ

في قاع بئر العالمِ المسحورْ

ونصفه الآخرُ في آشورْ

تأكله النسورْ

عاصفةً كان وفأساً في يد القدرْ

تهوي على جماجم الملوك والقلاع والمدنْ

أحبني لكنني أواه لم أكنْ

أحبه فماتت الأشجارْ

وجفَّ نهرُ الجنة الفراتْ

واختفت المدينةْ

والنارُ والشعائرُ السحريةْ

وحلَّ في مكانها ديكٌ من الحجرْ

ولأن السبية اليهودية لم تحب آشوربانيبال فقد ماتت الأشجار وجف نهر الفرات ومُسِخت نينوى ديكاً من حجر. ثم تقوم السبيّة من عالم الموتى ومن مملكة الموت حالّةً في إمرأة أخرى تحملُ إسمَ عائشة فنراها معروضة للبيع في يد النخّاس في سوق الرقيق. ثم يحبها شاعر وساحرٌ ومحارب لكنها تختار المحارب من بينهم لأنه قدّم لها قرباناً وبنى لها مسلّة. إلى هنا نجد الأمر واضحاً ومعقولا. لكن الأمر غير الواضح هو كيف ولماذا تعود إلى القبر ثانيةً بعد قيامتها الأولى وبعد أن أحبها المحارب وقدّم لها ما قد قدّم. نقرأ:

 

أحبني الساحرُ والشاعرُ والمحاربْ

قدّم قرباناً… بنى مسلّةْ

دوّن في متونها رُقاهْ

وحركاتِ الريحِ والكواكبْ

ونفحاتِ الطيبْ

دوّن أسماءَ زهورِ وطني البعيدْ

بكى على قبري ورشَّ دمَ طفلٍ يافعٍ ذبيحْ

قبّلني وكنتُ في ذراعه عاريةً أصيحْ

وكان ضوءُ القمرِ الأحمرِ في آشورْ

يصبغُ وجهي ويدي ويغمرُ الضريحْ

فدبّت الحُمرةُ في خدي ودبَّ الدمُّ في العروق

عائشة تقوم من القبر مرة أخرى تحت تأثير دفء ضياء وحُمرة قمر آشور التي تنقل لها الحياة (فدبّت الحُمرةُ في خدي ودبَّ الدمُّ في العروقْ). وما أن تقوم حيةً من رمسها حتى تنقلب إلى آلهة الجنس والخصب البابلية عشتار حبيبة تموز الراعي وكانت بابلُ على الفرات. وثالوث الفرات – عشتار – تموز كثير الوقوع في أشعار البياتي وبشكل مُلّح إلى حد الإسراف الذي يسبب الملل والضيق لدى القاريء أحياناً.

حتى تموز هذا يقتله الجنود ويقتلعوا عينيه ثم يقطعوا رأسه. هنا يعود بنا البياتي القهقرى أربعة عشر قرناً من الزمان إلى الوراء ليضع أمامنا بانوراما وقائع مجزرة الطف التي وقعت في العام الحادي والستين للهجرة في ضواحي كربلاء حيث سقط الحسين بن علي قتيلاً ومُزقت أحشاؤه ووطأت جسدَه الممزقَ خيولُ فُرسان جيش الشام تحت إمرة عُمر بن سعد بن أبي وقّاص وخيولُ جيش أمير الكوفة والعراق عُبيد الله بن زياد. ثم ترجلَّ أحد قادة الكتائب ليحز رأس الحسين القتيل ويُحمل إلى دمشق محمولاً على رؤوس الرماح… كما تذكر الروايات التأريخية.

 لقد لخّص البياتي أحداث هذه الواقعة بأسلوبه الرمزي – السوريالي فنسخ وأحلَّ حَدثاً محل حدثٍ وشخصاً بدلَ شخصٍ فقال والكلام عن تموز (الحسين) على لسان عشتار:

 

لكنه لم يُكمل الحديثَ فالجنودْ

داسوه بالأقدامْ

واقتلعوا عينيهْ

وكانَ في انتظارهم آشورُبانيبالْ

في قاعة المرايا

ممتشطاً لحيته وغارقاً في النورْ.

أبحثُ عن " تموزَ " في قصائد الشعرِ وفي الألواحْ

أضفرُ إكليلاً من القرنفلِ الأحمرِ

                 في تشرّدي

                        لرأسهِ المقطوعْ.

 

ليس عسيراً على القاريء الفطِن أن يحزر أن آشور بانيبال الواقف أو الجالس في قاعة المرايا محتقناً ومنتفخاً بالنرجسية وتأليه الذات (المرايا) وغارقاً بنور الأُبهة وزهوة النصر وسادية القدرة على القهر والتسلط… ليس من العسير على هذا القاريء أن يستنتج أنه إنما يرى في آشور بانيبال خليفةَ المسلمين يزيد بن معاوية الذي إنتصر على خصمه الحسين. يزيد هذا هو ناسخ آشور بانيبال والحالُّ فيه روحاً لا جسداً. الحلول الصوفي والتناسخ البوذي.

يربط بعض الباحثين بين ما جاء في ملحمة جلجامش السومرية من بكاء عشتروت

(عشتار) ومواكب الندب والحزن السنوية على دوموزي (تمّوز) بطقوس مواكب الحزن ولطم الصدور وضرب الظهور بسلاسل الحديد المدببة التي يمارسها الشيعة في العراق وإيران وجنوب لبنان في اليوم العاشر من محرم من كل عام (يوم عاشوراء). يقولون إنَّ هذه طقوساً عراقيةً أصيلةً تضرب بجذورها في تربة العراق وفي تأريخه منذ أقدم العصور. نقرأ في ملحمة جلجامش المارّة الذكر وعلى الصفحة 113 محادثة جلجامش لعشتار بعد أن رفض العرض الذي تقدّمت به للزواج منه:

(تعالي أقص عليكِ مآسي عشّاقكِ:

من أجل تموز حبيب صباكِ

قضيتِ بالبكاء والنواح عليه سنةً بعد سنةٍ)

وفي باب الهوامش على الصفحة 175 نقرأ تعليقاً وشرحاً ضافياً على هذه الفقرة بالذات يقول:

(يُشيرُ هذا إلى العادة التي عمّت في تلك الأزمان من الندب والبكاء على تموز، إله الخصب والربيع، حيث إعتقدوا أنه كان ينزل إلى العالم الأسفل ويظلُ رهينةً في ذلك العالم طوالَ نصف عام ثم يقوم إلى الحياة في النصف الثاني مقابلَ بقاء أُخته المسمّاة كشتن – آنا رهينةً في العالم الأسفل بدلاً عنه). 

ولعُ عبد الوهاب البياتي بالعالم السفلي ولعٌ يثير الدهشة والإنتباه الشديد.لم يكتفِ بما جاء في ملحمة جلجامش العراقية السومرية حول هذا العالم السفلي ومملكة الأموات بل ساقه هذا التوله حتى إلى اللجوء إلى أسطورة أورفيوس الإغريقية فنظم قصيدةً أسماها (هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي). ليس هناك من مماثلة أو تشابه أو توازٍ بين قصة عشتروت ودوموزي السومرية وقصة أورفيوس Orpheus وزوجه يوريديكه Eurydike التي ماتت بلسعة أفعى بُعيد قراءة أشعار وأناشيد طقوس حفل الزواج مباشرةً. في غمرة آلامه وأحزانه صعد أورفيوس إلى مملكة الظل التي يحكمها هاديس و بيرسيفون. طرق الأبواب مغنياً على قيثاره أغاني الحزن والشجو والألم التي أنست " تانتالوس " أحزانه الخاصة. كذلك إنتقلت عدوى الحزن والنواح إلى حُكّام العالم الأسفل حيث لا يرجع ميّتٌ من مملكة الموت إلى الحياة ثانيةً قطُّ. إستطاعَ أخيراً أورفيوس ومن خلال أغانيه المؤثرّة أنْ يحقق الأمنية التي يريد: إرسال زوجه إليه حيةً ولكن شرط أنْ يقمع أو يُخفي آلامه وشكاويه وأن لا يُدير بصره إلى الخلف كيما ينظر إليها وهي تتبعه حتى تبلغ العالم الخارجي. إنفعال أورفيوس بحسن الحظ الكبير جعله يستهين بالإتفاق ويطرحه ظِهريّا وأن يرجع ببصره إلى الخلف ليتأكد هل حقّاً أنَّ زوجه المتوفاة قد نهضت حيّةً من الموت وإنها حقاً تتبعه ماشيةً خلفه حسب الإتفاق المعقود؟ خالفَ الإتفاقَ فتوجب عندئذٍ على الزوجة يوريديكا المتوفاة أن ترجع إلى عالم هاديس وأن أورفيوس يواجه كرّةً أُخرى سوء الحظ المكتوب عليه بأن يظلَّ يجوب غابات وطنه حتى يتلف ويموت ملتحقاً بحبيبته ليتجولا معاً في مملكة الظل. غير أنَّ رأسه وقيثاره يبلغان جزيرة " ليزبوس Lesbos " إذ ومذّاك تكوّن منهما في الوطن الكثير من الشعراء والمغنين.

هذه خلاصة قصة أورفيوس التي كتب عنها البياتي قصيدة " هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي " . لا تمتُّ القصيدة للقصة الإغريقية الأصل ولا حتّى بأوهى صلة. ذكر البياتي آشور مرتين في قصيدته والثور الخرافي، الثور الآشوري المُجنّح، الذي فوق دُخان المدن الكبرى يطير ثم ذكر عشتار التي لا علاقة لها أصلاً بآشور ولا بالثور الخرافي.

 

6- بعض القصائد الأخرى في المجلّد الثاني

سأتناول ثلاث قصائد أخرى من بين قصائد هذا المجلّد: قصيدة " أحملُ موتي

وأرحل " من كتاب البحر، وقصيدة " أُولد وأحترقُ بحبي " من كتاب قمر شيراز وقصيدة

" حبٌ تحت المطر " من كتاب قمر شيراز أيضاً. فما الذي يميز هذه القصائد عن قصائد المجلد الأخرى يا تُرى؟ ولماذا أراها من القصائد الجيّدة؟

 

6-1 قصيدة " أحمل موتي وأرحل "

كما هي عادته ودأبه، قطّع الشاعر قصيدته هذه إلى ستة مقاطع أو ست مُقطّعات صغيرة ومتوسطة وكبيرة. ما كان يُضير الشاعر ولا القصيدة أن يتركها دونما تجزئة وقطع وتحميلها أرقاماً تبدو في الغالب مُفتعلة إفتعالاً لا مبررَ له البتّة.

لا وجود في هذه القصيدة – والحمد لله !!- لا لعائشة ولا لعشتار ولا لتموز !! ألف الحمد لله. أتخمنا الشاعر بهذا الثالوث الذي أصبح كابوساً حقيقياً على القاريء والباحث.

لكنْ بدل عائشة أدخل الشاعر البياتي على خشبة مسرح العرائس وخيال الظل إسماً لأنثى جديداً علينا، بل إسمين عصريين أحدهما لفتاة روسية والآخر لإمرأة عربية أردنية من إربِد. " لارا " إسم مشهور نجده في أغلب البلدان الأوربية وهو في روسيا مختصر " لاريسا ". تعرّف الشاعرُ على لارا في مدينة " سوجي Sochi " وهي منتجع صيفي رائع الطبيعة والمناخ يقع بين البحر الأسود ذي المياه الدافئة صيفاً وجبال القوقاس الخضراء الشاهقة والمُثقلة بأشجار المشمش والتفاح والكمثّرى. يؤمه الضيوف والطلبة الأجانب وموظفو السلك الدبلوماسي لقضاء شهر فيه أو بالقرب منه مجاناً. أما الأخرى فهي خُزامى الأردنية. أمرٌ آخر في هذه القصيدة جديد علينا هو التأكيد على ذكر الصحراء الليبية والبوليس السرّي زمان العهد الملكي السنوسي فيها. ما الذي أقلق الشاعرَ في ليبيا؟ وليزيد في سماكة لحمة وسدى خامته الشعرية أقحم أموراً أخرى لا علاقة لها بلارا ولا بخزامى. أقحم موضوع حرب التحرير الشعبية وموضوع الأسطول الأمريكي السادس. لكني أستدرك فأقول إذا ما غضضنا النظر عن المقطع الأول الشديد الغثاثة سنجد أنفسنا أمام عالم شعري بالغ الإتقان والروعة يفرض علينا الإحساس العميق بصدق حرارة تعلق الشاعر بالفتاة الروسية لارا وبشغفه بها وهي تمارس السباحة على سواحل البحر الأسود أو في فندق إقامتها وغيرته من عشيق لها آخر يبادلها الحب كما يفعل شاعرنا معها. الآخر يحل محله… لا بأس… لأنه هو نفسه يحل محل ذاك العاشق الآخر. حلولٌ حلولٌ، حالٌّ ومحلولٌ، فاعلٌ وُمنفَعِلٌ ومفعول،…منافع وحظوظ متبادلة لا خسارة فيها ولا خاسر !!

دور خزامى هنا جدَّ محدودٍ ومتواضع، فلماذا ربطها الشاعر بلارا، البطلة الحقيقية لقصة هذه القصيدة؟ نقرأ بعضها كما كتبها ورتّبها الشاعر نفسه:

كنتُ وحيداً- كان البوليسُ ورائي- والليلُ الملكيُّ- ولارا تسبحُ في البحر الأسودِ- في سوجي- وخزامى في إربدَ- في ضوءِ بنادقِ حربِ التحريرِ الشعبيةِ للأرضِ الحبلى بالثورةِ ترنو وتصلّي- فاجأني البحرُ الأبيضُ- كنتُ وحيداً- أبحثُ في الصحراءِ الليبيةِ عن مفتاحِ المدنِ المنسيةِ في خارطة الدنيا- لارا تنشرُ في الريح ضفائرها- ترقصُ في الغابات الوثنيةِ- تمضي عائدةً للفندقِ بعد عناقِ البحرِ- وفي منتصفِ الليلِ عشيقٌ آخرُ ينسلُّ إليها.

ويُعريها

ويُقبّلُ عينيها

ويُقبّلُ نهديها

ويقولُ لها نفس الكلماتْ

وتقولُ له نفس الكلماتْ

             (أُحبّكَ)

لارا- هي والآخرْ

كانت تبكي، فالبحرُ سيأخذُ منها الآخر

كانت تبكي ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ

وفمي في فمها وفمُ الآخرْ

ودمي ودمُ الآخرْ.

 

فمن هي هذه المرأة لارا التي يتبادلها رجلان معاً والكل مقيمٌ في فندق واحد؟ (ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ. وفمي في فمها وفمُ الآخرْ). نقرأ في المقطع الخامس:

 

" لارا " رحلتْ بعد رحيلي

ضاعت في زحمة هذا العالمْ

في غابات البحرِ الأسودِ والأورالْ

عادت للأرضِ المسحورةِ تذرعها

في قُدّاسِ رحيلِ الأمطارْ

و " خزامى " نذرت للبحرِ ضفائرها

ولنجمِ الميلادْ

وأنا حطّمتُ حياتي

في كلِّ منافي العالم

بحثاً عن لارا وخزامى

وعبدتُ النارْ

مارستُ السحرَ الأسودَ في مُدنٍ ماتتْ

قبلَ التاريخِ وقبلَ الطوفانْ

واستبدلتُ قناعي بقناعِ الشيطانْ

ظهرتْ لي لارا وخزامى في موسيقى الأشعارْ

في حرف السينِ وحرف الهاء وحرف التاءْ.

في المقطع السادس والأخير يختتم الشاعر قصيدته قائلاً:

برحيلي رحلت كلُّ الأشياءْ.

 

إذا ما تبادل الرجال الأدوار أو كرروها مع فتاة من بنات الهوى في الفنادق أو على سواحل البحار فذلكم أمر لا يسترعي الإهتمام ولا علاقة له بأطروحة الحلول ولا يثير فضول أو دهشة القاريء. وأسوأ من هذا عملية لصق خزامى الأردنية بلارا الروسية أمر مفتعل غاية الإفتعال ذاك لأنَّ خزامى ليست بديل لارا ولم يتداولها الرجال كما فعلوا مع لارا. إلاّ إذا أراد الشاعر أن يقول لنا إنَّ خزامى الشرقية والمسيحية المحافظة هي الضد النبيل النقي للأخرى الغربية (الروسية، الإشتراكية، الوثنية) وإنها ملاك سماوي طاهر وجنيّة من جان البحار (وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلاد).

ثمّةَ أمرٌ آخر يلفت النظر وهو كثرة ورود كلمة النار في شعر البياتي كثرةً يصعب عدّها أو حصرها (لديَّ إحصائية تقريبية) فضلاً عن تأكيده على عبادة النار. قال على الصفحة 310 (أنتِ النارُ، أنتِ النارُ الأبدية) وقال على الصفحة 311 (فصليّتُ للنار في عرصاتها) وقال على الصفحة 315 (أعبدُ في عينيكِ هذي النارْ) وعلى الصفحة 329

(أسجدُ مأخوذاً للنار). ومما له صلة قوية بهذا الشأن وجود قصيدة في هذا المجلد بعنوان " المجوسي " وأخرى بعنوان " هكذا قال زُرادشت " وزرادشت هو نبي المجوسية والمجوسيين. و" هكذا تكلّم زرادشت " هو عنوان كتاب شهير من تأليف الفيلسوف الألماني نيتشه. ثم قرر البياتي في بعض شعره إنه مجوسي وقال مرة إنَّ إباه مجوسي (الصفحة 309). هل كان الرجل يلهو لهو صبيان على طريقة خالفْ تُعرفْ أو إنه كان يقرر شأناً خاصاً به بالغ الدلالة الإجتماعية لكنه على أية حال يبقى أمراً خاصاً لا يهم القاريء لا من قريب ولا من بعيد؟؟ ما الذي يعنيني إن كان البياتي بابلياً يعبد الكواكب ويقرأ النجوم أو كان آشوريَّ الهوى أو مجوسياً أو بوذياً أو إسماعيلياً؟؟ إذا كان صوفياً – سوريالياً في مذهبه الشعري فلا الصوفية كانت مجوسيةً ولا السوريالية ولا كان بوذا مجوسياً.

6-2 قصيدة " أولدُ وأحترق بحبي "

تُمثّل هذه القصيدة القمة الثانية في شعر البياتي بعد قصيدة " حبٌ تحت المطر" أو تكاد توازيها. أعدُّ القصيدتين معاً من أنضج وأكمل ما قال البياتي من شعر خلال فترة مشواره الشعري الطويل (1926 – 1998) وخلاصة عمره وفنه ومذهبه وأسلوبه في قول الشعر.

 

في القصيدة السابقة " أحملُ موتي وأرحل " قرأنا ولأول مرّةٍ إسم الفتاة الروسية لارا ورأيناها تحتلُّ مكاناً غيَر مرموقٍ يتنافس رجلان عليها ويطارحانها الهوى برّاً وبحرا في مدينة سوجي على سواحل البحر الأسود في الإتحاد السوفييتي السابق. فضلاً عن وضعها ضدّاً لا نِدّاً مقابلَ فتاة أردنية طاهرة الذيل متدينة (وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلادْ). أما في قصيدة " أولد وأحترق بحبي " فلقد قفز البياتي قفزة جدَّ موفقة بعد أن أخذ تمريناً جيداً في القصيدة السابقة وتعلّم أشياء جمّة سواء في كيفية التعامل مع موضوع لارا وحيدةً دون غريم أو منافس أو في إختيار الظروف والأحوال الأنسب للتفاعل مع شخصيتها وحثها أن تهبَ المزيد من العطاء الشعري المبدع ثم تسليط الضوء الأقوى على حضورها العياني و(الدرامي) إمرأةً ورمزاً ومثالاً عصيّاً على النوال، يتراءى لكنه لا يُمسك ولا يُرى. تماماً كما قال المتنبي في مناسبة قريبة من موضوع لارا:

              

                 وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ

                 من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ

 

راحت لارا تتراءى له قطّاً تترياً (وهو تعبير مجازي معروف في روسيا يُقال للمرأة الروسية الممتلئة الجسد) في المدن القطبية وراح يسأل عنها عاملة المقهى ومقاهي العالم وحاناته وقطارات الليل. ثم طفقت تتهيأ له حتى في لوحات متحف اللوفر الفرنسي في باريس وفي إيقونات الكنائس وفي عيون الملكات بل وتحت أقنعة بعض ملكات الفراعنة الذهبية. لارا الروسية والقط التتري تتحول إلى جارية في قصر الحمراء في مدينة غرناطة الأندلسية تعزف على العود لكنها تذرف الدموع كظبية.

نقرأ أجمل ما في هذه القصيدة من تحليقات فذّة وخيال غير مسبوق ولوعة حب حقيقية بعيدة عن المبالغات والشطحات الصوفية والإغراق الممل في لعبة التحول والتبدل والحلول.

سأكتبها كما كتبها البياتي وبالشكل المثبّت في الكتاب وأتركها لحاسة القاريء النقدية

وطريقته في تذوق هذا اللون من الشعر… فلربما يختلف معي الكثير من القرّاء.

 

                     - 1 -

تستيقظ " لارا " في ذاكرتي: قطّاً تتريّاً، يتربصُ بي، يتمطّى، يتئاءبُ، يخدشُ وجهي المحمومَ ويحرمني النومَ. أراها في قاعِ جحيمِ المدنِ القطبيةِ تشنقني بضفائرها وتعلّقني مثلَ الأرنب فوق الحائط مشدوداً في خيط دموعي. أصرخ: " لارا " فتجيبُ الريحُ المذعورةُ:

" لارا " ، أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملةَ المقهى. لا يدري أحدٌ. أمضي تحت الثلج وحيداً، أبكي حبي العائرَ في كل مقاهي العالم والحانات. 

 

                      - 2 -

 

في لوحاتِ " اللوفرَ " والإيقوناتْ

في أحزانِ عيون الملكاتْ

في سحر المعبوداتْ

كانت " لارا " تثوي تحت قناع الموت الذهبيِّ وتحت شعاع النورِ الغارقِ في اللوحاتْ

تدعوني، فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي

لكنَّ يداً تمتدُّ، فتمسحُ كلَّ اللوحاتِ وتُخفي كلَّ الإيقوناتْ

تاركةً فوق قناعِ الموتِ الذهبيِّ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

                     - 3 -

   

" لارا ! رحلتْ "

" لارا ! انتحرتْ "

 قال البوّابُ وقالت جارتها، وانخرطتْ ببكاءٍ حارْ

قالت أخرى: " لا يدري أحدٌ، حتى الشيطانْ ".

 

                     - 7 -

 

في قصر الحمراءْ

في غُرفات حريم الملك الشقراواتْ

أسمع عوداً شرقياً وبكاءَ غزالْ

أدنو مبهوراً من هالات الحرف العربيِّ المضفورِ بالآف الأزهارْ

أسمع آهاتْ

كانت " لارا " تحت الأقمارِ السبعة والنور الوهّاجْ

تدعوني فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي، لكنَّ يداً تمتدُّ فتقذفني في بئر الظُلُماتْ

تاركةً فوق السجادة قيثاري وبصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

                     - 11 -

 

أرسمُ صورتها فوق الثلجِ، فيشتعلُ اللونُ الأخضرُ في عينيها والعسليُّ الداكنُ، يدنو فمُها الكرزيُّ الدافيء من وجهي، تلتحمُ الأيدي بعناقٍ أبديٍّ، لكنَّ يداً تمتدُّ ، فتمسحُ صورتها، تاركةً فوق اللونِ المقتولِ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

 

كرر البياتي عبارة (لكنَّ يداً تمتدُّ) ثلاث مرات لكن ما تفعله هذه اليد يختلف من حالة إلى حالة وبإختلاف المناسبات. فمرة (تمتد فتمسح كل اللوحات وتُخفي كل

الإيقونات) وفي المرة الثانية (تمتد فتقذفني في بئر الظُلمات) وفي المرة الأخيرة " تمتد فتمسح صورتها …). لا أمل في لارا ! اليأس منها !

(كتب الشاعرُ هذه القصيدة بتأريخ 26- 10- 1974 وكان ذلك الحين في بغداد).

 

6-3 قصيدة " حبٌّ تحت المطر "

 

هنا إكتملت موهبة البياتي الشعرية كما إخال وأحسب. وهنا قد إكتمل نضجه الوجداني وعرف جيداً كيف يوظف وكيف يطوّر طرق وأساليب التعبير عن نزعة الحلول الصوفي القابع في أعمق أعماق روحه والإتحاد مع وبالطبيعة شجراً ومطراً وظلمةً وفجراً ونوراً وبأرصفة المدن ثم الميل الشديد لإرتياد بعض المقاهي جواً دافئاً مناسباً للتلاقي وتبادل المعلومات والسؤال والجواب وربما لعقد صفقة صداقة ومد جسور إلفة تُنسي الشاعر وحدته في مدينة غريبة عليه زارها سائحاً أو لحضور مناسبة أو للمشاركة في مؤتمر.

 

واترلو كان البدء…

 

واضحٌ أنَّ الشاعر قد وصل مدينة لندن قادماً إليها مستخدماً القطار واسطةً نقلته من مكان آخر… ربما من مدينة أوربية أخرى. ذاك لأنَّ " واترلو " هو إسم محطة مركزية لقاطرات السكّة الحديد القادمة إلى لندن ولتلك التي تغادرها. ويقع بالقرب منها جسر شهير في لندن يحمل إسم جسر واترلو. وهذا الإسم في الأساس إسم لموقع في بلجيكا يقع إلى الجنوب من العاصمة بروكسل وقعت فيه المعركة الشهيرة التي خسرها نابليون بونابرت عام 1815 أمام الجيوش الألمانية بقيادة الفيلد مارشال بلوشر وحليفتها الإنجليزية بقيادة المارشال ويلنكتون. تُكتب الكلمة بالإنجليزية Waterloo .

محطةُ وسائط للنقل وقطارٌ جاء بالشاعر من أرض أخرى وأدخله إلى مدينة لندن وجسر قريب يحمل ذات الإسم سيأخذه مباشرةً إلى قلب العاصمة البريطانية. نصرٌ لا شكَّ فيه للرجل الزائر الذي وصل لندن بعد منتصف الليل ولكنَّ الإسم هذا هوكارثة بالنسبة للآخر: للقائد المغامر نابليون بونابرت !! أية مفارقة عجيبة يواجهها الشاعر في هذه المدينة !! سيخسر الشاعر المغامر، هو الآخر، لعبة الفجر الجديدة على أرض البلد الذي سبق وأنْ حقق على تربة واترلو نصراً تأريخياً مُؤَزَّراً. فأية مرارة مزدوجة يحسها هذا المغامر الشاعر !! سيخسر معركتة الخاصة بعد أن يغادر المحطة التي تحمل إسم رمز النصر اللامع

" واترلو " وبعد قليلٍ من عبوره جسر النصر " واترلو ". المغامرون يخسرون في نهاية المطاف. فلقد سبق وأنْ تكبّد نظيره المغامر الجنرال نابليون بونابرت خسارة مماثلة. خسر نابليون معركته الكبرى على أرض ليست فرنسية. كذلك سيخسر الشاعر معركته الجديدة على أرض غريبة وبعيدة عن وطنه العراق. هل كانت محض صدفة أن يستحضر البياتي الأضداد، وهو يُعدُّ نفسه لجولة رومانسية جديدة، فيجمع ما بين النصر والهزيمة على أرض غريبة؟

الشعراء غالباً ما يلتقون، هنا أو هناك، بهذا الشكل أو بذاك، سرّاً أو علانيةً، منتصرين أو مهزومين. فإذا ذكر البياتي واترلو ذكراً عابراً فإن الشاعر الإنجليزي جورج غوردون لورد بايرون كتب (في أو قبل عام 1818) عن نابوليون وعن معركة واترلو في النشيد الثالث من قصيدته الطويلة " طواف تشايلد هارولد " أو أسفار تشايلد هارولد

 Childe Harold s Pilgrimage . سأنقل ما كتب هذا الشاعر من باب أنَّ الشيء بالشيء يُذكرُ.

 

  And Harold stands upon this place of skulls,

The grave of France, the deadly Waterloo!

How in an hour the power which gave annuls

Its gifts, transferring fame as fleeting too!

In “ pride of place “ here last the eagle flew,

Then tore with bloody talon the rent plain,

Pierced by the shaft of banded nations through;

Ambition s life and labours all were vain;

He wears the shatter d links of the world s broken chain.

 

كما خصَّ هذا الشاعرُ نابوليون بأجزاء كبيرة من قصيدته التي أسماها " العصر البرونزي

The Age of Bronze  " فتهكّم وسخر منه أيما سخرية وقارنه بالإسكندر المقدوني إذ حاول كلاهما سُدى السيطرة على العالم وقهره كلٌّ بطريقته وأساليبه الخاصة وبشعاراته الخاصة. قال عنه بعد موته منفيّاً في جزيرة سانت هيلانة:

 

Small care hath he of what his tomb consists;                        Nought if he sleeps – nor more if he exists:                        Alike the better - seeing shade will smile                          On the rude cavern of the rocky isle,                              As if his ashes found their latest home                           

In Rome s Pantheon or Gaul s mimic dome .                       

He wants not this; but France shall feel the want                     Of this last consolation, though so scant:                           Her honour, fame, and faith demand his bones,                      To rear above a pyramid of thrones;                             

نواصل قراءة المقطع الأول من القصيدة كما كتبها الشاعر في الكتاب:

 

" واترلو " كان البدءُ، وكلُ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، لتعانقه، لترى مُغتَربَين التقيا تحت عمود النورِ، ابتسما، وقفا وأشارا لوميضِ البرقِ وقصفِ السحب الرعدية. عادا ينتظرانِ، ابتسما، قالت عيناها: " من أنتَ؟ " أجاب: " أنا ! لا أدري " وبكى، اقتربتْ منه، وضعتْ يدها في يده، سارا تحت المطر المتساقط، حتى الفجرِ، وكانت كالطفلِ تغنّي، تقفزُ من فوق البرك المائيةِ، تعدو هاربةً وتعودُ. شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عمقٍ والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها، يتخفى في أوراقِ الأشجارِ. أجابَ: " أنا، لا أدري " وبكى. قالتْ: " سأراكَ غداً " ، عانقها، قبّلَ عينيها تحت المطر المتساقطِ. كانت كجليد الليلِ تذوبُ حناناً تحت القبلاتْ.

 

هذه هي اللوحة الأولى في قصيدة وضعها البياتي كما توضع بعض السمفونيات. مقدمة فيها غموض ويختلط فيها الأمل بالخيبة. نور من جهة وبروق وسُحُب ورعود ومطر متساقط من الجهة الأخرى. بداية لقصة تعارف مع فتاة إنجليزية وربما صداقة معها جديدة. لم يعطها الشاعر إسماً. هي حتماً ليست لارا الروسية التي عرفنا في الصفحات السالفة. عاش البياتي قرابةَ خمسة أعوام في موسكو فعرف أسماء الروسيّات لكنه لم يُقمْ في بريطانيا.

في القصيدة الكثير من البكاء. " أنا ! لا أدري " وبكى. كررها مرتين في المقطع الأول من هذه القصيدة. ولقد رأيتُ في جُلِّ شعره إنه يبكي إذ يٌقبّلُ أو يهمُّ بالتقبيل.

وما دام اللقاء لقاء غرباء وفي ساعة متأخرة من ليلة بارقة راعدةٍ ماطرة فمن حق الفتاة

(وقد تكون هي الأخرى مثل لارا من فتيات الليل) أن تسأل الرجل الذي بادلها البسمة عن إسمه وربما عن أصله. الرجل أجاب إنه لا يدري، لا يعرف من هو !! إنه ضائع ورقم فارغ في أجواء المدينة الكبيرة لندن التي تكون عادةً معتمة في ساعات الفجر الشتائية.

لا يعرف من هو وفتاته تلعب وتتقافز أمامه وتغني لتزيد عامدةً من حيرته وعذاب روحه.

(العصفور يتفلّى والصيّاد يتقلّى…) كما يقول العراقيون.

لقد أبدع البياتي في رسم صورة رائعة وبارعة يُمهّد فيها للحظة الفراق:

 

شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عُمقٍ

والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها

يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

 

صورة زئبقية غائمة عائمة وعصيّة لا تسلّمُ مفتاح السر ولا تُعطي القاريء ممسكاً فتبقى لُغزاً مُحيّراً. (والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجار). ماذا يمكن أن نفهم من هذا التعبير؟ (الأرصفة المبتلّة في عينيها) تعبير أفضّل أن أدعه دون تفسير. التفسير يُفسد تجلّي الصورة في مقام هيبة النفس الصوفية ويحشرها في إطار يابس شديد البؤس. أم تُرى أنأى بنفسي عن مستلزمات ودواعي وتأثيرات مظاهر الأبهة والجلال وأتجرأ على القول إنَّ دموع الفراق التي كانت تتساقط من عيني الفتاة بللت فأغرقت الأرصفة. ثم ما شأن الفجر يتخفّى في أوراق الأشجار؟ ألا يُطيق فراق الأحبة فيغطي عينيه فَرَقاً وجبناً؟ (أما تُطيقُ فِراقاً أيها الرجلُ؟ … كما قال أحد الشعراء).

نقرأ المقطع الرابع:

 

كان يراها في الحُلْم كثيراً منذ سنينٍ. كانت صورتها تهربُ منه إذا ما استيقظَ أو ناداها في الحُلْمِ. وكان بحمّى العاشقِ يبحثُ عنها في كلِّ مكانٍ. كان يراها في كلِّ عيون نساءِ المدنِ الأرضية، بالأزهارِ مغطّاةً وبأوراقِ الليمونِ الضاربِ للحمرةِ، تعدو حافيةً تحت الأمطارِ، تُشيرُ إليهِ: " تعالَ ورائي " يركضُ مجنوناً، يبكي سنواتِ المنفى وعذابَ البحثِ الخائبِ والترحالْ.

نفهم من هذا المقطع أن الشاعر هو (كازانوفا) خائب خرج من مغامرة الفجر اللندني بخُفيّ حنين. ضاعت من عَيانه فراح شبحها يطارده أو يلاحقه فيما بعد في عالم الأحلام حسبُ. حتى هذا الشبح الليلي صار يتهرب منه ويصدُّ عنه حين يناديها في الحلم مجرد نداء ويختفي تماماً حين يصحو من منامه. مع ذلك، كان الشاعر يرى هذا المخلوق الغائب عنه حيثما حلَّ وإرتحل. بل وأكثر من ذلك (كان يراها في كل عيون نساء المدن الأرضية)، مقترباً من قول الشاعر الإنجليزي لورد بايرون (أُوّاه ! لو أنَّ للنساءِ في العالم أجمع ثغراً واحداً إذنْ لقبّلته وإسترحتُ). يراها مغطاة بالأزهار وبأوراق الليمون الضارب للحمرة.

كيف يتحول اللون الأصفر إلى الأحمر؟ التحوّل… التحوّل… والتناسخ الصوفيين. وإلاّ كيف يكون لون الليمونة ضارباً للحمرة والكل يعرف أن الليمونة صفراء؟ قد يقول البعضُ إنها رؤية الشاعر الخاصة للأشياء. فقد يرى اللون الأصفر أحمرَ والعكس بالعكس. الألوان أسماء تعارف عليها البشر وتواضعوا كما هو الأمر بالنسبة لكل الأشياء والمسميات.

 

هذه الفتاة الإنجليزية التي ما زلنا نجهل إسمها أو من هي ظلّت حيّةً في وجدان الشاعر طيفاً يلاحقه أينما وحيثما كان. وظلَّ الشاعر مفتوناً ومشغولاً بذكرى هذا الطيف الذي يُقضُّ مضاجعه ولا يعطيه فُرصةً لراحة البال والضمير. لقد طفق يمارس كالمهووس عادة إجترار الذكريات وإستحضار تفصيلات الحدث الذي وقع له فجر يوم ماطر في عاصمة الضباب لندن. وكان يحلم بلقاء آخر معها ترتبه يد الأقدار العمياء.

في إنكفائه الجارف إلى داخل نفسه يحاورها ويسائلها ويناجيها، أبدع البياتي في صوغ نوع من " الدايالوج " الرائع الذي هو مزيج من الأماني ومخاطبة الذات وإسترجاع حلو الذكريات. نقرأ المقطع الثامن:

 

كان يراها في كلِّ الأسفارْ

في كلِّ المدن الأرضيةِ بين الناسْ

ويناديها في كل الأسماءْ.

 

وفي المقطع التاسع:

كانت تتخفى في أوراقِ الليمونِ وأزهارِ التفّاحْ.

 

وفي المقطع العاشر:

" واترلو " كان البدء وكلُّ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، تسعى للقاءِ الغرباءْ.

 

وفي المقطع الحادي عشر:

تحت النورِ التقيا، ابتسما، وقفا وأشارا

لوميضِ البرقِ وقصفِ السحبِ الرعديةِ، كانا يعتنقانْ.

 

وفي المقطع الثاني عشر:

كان يمارسُ سحراً أسودَ في داخله: تأتي أو لا تأتي؟ من يدري؟ مجنوناً كانْ.

 

قبيل اللقاء يرسم البياتي أندرَ صورٍ عرفها الشعر العربي المعاصر للحظات الترقب والأمل المرتجِّ والخوف من إستحالة تحقق اللقاء مع إمرأة طال إنتظار وعدها على الأرض الغريبة.

 

المقطع الثالث عشر:

كانت في يدهِ دُميةُ شمعٍ يغرزُ فيها دبّوساً من نارْ

" حبيني " قال لها، واتّقدت عيناهْ

بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ.

 

إنه يتحرق شوقاً للّقاء فيتخيل الفتاة كدمية من شمع ينصهر بين يديه تحت تأثير حرارة نار تولعه هو وعنفوان هواجس التأرجح ما بين إحتمالات الأمل واليأس.

يتمنى الشاعر أن تحبه هذه المرأة – اللغز الغامض، يتمنى لكنْ (ما كل ما يتمنى المرء يدركه // تجري الرياحُ بما لا تشتهي السَفَنُ / المتنبي). ما أن ذكر الحب وفعل الأمر

(حبيني) حتى بلغ منه القلق مبلغه. وجد هناك ما يشبه اليأس من ذلك أو إستحالة أن يحصل هوى صادق بينه وبين هذه الفتاة. (حبيني قال لها، واتقدت عيناهْ، بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ). هل المأساة في أنْ تحبه هذه المرأة أو أنَّ المأساة هي في أنْ لا تُحبهُ؟ تلكم هي المسألة. الحيرة الحيرة. حيرة الرجال أمام إحتمالات الحياة المتغيرة أبداً.

تأتي أو لا تأتي؟؟؟ تحبه أم لا تحبه؟؟؟

ثمَّ هل ستفي الفتاة بالوعد الذي قطعت حين قالت له لحظة الوداع (سأراك غداً / المقطع الأول). هل سأل الشاعر نفسه أين، تُرى، ستراه غداً؟ إنها لم تحدد له مكاناً ولا زماناً لمثل هذا اللقاء. فلماذا قبل مثل هذا الوعد الغائم والعائم؟ يقول الإنجليز

 See you tomorrow  أو See you latter  كما يقول واحدنا للأخر إذ يفترقان " مع السلامة " دون الإلتزام بموعد ثابت يترتب عليه لقاء مُحدد.

نجد الجواب في المقطع رقم 14 (أراها صورته بلباس البدوِ الرُحّل…). بدوي ساذج ينخدع بالكلام ويتعجّل وقوع الأحداث نتيجة قلّة الصبر وضعف النسيج العصبي المركزي.

بعد السياحة الطويلة نقف لنلتقط على مهلٍ أنفاسنا فنجد أنفسنا أمام حُلُم سريع جميلٍ غريب التفاصيل مُثير في بنائه وهندسته. ما كان وعداً ما حسبناه وعداً. مجرد ذكرى يلوكها الشاعر إجتراراً ومن باب الإستمناء أو التمني (والتمني رأسُ مالِ المفلسِ).

وكما يحدث في عالم السينما والأفلام، يعود الشاعر بذاكرته في المقطع الخامس عشر إلى أحداث المقطع الأول وما جرى له ولها خلال دقائق التعارف الأولى:

 

عانقها، قبّلَ عينيها، لُنْدُنُ كانت تتنهدُّ في عمقٍ، والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

 

في المقطع الأخير تتجلى حقيقة هذه الفتاة لنفاجأَ بأنها ليست حقيقية وبأن قصة محطة قطارات واترلو وجسر واترلو ما هي إلاّ خيال محبوك بإتقان وإقتدار ومُكنة. وبأن الشاعر البياتي فنان ساحر يُتقن اللعب على قارئه ويجيد توظيف موهبة التخيل وإستخدام تكنيك تقريب وإبعاد عدسات التصوير من بؤر ومراكز دوائر وقائع التأريخ. الفتاة التي إلتقته في لندن لقاء غرباء ما كانت إلاّ " عائشة " إياها التي رافقناها منذ قصيدة " الموتى لا ينامون " على الصفحة 71 من المجلد الثاني لمجموعة أشعار الشاعر. وأنَّ عائشة هذه لا وجود حقيقياً لها إنما زالت هي بزوال مملكة أبيها في الألف الثالث قبل الميلاد . المقطع السادس عشر:

 

" عائشةٌ إسمي " قالت: " وأبي ملكاً أسطورياً كانْ

يحكمُ مملكةً دمّرها زلزالٌ في الألف الثالثِ قبلَ الميلادْ ".

 

أجلْ، الموتى لا ينامون.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1518 الخميس 16/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم