قضايا وآراء

النوّاب: الشعر عيد كوني .. القصيدة غبطة كونية (2-3) / حسين سرمك حسن

ففي هذا الفعل وقفة سمعية، بل حبس أنفاس لالتقاط نأمات نفس فارسها وحركة تنفسه الهامسة .. بل هي تقوم بحركة مقابلة أكثر " حيوية " من حركة فارسها .. فالأخير كان يتنفس من عطر گذلتها ويملأ رئتيه منه .. في حين أنها تحاول التقاط حسبات نفسه المنفعلة .. تناجيه وتطرب لنجواه .. وهي تدرك لحظة الانسجام الصوفي المتعالية هذه التي يعيشها خيّالها ملتحما بها ومحتضنا عطور ناصيتها برئتيه .. وتفهم شروطها فتحاول إكمال بهاء الصمت الكوني المهيب من خلال حبس أنفاسها ..صمت احتفائي

 

.. وهمس فردوسي .. إنه عيد الصمت .. وغبطة الخشوع : (وارهفتله مهرته ...

 تتسنّط ...

 الحسبات النَفِس ...

 تطرب النجواه، وبودها ...

 نِفَسها ينحبس ...

 وهوّه والمهره ... تعنّو... من زغرهم للشمس ..) هكذا يواصل النواب النقر على صمت السين فيضع " طباقا " تعبيريا فريدا بين : " حسبات النفس " و " نفسها ينحبس " (ولاحظ أن النفس في لسان العرب تعني الروح وجملة الشيء وحقيقته، والدم، والأخ، والغيب، والعظمة، والكِبَر، والعزّة والهمّة، وعين الشيء وكنهه، وجوهره، ويقال الدم نفس سائلة، ويقال : هناك نفسان : نفس للأمر ونفس للنهي، ويقال : لكل إنسان نفسان : نفس العقل الذي يكون به التمييز، ونفس الروح الذي به الحياة – والنواب استوعب - ليس شرطا بصورة مخططة معرفيا، عقل الشاعر كامن في لاشعوره - كل هذه المعاني في هذا الجزء من قصيدته وخصوصا المعنى الأخير حيث نجده يواصل النقر على صمت السين لكي يبتكر صوت النفس التي شفت وتخفّفت من أثقال الواقع الخانقة والمرائية . وعند هذه اللحظة تتجلى روح الطبيعة .. روح خجول عار متصالح كأنه الروح الأنثى – الأم الكونية التي ولدت هذا الكون الغامض المعقد .. هذه هي اللحظة التي يتجلى فيها للإنسان حتى الله . اللحظة التي يستوي فيها الله على عرشه وتقف كل الموجودات خاشعة تتسمّع نداءات روح الكون وهي تأتي من بعيد .. من بعيد .. من بعيد .. من عيد الصمت الصوفي المقدّس حيث يكون الإنسان إله ذاته .. ويصعد .. يتسامى .. يتسامى نحو البعيد .. نحو البعيد .. نحو البعيد .. نحو العيد الكوني حيث : (هوّه والمهره .... تعنّو ... من زغرهم للشمس ..) الآن استقرت موجة القصيدة في قاع الصمت، فيعود الشاعر إلى تصعيد الإيقاع من جديد ليكمل " دائرة " صخب حركة الحصاد والتي تبدأ بالتحسب المنطلق من العين - نحن مع العين من جديد - التي تطلق بتماسك النظرة الحازمة التي تؤشر بدء الصحوة المستفزة، التي تبدأ بفزع " نوم طيورها " - وليس الطيور - كحركة انتقالية مربكة تقابل الحركة الرخية التي هزّت بها التالة " فرح عصفورها " –

 

وليس العصفور - لينتقل إلى استجابة أشد عنفا حين تجفل القبّرة من عش العشق : (تگابلت عينه زلمها ...

 وحورها ...

 وأفزع الخشخاش نوم طيورها ...

 وأجفلت گبّره ...

 من عش العشگ ...

 گضت الليالي ...

 وسكت ناعورها ...) وفي حركة مدروسة ومتقنة يكمل الشاعر عملية " الإغلاق " الشاملة في القصيدة على مستويين : الأول هو مستوى الصورة التجريدية الشعرية حين يجعل السنبلة التي يقتلها العطش تنحني على ذاتها بقسوة إلى حد أن ينكسر ظهرها كي ترتوي من ماء جذورها وتطفيء عطشها القاتل بكرامة متكئة على جراحها المميتة : (والسنابل حين يچتلها العطش ...

 تكسر اظهور ...

 اعله ميْ اجذورها ...) والثاني على مستوى القصيدة التي يكمل دائرتها بالعودة إلى البيت الثاني من استهلال القصيدة، وهو - في الحقيقة البنائية - البيت الحركي الفعلي الذي ينبغي أن تفتتح به القصيدة : (جور يلمنجل ...

 عله خصور الذهب ...

 يلّي كل بذره ...

 چنت ناطورها ...) ومع ختام هذه القصيدة تثور في أذهاننا مسألة فنّية في غاية الأهمية . فقد طرح بعض النقّاد – منهم الناقد المصري " يوسف عز الدين " مثلا في كتابه " التفسير النفسي للأدب " - أن البحر العروضي - الوزن - الموسيقي الذي يستخدمه الشاعر يخضع لضرورات نفسية . فعلى سبيل المثال يكون البحر الطويل (فعولن مفاعيلن

 

فعولن مفاعيلن) أكثر ملائمة لموضوعات الحزن التي يحاول الشاعر تجسيدها، في حين يكون بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن) الذي سمّته العرب كذلك لطيبه ولجمال الأغاني والأهازيج به، مناسبا لموضوعات الفرح التي يتناولها الشاعر . لكنني أعتقد أن هذا ليس شرطا رئيسا، وأن الأمر يعتمد على مهارة الشاعر الخلاقة التي تتيح له التلاعب بأي بحر وتطويعه لأغراضه النفسية والفكرية والجمالية . في هذه القصيدة " " حصاد " استخدم النواب بحر الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن) - وهو " محذوف " عادة، حيث تنقلب فاعلاتن إلى " فاعل " أو إلى " فاعلن "، وهو ما قام به النواب في هذه القصيدة - كبحر مناسب جدا لتجسيد إيقاع حركة عيد الحصاد المتحمّسة المتسارعة وصخب الإنفعال الكوني المصاحب، في الحركة الجمعية الاستهلالية، لكنه واصل استخدامه في الحركة الثانية التي طبعها الصمت الصوفي والتوحد الخاشع المتبتل بردود فعل الطبيعة الآسية، وهي حالة تتطلب بحرا مديدا ذا نبرة خافتة وإيقاع هاديء، ثم عاد المبدع ليواصل توظيف هذا البحر - وكلمة " البحر " عيد واحتفاء -،في الأبيات الأربعة الأخيرة التي ختم بها قصيدته، أي أن النواب أنهى أطروحة أن البحر - الشكل الموسيقي الظاهر - يُرسم وفق حتمية الانفعال الداخلي الباطن . لكن من المهم القول أن المسار العام للقصيدة كان تفاؤليا بدرجة صارخة .

 أما في مجال الهمّ الفردي فسوف نلاحظ غبطة وعيد كونيين من نمط آخر . وأقصد بالهم الفردي، إنشغالات الشاعر النفسية والانفعالية الشخصية السارّة من حبّ وعشق وتوتر جنسي واندفاعات حسّية من ناحية والمؤلمة من هجر وعتاب وأسى واكتئاب .... إلخ، لا يلعب فيها الهم الجمعي الإنساني (السياسي) الدور المركزي الحاسم . سنلاحظ هنا - وعلى المستويين – أن القصيدة النوّابية متضادة، تتصارع في أحشائها الشحنات الموجبة والشحنات السالبة صراعا خلّاقا لا يتيح لموجة أن تعلو على أخرى بصورة حاسمة . وحتى في القصائد التي تتحدّث عن الإنهجار وفراق (المحبوب) الأليم أو عن الخيبة والآمال المحبطة التي تستولي عليها المشاعر الإكتئابية، فإن الشاعر لا يقر بالهزيمة أمام تلك المشاعر الخانقة ويلتف عليها بصورة ذكية، ففي الكثير من القصائد يعرض النواب الحزن بصورة مفرحة إذا جاز هذا الوصف، تحس دائما أن هناك جنين فرح يتحرك في أحشاء الكيان النصّي الحزين . وقد أقر الكثير من علماء النفس المختصين بشؤون الإبداع بأن الحزن أكثر ضرورة للإبداع من الفرح . في عملية الخلق، الفرح عامل سلبي، والحزن عامل إيجابي فاعل . الفرح يضعف البصيرة الإبداعية في حين أن الحزن يؤججها . في الفرح تسترخي القوى الإبداعية، بينما يجعلها الألم تتوتر وتشتد

 

وتتحفز . وفي شعر النواب يولد الفرح الخاص من الحزن لا العكس . هذا ما عبر عنه النواب بقوله : " حتى في أقصى حالات الحزن أجدني فرحا . وثمة قصيدة لي يقول مطلعها : مو حزن، لكن حزين . فالشعر يحوي فرحه الخاص . ورغم كل مصاعب حياتي، أجد أن الكتابة هي أمتع ما عندي .وحتى ما بعدها وما تؤول إليه . إنها باختصار أمتع حالات حياتي (....) ثمة فرح يكمن داخل النص الحزين . وهذا ما تحسّه في حالة النشوة والطرب عند سماعك أغنية حزينة " . إن هذه النشوة والطرب عند سماع الأغنية الحزينة يحيلنا إلى الموقف المازوخي في الذات والمعبر عن غريزة الموت - thanatos التي تعيش في جدل صراعي دائم مع غريزة الحياة - erose في أعماق النفس البشرية، في الكثير من قصائد مظفر تمتزج هاتان الغريزتان لتنتجا مركبا جديدا . وحتى عندما تكون القصيدة، مبنى ومعنى، قد صممت لتتوج بنهاية قاتمة تقبض النفس وتنكس راية التطلع المتفائل فإن الشاعر يوصل المتلقي إلى هذه الخاتمة بعد أن يحلق به في سماوات الفرح ويجعله يحيا وسط موجات بهجة عيد كوني . ففي قصيدة " للريل وحمد " وهي قصيدة لوعة وهجر وحرمان، وفيها خطاب موجّه إلى المحبوب " حمد " الذي فارقه " المحب " كرها . والقصيدة تتكون من تسعة مقاطع رباعية البناء – 36بيتا – يقوم الشاعر فيها بلعبة " سردية " ذكية قد لا يلتفت إليها القاريء . ففي المقطع الأول يكون الصوت السارد هو ضمير المتكلمين : (مرّينه بيكم حمد ...

 واحنه ابغطار الليل ..

 واسمعنه دگ اگهوه ...

 وشمّينه ريحة هيل) - ولاحظ أن الشاعر لم يستخدم مفردة قطار - بحرف القاف - بصيغتها الفصيحة كان ممكنا لأن العامة يستخدمونها حتى في أرياف العراق، لكن الإنسيابية النفسية والموسيقية الحروفية سيخدشها حرف القاف قليلا، الأمر الذي لا يحصل في البديل الثاني الذي اختاره الشاعر (غطار) الذي يبتدأ بحرف الغين الأكثر خفة . أما في المقطع الثاني فسيكون الصوت صوتا غريبا يشوّش إمساكنا بطبيعة هويته الانتقالات السريعة بين الضمائر في الأبيات المتلاحقة . ففي البيت الأول نستشف أن المتكلم هي أنثى عاشقة تخاطب حبيبها : (يابو محابس شذر ... يالشاد خزّامات) لكن يحصل تحول فوري في البيت الثاني حيث يرتفع صوت الأنا الذكوري الذي

 

يتوسل بالريل أن يتهادى متغنجا حين يمر بحبيبته الجميلة، وأن لا يقر بحقيقة الهجران والإنفصال بينه وبين حبيبته، لأن قلبه مازال حيّا ينبض بالحب والوفاء : (ياريل ...

 بللّه ابغنج ...

 من تجزي بأم شامات ...

 ولا تمشي ...

 مشية هجر ...

 گلبي ...

 بعد ما مات ...) لكن الشاعر يعود لاستخدام ضمير الجماعة المتكلمة في المقطع الثالث : (... ما ونّسونه ابعشگهم ... عيب تتونسين ...) لكن في المقطع الرابع يعود الشاعر ليدخلنا في دوامة تحديد هوية الصوت المتكلم . فهو صوت متكلم لكنه ملتبس لأنه يمكن أن ينطبق على الذكر وعلى الأنثى في الوقت نفسه : (يا ريل ...

 طلعوا دغش ...

 والعشگ چذابي ...

 دگ بيه كل العمر ...

 ما يطفه عطابي ...

 نتوالف ويه الدرب ...

 وترابك ترابي ...) في المقطع الخامس حسب يكشف الشاعر الهوية الحقيقية والنهائية للمتكلم كأنثى عاشقة مهجورة، تصر على أنها قد خلقت لـ " حمد " وليس لغيره : (آنه أرد ألوگ الحمد ...

 ما لوگن لغيره ...

 يجفلني برد الصبح ...

 وتلجلج الليره ...) هذا اللعب على الضمائر في القصيدة وتعددية الأصوات لم يكن النص العامي يعرفها قبل النواب أبدا، ولم يكن الشعراء يدركون أهميته الفنية - الجمالية والبنائية . ولكن الظاهرة الثانية الملفتة للنظر هو أن أكثر المقاطع الحزينة، وبمختلف ضمائرها المتكلمة " جمعية أو فردية، ذكورية أو أنثوية "، لا تحمل حزنا أسود خالصا أبدا، إنها تعرض حزنا مركبا - فيه بياض - تمتزج فيه الحفزات الإيجابية والسلبية وفق صيغة صراعية خلاقة كما قلنا، حيث يعمد الشاعر إلى جعل واحد أو أكثر من أبيات كل مقطع - وكل مقطع يتكون من أربعة أبيات كما قلنا - ليعبّر عن فرح غامر، فعلي أو متخيل أو مستذكر، بشري حي أو مادي منفعل بالمناخ الانفعالي العشقي الآسر والمهيمن : أ – المقطع الأول : 1- البيت الأول (مرّينه بيكم حمد ... واحنه ابغطار الليل ...) 2- اليت الثاني : (واسمعنه دگ اگهوه ... وشمينه ريحة هيل ..) 3 – ثم نعود إلى النداء الجريح : (يا ريل صيح بقهر ... إلخ ..) ب – المقطع الأخير – وانتقل إليه مباشرة لغرض عدم الإطالة : 1- البيت الثاني (ونهودي زمّن ...

 والطيور الزغيره ...

 تزيف ...) 2- (يا ريل ...

 سيّس هوانه ...

 وما إله مجاذيف ...)

هذه المزاوجة الخلابة بين دفعات الموت ودفعات الحياة هي التي منحت منجز النواب الشعري العامي مهابة غير مسبوقة وانجراح شديد الأسى في نفوس متلقيه البسطاء، وهم القاعدة المليونية العريضة جدا في العراق، أنا مثلا أحلل قصائد النواب من نسخة مصوّرة من ديوانه : " للريل وحمد " كانت ملك واحد من النوّاب ضبّاط في الوحدة العسكرية الساندة التي كنت أقودها، كانت صفحاته مرتبة بصورة مغلوطة ومرتبكة، حيث أن عنوان أي قصيدة لا يرتبط بتسلسلها .. ولوحات " ضياء العزاوي " لا صلة لها بالسياق الإخراجي . . وغير ذلك الكثير من الأخطاء .. كنّا في جبهة " الفاو " التي ابتلعت (55) ألف شهيد .. قمت

 

بترتيب الديوان بطريقة معقولة لكنها مرتبكة أيضا .. " كبست " للديوان غلافا كرتونيا أبيض ثخينا بسبب التحسّب وسلمتها للنائب ضابط العاشق للنواب وشعره، لكن هذا المحب الوله نقل إلى وحدة أخرى، وبحكم قانون المصادفة المهيب الأخرق الذي يتحكم بمصائرنا، استشهد هذا الإنسان البسيط وأخليت جثته إلى وحدة الميدان الطبية التي كنت أعمل فيها، كطبيب . لم أكن أعرف الجثة ولا يمكنني التعرف إلى وجه الشهيد، فقد كان مشوها تماما لأن سرفة دبابة سحقت رأسه الكريم وهشمته، عرفته فقط من خلال ديوان " للريل وحمد " الذي كبسته بيدي وبغلافه الكرتوني البدائي ونظمته له، وكان يضعه في عبّه تحت بدلة القتال كلقية عزيزة ورقية مصيرية، كأنها واحد من أبنائه – وبالمناسبة، كان لديه أربعة أولاد لا نعرف أي مستقبل " سعيد " انتظرهم بعد استشهاده، في ظل الخراب الذي عم العراق -، قبل أن يُستشهد وهو يحتضن ديوان مظفر النواب، في الرحيل الأبدي إلى العالم الأسفل .. هؤلاء هم أبطال كل عصور العراق الحبيب منذ فجر تاريخه قبل أثنتي عشرة ألف سنة .. وقد يستغرب القاريء من ذكري هذه الحادثة التي تبدو مقحمة، وغير منسجمة مع مسار الحكاية - القصيدة، العام، لكن هناك نوع من الفعل السحري، الرقيوي في شعر مظفر .. ومثل هذا المحارب البسيط كان ذاك السجين السياسي المدمّى الذي سمعه النوّاب وهو ينشد قصائده دون أن يعرفه في زنزانة التعذيب في إيران، كيف ستتصوّر ردّة فعل هذا السجين السياسي المدمّى الذي كان ينشد قصائد النوّاب عندما اقترب منه مظفر وقال له أنه هو صاحب هذه القصائد وأنه هو مظفر النوّاب ؟ هؤلاء البسطاء يجدون في شعر النواب غبطة الحزن ورجفة التعاسة التي تجعل شيئا من الرجاء .. من الأمل .. ومن المحبة .. يتململ في أعماقهم المترعة بالحزن في عالم تحاصرهم فيه أشباح الخراب والموت من كل جانب . وفي هذه القصيدة التي وضعها النواب قصيدة أولى في ديوانه الأول وجد المتلقي العراقي بغيته، قصيدة حديثة وبسيطة . قصيدة فيها أغلب شروط الحداثة ومفهومة من قبل كل العراقيين مهما اختلفت مستوياتهم الثقافية وأصولهم الاجتماعية . كل فرد يجد في قصيدة مظفر " شيئا " يشبع حاجاته الجمالية، ويلبي رغباته المعلنة والدفينة – حتى الحسّي الملتهب منها - . قصيدة النواب حداثية عامة، ومركبة مفهومة، يلتحم فيها الفردي بالجمعي، والشخصي بالإنساني، والعشقي بالسياسي، والأهم الحزن بالفرح، والإحباط بالرجاء، واليأس بالأمل، وكلها تحت خيمة المراهنة على بصيص حياة يحاول الشعر أن يفتح له منفذا أكبر . انتشرت هذه القصيدة " للريل وحمد " مثل النار في الهشيم مكتسحة ثوابت الذائقة العراقية التقليدية . وعندما صدر ديوان مظفر الأول وهو يحمل اسمها كان بائع الكتب يأتي

 

بزنبيل مملوء بنسخ من الديوان يفرغه على الرصيف فيتلقفه المشترون، ليعود ويأتي بزنبيل آخر . ولم يبع كتاب بهذه الطريقة في تاريخ سوق الكتاب العراقي والعربي، ولم ينافس " للريل وحمد " في الانتشار سوى مؤلفات المفكر الراحل الدكتور " علي الوردي " وهي ليست " شعبية " خالصة . وحتى اليوم، ونحن في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحتل هذه القصيدة موقعا خاصا في أفضليات الذائقة العراقية، والمشكلة أن المراهقين ممن ولدوا في أواخر القرن الماضي وسط ضجيج العولمة والابتذال الفني، يتغنون بها ويردّدون كلماتها . إن موجات تفاؤلية صاعدة تتناوب مع موجات عميقة الحزن لكنها لا تستقر في قعر اليأس المعتم الخانق أبدا . وإذا كان المقطع الأول ذا طابع حزين شفيف فإن الثاني فيه من التفاؤلية والتمسك بالحياة دفعة طاغية تماما : (يابو محابس شذر ...

 يلشاد خزّامات ...

 يا ريل بللّه ابغنج ...

 من تجزي بأم شامات ...

 ولا تمشي مشية هجر ...

 گلبي بعد ما مات ...

 وهودر هواهم ولك ...

 حدر السنابل گطه) يلي ذلك المقطع الثالث الذي تتصاعد فيه نبرة الحزن وأنين القاطرات الراحلة : (جيزي المحطة بحزن ...

 وونين يَفراگين ...

 ما ونّسونه ابعشگهم ...

 عيب تتونسين ...

 يا ريل ... چيم حزن ...

 أهل الهوى امچيمين ...

 

وهودر هواهم ...

 ولك ...

 حدر السنابل گطه ...)

تتصعّد نوبة الحزن هذه في المقطع الرابع لتعقبها صور المحبة الراسخة والإصرار على العشق والتعلق المصيري بالمحبوب " حمد " واستدعاء ذكريات الطفوله وألعابها البريئة . وخطوة واسعة – المقطع السادس - : (چن حمد فضة عرس ...

 چن حمد نرگيله ...

 مدگگ بمي الشذر ...

 ومشلّه اشليله ) تتلوها خطوة أوسع – المقطع السابع - تنتشر بها أذرع الانفعال الشخصي النابعة من الحزن الذي يتحول إلى اندهاش ومسرّة وبهجة تتجاوز الحدود الفردية .. وتشع لتشمل بموجتها الصاخبة كل الموجودات المحيطة بالمحب والمحبوب، توقظ الكون النائم ليشارك في هذا العيد حيث تزغرد الشمس والهواء مع خصلات شعر المحبوب المنسرحة بمرح مثل خيوط البريسم السود المفتوله : (چن گذلتك والشمس ...

 والهوه ...

 هلهوله ...

 شلايل بريسم ...

 والبريسم إله سوله ...) هذا الشعر يذريه مظفر – الفلاح الشعري كما ذرى خصال " گذلة " الشمس في قصيدة " حصاد "، لكن بالمشط هذه المرة .. والمتطاير ليس خيوط الذهب الشمسية ولكن الذهب نفسه : (واذري ذهب يا مشط ...

 يلخلگك اشطوله ...) ثم يأتي المقطع الختامي – التاسع حيث تبدأ شحنة التفاؤل بالهبوط في البيتين

 

الأولين عبر حركة انتقالية متحمّسة أسفا وحسرة يرسمها بوح الحبيبة التي " رحلت " عن حبيبها وأجهضت آمالها في الالتحام العشقي مع وصولها ذروة التفتح الجسدي - نهودي زمّن - وامتلاء روحها بحكايا الغرام والفرح الطافح في العينين : (توّ العيون امتلن ...

 ضحچات ...

 وسواليف ...

 ونهودي زمّن ...

 والطيور الزغيره ...

 تزيف ....) لنعود إلى حالة الفقدان والأسى التي بدأنا بها من خلال طريقتين : الأولى نفسية ومعنوية من خلال البيت الثالث الذي تعلن فيه الحبيبة أن غرامها قد ضاع إلى الأبد، والثانية بنائية من خلال " اللازمة " التي كان الشاعر يختتم كل رباعية – كل مقطع من قصيدته بها وهي : (وهودر هواهم ولك ... حدر السنابل گطه ...) التي " ثوّر " النواب استخدامها في القصيدة العامية على مستويين : الأول هو أنه جعلها جزءا أساسيا من الرباعية نفسها بعد أن كانت لازمة تتكرر بلا هدف مضموني أو جمالي . فالشاعر سابقا كان يستخدم اللازمة كجزء من " المذيّل " وهو من بحر السريع وفيه تكون متغيرة، مثل قصيدة " ولفي جفه وروحي اتلفت " للشاعر " كاظم النجار البغدادي " :

 نيران گلبي اموجره – والجسم بسهام انصاب

 يهل الفخر

 وحشاي كلها امفسّره – من راح ولفاي وعاب

 چبدي انفطر

وهنا نلاحظ أنها قريبة من الحكي لولا " ترتيبها " الموسيقي و" تنتصب " في أثناء مسار السياق وكأنها حركة ختامية للقصيدة كلها، أو أنها تستخدم بصورة ثابتة متشابهة في نهاية الرباعية كشطر مستقل " خامس " كما في قصيدة " الأفكار

 

 

المطلسمة " للشاعر " حسين قسام النجفي " وهي من وزن " الشبگها " على بحر مجزوء الرمل وعارض فيها قصيدة " إيليا أبو ماضي " المشهورة " الطلاسم " :

عاين وأنظر خلقتك غير ألله من صنعها

شوف اصابيعك وذانك غير ربّك من جمعها

عاين النصبت اعيونك لو بچيت يهل دمعها

ما تدلّيني اعله دربه منين هذا الدمع يجري

 آنه أدري وغيري يدري

ثم يستمر الشاعر بإعادة هذه اللازمة " آنه أدري وغيري يدري " بعد كل رباعية من رباعيات قصيدته وعددها أربعون (160بيتا) فتكون لها وظيفة تذكيرية تبهت مع تكرار الاستخدام وتفقد حساسيتها لإثارة الدهشة، لأنها ليست ملتحمة بجسد الرباعية أصلا . أما من الناحية الموسيقية فإنها تأتي استمرارا للبيت الأخير ومتسقة مع قافيته وهذا أيضا يسلبه التكرار والتشابه فرادته وتميّزه . أما النواب فإنه – كما قلنا – قد جعل اللازمة جزءا من الرباعية، بيتها الختامي الرابع، الذي يكمل الأبيات الثلاثة السابقة . وهي تتكرر في المقاطع الخمسة الأولى . في كلّ هذه المقاطع يكون " الريل " منطلقا في حركته .. مبتعدا عن الحبيب وعن مرابعه .. فتأتي اللازمة معاكسة لطبيعة الحركة حين تعلن عن كمون غرام الأحبة مثل كمون القطا تحت ظلال السنابل .. حيث الترقب غير المستكين وتوقع الإنطلاقة الحاشدة المباغتة التي تحفزها أدنى استثارة، والصورة تعاند الرحيل وحركة الريل برسوخها في الحالتين، الكمون والإنطلاقة، اللتين تعبران عن رسوخ العشق . وقد ذكر الشاعر اللازمة بلا " واو " العطف في المقطع الأول : " هودر هواهم ... "،ثم مع الواو في المقاطع الأربعة التالية والمقطع الأخير – التاسع : " وهودر هواهم ... " وكأن المتكلم يريد توضيح العبء " المضاف " على الذات . أما المستوى الثاني فيتمثل في التنويع، تغيير اللازمة جذريا والحفاظ على الكلمة الأخيرة منها وهي " گطه " وهو ما حصل في المقاطع، السادس والسابع والثامن . ويأتي التغيير مرتبطا من حيث تسلسل حلقات المعنى بحلقة البيت الثالث من ناحية ومرتبطا، شكليا، لغويا بالمفردة الأخيرة من هذا البيت (الضرب كما توصف التفعيلة الأخيرة في البيت في الشعر العمودي) :

أ-المقطع السادس :

 

1-البيت الثالث : يا ريل ... ثگّل يا بويه ... وخلِ أناغيله

2-البيت الرابع (اللازمة) : يمكن أناغي بحزن منغه ... ويحن الگطه

ب-المقطع الثامن :

1-البيت الثالث : واذري ذهب يا مشط ... يلخلگك ... اشطوله

2-البيت الرابع (اللازمة) : بطول الشعر .. والهوى البارد .. ينيم الگطه

وقد ثابر النواب على استخدام هذه التقنية الفنية وتطويرها في الكثير من قصائده مثل " مضايف هيل "، "عشاير سعود "، " عودتني "، " يا ريحان "، " سفن غيلان ازيرج "، " أيام المز بن "، و " ولا أزود " وغيرها . وقد برع الشاعر في التنويع على استخدام هذه الطريقة بصورة خلاقة وشديدة الإحكام بحيث صارت من المميزات الأساسية للثورة النوابية . خذ على سبيل المثال لازمة : " صويحب من يموت المنجل يداعي " في قصيدة " مضايف هيل " فستجد التلاعب في تركيبها من ناحية :

1-المقطع الأول (صويحب من يموت المنجل يداعي)

2-المقطع الرابع (وبليل الخناجر، منجله، يداعي)

3-المقطع الخامس : (من ريل الرميثة المنجل يداعي)

4-المقطع الثامن (وصويحب يموت ومنجله ايداعي)

كما أنه، من ناحية أخرى يغير اللازمة كاملة وفق ترتيب جديد أو يحول المفردة الأخيرة من البيت الأول : " الاگطاعي " إلى البيت الثاني ويعيدها في مقاطع أخرى . وفي قصيدة " ولا أزود " المكتوبة عام 1961والتي قدّم لها بجملة : " وهكذا يكون ألم الأحزان الطرية "، يبلغ الإقتدار في إحكام أواصر الصلة بين الرؤيا والرؤية أقصى مدياته . فهو يجعل اللازمة، ولأول مرّة مكونة من ثلاثة أبيات في القصيدة التي تتكون من ثلاثة مقاطع . تأتي اللازمة في المقطع الأول على الشكل التالي : (تنينه ...

 وكل هجر حمّل ...

 

 دمع نيلي .... وسعد أسود ...

ترف وانته ...

 .... ولا سِعده

 ... ولا مامش ...

 ولا أزود ... حسافه اسگيتك بروحي ...

 وحسافه العمر ما ورّد ) أما في المقطع الثاني فإنه يعيد اللازمة نفسها مع تغيير في البيتين الأول والثاني بالشكل الآتي : (ترسنه صواني فرفوري ...

 فرح نيلي ... ووصل أسود ...

 ترف وانته ولا ورده ...

 ولا شوكه ... ولا أزود ...) مع الحفاظ على البيت الثالث على حاله : (حسافه اسگيتك بروحي ...

 وحسافه العمر ما ورّد) وتحصل نفس اللعبة في المقطع الثالث حيث يتلاعب الشاعر بمفردة واحدة فقط في الشطر الأول من البيت الأول حين يحوّل الفعل " حمّل " إلى " وشّل " : (تنينه ...

 وكل هجر وشّل ...

 دمع نيلي ... وسِعد أسود ... وبالشطر الثاني من البيت الثاني : مع ثبات شكل البيتين، الثاني والثالث . لكن كل تغيير في المفردة الواحدة، يأتي محسوبا ضمن الإطار العام لفكرة المقطع وانفعالاته ومسار وقائعه من ناحية ومرتبطا من الناحية الشكلية (التركيب اللغوي) بمفردات مركزية وحاكمة دخلت في بنية أبيات المقطع وأثّرت جذريا في المناخ النفسي المركّب الذي تثيره الراوية

 

العاشقة المحبطة من ناحية ثانية .ففي المقطع الثاني تقع العاشقة في مصيدة متضادة من الإقبال والإدبار من خلال العلاقة مع معبّر " الطبگة " الذي تدهور حالها، من الفرح، ومن اندفاعتها الغرامية الحامية، على يديه، فأصبحت بين ناري الفرح النيلي والوصل الأسود . ولأن المفردات الحاكمة في هذا المقطع التي تناسب الصراع النفسي " اللذيذ " الذي تعاني منه العاشقة هي : اللقاء العاصف والمشوب بالفرح وأشواك العاقول والورد الجوري فقد دخلت في اللازمة كلمات أثّرت في صياغتها وبناء أبياتها وهي : فرح ووصل وورده وشوكه . ولأن الإندفاعة مزحومة بالمشاعر الصاخبة فقد تحوّل الفعل " تنينه " إلى " ترسنه " حيث تمتلأ أوعية الروح اللائبة العاشقة . أما في المقطع الثالث، ولأن العاشقة تعود إلى مراجعة حسابات خيبتها وتتأكد من الخسارات النهائية وضياع آمال اللقاء بالمحبوب إلى الأبد، فخيّم بذلك الحزن ومشاعر الأسى – رغم رجفة الفرح الحيية التي عوّدنا عليها الشاعر – فقد أصبح لزاما أن يجعل الشاعر الهجر الذي " حمّل " بفعل الانتظار المديد الذي بلا رجاء إلى هجر " يوشّل " دمعا نيليا وهجرا أسودا . وليس الفعل " وشّل " وحده مأخوذا من البيت قبل الأخير في القصيدة : " بوشل هجرك يالمذبّل ... شتلنه من الحزن مشتل ... " ولكن الصيغة التعبيرية : " كل هجر وشّل " هو مقلوب الصيغة التي رسمها الشاعر في هذا البيت " بوشل هجرك " ل" يطابقه " مبنى " و" يجانسه " معنى . كل شيء محسوب، وبدقة، في بناء القصيدة النوابية، وهو أمر لم يكن موجودا قبله . ومن الأمور التي عالجها النواب في شعره والتي كانت هذه القصيدة هي محاولته التجريبة الريادية فيها ضمن إطار البهجة الحسّية (الجسدية) التي لم يتجاسر شاعر قبله على التعرض لها بصورة فنية مقتدرة وليس بصورة فجة هو موضوعة " النهد " . يقول الشاعر محمد جواد الخطاط البغدادي : شنهود عنده والصدر وجبينه يلمع كالبدر

وبحنچه فيروزة شذر مالها مثيل انهوده

أو كما قال " الملّا منفي عبد العباس " في مساجلته الطويلة مع الشيخ " ناجي مطلب الحلي " والشاعر " عبد الرحمن البناء " والتي يتناولون فيها أوصاف جسد المرأة الحبيبة : شرد أوصّف جيد مبسم نهد، لو دورة المحزم

والتخزره عيب يسلم من تجافيها ومكرها

 

أو هذا المقطع من قصيدة للشيخ " حسن العذاري " التي يصف فيها محبوبه - بصيغة المذكّر - :

دلع تمشي وتظهر انهود الصدر امأمن من الغير بس منّي حذر

اشلون من تمشي تمايل عالجسر مسفر الذرعان مگصوص الشعر

وقد راجعت العشرات من القصائد التي كتبت قبل النواب فوجدت أبيات محدودة تشير سريعا إلى " نهد " المرأة وتعبره مسرعة وكأنها ارتكبت إثما جسيما، وذلك لأن الشاعر لم يكن يضع في ذهنه أن الوظيفة الجنسية تختلف عن الوظيفة التناسلية، وطبعا هذا يرتبط أيضا بالضوابط الاجتماعية والنواهي الدينية آنذاك . كانت المعالجات الحسّية " سطحية " تركز على عيني " المحبوب " - والغريب أن أغلب قصائد الغزل كانت تتغزل بالمذكر - وخدّه وجيده - وبقية الأجزاء التي يمكن أن تنكشف من العباءة - وصدره وردفه كبروزين ظاهرين تحت سترها، وتتعامل مع معانيها الجمالية " الفيزيائية "، ولم تكن قادرة على تصيد الانفعال الحسّي بها بجرأة وشراسة . كما أن الشعراء لم يدركوا أن هناك معان رمزية أوسع لمكونات جسد المرأة يمكن أن تلتحم بالأرض الأم والطبيعة، ناهيك عن فقدان العين الراصدة " الذئبية " القادرة على التصوير الحسّي المبهر للجزء الجسدي الأنثوي المعني . ومن المهم القول أن تلك الحواجز الاجتماعية والدينية الرادعة التي تقيد انطلاقة الشاعر في هذا المجال لم تمنع الشعراء تماما من كتابة نصوص جريئة – لكن فجّة فنّيا - مثل القصيدة الطويلة التي كتبها الشاعر المعروف " الحاج زاير الدويچ " ليتغزّل بالمكونات الجسدية الأنثوية لجسد الحبيبة لكن في صيغة المذكّر المخاطب :

هبّ النسيم ابهل الورچ لا تگع يا ساهي العين

وعيون الك لو سلهمت تكتل يا ساهي ابسهمين

وحواجبك شبه اليهل للعيد تربي الصوبين

عرنين الك عجد الذهب صاغوه الك صبّه اثنين

قرطاس صدرك يا ترف ما بين كتّاب اثنين

اللّي يصحّون الكتب تركي وعرابي السانين

طيّات بطنك يا ترف أطلس لفه من البحرين

 

ووروچ الك صنگر حرب بيه لاذو المطلوبين

وحيجه الك ما تنلفظ بالكاف اسمها والسين

يا طير حرّ اعله الوچر نيتك يابو دگه وين ؟

شنهو البدالك وجفلت ريم ولچح گانوصين

مع النواب دشّنت القصيدة العامية بدء مرحلة المعالجة الفنية الباهرة جماليا ورمزيا وحسّيا . وكانت الخطوة الأولى في هذه القصيدة، قصيدة " للريل وحمد " التي صدمت، كما قلنا، المرتكزات التقليدية " الباردة " لذائقة المتلقي العراقي .يقول النواب في المقطع السابع : (گضبة دفو، يا نهد ...

 لملمك ... برد الصبح ...

 ويرجّفنك، فراگين الهوه ... يا سرح ...

 يا ريل ...

 لا .. لا تفزّزهن ...

 تهيج الجرح ... خلّيهن يهودرن ...

 حدر الحراير گطه ...) ستلاحظ أولا الإرباك في تحديد جنس المتكلّم، وهل هو ذكر أم أنثى، رغم أن التدقيق المتأني للضمائر المستخدمة في المقاطع الستة السابقة سيكشف تناوب الضمائر التي استخدمها الشاعر وكأن القصيدة عبارة عن محاورة " مقطعية " بين الحبيبة العاشقة وحبيبها " حمد "، حيث يأتي هذا المقطع بعد المقطعين الخامس : " آنه ارد ألوگ الـ - حمد - " والسادس : " چن حمد فضة عرس .. " وهما بضمير المتكلم الأنثى - الحبيبة، وبذلك نتوقع أن يأتي هذا المقطع بلسان الحبيب " حمد " الذي يخاطب النهد ولأول مرّة غير منسوب إلى " صاحبه " أو " صاحبته "، إنه السبق الفريد الذي يضع النهد ككيان خارج مرجعيته الجسدية . لم تشهد القصيدة العامية مثل هذا الفعل من قبل وهو أن يؤنسن هذا العضو العظيم المهمل بصورة عامة ويُخاطب . كما أن الشاعر " القديم " لم يكن يستثمر الإيحاءات المركبة

 

والمنفتحة الدلالات عند تشبيه ما هو مادي (النهد) بما هو مجرد (قبضة الدفء) التي لملمها وكوّرها عامل تجريدي ثان (برد الصبح) . وهذه السلسلة من العلاقات بين الحسّي واللاحسّي غير مسبوقة أبدا. وهي صورة لا تُضاهى ومشتعلة جماليا وحسّيا . فالمشابهة بين كرة النهد وتكويرة قبضة الدفء هو تشبيه خلّاب ودقيق جماليا، لكنه حسّي وفي غاية الإثارة ومحمّل بالإيحاءات الجنسية، فالدفء المشع من النهد المتماسك يسري في قبضة العاشق المتخيلة التي تطبق على موضوع لذتها بعنف وإحكام .قارن بين الحبيبة وهي تشكو – قبل مقطع واحد - وتقول : " يرجّفني برد الصبح " حيث يجعل الشاعر البرد يرجّفها ككيان أنثوي كلّي يتناسب مع الحبيب " حمد " من الناحية الجسدية والنفسية، لكنه، مع النهد الصغير، يجعل البرد " يلملمه "، فوق توتّره الأصلي بفعل الحرمان، ليصبح كرة شهوة دافئة تناسب حجم إداة القطاف .وتكوّر الموضوع الدافيء وتراصّه يتصعّد بفعل نقيضه، برد الصبح، وتعايش الأضداد ليس سلميا أبدا . إنه تصارع عنيف يتأجج أكثر من خلال الكلمة الإفتتاحية في البيت :" گضبة " الفاعلة بعزم رغم أنها اسم مؤنث، وهذا ما يؤكد ما قلناه سابقا من أن الصورة النوابية عنيفة، لكن عنفها محبّب وآسر . إنه العنف الذي يرتبط بإشباع غريزة الحياة لا الموت كما يحصل في قصائد الجواهري والسياب .فـ " الگضبة " هذه گضبة حياة وانتشاء ومحبة،مدروسة حّد اللعنة . فمادام هناك برد يجب أن تكون هناك رجفة، لكن الشاعر لا يجعل مصدر الرجفة البرد الذي أصبح يلم ويكوّر وكان مصدر رجفان العاشقة سابقا، ولكن الفراگين - مقطورات قطار الهجر الراحلة، قطار الانفصال الذي لا يرحم والذي يتوسل به المتكلم - الحبيب - وحتى الحبيبة، بأن لا يوقظهن - وقد تحولنا الآن من ضمير المخاطب المفرد - النهد إلى ضمير المخاطب الغائب الجمعي المؤنث : (يا ريل ...

 لا ... لا تفزّزهن ...

 تهيج الجرح ...) ويرجو بحركة مشوشة لكن منعشة أن يتركهـ (ن) مستكينات فقط - وليس غافيات كما يوحي الطلب " لا تفزّزهن " - تحت الحراير مثل القطا، وهنا يبقى التحفّز الذي غرسه في أذهاننا التوتر المتكوّر في الصورة الافتتاحية : (خلّيهن يهودرن ...

 حدر الحراير گطه) هذه النقلة الحادة والمتوسعة في طبيعة الضمير المخاطب جعلت الكثيرين من القراء

 

مقتنعين أن الشاعر لا يقصد برمز القطا المستكين، النهدين، في هذا البيت حسب بل هذا هو المعنى المقصود من رمزية القطا المهودر في أفياء السنابل في اللازمات جميعا ومنذ المقطع الأول في القصيدة . وهذه سمة أخرى من سمات الثورة النوّابية والتي تتمثل في " الانفتاح التأويلي " . في قصيدة : " عشاير سعود " من ديوانه " للريل وحمد " يقول النواب في المقطع الرابع منها : (كحلنا لك، ألف مشحوف ...

 يمشي بهيبه ... للدولة علگنا لك عله الصوبين ...

 علگه ...

 عيون مشتعله) وفي خاتمة الديوان يضع الشاعر هامشا تفسيريا يوضح فيه معنى كلمة " المشحوف " يقول فيه : المشحوف زورق من الخشب والقير على شكل جفن العين يُستعمل في أهوار العراق !! . وحين تتأمل البيت الأول يمكن أن تعتقد أن الشاعر يقصد بعملية " التكحيل " هو إعداد أرضية الزورق بالقار تمهيدا لمواجهة الدولة، لكنه جعل العملية تشبه سحبة المرود الرشيقة في عين الأنثى، وبذلك يمكن أن يدلّ الفعل على الدقة والاقتدار، ويمكن أن يدلّ أيضا على السرعة المتناسبة مع العدد (ألف مشحوف)، لكن وصف المشية المهيبة المتحدّية للدولة تتيح لك تصوّر قصديّة أخرى لا تخل بتماسك الصورة ورمزيتها وهو أن المقصود بناء صورة موازية للعين الناقمة التي تصبح " سوداء " في حالات أقصى الغضب، أو لنقل حالة " ما بعد الغضب "، يعزّز هذا الاستنتاج أن البيت الثاني يشير إلى احتشاد العيون " الحمراء " المشتعلة على جانبي النهر، لكن لو عدت إلى الجملة الفصيحة التي قدّم بها الشاعر لقصيدته وهي : " 1961- الدولة مدانة لأنها قتلت سعود ... " وهي جملة أساسية في التأويل لأن الشاعر يوقعك في مصيدة إيهام أن سعود الذي يوجّه الخطاب إليه طوال القصيدة، مازال حيا، خصوصا في المقطع الثالث : (سعد يا سعود ...

 يمصنگر ...

 عله الحومه ...

 

 

 غضب أرگط ... صيحاتك تهز الموت ...

 كل صيحه ...

 بألف أمعط ...) فستتشكل لديك قناعة مهمة مفادها أن الخطاب هو خطاب انتظار، وأن العملية هي عملية (تمّوزية)، موت وانبعاث منقذ، وبذلك ينفتح باب تأويلي مضاف هو أن كل هذه العيون، عيون البشر وعيون المشاحيف هي عيون تنتظر عودة الغائب المخلّص، ناقمة تنتظر ساعة الإنعتاق . وهذه التأويلات لا تقيد حرية القاريء في الـتأويل المضاف المنضبط . مع الصورة النوابية هناك حرّية مؤنسة يمنحها للمتلقي كي " يؤوّل " ما يرسمه المبدع وفق أكثر من فهم ويفسر رموزه حسب استعداده النفسي الذي تحكمه العوامل الثقافية والاجتماعية . قبل النواب كان إطار الصورة الدلالي " حديديا " إذا جاز التعبير " يُفرض " من الخارج، على الشاعر بفعل قيوده المعرفية عندما يرسم " التعبير" - والتعبير بالنسبة للشاعر القديم أدق من التصوير - عمّا يشاهده من حوادث ويشعر به من أحاسيس، وعلى المتلقي عندما يقرأ " التعبير " بفعل القيود الثقافية والتزمت النفسي . وكلا الطرفين لم يكونا مقتدرين و " مدرّبين " ذائقيا للتعامل مع رموز الصورة وتأويلها . ولنقل، وهو الأصح من ناحية ثوابت اللاشعور، أن تلك القدرة كانت محتبسة ومنزوية غير مستثمرة كقوة عظيمة من قوى اللاشعور، فجاء النواب وفجّرها . لقد بدأ الانفتاح التأويلي – دلاليا وصوريا ورمزيا – في القصيدة العامية مع النواب . وقد قام بذلك بصورة مدروسة وقصدية ولم تكن " صرعة " شعرية عابرة . فحينما سألت المبدع النواب عن مغزى الصورة الشعرية التي رسمها في قصيدته " گالولي " وهي : " مگطوعة مثل خيط السمچ روحي " سألني هو بدوره : ماذا تعتقد أنت ؟ أجبت : أن التفسيرات قد تعدّدت بشأنها . قال : وكيف ؟ قلت : إن قسما من القراء يرى أن المقصود هو " الخيط " الذي يُصطاد به السمك، والذي إذا انقطع وتم وصله من جديد فإنه لن يكون بنفس القدرة على التقاط السمكة أبدا، مثلما كان من قبل . وقسم آخر يرى أن السمك حين يتنقل في أعماق النهر فإنه يسير في خط مستقيم، الواحدة خلف الأخرى، فإذا حصل أن أربك مساره شيء تحل فيه الفوضى ويصبح من الصعب جدا عليه العودة إلى المسار المنتظم .

 

قال : وبعد ؟ قلت : وهناك قسم ثالث يقول أن المقصود بخيط السمك هو الحبل الشوكي للسمكة وهو الخيط الرفيع جدا والرقيق الذي يمر في عمودها الفقري ويسيطر على حركتها، وهذا حين ينقطع لا يعود إلى سابق عهده ولا يمكن إصلاحه مهما حاولنا وستُشل حركة السمكة . وسألته أخيرا : فأي التفسيرات تراها أكثر صحة ؟ فقال بابتسامة ظافرة : أتركها على حالها كلّها، لأنني أعتقد أنه كلّما انفتح التأويل، المنضبط طبعا، كلّما كانت متعة القاريء أكبر . أي أن الشاعر كان " واعيا " لتأثيرات الحركة التلاعبية التي قام بها على الضمائر وهو يتحدث عن النهد كـ " گضبة دفو "،هذا النهد الذي يعود إليه النواب في المقطع التاسع والأخير فيقول : (توّ العيون امتلن ...

 ضحچات ... وسواليف ... ونهودي زمّن ...

 والطيور الزغيره ...

 تزيف ..) وهذا خطاب جسور أن يجعل الشاعر أنثى في القصيدة تتحدث عن النهدين، حيث لم يكن أي شاعر عامي قديم يتجاسر على خرق ثوابت الخطاب الشعري وتابواته القائمة آنذاك في الحديث " المكشوف عن النهدين "، لم يكن يتحدث عنهما إلا بحدود الكتلة الحجمية التي تبرز منهما من وراء العباءة السوداء، والمقدار الذي يُتاح للبصر التبصصي التحرّشي أن يراه من خلال " الزيق - فتحة الثوب عند الرقبة " . لكن الروح التعرضي لمظفر أقوى من ذلك بكثير، لأنه لم يتحدث عن النهدين كرجل شاعر ولم يجعل هذا الحديث عنهما يجري على لسان أنثى تتحدث " عن ممتلكاتها " المحرّمة حسب، بل جعلها، أي الأنثى، تتحدّث عن مواصفاتهما الجنسية - لا التناسلية - المثيرة وكأننا أمام حركة " استعرائية " لفظية نمرّرها إلى حركة صورية بفعل ما جُبل عليه لاشعورنا من مكر " شعري " . وحركة " الزمّ " في النهدين هي حركة أقصى الامتلاء والتكوّر العضوي والتحفّز النفسي للهجمة الحسّية النهمة ’ وهي تتفق مع حالة " الامتلاء " بالضحكات والسوالف الطافحة في العيون - العيون التي من أجل التوافق التكثيري الذي يغوي الغريزة أكثر جعل الشاعر أنثاه تقول " نهودي " بصيغة الجمع لا " نهديّ " بصيغة المثنى - . لكن هذا الفعل التكثيري المعاند وغير المسبوق عن " النهد " يتناوله الشاعر بصورة أكثر

 

عنفا محببا، وأشد إشاعة للغبطة، من جديد في قصيدته : " نگضني " المكتوبة سنة 1959، والتي يقول في مقطعها الأول : (نگّضني النهد ...

 شايل ثگل ...

 شامه ... وبمي الورد ...

 غرگان ...

 شمّامه ... شنهي الخصر هذا ابحبس خزّامه !!! ... نگّضني النهد ...

 نگّضني ...

 نگّضني ...) وفي البيت الأول، وبعد أن يبلغك الشاعر بشكواه من الإنهاك الذي سبّبه له النهد، تُفاجأ بأن سبب هذا الإعياء الذي أصابه واستلب طاقته، هو أن هذا النهد الطري يحمل ثقلا هو عبارة عن خال – شامة، وبذلك يواجه الشاعر ثقل كيانين (كتلتين) تراكب أحدهما وهو " جة " الناعم " الأصغر حجما على الآخر الأكبر حجما وأثقل وزنا . وهذا ليس ذما من الشاعر ولا تذمّرا . يمكن القول أن هذه حالة " ما بعد المديح " . وعدم التناسب الكتلي المنطقي كان هو الموقف المتسيّد على رؤية الشاعر القديم، أي أن أي كيان هش كي يكون عبءا على من يحمله، فإن عليه أن يضاعف ثقله بكيان آخر أعظم منه وزنا وحجما . ثم أن لا أحد منهم يمكنه أن يتصور أن " النهد " يمكن أن يكون حملا مضنيا على العاشق !! ثم أين يضعه كي يحمله ؟ هذه هي سلسلة " السبب والنتيجة " و" العلة والمعلول " التي تتوالد " ميكانيكيا " في ذهنية الشاعر القديم . يمكنه أن يقول أن غرامك قتلني، وأن سهام عينيك قد ذبحتني .. لكنه لم يكن يجسر على أن يتصور أن النهد يمكن أن يُنهك حامله،ويفضي حمله إلى التعب المفرط حدّ الإنهاك لأن شامة – خالا صغيرا يتربع على هذا النهد . النواب وحده هو الذي فتح الأبواب على مصاريعها للّعب المدهش المتعالي على كل المعطيات المؤسسة ماديا والترابطات العلّية الراسخة وقلبها جذريا . فالشاعر لم يرهقه النهد إلا لأنه يحمل خالا صغيرا !! إن هذه الكتلة الصغيرة

 

السوداء المدورة هي التي ضاعفت إنسحاره بالكتلة اللحمية الكروية اللدنة المهيّجة لأن جمالها ضاعف جمال النهد و " أغلق " دائرة الكمال المفترس الذي فتك بالشاعر . لأول مرّة يوزن الثقل بالعين، الميزان البصري العاشق، والأصح هو أن الإحساس بوطأة كتلة الخال قد نبع من الروح التي كتم أنفاسها الجمال . مرّة شاهدت الملحن " الياس رحباني " وهو يقول لمتسابقة جميلة جدا في برنامج غنائي : " جمالك بيوجع " .. هذا ما نشعر به ونحن نقف بمهابة وخشوع أمام حالة " ما بعد الجمال " حيث يتجلى كمال الله في مخلوقه . يصل الجمال حدا أنه قد يثير الألم الشديد ..بل حتى البكاء، وحدّ الرغبة في التخلّص من هذا العبء الذي لم يعد محتملا . تقول مقطوعة شعرية من رباعيات " الهايكو " اليابانية : (القمر رائع ...

 أخيرا جاءت ... والحمد لله ..

 الغيوم السوداء ...

 كي تريح أعناقنا) لكن النواب لا يكتفي بصدمة جمال واحدة، إنه يوغل في مضاعفتها وزيادة (ثقلها)، و(ثقل) سحر الشيء المحبوب، فقد أصبح السحر يوزن على يديه، فيجعل النهد المثقل بالخال غارقا في ماء الورد ليجهز علينا تماما، ونهتف معه : (نگضني النهد .. نگضني .. نگضني) يجهز علينا بـ " التخمة " الجمالية " القاضية الشعرية مخترقا حساسيتنا الجمالية من منافذ ذائقتنا كلها تقريبا، فيتلاعب بحاسة ذوقنا معيدا إلى ذاكرتنا ذكرى الإشباع الفمي الطفلي الذي تتزاوج فيه الاستجابة لنداء الجوع ونداء الغريزة الجنسية - وأعيد التأكيد : الجنسية، لا التناسلية - : (شهگة عرس ... يا أسمر ...

 يا منابع طيب ... كشمش عجم ...

 مطّگ ...

 يا شراب زبيب) وعلى حاسة اللمس الباحثة عن الدفء والمتراكبة مع حاسة الشم التي سحرها عطر العنبر الذي ختل في طيّات دفئه هذا النهد منذ صغر (فهمه) لا (منذ صغر سنّه)

 

، فلاحظ كم أصبح هذا النهد، مع مرور سنوات الرخاء الدافئة – نهدا عنبريا طازجا (يفهم) حكمة الجمال : (لابِد من زغر فِهمه ...

 بدفو العنبر ... ضيفي الهيل ...

 وضيفيني ...

 بشيم شمّر ...) إن مثل هذا النهد وقد بدأ الشاعر بلعبة " التصغير التكثيرية " حيث صغّر فهم النهد، وجعل الهيل الصغير مكافئا للمحب، لابد أن يكون فعله المميت بطعنات دقيقة جدا " رگش " تتناسب مع حجمه : (شَگ الزيج ..

 يرگشني ... رگش خنجر...) وحين ينوجد مثل هذا النهد الذي تركز فيه ليس ريق الورد : (ريگ الورد ... ندّاك ... وفحت عالريگ ...)، بل ريق الطبيعة العسلي المدوّخ بأسره، عندها سنصيح كلنا مع الشاعر وبأعلى أرواحنا : (موّتني النهد ... موّتني ... موّتني ...) لكننا، حتى الآن، لم ندخل دائرة البهجة الكونية الكبرى كاملة والتي ينطلق فيها مظفر من مركز همّه الفردي، لقد مهّد الطريق لنا وأعدنا من خلال جرعات الأعياد التدريبية الصغيرة هذه لنتقبل الجرعات الكبرى المد,خة، جرعات الأعياد الكونية التي يقطع خطوة واسعة من طريقها في قصيدته " زرا زير البراري " التي نضمها سنة 1964وقدّم لها بجملة : " أغنية عن النبع الذي يسهر " والتي يستهلها بالقول :

(حِن ...

 وآنه احن ...

 وانحبس ونّه ...

 ونمتحن مرخوص بس كة الدمع ...

 

 شرط الدمع ...

 حدّ الجفن ..) وهما البيتان اللذان يختم بهما هذا النص . وهي ظاهرة أسلوبية مهمة وجديدة في بناء القصيدة العامية العراقية ابتكرها مظفر، فالقصيدة سابقا تبدأ ببيت من الشعر لا يفكر الشاعر في تكراره في داخل القصيدة ولا في أن يختمها به . وحين يكرّره في نهاية القصيدة، وهو أمر نادر، فإنه يفعل ذلك لغرض إعلان ختام القصيدة فقط، دون أن يوظف هذا التكرار لأغراض فنية أو جمالية أو دلالية . إننا هنا أمام حساب " آلي " فج يجعل البيت الأول، وهو في موضعه الجديد " ملصوقا " ببنية القصيدة وغير ملتحم بها وبتسلسل صورها وتناسل معانيها . إننا هنا لسنا في مجال التعامل مع البيت الأول كـ " لازمة "، ولكن كبداية – استهلال، ونهاية . والميزة الأخرى هو أن النواب قد استخدم بيتين بدلا من البيت الواحد، بل استخدم ثلاثة أبيات في قصيدة " ولا أزود " . وفي هذه القصيدة " زرا زير البراري " يختمها النواب بالبيتين الاستهلاليين نفسهما دون أن يكررهما في نهاية المقاطع الداخلية ليعلن نهايتها مع إضافة مفردة واحدة هو فعل الأمر " حِن " إلى الشطر الأول - الصدر، من البيت الأول : (حِن ...

 حِن وآنه احن ...

 وانحبس ونّه ونمتحن) مع تغيير جذري في الشطر الأول - الصدر أيضا من البيت الثاني واستبدال الفعل " يچوي " بالحرف " حد " من عجزه : (مجبور...

 أرخصك عل الدمع ...

 شرط الدمع يچوي الجفن)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1521 الاحد 19/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم