قضايا وآراء

النوّاب: الشعر عيد كوني .. القصيدة غبطة كونية (1-3) / حسين سرمك حسن

 ألگه شي ساكت مثل فرخ الحبر

 ألگه شي ضايع نهر ...

 دشداشه گمره

 اثنين بالمشمش ..

 وإذا العصفور يزقزق ...

 فوگ ...

 نسحب البستان ..

 نتغطه شهر ...)

 (مظفر النواب)

 من قصيدة (زفّة شناشيل)

 

(أريد أن أجعل الإله يموت من المحبة)

 (أرثور رامبو)

 

(مرّة خيل إلي أنني أسمع صوت الكرمة، يوشوشني قائلا : " لا أُثمر، إلّا لكي أُسكِر ")

 (أدونيس)

 

(ثمّ فكّرت فيك بالفراش

 لسانك نصفه شوكولاتا ونصفه بحر

 كيف وصلنا إلى الذروة

 وتناولت كأس دمي

 ثم لحمتني معا وأنت تشرب مائي المالح

 كنا عاريين مقشورين حتى العظام

 ثم سبحنا، الواحد خلف الآخر

 وصعدنا لأعلى النهر

 النهر نفسه ناداني

 فدخلنا معا

 لا أحد وحيد ....................)

 (آن سكستون)

 من ديوان (قصائد حب)

 

يقول الشاعر الصيني " وو كياد " في توضيح الفرق بين الشعر والنثر، معبرا عن ذلك بالبلاغة البوذية المركزة والمكثفة وبفن التشبيه المعروف الذي يشتق من حكمة الطبيعة التي تغنيها عن الكثير من الإطالات التفسيرية والاستطالات الكلامية :

" إن رسالة الكاتب مثل الأرز، عندما تكتب نثرا فإنك " تطبخ " الأرز، وعندما تكتب الشعر فإنك تحول الأرز إلى نبيذ . طهو الأرز لا يغيّر شيئا من شكله، لكن تحويله إلى نبيذ يغير شكله وخصائصه . الأرز المطبوخ يجعل المرء يشبع، ويحيا حياة كاملة . النبيذ من جهة أخرى يجعل المرء ثملا، ويجعل السعيد حزينا والحزين سعيدا . إن أثره، وبكل رفعة، يقع خارج الشرح " .

ومظفر النواب هو من صنف الشعراء الذين يحوّلون الأرز إلى نبيذ، إلى خمرة كونية تجعل الحزين سعيدا في كل حال لكنها عندما تفرط في همّها الذاتي تجعل السعيد حزينا في أقل الأحوال . لكن حتى في أشد حالات الإفراط يكون هذا الحزن راتعا وسط واحة من الفرح والبهجة التي تتعدى في كثير من الحالات نطاق الوجود الفردي لتشمل حركة الكون ومفردات الطبيعة . والنواب يبذل جهدا هائلا في الصبر ليس على " تخمير " القصيدة مبنى ومعنى حسب، بل على تخمير المفردة الواحدة، وأحيانا الحرف الواحد . وهذا الصبر المتطاول المحسوب، ينتج لنا أروع أنواع الخمور الشعرية الساحرة، خمور مذهلة ترفعنا إلى سماوات قصية من النشوة الصوفية المترفعة عما هو يومي يحاول الإمساك بأذيال وجودنا وسحبنا إلى منخفضات الأرضي المبتذل . قبل النواب لم يكن أي شاعر ينظر إلى القصيدة على أساس أنها نوع من الاحتفاء الكوني، عيد كوني، أو غبطة كونية حسب تعبير الشاعر " أوكتافيو باث " الذي قال في كتابه " الشعر ونهايات القرن " :

(لا شيء أكثر جاذبية لبعض العقول من التلخيصات الشاملة والتفسيرات العامة للعلم، كما قال ماركس، وكان يومها يتحدث عن الدين، دون أن يعرف أنه كان يتنبأ بما سيؤول إليه مذهبه ذاته في القرن العشرين، ولكنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي يتعرض فيها الشعر للتشويه والبتر على يد الاطلاقية الحسابية للأصولية . إن " شيه شينغ " المختارات الشعرية العظيمة التي تنسب إلى كونفشيوس تحتوي العديد من قصائد الحب التي كثيرا ما تجعل الشعر الإسباني الحسي (الإيروتيكي) التقليدي يرد إلى الذهن . لكن ناشري الأدب الصيني حولوا هذه القصائد التي تغني العاطفة النزوية غير العادية إلى رمزيات سياسية جامدة وطرفات ذات مداليل أخلاقية . ومحل روابط العاطفة التي توحد المحبين أو تفرق

 

بينهم، فرض التفسير الرسمي حسب القانون الذي يحكم العلاقة بين الحاكم ووزرائه (.....) فبعض الأساتذة الجامعيين مصرون على أن يروا في " الأنشودة الروحية " لسينت جون، قصيدة حب مدنسة . إن تفسيرا كهذا ليس إلا تفسيرا ساذجا وسطحيا جدا، فهو يتجاهل غموض تلك القصائد وتأرجحها الدائم بين المقدس والمدنس، بين الروحي والحسّي، بين الذهني والجسدي ... ومسألة أن يستخدم سينت جون صورا إيروتيكية، كثير منها مأخوذ من الشعر المحفوظ أو من الأغاني الشعبية، مسألة طبيعية تماما . ولكن سينت جون يبدو متحفظا إذا ما قورن بالنصوص التانتارية (مذهب بوذي هندوسي) . ففي هذه النصوص، مثلا تستخدم كلمة " سوركا " - " المني " – لتعني الكشف التنويري المفاجيء (بودهيشيتا)، ولا يمكن التمييز بين الذروة الجنسية والنشوة الروحية، فالحالتان تسميان " ماهاسوكا " أي " الغبطة الكبرى " . فإن لم تكن هناك غبطة تعادل غبطة الحب الإنساني والمكتفي والمشبع، ولا تعاسة أكبر من الحب المرفوض، فلماذا لا نقارنه بالحب الصوفي ؟ إن كلا منهما تعبير عن الطاقة الحيوية ذاتها ...)) (1)

ويقول باث أيضا : (إن طبيعة قصيدة ما مشابهة لطبيعة عيد هو، علاوة على كونه تاريخا في الروزنامة، قطع في سياق الزمن وانبثاق حاضر يعود دوريا بلا ماض أو غد، كل قصيدة عيد : تقطّر في زمن محض . إن العلاقة بين البشر والتاريخ هي علاقة تبعية وعبودية . فإذا كنا نحن شخصيات التاريخ الوحيدين، فنحن أيضا مادته الخام وضحاياه، فالتاريخ لا يتحقق إلا على حسابنا، الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييرا جذريا، فهو يتحقق على حساب التاريخ، ذلك أن كل نتاجاته - البطل، القاتل، العاشق، القصة الرمزية – allegory، النقش المقطعي، اللازمة، القسم، الاستغراب التلقائي على وجه طفل في أثناء اللعب، على محيّا محكوم بالإعدام، على فتاة تمارس الجنس للمرة الأولى، فقرة تحملها الريح، خرقة صراخ – كل هذه، مع التعابير المهجورة والمحدثة والاقتباسات، لن تستسلم للموت أو إلى أن تُضرب عرض الحائط)) (2) .

والقصيدة لدى النواب ليست عيدا كبيرا كما قال " اوكتافيو باث " حسب بل هي غبطة كونية، عيد كوني هائل يكتسح برعشته كل حدود وجود الفرد، يكتسحها بهدوء ومكر موجع، ليلتحم الفرد بالطبيعة وموجوداتها، لكي يعود إلى تلك النشوة " الصوفية " البدائية حينما كان الإنسان لاشعورا عاريا لا تفصل كينونته الداخلية عن ذات الطبيعة الخارجية سوى الطبقة " الجلدية " الاعتبارية . كان الإنسان ملتحما بالطبيعة والموجودات التي تحيط به . كان " إحيائيا " يتعامل مع كل شيء

 

على أنه شيء حي، له روح وله أحاسيس ومشاعر ..مشاعر يحرص عليها كل الحرص ويعمل على أن يتجنب إصابتها بأذى . كانت حياته " شعرية " إذا جاز التعبير، ولم تكن هناك فاصلة واسعة بينه وبين ما يحيط به من أشجار وطيور ومياه وأقمار . وهذه الحالة، حالة الإنسان ذي اللاشعور العاري هي الحالة التي يصبح عليها الشاعر لحظة الخلق، حيث يتخفف من ضغوطات الوعي الصارمة المحكومة باشتراطات " العملية الثانوية - secondary process " التي تنظر بعين التحسب والمهادنة إلى متطلبات المحيط الاجتماعي ونواهيه .. الشعور يخضع لمبدأ الواقع - reality principle القاسي الذي يلجم انطلاقة العواطف ويكف إشباع الرغبات ويجعل الأنا في حالة توقع وتوتر دائمين لأن الأخير بحاجة ماسة لأن يختبر الواقع المحيط به باستمرار . إن الأنا هو مركز الشعور والإدراك والحكم والتبصّر المنطقي الذي تُضعف أداءه النظرة الشعرية المجازية إلى شؤون الحياة والعلاقات مع الآخرين . ومن المستحيل أن يقر وصفا تعبيريا كالذي يصوغه النواب حين يقول : " نگضني النهد شايل ثگل شامة "، فهو محكوم بمسلمات " منطقية " مشتركة شديدة الرسوخ عن الكتلة والثقل والتحمّل وعلاقة السبب بالنتيجة والعلة بالمعلول، مسلمات تأسست عبر قرون وقرون حتى صارت مشتركات جمعية معلنة يعد خرقها أو نقضها، بل حتى محاولة التشكيك فيها نوعا من الهلوسة أو الاضطراب العقلي . مثل هذه الأفكار " الجنونية " هي من مسؤولية اللاشعور الذي يقوم فعله على أساس" العملية الأوليةprocess- primary " التي من أهم ركائزها هو أنها لها "منطقها " الخاص " اللامنطقي" الذي لا يخضع لأحكام الزمان أو المكان ولا يقيم لتعارض المتناقضات وزنا حيث تتعايش وتزدهر في وحدة صراعية جدلية، وتفكيره هو تفكير صوري بصورة رئيسية . كما أنه يقفز فوق كل هذه الحواجز لأنه يخضع لمبدأ مناقض للمبدأ الذي يحكم الأنا - الشعور وهو " مبدأ اللذة – pleasure principle الذي لا يعرف التأجيل لأي سبب ويتطلب الإشباع الفوري للرغبات اللائبة دائما . وهنا يقع عبء لا يوصف ثقله على ظهر الأنا في لجم هذه الاندفاعات النزوية من جهة وفي محاولة إشباعها من جهة أخرى . وكلما كان الواقع متزمتا كلما قلت فرص إشباع رغبات " الهو "، وهنا يأتي دور الشعر كمنفذ " شرعي " للكثير من هذه الرغبات كي تتمظهر بصورة جمالية ساحرة وكي يُحتفى بها وهي في شكلها المموه الماكر الذي يصل أعلى مراحله في انفلاتة هذه البهجة التي تتصاعد لتأخذ شكل غبطة كونية غامرة . وقبل النواب لم يكن الشاعر الذي يكتب باللغة العامية مهتما بهذه الغبطة الكونية .لم يكن مدركا لأهمية " الفضاء " المحيط به .. وبقصيدته .. الفضاء بكل موجوداته الحية والجامدة .لم يكن قادرا،

 

لا معرفيا بسبب محدودية ثقافته وضعف تلاقح مكوناته الرؤيوية الشعرية مع الأطروحات الشعرية الأجنبية الوافدة عبر الترجمة كما حصل في نهضة الشعر الحديث، ولا نفسيا بفعل التزمت الذي تفرضه البيئة الاجتماعية وينعكس على انفتاح النظرة الإبداعية التي تتطلب التخفف من أسر الكثير من القيود والنواهي - رغم أن أقسى الروادع الدينية لم تمنع الشعراء الذين " يتبعهم الغاوون " من " تمرير " أشد النصوص جرأة، بل أن الروح الشعرية التعرضية انسربت تحت أغطية النصوص الدينية نفسها - على خلق " طبيعة " داخلية و" كون " داخلي شعريان في ساحة القصيدة يوازيان الطبيعة والكون الخارجيين . ولم يكن يدرك أن القصيدة هي بحد ذاتها طبيعة صغيرة وكون صغير، فكيف ينطلق بثقة لجعلها كونا أكبر ؟. لكن النواب لم يخلق طبيعة داخلية في القصيدة من خلال توظيف رموز الطبيعة الأم حسب بل طوّعها ليشكّل كونا شعريا لا يوازي الأصل فقط ولكنه يفوقه من خلال العلاقات الجديدة التي كان يؤسسها بين موجودات كونه الداخلي المحيطة ببؤرة إبداعه المركزية وهو الإنسان، وفي خدمة الإنسان جماليا ونفسيا . فلا شيء في كون النواب الشعري يعادل الإنسان - وتحديدا - الإنسان العراقي قيمة وحضورا . كل شعر مظفر العامي موظّف لمعاناة الشعب العراقي المسحوق والغارق في معاناته الدائمة منذ فجر التأريخ . في أقصى الموجات حماسة للفكر الماركسي والإنحياز للمعسكر الشيوعي لم يكتب النواب، رغم ولائه للفكر الماركسي وكونه شيوعيا آنذاك، أي قصيدة تتناول همّا أمميا، كان مركز انشغاله واشتغاله الشعري والسلوكي اليومي الملتهب هو محنة الإنسان العراقي وتعزيز إرادته للنهوض والمقاومة الباسلة، في الوقت الذي جعل الشعراء الماركسيون الآخرون، وخصوصا من الجيل الذي أعقب النواب، الهمّ الأممي هو المركز الذي يتفرع عنه الهم المحلي، بل أن بعضهم أهمل الأخير إلى حدّ كبير حتى اضطر أحد الشعراء القدامى إلى تناول هذه الظاهرة في قصيدة قال في مقطع منها :

(تريد أبچي على فيتنام ..

 وآنه النايحة ابّيتي ؟ ..

دا خلّي أفرغ ..

 أبچيلك على اللّي مات ..

 وعلى الما مات ..

 وعلى اللّي يموت ..

 وعلى الماعنده نيّه يموت) .

صحيح أن المعاناة الإنسانية مشتركة وتنطوي على أهداف مشتركة وإضعاف الإمبريالية آنذاك - المصيبة أن جناحا من الشيوعيين العراقيين الآن تعاون مع

الامبريالية الأمريكية التي غزت بلادنا الحبيبة ودمرتها - لكن حرارة التشخيص والتجسيد في القصيدة تأتي من التحام المبدع بالناس الذين يعيش بينهم ويكتوي بنيران انذلالهم ومهانتهم لينتصر لمعاناتهم ويستنهض إرادتهم على الكفاح لضمان مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة، إن " المسافة المحسوبة " كما أفضل تسميتها، المكانية والزمانية، بين المبدع وموضوعه تلعب دورا عظيما في تحديد قدرته على الإحساس بالمتغيرات العاصفة التي تمر بها بلاده وتمثّلها وتصويرها . طبعا هذا لا يعني تبعية الشاعر لتلك المتغيرات وانقياده المستسلم لها وذوبانه في أتون جحيمها . إن المعادلة الصحيحة التي تُرسم هذه العلاقة وفقها تشبه عمل المصور الفوتوغرافي الذي يحاول التقاط صورة لمنظر معين، فالصورة لن تكون شاملة إذا اقترب من المنظر بصورة مفرطة أو إلى حد الإلتصاق به، كما أن تفاصيلها تشحب إذا ابتعد بصورة كبيرة أيضا، يجب أن تكون هناك " مسافة محسوبة " لبعده عن المنظر لتقديم أفضل لقطة . وحاله في ذلك أيضا يشبه حال الملاكم الذي لن يستطيع إصابة خصمه بصورة مؤثرة إذا التحم به جسديا أو إذا ابتعد عنه بحيث لا تصله قبضته (3) . إن الشرط الحاسم الذي أمسك به النواب هو أنه نتاج هذا التراب المقدس الطهور، شاعرا وإنسانا، وأن عليه أن يعلن ولاءه المطلق له، ولاء مصيري لا يعرف المهادنة ولا المساومات، وهو القائل عن نفسه : " أعتقد أن من قضى هذه المسيرة الحياتية الطويلة لا يمكن أن يساوم، لم يبق شيء يستحق أن نساوم من أجله " . وعلى أساس هذا الولاء الأمومي بطبيعته تشتق الولاءات الأخرى للإنسان في كل مكان وليس العكس . أي أمّ ستصاب بصدمة مروعة حين ترى ابنها المبدع يتغنى بآلام المخاضات العسيرة لأم أخرى مهما كانت تلك المخاضات مدمرة، ناسيا أو مؤجلا التغني بالموت الذي خاضت أهواله من أجله، كي تنجبه . ووصف الموت هذا لعملية الإنجاب اعتمادا على إجابة للإمام (علي بن أبي طالب) على تساؤل الذين سألوه : صف لنا الموت ؟ فقال : انظروا إلى المرأة وهي تلد . ومن الملاحظات الأخرى المهمة جدا التي تميز النواب إبداعيا وسلوكيا من باقي الشعراء العراقيين، هو أن جميع الشعراء الذين غادروا العراق لأسباب مختلفة منذ بداية السبعينات صار انشغالهم بقضايا أخرى لم يعد فيها الإنسان العراقي ونكباته واندحاراته التي لا تنتهي هي القضية المتسيدة والطاغية في إبداعهم، بدأت ملامح

 

الإنسان العراقي البسيط، خصوصا من الفلاحين تشحب تدريجيا في نصوصهم بمرور السنوات، بخلاف النواب الذي كان اهتمامه بشعبه يلتهب وتشتد جذوته كلما مرت السنون وادلهمت الخطوب وبعدت الشقة وازدادت وحشة طريق الحق العراقي لقلة سالكيه (لاحظ أن قصائد مثل " حچام البريس " و" حسن الشموس " و " على گد البريسم " والتي كتبها الشاعر في منفاه هي أشد إصرارا وضراوة في الانتصار للإنسان العراقي من قصائد ديوانه للريل وحمد التي سبقتها تاريخيا رغم أنها لا تقل عنها فنيا) . ليس هذا حسب بل إن تفصيلات الحياة اليومية العراقية، خصوصا في الأرياف والأهوار، ومفرداتها التفصيلية المتعلقة بطقوس أهلها وعاداتهم وملابسهم وبنادقهم ومشاحيفهم، وطبائع تربتها وطعم مياهها وأصناف نباتاتها وأنواع ثمارها وحركة طيورها ... إلخ والأهم قمحها وخبز تنورها، كانت حاضرة في نصوصه بصورة مؤثرة اعتمادا على ذاكرة عجيبة لا تختزن أدق التفصيلات وأبسط الحوادث التي غطتها طبقات من غبار عقود الزمان الذي لا يرحم حسب، بل تستدعيها بسرعة وكأنها مثبتة في ملف يراجعه مظفر ويعيد تنظيم أوراقه ويمسح عنه غبار النسيان المعادي يوميا، بل كل لحظة - وبالنسبة لي، لم يثبت هذا شعريا في نصوصه حسب، بل من خلال لقاءات عديدة كنت أتعمد خلالها استدراج المبدع للتأكد من رصيد ذاكرته وكشف مخزونها وملاحظة سرعة استدعائه لمحتوياتها - . و كانت أمي الحكيمة تقول : (من يبتعد عن التنور عليه أن يقبل بالصمّون). لكن مظفر النواب هو " الفادي " الذي حمل " لهيب " تنور الأم في أعماقه ليس كي يقيه برودة المنافي وصقيعها وشرور تقلبات ولاءاتها السياسية والوطنية، ولكن كمصدر خلق وحيد ينضج على ألسنته أرغفته الشعرية لتأتي عراقية، روحا وطعما، ساخنة وشهية وأصيلة وذات رائحة أمومية لا تخطئها حاسة شم الروح العراقية – إن اللاشعور يشم . وهذه عملية تحرق أعصاب الوجود الفردي وتفتك بالصحة الجسدية والنفسية وتقصّر الأعمار . ولكن هذا الإصرار المثابر الذي لا يساوم ولا يتصالح مع ضغوط الحياة المختلفة رغم مراراتها يوصل إلى، ويعكس في الوقت نفسه، سمة ذات معان فائقة في المنجز النوابي وهي سمة التفاؤلية . فالنواب لم يعلن في أي نص من نصوصه العامية انه نفض يديه من المراهنة على إرادة الإنسان العراقي الجبار في كفاحه ضد قوى الاضطهاد والاستغلال والقمع . مظفر يؤمن بثبات لا يتزعزع أن شمسا جديدة ستشرق على الشعب العراقي المعذب، وإذا جاز لي الاستنتاج التالي أقول : إن قصائد النواب في ديوانه الأول للريل وحمد كانت استقبالية للمعاناة في معظمها وتوعّدية في فعلها، في حين أن حچام وحسن الشموس وغيرها من نصوصه التي أعقبت الديوان كانت قصائد عزم وفعل إنقاذي

 

عملي ومباشر . وظل النواب على رهانه المقدس رغم بحار الظلمات المرعبة التي تحيط بشعبه من كل جانب ورغم حوافر الخيول الباطشة التي تردس على صدره منذ آلاف السنين . ومن الأقوال المأثورة " أن المرأة التي تغازل بملامحها ليست فاضلة، والرجل الذي يغازل بمعرفته ليس شريفا "، والنواب لم يغازل بشعره أحدا غير الإنسان العراقي . ومع النواب يمكننا القول بثقة أن مرحلة " البطولة الشعبية " في الأدب العراقي قد بدأت، ليس في شقه العامي فقط، ولا في شقه الفصيح المكمل، ولكن في الثقافة العراقية بشكل عام - راجع دراستنا السابقة عن قصيدة " حچام البريس " - . لم تكن في الثقافة العراقية مطولات شعرية ذات طابع ملحمي تتحدث عن الأبطال الشعبيين رغم طوابير هؤلاء الأبطال التي لم تنقطع منذ فجر خليقة العراق . مع النواب أصبح العامة البسطاء من جمهور مظفر - وهم أشقاء روحه - " يروون " و " يحكون " حكايات لعيبي وسعود وصويحب وجابر و حچام البريس وحسين / حسن الشموس وغيرهم . يحكونها فتزرع في نفوسهم الممزقة بذرة - لاحظ أن أغلب مفرداتنا، ومن حيث لا ندري، مرتبطة بالأرض - الأم : اللغة نتاج أمومي - . والأمر الأكثر خطورة في هذا الإطار هو أن النواب قد مرّر تحت أغطية هذا الموقف حينا وأعلن صراحة أحيانا البطولة الشعبية الأنثوية من خلال المرأة - الأم - الحبيبة التي لم يخصص لها الشعراء السابقون قصيدة واحدة كاملة مثلا، يتعرضون فيها لدورها البطولي المقاوم ووظيفتها الإنقاذية المتأصلة التي التقطها النواب بوعيه الحاد وبولائه الأمومي المرتكز على الظل الأنثوي الخلاق في أعماق شخصيته، " anima " حسب تعريف " كارل غوستاف يونغ" عالم النفس الشهير، هذا الظل هو المسؤول عن الإبداع من ناحية وعن تجليات الأنموذج الأنثوي في نصوص المبدع من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي تعرضنا له تفصيليا في دراستنا " حالة ما بعد الحب " السابقة . المهم أن مراهنة النواب على الإنسان العراقي استمرت حتى يومنا هذا . وعند هذه النقطة الشائكة قد يقع المتلقي في نوع من الإرباك والتشوش مصدره التساؤلات المشروعة التي سيثيرها هذا الموقف في ذهنه وهي : كيف يتفاءل المبدع ويرسم نهايات ظافرة لقصائده وشعبه يسحق يوما بعد يوم وتهدر كرامته وتنهب ثرواته ؟ هل يعاني هذا المبدع من فصام بين ما يشاهده ويتلمسه من خراب فعلي يمحق شعبه ويحطم مستقبله على أرض الواقع وبين ما يرسمه على الورق من صور شعرية متخيلة لا أساس لها في الحياة الواقعية اليومية ؟ ألا تساهم نصوص مثل هذه في إشاعة الروح التخديرية التي تطوّع إرادة الناس الذين لن يروا من خلالها حقيقة محنتهم العارية المريرة التي ينبغي عليهم التصدي لها ؟. إن الجواب على هذه التساؤلات يضعنا في

 

صلب الطبيعة التفاؤلية لمنجز النواب التي تحدثنا عنها والتي ستنقلنا إلى ما طرحناه في بداية دراستنا عن رؤياه لمهمة الغبطة الكونية التي يضطلع بها الشعر وعن القصيدة كعيد كوني . إن مزاج النواب مزاج منفتح ينفعل بحركة الطبيعة والإنسان ويستجيب لها ويؤمن أنها حركة حياة لا تهدأ ولا يمكن أن تندحر أمام هجمات الموت - رغم أن الأخير هو الحقيقة الأكثر بقاء ورسوخا -، وهذا المزاج هو الذي يشيع في أجواء القصيدة النوابية فيسمها بالإيجابية والإنسانية الخلاقة من ناحية وبالحركية الصراعية (الدينامية) من ناحية أخرى . فالحياة حركة ناجمة عن صراع أضداد، حركة لا تنتهي إلا بإعلان موت الحياة نفسها . في قصيدة مظفر تتحرك كل مفردات الحياة وتتصارع، تتجاذب وتتنافر لكنها لا يكره بعضها بعضا، إنها تتصارع بحب لا يشوه أواصره الحميمة صخب الصراع . وهذا الموقف هو في جوهره مظهر من مظاهر سلوك الحضارة الأمومية . وقصيدته هي " كرنفال " أهم نتائجه هو أنه يشيع البهجة في نفوسنا حتى لو كانت محملة بالآلام والعذابات والثكل . وتتجلى هذه المميزات في الجانبين : الهم العام المتعلق بفاجعات الإنسان العراقي المقهور والذي جسده في قصائده الإنسانية - وهذا الوصف كما قلت أدق من وصف " قصائده السياسية " وأكثر صدقا لأن النواب لا يكتب عن السياسة والحكومات والإقطاع بالمعنى الضيق ولكن عن الإنسانية العراقية المسحوقة المهانة وآمالها في الخلاص والانعتاق -، والهم الفردي الذي سطره في نصوصه الوجدانية التي عالجت موضوعة الحب والعشق والإنهجار والموقف المركب من " موضوع الحب " وصلة ذلك بنرجسية المبدع ومكبوتات لاشعوره، وفي هذا الجانب سنلمس فارقا التفافيا مهما جدا في معالجة الهم الفردي عن الهم العام سنتناوله بعد قليل . وفي كلا المضمارين حقق النواب ابتكارات ريادية استثنائية وشديدة العمق والفرادة . ففي مجال الهم العام نلاحظ في أغلب القصائد البداية الاستهلالية التي تعبر عن التحدي وصلابة الإرادة المقاومة كما تجلّى ذلك في قصائد مثل : حچام البريس، حسن الشموس، مضايف هيل، مامش مايل، عشاير سعود، جد ازيرج وغيرها، وقد نقلنا بعض تلك الاستهلالات في دراستنا السابقة " مظفر النواب .. وحالة ما بعد الحب " . والملاحظ أن كل تلك الاستهلالات التي ذكرناها تقوم على مفردة " الدم " التي لم تعد موجودة في مفتتحات النصوص التي كتبت بعد ديوان "للريل وحمد"، وأعتقد أن عنف المرحلة الصدامية القاسية التي عاشها الشاعر وشعبه وحزبه، والحركة الوطنية في العراق عموما، في عقدي الخمسينات والستينات التي كتب خلالها قصائد الديوان والمرحلة العمرية المحتدمة المليئة بالمواجهات والاعتقالات قد جعلت هذه المفردة مهيمنة في افتتاحيات قصائد الديوان عنها في القصائد

 

المتأخرة . ومع ذلك من المهم التذكير بأن وجود هذه المفردة التي ترمز للعدوان والموت لم يجعل العنف النوابي وحشيا أو دمويا مثل العنف الذي طبع قصائد الجواهري وجيل الحداثة السيابية الذي خرج من معطفه . في قصيدة " عشاير سعود " يقول النواب في المقطع الأول :

(هذوله احنه ..سرجنه الدم ..

 عله اصهيل الشگر ..

 يا سعود ..

 خلينه زهر النجوم ..

 من جدح الحوافر ..

 سود ..

 تتجادح اعيون الخيل ..

 وعيون الزلم ..

 بارود ..

 وياخذنه الرسن ...

 للشمس ..

 من زود الفرح

 ونزود)

حيث تجد أولا أن الشاعر لا يوغل في توليد مفردات الموت والدمار المرتبطة بإيحاءات الدم في الأبيات اللاحقة مثلما كان يفعل الجواهري والسياب، بل هو يلطّف تأثيرها ويضعفه من خلال الصورة التجريدية التي يتم فيها تنصيب الدم على صهيل الخيول الشقراء.. حيث يقع المادي الملموس (وهو المائع أصلا لأنه سائل) هو الدم على أرضية صوتية هشة رغم حدتها وتطاولها، وتتضاعف القيمة الجمالية لهذا التركيب من خلال المشهد اللوني الذهني للوحة حيث اجتماع اللون الذهبي باللون الأحمر . في الوقت الذي ينتقل فيه السياب من الدم إلى الجثث والديدان والقيح واللحم المتفسخ .. إلخ . ولو تابعنا بقية مفردات الخطاب فسنجد مكونات

 

السماء البهية كالنجوم الزاهرة والشمس والانفعالات السارة كالفرح . صحيح أن الشاعر قد قدم صورة شديدة المبالغة - طبعا المبالغة الشعرية " الصادقة " في تعبيرها عن شراسة الحماسة المدوية، يمكن أن نضع مقولة " أعذب الشعر أكذبه في صورتها الأكثر صحة وهي " أكذب الشعر أعذبه " - حين جعل النجوم تنصبغ باللون الأسود بسبب الشرار المنطلق إلى السماوات القصية من وقع حوافر الخيول الغاضبة - ولاحظ أن الجدح الناري الأصفر يحرق وجوه النجوم الزاهرة ويجعلها سوداء - إلا أن المهم دائما هو الصورة الكلية (الجشطلت) النهائية التي يصعّدها الشاعر لا لنصل مرحلة التقطيع والتقتيل والفناء، ولكن لنبلغ السمو بالحالة الظافرة نحو عين الشمس محلّقين على موجات الفرح المتزايدة في حركة ختامية مليئة بالغبطة العارمة . ولو تأملنا هذا المقطع الافتتاحي من جديد لوجدنا أن الدم بعد حركة " الرسن " الذي قاد الموكب نحو الشمس هو رمز للمحاربين الذين استووا على سرج خيولهم، فهو ليس دم الضحايا أو المقتولين بل هو العزيمة العارمة التي يتحلى بها الفرسان . وقد استخدم الشاعر المصدر " جَدْح " للحوافر لأنه " تكثيري " بطبيعته، واستخدم الفعل " تتجادح " لعيون الخيل لملاحقة حركتها الراصدة المتقافزة خلق موازاة بين عيون الخيل التي تتقادح وعيون فرسانها التي صارت بارودا يوشك على الانفجار في الجو الناري المشتعل . وحتى عندما تصل الحفزة العنيفة أشد مستوياتها في المقطع الخامس فسنجد أن المحصلة الأخيرة للخطاب هو أنه خطاب حياة ونماء وليس دعوة موت وخراب . فالشاعر يقابل بين الخطابين بصورة تعكس لا دموية المتكلم ومسالمته ويجعل فعله فعلا دفاعيا من أجل الحياة ومن أجل دفع الأذى عن الذات :

(هذوله احنه ..

 نحد السيوف ..

 برگاب الصگر والذيب ..

 ما نترك أثر يا سعود ..

 من انغير .. بس الطيب ..

 وتمولح عيون الخيل ..

 عجّه اتطر .. وعجه اتغيب ..

 ينخل فشگ ليل الموت ..

 وعيونك ليالي زبيب)

فالشحنة السلبية العنيفة في البيت الأول وفيها يشحذ الجماعة المتكلمون (وسيظهر أن من تتكلم بلسان الجماعة الذكورية ولأول مرة في الخطاب الشعري العامي العراقي هي : أنثى) سيوفهم برقاب الصقر والذئب وليس برقبة الإنسان تعادلها أو تطفؤها الشحنة الإيجابية في البيت الثاني حيث لا يسفر عن غارة المقاومين سوى الأثر الطيّب وليس الموت والخراب الذي كان متوقعا . ورغم أن عاصفة الغارة الهوجاء بدوامات عجاجها الكاسح من التراب ومن (عجاج) رصاص الموت تحرق عيون الخيل إلا أن صورة عيون الفارس المتغنى به الموازية لعيون الخيل الناقمة والتي وصفها الشاعر بأنها " ليالي زبيب " كناية عن السواد الغامق فإن لفظة الثمرة المنطوية على التكثير بطبيعتها وما يعرفه المتلقي عن حلاوتها وكثرة بذورها وتفوق لياليها عدديا على" ليل" الموت يرخي توتر الحفزات المعادية ويجعل الحركة حافلة بنبض الحياة . ثم أن كل نوايا الموت وشحذ السيوف الملوح بها وطوفان الدم المنادى به هي مشروعات توعّدية مؤجلة لأنها مرتهنة بعودة " سعود " الغائب المنتظر، عودة إله قتيل، والذي ستكون شارة بدء الهجمة، ثم الصراع،نداءه الذي تأخر كثيرا :

(هذوله احنه بأمل .. يا سعود ..

 كل نجمة انتلگاها ..

 نمد إلها البسط ..

 دم ذيب ..

 وندگ گهوه ويّاها ..

 نسايلها عن أخبارك ..

 تعوّگ ليش ؟ ..

 نتباها ..

 وعشايرنا خناجر ثار ..

 بس اندهّه ..

 تلگاها ..)

وأضف إلى ذلك عاملا مخففا آخر يرتبط في أذهاننا بالمسالمة والحنو عادة وهو أن جميع هذه الخطابات - القصائد التي تبدأ بإعلان تعرضي صادم تتكشف لاحقا عن أنها صادرة عن مرسل أنثوي . ففي مسار القصيدة السابقة : " عشاير سعود " وحين تعرف أن المتكلم هو " أخت " سعود التي تعبر عن نفسها بلفظة التصغير المحببة : " أخيتك "، فإن قدرا هائلا من تحفزك لاستقبال عدوانية الخطاب سينحسر وتتململ في أعماق ذاتك دفعات التعاطف مع الصورة الأمومية الأنموذجية التي اختزنها اللاشعور الجمعي . وحضور هذه الصورة بإيحاءاتها النمائية ونعم هناءاتها الفردوسية كفيل بجعل أي موقف محتدم مفعم بكل عناصر الحياة ومفردات الطبيعة المشتقة منها , و - وهذا هو الأهم - أجواء الحب ومنطوياته الحسّية المنعشة . هذا ما نجده في قصيدة " سفن غيلان ازيرج " حيث يتصاعد الحديث عن الرجال الذين يحزون ظلام الليل ويطلبون الموت بلا تهيب أو تردد ويغنون رغم جراح الخناجر التي تمزق الروح، ثم ينكسر الإيقاع المعادي كلّه ببروز هوية الأنثى " الساردة " وهي تتوسل بمحبة غيلان البعيد المتمنع، حد الإنذلال اللاذ :

(يا غيلان ...

 يا غيلان ازيرج ...

 گلبي شيصبره ؟

 (......)

 يا معوّد....

 دخيل امروتك السمره ...

 دخيل الشوگ ..

 أحب چفك ...

 أحب إيدك ...

 وشوف شفاف .. لو جمره)

إن هذا السر الأنثوي هو الذي يحول قصيدة النواب من قصيدة ذات توجه سياسي يدعو إلى مقارعة الدولة الباغية والحكام المستبدين والإقطاعيين المستغلين إلى قصيدة إنسانية يمتزج فيها صوت المقاومة والقتال بنداءات العشق المتعالية وغناء

 

القلب الموجوع، وتجري الحركة فيها على أرضية الجسد الأنثوي بتمظهراته الإحتفائية في نعناع الطبيعة ونسمات عنبرها وليلها المطرز بالنجيمات المترفة المتعاطفة مع رجاء العاشقة الأرقة : (زلمنه الماتهاب الذبح ...

 تضحك ...

 ساعة المنحر ...

 يساگي الشمس ..

 من عينك ..

 ابعز الشمس ...

 حُب أخضر ..

 لون حلّت نسمة الليل ..

 شعرك ..

 تنشگ العنبر ..

 أحط الحجل للثوار ..

 گمره زغيره ..

 عل المعبر ...

 وأشيّم أترف النجمات ..

 فوگ شراعكم تسهر ..

 (....)

 أشبگك شبگة النسمات للنعناع ...) إننا لسنا في حضرة خطاب اعتزاز برجولة " زلمنه " وطباعهم الفدائية حسب بل في حضرة احتفاء بهيج أكثر سعة وشمولا يستفز الشاعر فيه روح الطبيعة الكامن ليلتحم جسد العاشق والمعشوق بجسد الأرض الأم وسط يقظة كرنفالية يصبح فيها لكل شيء روح تتحسس وتنفعل وتستجيب . وفي الحقيقة فإن روحا واحدة هي التي

 

تنسرب في أوصال كل هذه المكونات الجامدة الصموت فتحييها وتجعلها تتراسل وتتعاطف وتتعاشق، ألا وهي روح الشاعر الخالقة . لكن صورة الاحتفاء الكوني الجمعي النموذجية تتمثل في قصيدة " حصاد " التي كتبها الشاعر عام 1962، وهي من القصائد القليلة في ديوان الشاعر " للريل وحمد " التي لم يضع لها تقديما باللغة الفصحى . ولعبة التقديم هذه جديدة على الشعر العامي العراقي ولم يكن الشاعر قبل النواب يدرك الأهمية الفنية لها حتى إذا وضعها استثناء . في ديوان للريل وحمد وضع الشاعر مقدمات بالفصحى لأغلب قصائده الإنسانية والوجدانية . خذ على سبيل المثال : - قصيدة للريل وحمد ....(على ماء الصبح أحبته، على ماء الليل، كان للهجر قمر، ومر قطار ..) – مضايف هيل .....(ولا يزالون يرون في الأعراس مهرا، يعبر في آخر الليل) – عشاير سعود ... (الدولة مدانة لأنها قتلت سعود ..) وغيرها . ولكن هذه المقدمات التعريفية قلّت كثيرا، إلى أن اختفت في نتاجات الشاعر المتأخرة، أعتقد أن هذا ترافق مع تنامي نضج الرؤيا إلى طبيعة العملية الشعرية كعملية لا تتطلب تفسيرا تمهيديا، مثلما اقتنع الشاعر بلا زمنية القصيدة وذلك حين سألته عن سبب عدم تثبيت تواريخ كتابة نصوصه المتأخرة التي كتبها بعد " للريل وحمد " الذي أثبت تواريخ كتابة كل قصائده الأساسية تحت عنوان كل قصيدة (وبالمناسبة لم يكن الشعراء قبل النواب يأبهون لا بعنوان القصيدة ولا تاريخها ونادرا ما كانوا يذكرون اسم بطل شعبي محدد،مع النواب ظهرت أهمية العنوان وضرورات التاريخ الشعري للبطولة الشعبية) فأجاب بأنه اقتنع بأن القصيدة لا ترتبط بزمن محدد وأن لها زمانها اللانهائي، الشعر خارج التاريخ ويكتب على حسابه كما يقول (اوكتافيو باث) . وأعتقد أن القناعة هذه جاءت متأخرة بعض الشيء لأن من المفروض أن يكون هذا الموقف جزء من روح الشاعر التفاؤلية التي نتحدث عنها والتي تعكس نزوعه الخلودي الدفاعي في وجه المثكل، هذا النزوع تلجم مدياته، بل تفزعه قيود المكان وأطر الزمان لأنهما يشعرانه بمحدوديته وتموضعه الحجمي وصغر امتداده الزمني وكلها مؤشرات على هشاشته وقابليته على الإنجراح . إنها تكبل انطلاقته العفويه نحو اللامتناهي حيث الغبطة الكونية بالحضور السرمدي المتخيل، وتمنع التحامه المحيي بالرحم الأمومي - رحم الأرض - لكن في قصيدة " حصاد " يحقق الشاعر كل ذلك : (حزّمينه الحنطه ..

 حدر خصورها ..

 

 ودلّعينه صدورنه ...

 لمنثورها ...

 جور يالمنجل ..

 على خصور الذهب ..

 يلّي كل بذره ..

 چنت ناطورها ..

 هبّت ليالينه من عزها ...

 مسچ ...

 والسنابل، طشّت إلها بذورها)

هذه أول قصيدة عامية تجمع حب الأرض والوطن والحبيبة وصوفية الطبيعة في معادلة واحدة، ويتشابك فيها الصوت الجمعي مع الصوت الفردي . لم يكن الشاعر العامي قادرا على تشكيل عدة موضوعات وفق " رؤية مركبة " تقدم فيها أكثر من فكرة بصورة متواشجة تشبه الطريقة التي ينتج فيها " المركب " الكيمياوي الذي تضيع فيه خصائص المكونات الأولية الداخلة في التفاعل لتعطي حالة جديدة بخواص جديدة . ومادمنا نتحدث في شأن الكيمياء، يمكننا القول أن الشاعر هو كـ " العامل المساعد " الذي يدخل في التفاعل ويعجّله ويسرع اندماج واتحاد وانصهار مكوناته، لكن مع اختلاف كبير جدا وهو أن العامل المساعد الكيمياوي يخرج من التفاعل دون أن يفقد شيئا من خواصه في حين أن الشاعر يفقد شيئا عزيزا من روحه وطاقته النفسية مع دخوله مصهر كل معادلة - قصيدة جديدة . كان الشاعر يسير وفق مبدأ اللقطات المتسلسلة، وكل لقطة مخصصة لـ " شيء " واحد يصفه - وفي الغالب يكون هذا الوصف من الخارج دون أن يغوص في أعماق الموضوع الذي يتناوله ومن غير أن " يصهره " في هيكلية علاقاته الجديدة بـ " الأشياء " الأخرى - ثم ينتقل إلى " شيء " آخر .. وهكذا . أما اللقطات المشهدية الواسعة التي تحيط بحركة " سينمائية " كاملة بعلاقات شخوصها وأفعالهم وموجودات المحيط من حولهم، حية وجامدة، وصلاتهم بهذه الموجودات، تأثرهم بها وتأثيرهم فيها، فلم تكن موجودة قبل الثورة النوابية . وليس هذا حسب، بل أن هذه المشهدية السينمائية التي أدخلها النواب كانت إحيائية، بمعنى أن كل الموجودات، سواء أكانت حية،

 

بشرية وحيوانية ونباتية، أو جامدة تتفاعل وتتشخصن ككيانات انسانية تتحاور وتنفعل ببعضها البعض . فالفلاحون وسنابل الحنطة والمناجل والبذور والليالي والمذراة والنسمات والشمس والمهرة ورغيف الخبز والقبّرة ..و .. و ..و .. كلها منهمّة بعملية الحصاد التي هي ليست عملية حصاد عادية، بل مناسبة لعيد كوني تشع فيه تعبيرات الغبطة الكونية على وجوه وأجسام و" كتل " كل الأشياء. إنها تشبه طقوس الإنسان البدائي عند حصاده محصول القمح، تلك الطقوس التي وصفها " جيمس فريزر " في كتابه المهم " الغصن الذهبي " وكلّها كانت تتحضر للحصاد بطقوس الممارسة الجنسية الحرّة وتمزج بصورة رائعة بينها وبين طقوس العملية الزراعية " البريئة " في اعتراف متبتل بكرم الأرض - الأم - الأنثى وعطايا رحمها المقدس . وعندما نتذكر مقولة " ألفريد دي فيني " الشهيرة : " حكّ أسطورة تجد حقيقة "، فسنرى أن في هذه المزاوجة المذهلة يتجلى مكر اللاشعور - مكر الشاعر المبارك، الشاعر الذي يقوم بعملية الحصاد بعد أن " يدلع " صدره الرجولي الملتهب و" المشعر " كحقل سنابل ليستقبل " منثور " حبيبته بعد أن يجور على خصرها الذهبي بـ " منجله " الباشط، تجري عملية الاحتضان شبه السادية الممتعة وسط مباركة جليلة من الطبيعة لعناق العاشقين : الذكر الحاصد و " حنطته " حيث تحيط بهما النسمات الخجول المفعمة برائحة المسك . يالك من ماكر يا " مظفر النواب " !! - ولاحظ أن مفردات الحياة الزراعية التي " تستقبل " الفعل مؤنثة في الغالب : الأرض، الحنطة، السنبلة، البذرة .. وغيرها، أما التي " تفعل " فهي مذكرة في الغالب أيضا : المنجل، المطر، السماد، الماء، المحراث .. وغيرها . وفي حمّى هذه البهجة يكون كل شيء " مؤنسنا "، فللحنطة خصر .. والمنجل يجور على خصور الذهب هذه، فقد ترتب له هذا الحق بعد أن حرس هذه السنابل مذ كانت بذورا .هذه البذور التي عادت أكثر عددا ونضجا ومنفعة بعد أن صارت حبات قمح تنثرها السنابل لليالي التي أتخمت بمشاعر العز حد أن عزّها فاح مسكا .(وفي كتاب " التحولات " لـ " أوفيد " تتبادل الكائنات هويتها . يتحول الرجل إلى صخرة، وتتحول المرأة إلى موجة ... إلخ الشاعر فقط يستطيع التلاعب بقواعد الكون) . ولو لاحظت البنية الشكلية المهيمنة على هذا المقطع فستجد أنها بنية " دائرية " ليس من ناحية فعل إنبات القمح الذي بدأ ببذور الحنطة التي تحولت إلى سنبلة صارت بدورها محملة بحبات القمح التي ستكون بذورا في دورة حياة جديدة - وليس عبثا أن تشبه دورة حياة الإله القتيل في موته وغيابه وانبعاثه بدورة حياة القمح، ويسمى الإله دموزي – تموز بإله القمح - ولكن من ناحية حركية الفعل في القصيدة الذي يبدأ بعملية " تحزيم " حزم سنابل القمح من منطقة الخصر

 

ثم حركة المنجل الباشطة الملتفة حول خصور هذه السنابل . ويلي ذلك " تدوير " الفلاحين السهارى لحكاية العشق بصورة معاكسة لدورة فنجان القهوة فيما بينهم :

(وعمّرينه الليل ...

 سالوفة عشگ ...

 عكس مالفنجان ايدور ...

 ندورها) .. ثم مقابلة الجمرات بعيون الرجال التي تحضن بحرارة نظراتها دلّة القهوة :

(ولو طفت جمراتنه ...

 عيون الزلم ...

 تحضن الدلّه ...

 وتوفّي نذورها ..) يلي ذلك تلاعب الحصّاد المترهين بعزمهم وإراداتهم الحديدية بـ " گذلة " الشمس التي يسرّحونها بمذاريهم - وهي صورة فائقة ونادرة جدا - يستعير الشاعر فيها فعل المشط الذي يسرّح شعر ناصية الفتاة مع اتساع " دائرة " الحركة التي شملت مكونا مستديرا بسعة الكون :

(حنّه سرّحنه ...

 بمذارينه ..

 گذلتچ ... يا شمس ...

 حنّه مذرانه .. .

 يجيب انجوم ...

 ويودّي عرس ...)

وتتوازى مفردة " مذارينه " مع مفردة " مذرانه " شكليا لتصبح عملية ذري المحصول التي تتم بصورة عمودية كما هو معروف، وتنشر خصلات الشمس في أرجاء الكون، طريقا " مذرى " سماويا يأتي بالنجوم إلى الأرض ويرسل الأعراس

 

إلى السماء (كأن الشاعر سائق تاكسي كوني يودّي ويجيب !!) . وتلاعب الحصّادين الجبار هذا - وهي حركة ألوهة تحرّشية، والتحرّش بالمقدّس المؤسس هو جوهر طقوس العيد وروح معانيه النفسية الدفينة - بحركة مكونات الكون ونواميسه يصل ذروة اكتماله الدائري في عملية تطويقهم لنحر الليالي بعد أن سبقوا الرياح المتعالية في أقاصي السماوات : (والليالي ...

 تعيش ...

 ذلّينه الليالي ...

 تعيش ...

 سابگنه الرياح البلعلالي ...

 وطوّگينه انحورها) وتعكس مفردة " تعيش " التي تستخدم لأول مرة في الشعر العامي وتكرارها مرّتين الحالة القصوى للفعل المقتدر. ويستمر الشاعر في " تدوير " حركة " كون " قصيدته الذي لا يناسبه أن نصفه بالكون المصغر كما جرت العادة، فهو كون كبير طافح بالفرح في عيده الكوني - وما العيد إلا حركة دائرية صاخبة لا تنتهي، حرمنا منها، هي حركة الطفولة، حركة اللاشعور الفج، اللاشعور العاري الذي تقطع انسيابية محيطه حواجز الشعور بالذنب لتكسر استمراريته وتحوله إلى مسار متعرج وملتو مثقل بالآثام ومحاولات التكفير . بدون هذا الأنا الأعلى - الهيئة العقابية المراقبة في جهازنا النفسي وهو عين السلطة الاجتماعية القامعة، تكون حياتنا دائرة من الإحساس بالكمال النفسي الطفلي، نكون في حالة مسرة كونية دائمة، في عيد كوني مستمر . وهذا بالضبط هو أعظم ما يقدمه الشعر، وهذا بالضبط أيضا من أعظم انجازات الثورة النوابية بهاء وعمقا وأصالة . إن الشاعر يحاول منحنا فرصة بقدر قصيدة، بقدر غبطة عيد، للتخفف من أحاسيس الإثم الناجمة من التمادي التحرّشي المترتب على البهجة الكونية التي تنسينا هشاشة وجودنا المحكوم بفداحة المصير المحتوم، في العيد ننسى أننا سنموت، ونمرح بإفراط، ولاحظ أن جميع الأديان تحذّر من الضحك والمزاح والفرح الزائد (وهي محور العيد)، ويستغفر المؤمن بعد الضحك الشديد ويقول اللهم اجعله خيرا . والنواب يخرق كل هذه المحاذير القامعة في شعره ليوفّر لنا فرصة سعادات العيد الكونية بكل اتساعها، منطلقا من أصل كل بهجة وجذر أي حالة جمال، اكتمال

 

الفعل (دائرته) بلا انقطاعات تحسبية جبانة تفرضها توقعات الملامة التبكيتية " المستقيمة " . ولهذا نجده يوغل – في جل نصوصه - في لعبة الاكتمال، وخصوصا في هذه القصيدة " حصاد " التي ترك عنوانها مفتوحا - والانفتاح في وجه من وجوهه حركة دهشة دائرية - بلا " أل " التعريف التي توقف الحركة من خلال التحديد والتعريف، والتي ينتقل في ضمير سردها من أنا المتكلمين إلى ضمير الغائب – الرجل الحاصود، وكأن المقطع الأول الذي حكي بضمير المتكلمين كان " النظرية " و " اللقطة الأم " بتعبير السينما التي " صوّرت " المشهد الكلي من فوق، وحان الآن الانتقال إلى مرحلة " التطبيق "، مرحلة اللقطة الجزئية التي تركز على جانب من المشهد، على حركة فرد من الجماعة هو الرجل الحاصود الذي بكّر فجرا لـيكمل عمله الذي يقوم على " التدوير " مثلما تقوم على ذلك أوصافه الجسدية الفذّة وحركة مكونات الطبيعة التي تحف به من كل جانب في زفّة كرنفالية متماوجة : (وبكّر الحاصود ...

 وي طرة الفجر ...

 ويّه تاله ...

 تهز فرح عصفورها ...) ومن هنا، من اللحظات الساحرة التي يتنفس فيها الفجر وتبدأ حركة إيلاج النور في الظلام، والأبيض في أحشاء الأسود - كما ورد في القرآن الكريم : يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار - يصمّم الشاعر مشهدا صامتا سرّانيا ينقطع فيه الكون عن الفعل الصاخب، وتشتغل الطبيعة والإنسان بهدوء خاشع بعيد عن الصخب المحتدم الذي وسم عمل الجماعة . وقد جعل الشاعر " التاله " تهز فرح العصفور الواقف عليها، في حين أن ما يجب أن يحصل " منطقيا " هو أنها تهز العصفور - الكائن المادي، لكن الشاعر المحترف جعلها تهز الشيء التجريدي، الهلامي، غير الملموس، ليمعن في تعزيز رصانة الهدوء الجليل وتناغم " حركة " النبتة الصموت مع تنفس الفجر الرضيع . إنها لو هزّت العصفور نفسه فإنها ستخدش الصمت الخجول . هنا نلاحظ الحاصد وكأنه في حالة صلاة وتبتّل . ويوهمنا الشاعر من خلال ما يعلق في أذهاننا من المقطع الأول عن عملية الحصاد والتي تتأكد أكثر من خلال استهلال المقطع الأول الذي منح فيه الشعر الرجل صفته : " وبكّر الحاصود .. " أن هذا الرجل قد قام فجرا كي يحصد سنابل حقله ويجني محصوله . لكننا لن نجد شيئا من ذلك على الإطلاق .. لا حقل ولا سنابل ولا مناجل

 

ولا قمح ولا مذراة .. لا توجد عملية حصاد أبدا . إنه يتغزل أولا بحاجب الرجل ويعلن دهشته من " اكتمال " هذا الحاجب الذي لا يماثله " طوق " الفاختة، ولا النجمة التي انطفأ نورها !! : (شله حاجب !!...

 لا الفخاتي مُلكته ...

 بطوگها ...

 ولا نجمه ...

 طفّت نورها ...) ثم يصف كيف تنسجم مفردات الطبيعة مع ضحكته التي تفرشها النسمة أمام الشمس فتضيع قوتها الصوتية وتتحول إلى بسمة تندغم في الصمت الآسر، وهو يعود إلى حركة التدوير وهو يحتضن الطفلة : (وتفرش النسمة ...

 ضحكته للشمس ....

 مفرش الطفله ...

 بشليله ايدورها ..

 تبتسم له ...

 ويلوي رسنه من الهوه ...

 الدنيه ضحكتها ...

 وحلاة شهورها ..) وينسجم الحاصود مع مهرته - وكأنها أنثاه المحببة -، ينسجم معها بإيقاع تنفسه وهواجس حسباته وشميم عطرها، وقد استخدم الشاعر الفعل " سرى " وهو المناسب لغويا للمشي ليلا لأن هذا الفعل أكثر " هدوء " وسرّانية لأن الحركة بأكملها تبدو وكأنها تجري ليلا رغم إشارة الشاعر إلى أن الرجل الحاصود قد بكّر فجرا .. وأن الشمس قد استجابت لضحكته .. والفارس بفعل جلسته الحانية على الفرس يتنفس شعر ناصيتها – گذلتها وقد صغّرها إلى " اگذيله " لتناسب الوضع النفسي الحيي :

 

(سِره يتنفس ...

 اگذيلة مهرته ...

 وطيب برّيه ...

 ابدويه عطورها ...) وقد استخدم مظفر حرف السين الهامس في كلمتين متلاحقتين : " سره يتنفس "، ويكرره في النفْس والنَفَس والتنفس والشمس والحسبه والحبس .. وحتى عندما يأخذ الفارس العريس رغيف الخبز من عروسته فإنه يأخذه بصمت ويستمر الخطاب خاضعا للغة " لا صوتية " حيث يجد الخيّال كف عروسه وسرورها مطبوعا على وجه الرغيف، وكأنها كلمات المحبة وتمنيات العافية، ناهيك عن أن كف المرأة تنطبع فعلا على وجه الرغيف عندما تعالجه بيديها وهو عجينة قبل أن تسلمه إلى رحم التنور الملتهب كي تستكمل عملية " ولادة " الرغيف . يقول الشاعر الصيني " لوجي " : " أن الشاعر ينقر على الصمت، من أجل أن يبتكر الصوت "، وهذا ما يقوم به الاعجاز النوابي : (وحين ياخذ من عروسه ...

 خُبزته ...

 يلگه چفها ...

 اعله الخبز ...

 وسرورها ...)

يتبع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1519 الجمعة 17/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم