قضايا وآراء

النوّاب: الشعر عيد كوني .. القصيدة غبطة كونية (3-3) / حسين سرمك حسن

 نسبيا حيث نمسك كل مفردة جديدة ونحاول ربطها بالمسار الشكلي – اللغوي السابق وتحولاته وبالأفكار الجديدة التي دخلت إلى ساحة القصيدة وبالمناخ النفسي العام، راجعين إلى بيتي الاستهلال، لنرتد من جديد، متقدمين، هذه المرّة إلى بيتي الختام لنشكل " الصورة الكلّية " التي نضعهما، مع التغيرات التي أصابتهما، في موقعهما المناسب منها . لقد عبّر بيتا الاستهلال عن دعوة الشاعر لحبيبه إلى أن يتقابلا ويلتحما حنينا ووفاء وامتحانا، هذا الإلتحام المصيري الساخن لا يمنع نوبات الحزن الآسرة التي تنمو تحت ظلال حالة العناق الجديدة، من أن تجد منفذا لها، بالعكس ستكون ضرورية يلهبها الوضع الممتحن بالوفاء الجريح . لكن له الآن حدودا لا تتيح له الغمرة النفسية التي ولدتها " حبسة " الروحين العاشقين، تجاوزها . والموقف كله " طلبي "، مجرد مشروع حلمي، هوام رغبة، ينتظر الشاعر تحقيقها رغم أنها جاءت مبتدئة بنداء آمر : " حِن "، لكن طبيعة فعل الأمر أصلا طلبية بانتظار التحقيق، فعل الأمر في حقيقته فعل مؤجل رغم صرامته، والأمر نفسه ينطبق على الصيغة المضارعة – في شقها المستقبلي لرد فعل المتكلم : " وآنه احن " المؤسس على استجابة الحبيب المُخاطَب، وعلى الفعل المضارع الجمعي " وانحبس ونّه ... ونمتحن "، كلها مجرد مشروع رجاء لا يغني عن العذاب الذي تسببه صدمة الواقع . وينطبق هذا الحال المعلّق بين الرغبة وطلبها الإشباعي المؤجل على البيت الثاني : " مرخوص ... "، لأن الـ " شرط " استباقي نضعه للتصرّف المقبل كي لا يتعدى دائرة الشرط المرسومة . الآن عرض علينا الشاعر مشروعه الشخصي الحلمي تجاه حبيبه، بتكاليفه الباهضة وشروطه الشعرية المستحيلة، وأصبح لزاما عليه أن يعرض علينا حيثيات واقع الطرفين التي تبرّر مثل هذه الرغبة العشقية المستحيلة . من هنا ينطلق الشاعر محلقا في سماوات الغبطة الكونية التي نعجز عن اللحاق به في مدياتها القصية . هكذا تتوزع حركات القصيدة لتعرض حيثيات واقع الطرفين : الأول وهو الحبيب المعشوق – المثال السماوي، مثقلا بالسحر والخفة الملائكية والفتنة العارمة، أينما ورد ذكره، والثاني الشاعر – المحب، مثقلا بالألم والحزن والخيبة، أينما ورد ذكره أيضا، لكنه الألم المنعش والحزن المبهج والخيبة المحفزة، وكلها موظّفة لغرض واحد، هو بناء عيد كوني محوره الإلتحام الحبي الحلمي المؤجّل . هكذا ينطلق الشاعر ليصوّر لنا حالة " ما بعد الجمال " التي يتمتع بها المحبوب، لكي نقتنع أن هذه المشقة المستميتة التي يتحملها الشاعر رغم أن أجرها بعيد .. بعيد .. مبرّرة، بل مستحقة، فيبدأ بوصف أجزاء جسد معشوقه واحدا واحدا، بريشة المصور الذي تتحرك حواسه في مشغل إلهي يصور فيه كل عضو لحظة خلقه . يبدأ أولا بـ " جفن " الحبيب : (جفنك ...

 جنح فرّاشة غض ...

 

 وحجارة جفني ...

 وما غمض) - وقد أشبعنا هذا " الجفن " الرقيق تحليلا وتشريحا في دراستنا المقبلة : " الخيميائي " – ثم ينتقل إلى عيني الحبيب فيصفها – أو يصورها سينمائيا بقوله : (عيونك ...

 زرا زير البراري ...

 بكل مرحها ...

 بكل نشاط جناحها ...

 بعالي السَحَر) معطيا كلّ ذي حق حركيّ حقه الفضائي من الحركة، فالجفن القريب من الثبات المرتعش أو الحركة الموضعية نسبيا، يشبهه بجنح الفراشة الغض، أما العين، فليس أدق من تشبيه، ليس حركتها الجذلى الفائقة حسب بل بنيتها العضوية أيضا، بحركة شديدة الانطلاق والمرح لـ " زرا زير البراري "، شكل أسود على أرضة بيضاء . ولأن النواب يحسب كل حركة وكل كلمة، بل كل حرف، موقعه وجرسه وإيحاءاته، ولأنه شبه حركة عين حبيبه بحركة كائنات مرحة في البراري، فإنه لابد أن يبقى في البيئة نفسها، البرية، لتتحقق مصداقية مقارنة جديدة بين الحبيب الثمل فرحاً والمنطلق بزهو، وبين روحه " عوسجة البر " التي سيقتلها العطش : (والروح منّي ...

 عوسجة بر

 ما وصل ليها النده ...

 ولا جاسها بگطره، المطر) ولأن النوّاب يستولد صورة عن صورة وجملة من جملة ومفردة من مفردة – وهذه من المميزات الأصيلة للثورة النوابية - كي يحكم روابط أبياته وبالتالي رصّ حجارة هيكل قصيدته، فإنه لن يترك موضوعة العطش والندى المحرّم على روحه وسيقابلها بموضوعة الإرتواء وغمرة الماء والجمال في حبيبه، وسيقابل حالة الحرمان الشديدة التي يعاني منها بنقيضها، حالة " الفيضان " الخانقة بالسحر

  

والعطر والجمال التي يثمل بها المحبوب : (وصفولي عنّك :

 يالنباعي تفيض ...

 واتعنيت ...

 ليله .. ويه الگمر وصفولي عنك :

 كل مساحة تفيض منك عطر ..

 يلحسنك نهر) ولأنه " مهندس " يحسب بدقة كلّ خواص معمار قصيدته فإنه يهتم بالمكان والفضاء وموقع مكونات القصيدة فيهما . في هذا المقطع يقابل بين مكانين وفضائين، الأعلى والأسفل – فوق وتحت، والانفتاح والمحدودية . فحين يصف شيئا من عطايا المحبوب وهي " فوق " فإن ما يقابلها من حرماناته تكون " تحت "، والعكس صحيح أيضا . فعندما تكون عين محبوبه كناية عن الأخير صادحة محلقة في الأعلى، في السماء كالطيور الجذلى المنفلتة، تكون روحه العطشى مستكينة منكسرة على البر - تحت، وعندما يكون المعشوق نهرا نباعيا يفيض بالعطر والماء يكون هو قاصدا هذا المكان الفردوسي منطلقا مع القمر في السماء . ويستمر هذا التضاد المكاني - الفضائي الذي لم يُعنى به أحد من قبل، ليتحول إلى صيغة حركيّة مستولدة من (العطر) الذي يستنشقه الشاعر لـ " ينعجن " بدمه بالإكراه " غصبن "، أي أنه بحركة الشهيق التي تصل عطر المحبوب بدمه سيصل أقصى الأسفل، ليصعده بحسرة عارمة إلى السماء - أقصى الأعلى . والبيتان الأخيران يمثلان حركة رجاء جديدة، حركة تمني رغائبي مؤجل، جاءت بعد أن أترع العاشق المحروم حد التخمة من " الإلتحام " بحبيبه في حلمه الشعري الذي انقطع بصحوة كابوسية على واقع الحرمان، فيعود إلى حلقته المفرغة التي يمهّد لها بنقلة " رباعية " جديدة تشبه التي تحدّث فيها عن سحر جفن حبيبه، ولكنه يتحول الآن إلى جزء جديد هو الشفاه العنّابية الحمراء، هذه الشفاه الخرافية التي كلما استنزفتها امتلأت من جديد : (شفافك، ولا گولن ورد ...

 عنّابه ..

 

 معگوده عگد ...

 تمتلي بگد ..

 ما تنمرد ... لا هي دفو .. ولا هي برد ...

 آنه بوصفها راح اجن) ويعود ليكرّر الحركة السابقة على هذا المقطع التي انطلق فيها من عيني موضوع حبّه وتوسع في وصفه وجعله أنموذجا كونيا يُحتفى به، ويمتد في أرجاء الطبيعة كالروح في الجسد، فيبدأ بوصف سكنات حبيبه ويستخدم فعلا غريبا لها : " تِشكِل " فيجعل الخواطر تنغرز في القلب بدل العقل، ثم يصف جسمه المبروم وخصره الملفوف كالعقال : (سكناتك ..

 تِشكِل خواطر بالگلب ..

 مالي عرِف بيهن گبل ..

 مبروم برم الريزه ..

 يا ريّان ..

 ومخوصر خصر ..

 لف ّ العگل) ويأتي الحساب " الرياضي " النوّابي دقيقا جدا في هذا المقطع يتطابق مع المقطع السابق . ففي الأخير خصّص بيتين للحديث عن أوصافه التي سمعها عن حبيبه من الآخرين " وصفولي عنك .. "، وهاهو يخصص بيتين مقابلين لهذه الروايات الوصفية المنقولة : (وصفولي عنك ..

 وردة القدّاح ..

 ريش جناح ..

  

 زاهي بالسحر .. وصفولي عنك ..

 شال منّك غيظ ..

 بستان الورد ..

 والنرجس الرايج سِكَر ..) لسنا الآن في عيد كوني حسب، بل في بؤرة سكرة كونية هائلة ... لكن سرعان ما يصحو منها العاشق الذي حلّق على أجنحة الحلم، على قساوة الفجوة بين واقعه الفعلي وآماله المتخيلة فيعود من جديد إلى اشتراطاته المؤجلة في بيتين تتلاحق فيهما مفردات حرف " الحاء " بصورة مدهشة : (حنّي بفواريز ولحن ..

 حنّة حمامات السجن .. حنه إلي ..

 وحنّه إلك ..

 والّلي يعجبه خلّ يِحِن ..

 حِن .. بويه حِن .......) تلاحق يجعلها مزحومة بحرقة الحنين والحب ..حرف الحاء ينطلق ليس من آخر الحلق، بل من آخر الروح الملتاعة، وهذه الصيحة تشبه الإمساك بالمحبوب المرتجى، مقطع له أصابع تشد وتحتضن وتلتمس . ولهذا يتحول الشاعر بعدها إلى كشف أوراق خساراته كاملة وبصورة متسلسلة وواضحة حيث لا مناورة وصف منبهر، ولا مداورات حلمية، دخول مباشر إلى واقع الخيبة وإقرار بعصيان الإشباع الفعلي، حيث ينكشف غياب المحبوب المديد : (يا محجّل ..

 إن مرّيت بيّه ردود ..

 أرد ردود ..للعشرين ..

 من عُمر الجِفه ..) ومثلما تلاحقت مفردات حرف " الحاء " في البيتين الأخيرين الانتقاليين اللذين سبقا

 

انكشاف أوراق الخسارات المؤذية، تتلاحق مفردة " الهجر " بصورة دامغة تحقّق واقع الانهجار الفعلي الذي حاول الشاعر تلطيفه عبر الطلعات الشعرية التي نقلتنا إلى السماوات الفردوسية الساحرة . ينكشف الانهجار والوحشة والوحدة كحقيقة صخرية مسنّنة تتكسّر عليها دفاعات الأنا الجريح التخديرية، لا رجعة، ولا محبوبا يمشي مع نبض حبيبه لتنسحن روحاهما سوية عشقا والتحاما وامتحانا . تتلاحق مفردة " الهجر " بصورة صادمة حدّ أن المحب يقع أسيرها : (وأنصف عمر منك ..

 نِصَفته بالهجر ..

 والهجر منك ما كفه .. حتى الهجر ياروحي ..

 منك ما كفه ..

 وگلبي اعله هجرك گام يحن ..

 حِن...بويه..حِن....) الآن، وبعد هذه الرحلة التحليلية المضنية، نستطيع إدراك وفهم الدوافع الجمالية والفنية، والأهم النفسية، التي جعلت النوّاب يغيّر مفردة واحدة في بيتي الاستهلال - ومفردة مظفر مثل حجر " سنمار " يؤدي سحبها إلى إهارة معمار شعري كامل - لينضاف فعل أمر " صغير " هو " حِن " إلى البيت الأصلي ليصبحا فعلين متشابهين متتاليين، ولتتغير الصفة الراجية " مرخوص " إلى الصفة المتصالحة سياقيا " مجبور " رغم أنها متوسلة بفعل موقعها النفسي . لقد وردت في هذه القصيدة : " زرا زير البراري " مفردة " النباعي " في البيت : (وصفولي عنّك .. يالنباعي تفيض ..) التي يضع لها مظفر هامشا تفسيريا في الصفحة (217) من ديوانه يقول فيه : " النباعي منطقة يزرع فيها البطيخ، ماؤها مرّ، ولكنها تعطي أحلى البطيخ " . وهي حقيقة جغرافية وحياتية يومية في غاية الغرابة، يعرفها العراقيون ولم تتم معالجتها علميا حتى الآن بغرض تفسيرها، إذ كيف يتحول الماء المرّ إلى ثمرة حلوة، بل شديدة الحلاوة ؟ إن مظفرا، عن هذه الطريق الماكرة التي لم يقصدها والتي حكمتها " الحتمية اللاشعورية "، يقدّم تفسيرا للآلية التي يتحول فيها الكلام إلى شعر، الكيفية التي يتحول فيها الأرز إلى نبيذ، ولكن بطريقة تفوق التشبيه الذي قدّمه الشاعر الصيني " وو كياد " ونقلناه في بداية الدراسة . فالأرز الذي يحوّله جهد الشاعر الجبّار الخالق إلى نبيذ عبر تخميره

 

ليجعل الحزين سعيدا والسعيد حزينا، يختلف عن الماء المرّ الذي يحوله مظفر إلى عسل . هناك مقارنة بمرجعية اكتشاف تصادفي وانتظار غير مقصود ولحظة خلق ثم تأسيس نظري مدهش، وهنا عبقرية متعمدة، خالقة وتعرضية متحرّشة، مرهقة ومنهكة، محسوبة ومقصودة، ماكرة ومسالمة، والأهم تلقائية نتوصل إليها عبر التخطيط الشعري " الهندسي " المحسوب .

 وفي هذه القصيدة، وفي أغلب قصائده، يحقّق النواب شيئا لم تشهده القصيدة العامّية قبله، ويتمثل في تعدد البحور الشعرية المستخدمة في القصيدة الواحدة . فقد كان الشاعر القديم يبني قصيدته على أساس بحر واحد لا يخرج عنه من البداية إلى النهاية، حتى لو كان التنويع مطلوبا ليتناسب مع الموقف الحركي في القصيدة . تمشي القصيدة على وتيرة إيقاعية واحدة يسبب تكرارها رخاوة وتباطؤ في التركيز، في حين أن التنويع الذي أدخله النواب لا يسهم في تصعيد انتباهة المتلقي فقط، بل يجسد الفكرة وتنامي توترها الدرامي ويعكس ديناميتها الحركية أيضا .

 وتبقى في مجال البهجة الكونية قصيدة أخرى مهمة، من بين قصائد كثيرة، هي " زفّة شناشيل " التي تكتسب أهميتها من أن الشاعر لم يوسّع فضاء الابتهاج والفرح لينطلق في آفاق الطبيعة المنفتحة والمتوهجة، يلتحم بها وتنسرب روحه في أوصالها كما فعل في قصائده السابقة التي أشرنا إليها، بل نجده هنا " يضغط " الكون ومباهج الطبيعة و" يحصرها " في حجرة صغيرة، حجرة عشق ختل فيها مع حبيبته التي يمهد لخلوته معها بوصف حركة زفّة تمر في الشارع :

(زفّة شناشيل مرّت بالعگد ...

 والدف يرشرش فرح ..

 والدشداشة گمره ..)

وهنا، في هذا الاستهلال يتجلى جانب كبير من العبقرية النوابية تحدثنا عنه في مواضع سابقة، لكنه يتجسد هنا بصورة صارخة مدروسة وموحية على مستويات متعددة، ويتمثل في الحس الحروفي الدقيق الذي يظهر هنا في أعلى مستوياته في استخدام حرف " الشين "، نحن في زفّة يتدافع فيه الأحبة المحتفون، وتتنافس فيها الألوان، وتتعالى فيها الأصوات، فلا يجد طريقة للتعبير عنها سوى أنها " زفّة شناشيل "، يصدح فيها الدف الذي لو تنبهنا إلى طبيعته الإيقاعية والصوتية لوجدناه فعلا " يرشرش " ألحانه، والصورة تتحمل، بل هي مصوغة وفق هذا التصور،

 

النظر إلى فعل الدف مثلما ننظر إلى الطريقة التي يرش بها ماء الورد على المحتفين . إن صخب الزفّة هو " شين " النفس المنفلتة من قيود الضوابط اليومية القاهرة، وسوف نرى أن القصيدة كعالم مضغوط من الفرح الغامر تقوم على المفردات التي تضم حرف " الشين "، فهو عمودها الفقري . ولا أتردد بعد شوط التحليل الطويل مع نصوص مظفر في القول : أن " القصدية " النوّابية التي تقف وراء كل حرف، كل كلمة، كل حركة، كل صورة مهما كانت بسيطة، اختارت - حتى لو كانت لا تدري لأننا ننطلق من حقيقة أن لاشعور الشاعر هو شعوره - أن تشبّه الدشداشة بالقمر المكتمل – مفردة " الگمرة " العامية تعني شدة سطوع القمر واكتماله الدائري -، لكي تتوافق بنيتها الدائرية مع الدف المدوّر . ولكن في هذه القصيدة هناك لعبة إيهام يمكن أن نسمّيها " لعبة الإيهام النوّابية " وهي سمة ثورية من سمات منجزه لأن الشاعر القديم قبله كان حريصا على ميثاق شرف الوضوح وصرامة سرد الوقائع مع القاريء بصورة تسلسلية " أمينة " يحسب فيها السبب المنطقي المفضي إلى نتيجة منطقية . وسبق للنواب أن استخدم تقنية الإيهام هذه في قصائد كثيرة أخرى، لكن ليس بمثل هذه " القسوة " والبلاغة . الشاعر يتحدث عن زفّة تجري في الشارع – العگد، بصيغة المراقب المنفصل على الأقل عن صخب الحركة وتلاطم الحشد، وكأنه يقف لـ " يصوّر "، ويصف بصيغة الغائب - ولا اعتقد أن اللغة موفقة هنا وقادرة على التعبير لأن الضمير يبدو وكأنه مخاطب والزفة حاضرة أمام عيني الشاعر فكيف هي " غائبة " - لكنه ينتقل إلى مخاطبة حبيبته :

(وگلبچ كليچة تمر ..

 والحنّة تركضلچ .. اگبالچ

 تفرش السجّادة خضره)

- ولاحظ تلاحق المفردات التي تضم الجيم المعطشة : گلبچ، كليچه، تركضلچ، اگبالچ - أي أن الراوي الراصد وأنثاه لا علاقة مباشرة لهما بالزفّة، لكنه يخلق صورة موازية للزفّة، له ولحبيبته، متحدثا بضميرهما المشترك :

(واحنه عصفورين ...

 لمّينه الوكت .. حجرة عرس

 والنومه يمّچ دفو حضره ...)

 

هذه الصورة تدفع لعبة الإيهام والتمويه خطوة أبعد، حين يستذكر الشاعر كثافة هموم الماضي القريب الخانقة، حيث يتسيّد حرف " الشين " من جديد على هامة البيت القصير الذي يضعنا فيه الشاعر أمام تصوير نادر لما هو مجرّد، الهمّ، الذي حوّله إلى مطر تزخّه الدنيا على رؤوس المحبين، فينبري العاشق لحماية رأس حبيبته من ضرباته :

(شكثر زخّت همّ أمس ...

 واركضت شمسية عشگ ..)

يذكرني هذا البيت بصورة أشد قساوة قالها صديقي الشاعر الراحل - مات منتحرا - عبد الصاحب الضويري :

بعيد الماي وآنه بعمر الورود عنّي وردت أشوف غيوم باچر

 بس يا حيف باچر يمطر حجار

أتذكرها لأن صاحب – المتأخر تأريخيا عن النواب والذي يحاول الإقتداء به فنيا - كان يقول أن هذه الصورة من عطايا المعلم مظفّر النواب . هكذا سمّم النواب أجواء الشعر العامي فأنعشها، ومن سمومه هو امتصاص رحيق المفردة وإلقاؤها قشرة حروفية خاوية كما قلت، وقد وصفت جهده التوليدي في الدراسة السابقة عن قصيدة " حچام " بأنه جهد سيزيفي لغوي يحمل حجارة المفردة ليضعها على قمتها الدلالية والتصويرية العالية ثم يعود بها إلى الأسفل ويصعد بها من جديد، ليضعها على قمة دلالية جديدة وهكذا . لكنني أجد أن هناك وصفا أشد تعبيرا عن حالة النوّاب في هذا المجال وهو صورة سيزيف التي رسمتها البوذية الصينية لسيزيف الأغريقي - وانظر إلى الفرق الهائل بين عقليتين - حيث تصوّره شخصا يكسر الحجارة ويبكي، فتسقط دموعه على الأرض متحوّلة إلى حجارة، فيكسرها ويبكي ... النواب تنطبق عليه حالة سيزيف الصيني هذا، فهو يحب المفردة ويبكي حين يقشّرها . يعود الشاعر إلى استخدام مفردة التكثير "اشكثر" :

(اشكثر دگّت ايدي ...

 بنهيدچ البرحي ...

 واشتعل جدّ العثگ ...)

 

والفعل " دگّت " شائع بين الشباب في العراق لتصوير الروح التحرّشية التي تحصل على اشباعها وكأنها تنغرز في لحم النهد اللدن العصي المعاند، وخصوصا في صخب الالتحام في فوضى حركة الأسواق .. وهذه الحبيبة التي نهدها مجبول من ثمرة " البرحي " - وهما متشابهان كبنية عضوية تقريبا - وهو ألذ أنواع التمور العراقية على الإطلاق، الذي يضعه العراقيون في قدح الشاي بدل السكّر أحيانا، والتي وضعها الشاعر العاشق لبّاً لقلب حبيبته : " گلبچ كليچة تمر .. " هي التي يتحدث عنها العاشق - لاحظ حظوة حرف " الشين " في حديث الناقد أيضا - . وتـأتي الشتيمة " الإيجابية " : " واشتعل جدّ العثگ " لتعبّر عن أقصى مستويات شهقة اللذة وحرارة الإنبهار المصاحب للإشباع المراوغ . وهنا يستخدم النواب مفردات للتشبيه مستلة من مكونات النخلة وصفاتها، ومن المؤكد أن القاريء لا يتساءل عن المعنى الرمزي الدفين لـ " العثگ "، والأوسع هو مغزى اجتماع القمر والبرحي والكليچه والنار والمشمش والقنطرة والماء والنهر .... إلخ مع حبيبين في حجرة العرس . الشاعر يجعل القاريء يذوب متعة ونشوة وكلاهما - الشاعر والمتلقي - يشتركان في عملية يبعدها الكبت عن عبور حاجز الرقابة والدخول إلى ساحة الشعور، لكن الرغبة تلوب وتُشبع على المستوى اللاشعوري مستترة تحت أغطية اللعب الجمالي " البريئة " الرائعة . أتحدث تحديدا عن الرمزية الجنسية . و(أريد أن أستشهد هنا بنص طويل لـ " فلورنوا الابن " ويزيد هذا النص عمّا تعارف الناس عليه في الاستشهاد، ولكنه بدا لي أن من المستحيل قطعه وفيه من أسلوب التفكير وطريقة العمل ما يستحق معهما أن يُعرف : كان فلورنوا يدرس في مقال عنوانه " سيفا أندروجين – civa androgyne صورا مختلفة تمثل ألوهية هندية والأشياء المستخدمة لعبادتها، وقد أوّل ذلك كله تأويلا جنسيا . وعندما أنهى دراسته شعر بالحاجة إلى تسويغ تعليله فسوّغه بالكلمات التالية : " ما هي الفائدة في العثور على دلالة جنسية مفردة أو مضاعفة لمختلف أوصاف (سيفا) ورموزها ؟ ولمَ – إذا كنا باتجاه صورة متخيلة – كصورة نهر يتفجر من شعر الرأس – لمَ لا نكتفي باعتبارها مجرد ابتكار خيالي ولا نبحث عن أكثر من ذلك ؟ وهل هنالك معنى ما في إقامة علائق غير متوقعة تجرح شعور الناس بالجانب الفيزيولوجي الفج فيها ؟ وعدا ذلك فإذا نحن وصلنا إلى نتائج من هذا الموضوع، أفليس تحليلنا نفسه هو الذي يشوّه الموضوع المحلّل بدلا من أن يجعله أقرب إلى الفهم ؟ ونحن نقبل ولاشك – أن الخيال وحده يمكن أن يخلق كل شيء، حتى الأساطير والأعمال الفنية واللوحات العجيبة جدا . ولكن ملكة التخيل هذه، مع ذلك، جزء لا يتجزأ من الإنسان، بمعنى أن على العناصر التي تعمل فيها أن تكون بشكل أو بآخر مستعارة

 

من مجال التجربة الإنسانية . ويحاول جهدنا التحليلي أن يكتشف هذه العناصر الأساسية، على أن تكون أبسط العناصر الممكنة على الرغم من التغيرات العديدة التي أضافها الخيال الجمعي والفردي . وليسمح لي حبّا بالوضوح في أن أقدم أيضا بعض الأمثلة المشخصة البسيطة جدا، إنها قد تجرح - ولاريب - بفجاجتها ولكنها تجعلنا أقدر على فهم ما نريد . فالنهر الذي يسقي الهند ويخصبها يخرج من شعر (سيفا) . إن هذه فكرة خرافية واضحة - ولنقل أسطورة - ومن جهة أخرى فإنه توجد في (بروكسل) عين ماء معروفة جدا باسم (مانكن - بيس) يجري ماؤها من الطرق الطبيعية لغلام يبدو عليه أنه يتبول . إن هاتين الحالتين تشتملان على فكرة أساسية مشتركة منها استوحى رجل الفن عمله : أي إخراج السائل من الجسم الإنساني . ولكن أي هاتين الحالتين تعبر عن الفكرة بأقل تشويه ممكن ؟ فمتى رأى الرسام أو الشاعر الهندي أن الماء يتدفق من شعر امرأة ؟ إنهما لم يريا ذلك أبدا،فيما أظن - وأقرب ملاحظة إلى أسطورتهما استطاعا القيام بها - شعوريا أو لاشعوريا - ثم حرّفا فيها كما شاء لهما الهوى، عندما أنشئا عملهما الفني - لا يسعها أن تختلف اختلافا كبيرا عن ملاحظة مهندس عين ماء (بروكسل) . وإذا نظرنا إلى (سيفا) من حيث أنه إله الطاقات الخلاقة والمنعم الكبير بالحياة والمعبود على صورة الـ (لينغا) ومطلق مياه الغانج المخصبة من ضفيرة شعرها فإننا نستطيع أن نتساءل عما إذا كان الخيال المبدع - عندما أخرج السيل المقدس من شعر (سيفا) - لم يموّه بكل بساطة فكرة ما وراء ذلك هي أوضح وأقرب إلى الفهم . وفي إحدى متاحف الآثار يوجد قطعة موزاييك فاجرة تمثل رجلا يقذف بذارا غزيرا - هذا ما يقوم به الإله (إنكي) وهو يقذف منيه في نهر الفرات في أحد الأساطير السومرية، الناقد - وقد عبر النحّات هنا بشكل فج ومن دون أي لف أو دوران عن فكرة القوة الخلاقة، لكن الأسطورة الهندية - على العكس - تفجر المياه من شعر (سيفا) . فأي هذين التعبيرين ينبغي اعتباره الأكثر بدائية والأعرق أصلا ؟ وأيهما تلقى التمويه والتحريف ؟ أهو ذاك الذي يثير التقزّز إلى الدرجة التي تغرينا بمدافعته وكبته أم هو الآخر ؟ ولنضرب مثلا أخيرا : إننا نلاحظ في أجد وجوه (سيفا) أن الخيال الاسطوري يُخرج مخلوقا صغيرا من رأس الإله الخنثى . وتلك واحدة من هذه الولادات (اللاتناسلية) على مثال تلك التي تُعزى لحوّاء لدى خروجها من أحد ضلوع آدم . فهل نرتكب خطأ إذا نحن اعتقدنا أن وراء هذه الأساطير عنصرا أجنبيا مكبوتا ؟ وهل أتاحت التجربة الإنسانية يوما ما بأن يخرج إنسان جديد من جمجمة أو ضلع ؟ ولئن وصل الخيال إلى تصورات خرافية إلى هذا الحد، أفليس الأصح أن نرى فيها غاية الطريق - أي إنضاجا ثانويا - بدلا من أن

 

تكون بدايته ؟ إن هذه الامثلة القليلة تكفي لجعلنا نفهم لماذا يبدو لنا أن من المشروع - في دائرة العلم الموثوق - ردّ التعابير الرمزية إلى دلالاتها الأبسط والأقرب إلى الطبيعة والبحث عن نقطة البداية فيها - مهما تكن مبتذلة - حتى لو جرحت أحاسيسنا ؟ إن هذا المبدأ يبقى هو هو سواء أطبّق على الفن أو على الخرافات أو على أي نتاج خيالي مرضي أو عبقري إذا نحن حاولنا - النفاذ إلى سرّه واكتشاف ما وراء تعقيده . وقد لا يكون ضروريا أن بحثا من هذا النوع لا ينطوي على أية فائدة ولا على أي خطر يختلفان عمّا ينطوي عليهما أي بحث علمي آخر . والحق أني لم أعثر في أي مكان على نص يوضح لنا بصورة أفضل روح التحليل النفسي الفرويدي . ولا يزيد (فلورنوا) على أن يعود من جديد إلى موضوعة التجريبيين الأولى : لا شيء في العقل لم يوجد قبل ذلك في الحواس . وقد كانت أمثلته واضحة جدا، وسواء كانت الصورة تمثل رأس امرأة يخرج من جمجمة (سيفا) أو كانت - إذا شئنا - (مينرفا) التي تولد من رأس (جوبيتر) فأي معنى لهذه الاسطورة ؟ إن كلمة (المعنى) هنا يمكن أن تُفهم بصورتين : فقد تعني الصورة : إما هذا الشيء الذي تتجه إليه، أي (الأثر) بالمعنى الواسع، أو المفهوم المقبل الذي سيصدر عنها، وأما بالعكس هذا الشيء الذي تُشتق هي منه، أي سببها أو الإحساس الذي تصدر عنه . أما من وجهة النظر التركيبية أو الغائية فإن ولادة (منيرفا) تعني أو تدل على الأصل الإلهي للحكمة . وأما من وجهة النظر التحليلية أو السببية أو الإرجاعية، فإنها انتقال للولادة من الأدنى إلى الأعلى، أي من الفرج إلى الرأس . ويصر التحليل النفسي إصرارا كبيرا على أن المشروط هو إشارة للشرط ويطلب إلى المعترضين عليه ما إذا كان في وسعهم أن يتخيلوا لحظة واحدة أن فكرة الولادة (اللاتناسلية) يمكن أن تكون هي البدائية أو ألا تكون مشروطة بفكرة الولادة التناسلية . ونحن ندرك وفق قواعد التحليل النفسي أن الحلم في ما يرى (فرويد) ليس بإشارة إلى موضوعه المزعوم، بل هو إشارة إلى أسبابه . وهذا هو المبدأ الذي يطبقه الدكتور (فلورنوا) على تأويل الأسطورة ..)(4) . كان هذا الاقتباس طويلا لكنه ضروري جدا لاستيعاب جانب مهم من جوانب الثورة النوابية والذي يتمثل في تفعيل الرمزية الحسّية – الجنسيّة في بنية القصيدة العامية لغة وصورا . هنا يتجلى المكر النوابي في أبهى صوره جلالا وهيبة . فالشاعر إذ يمعن في تعزيز تجانس الصورة الشعرية، فهناك التمر، البرحي، والعثگ، وكلها مستلة من النخلة فإنه " يمرّر " الحفزات الشهوية خلف أستار الرمزية الشعرية التي تبدو " متعادلة " و " محايدة " . ومن عادة مظفر أن يجعل الركيزة التي يتأسس عليها فعله الشعري من حرفين أو ثلاثة تتكرر في مفردات القصيدة، وهي هنا : الشين والكاف

 

الفارسية والجيم المعطّشة، ولو راجعنا الوقع الموسيقي لكل حرف، ومصدره من التركيبة العضوية التي ينتجها الحلق، لوجدنا أنها أحرف تنطلق من "مناطق" متجاورة قريبة أو بعيدة من اللهاة، وكلها توصل إلى حالة من " إشاعة " الهمس وتحويله إلى زفة " شناشيل " حروفية مضخمة . هذا اللعب الحروفي يتعكز وقتيا على الجيم المعطشة التي لا تخل ببنيان البيت اللغوي، والأهم النفسي، لأنها تحمي الشحنة اللذّية نفسها وتسخّنها، فالجيم المعطشة، تعني الاستعادة وإعادة الاحتضان، فعكس ما يتصوره بعض الحروفيين من أن هذه (الچيم) تفلت وتنطلق من أسار ممكنات الحركة العضوية، ولهذا نجدها تقابل الشين المنطلقة المرشرشة والمنفتحة إلى الخارج، إلى الفضاء الحبي الواسع، إنها (ترشرش) في الداخل، فتلهب حرقة عالم الداخل، المعزّز بـ"چ" الإصرار الرغائبي والوقفة الملتهبة والإلحاح النفسي، والـ "چ " هذه يجعلها مظفر جزءا من عملية تأجيج النار، اشتعالة النار هي بدء معاند على الجيم المعطشة :

(نار بمرايه شيكمشچ ؟ ,,

 من أجيلچ

 أنطبج آني ولهيبچ

 نحترگ

طعمه، يا برحيّة الله

 وعنگچ معيبر گمر ...)

إن الإقتباس الطويل الذي قدّمناه يجد تطبيقه الحي في الصورة التي يرسمها الشاعر لحبيبته كشعلة نار في مرآة .. يعز الإمساك بها، هكذا يتساءل الشاعر " ببراءة " حائرا في الكيفية التي يظفر بها بالمعشوقة، لكنه سرعان ما يشخّص " الإلتحام " المتمنى - وهذا " الإبعاد " جزء من لعبة الإيهام - من خلال تصوير ما سيفعله بها حين " يأتي " إليها حيث سيحترق مع " لهيبها " – أين يكمن " لهيب " المعشوقة الذي سيحترق " معه " العاشق ؟ وفي حركتين شعريّتين تحرّشيتين : " النومه يمّج دفو حضره " و " برحيّة الله " يعيد إلى أذهاننا الدهشة التي يؤججها الشاعر " المارق " .. الشاعر هو الذي يجرأ على أن " يسمّي " الأشياء " الملتبسة " بأسمائها الشعرية التي نخشاها عادة بفعل الإرادة المهادنة . (فمن بعد أن خلق الله آدم من " تراب الأرض "، وبعد أن جعل مقامه في جنة إلى الشرق من عدن، تابع خلق

 

جميع حيوانات الحقل وجميع طيور السماء، وجعلها تحضر أمام آدم ليرى كيف يمكن له أن يسمّيها، فالاسم الذي جعله آدم لكل كائن حي، أصبح هو اسمه . ولقد حيّر هذا التعامل المثير للفضول الراسخين، على مدى قرون مديدة . فهل كان آدم موجودا في مكان كل شيء فيه لا اسم له، وأن عليه بالتالي ابتكار الأسماء للأشياء والكائنات التي هي أمام ناظريه ؟ أم أن الدواب والطيور التي خلقها الله كان لها دون أدنى جدال أسماء يُفترض بأن آدم يعرفها، وأن عليه أن ينطق بها كالطفل الذي يرى كلبا أو يرى القمر لاول مرّة ؟) (5) . وأعتقد أن الجواب الشافي لتساؤل مانغويل المحيّر هذا هو أن آدم " سمّى " الأشياء لأنه شاعر، هو أول شاعر " تورّط " الله في خلقه، أول من سمّى كل شيء من الموجودات في الكون، وأوّل من " اخترع " اللغة كان شاعرا، وهو العراقي السومري الأول الذي انحدر من صلبه مظفر . وحين تسمّي فأنك تمتلك إمكانات خلق .. تصبح إلها .. ولهذا " مرق " آدم في الجنة لأنه اكتشف المعنى الرمزي الدفين لاسم " شجرة المعرفة " - وليس عفوا أن من معاني الفعل " عرف " في اللغة المواقعة الجنسية -، فبعد أن " عرف " آدم الأسماء، " تعرّف " إلى حوّائه، معشوقته رغم وجود السلطة الكونية المعاقبة فوق رأسه، أحسّ أن وجود إلهين في الجنة أمر مستحيل . يقول نابليون : " قائد سيء واحد، أفضل من قائدين جيدين "، وتحكي إحدى الأساطير الإغريقية عن شخص مات لأن إلهين أحبّاه !!. ومظفر من نمط هذا الشخص الممتحن مع فارق أن أكثر من إلهين أحبّوه . وهي تورية عن القدرة التعرّضية لدى الشاعر على أن " يُسمّي " الأشياء " بأسمائها، وخصوصا كشف الأصل الجنسي للمسمّيات المخاتلة :

(وآنه فارش حضني .. أنطر

 بلكي نسمة ليل تلعب بيچ ..

 وتصيرين حصتي

 وگبل ما تملي شليلي ...

 وگلبچ أيام المطر ...)

نعود الآن إلى لعبة الإيهام، مراوحة بين الإبعاد اللامبرّر، والتقريب الموغل في الإفراط . لقد انكشفت خدعة : " إحنه عصفورين .. لمّينه الوكت حجرة عرس ... والنومة يمّچ دفو حضره "، فلم نعد تأسرنا " دگة " يد الشاعر بنهد حبيبته، مادام

 

قد تعرّى من فروسيته الجنسية وظهر الآن وهو يتوسل بالنسمة الليلية كي تتلاعب برغبات الحبيبة العصيّة على المنال وتلقيها في أحضانه . لكن الشاعر الذي " يُسمّي " بقدرة إله يتلاعب بنا من جديد حين يتحدث عن زفّة الشناشيل وكأننا نبدأ من نقطة صفر الشهوة بعد أن سار بنا، مغيّبين، في طريق متاهة طويل نسبيا - ليس أطول من الإقتباس التوضيحي الذي قدمناه – خدعنا أنفسنا فيه بالإشباع الخادع، خادع لكنه منعش ومفعم بالغبطة :

(زفّة شناشيل ...

 وآنه وياچ ...

 ختّيله بحجرة النوم

 مخاديد ودواشگ .. وظلمة ...

 الظلمة حلوه ...

 الظلمه ما تترك أثر .. )

إننا في هذه الرجعة نكون كمن يمارس مرحلة " اللذة التمهيدية " التي تسبق " اللذة النهائية " في العملية الجنسية، ولكن بصيغة مضافة ومضاعفة رغم جوهرها " التكراري " السرّاني الذي يجري عادة من وراء أستار ظلمة الرغبة المسمومة . لكننا أُدخلنا الآن - بتعمد الشاعر - في مركز دائرة المشهد المكشوف، نحن مع الشاعر وحبيبته وهما يختلان في حجرة النوم .. هذه العودة التي قد تبدو حركة فنّية بسيطة، هي في حقيقتها تعبير عن واحدة من بين أهم سمات الثورة النوابية وتتمثل في المسار السردي اللولبي الذي اخترعه الشاعر . فقد كان الشاعر القديم " مستقيما "، " يحكي " حكاية قصيدته وفق مسار أفقي " يزحف " على مستوى مسطّح يوصل إلى البلادة الاستقبالية والتحليلية ويطفيء شحنة الترقب الملتهبة . مع النواب ظهر السرد الّلاخطي الذي لا يطفيء الملاحقة الفضولية، بل يشعلها، ظهرت تقنية السرد اللولبي التي يعود فيها إلى الموضوعة التي تناولها من جديد ولكن من مستوى أعلى . يتضح هذا بصورة جلية في قصيدة " نگّضني " والتي تناولناها قبل قليل . لكن هناك تقنية " الفلاش باك - flashback " أو الإسترجاع التي لم تكن معروفة في القصيدة العامية إلّا وفق الصيغة الظرفية الماضية التي تعبّر عنها صيغة " كنّا " التقليدية التي تعيد ولا تستعيد . إن خير ما يعبّر عن هذا المنجز النوابي الباهر هو قصيدة " جنح اغنيدة " التي كتبها عام 1964 وقدّم لها بقوله : "

 

عن الأيام التي لا تمر مرة أخرى "، ولكن الشاعر " خالق "، يحيي ويستدعي ما مات من الأيام التي لا تمر مرة أخرى، وأجد من المناسب أن أنقل مقطعا كاملا من القصيدة يتحدث فيه الشاعر عن ذكريات طفولته بعد أن كبر هو ورفاقه في (الحفرة - سجن ومنفى نقرة السلمان الرهيب) ورجعوا إلى أهاليهم تنقط ثيابهم محبة وطينا – لاحظ من جديد الروح التفاؤلية لدى الشاعر - :

(يغنيده أمس، يا حلوة الحلوات، صار العمر طوفة طين

 وغفّينه ولگينه الدرب والسمّاگ وقمر الدين

 نتختل وره النسوان والشيّاب

 وندگ المحلة باب بباب

 يا أول جرس أرعن نتل فرحة وكاحتنه

 كُبرنه سنين

يا أول جرس .. انتلني .. انتلني

 لغنيده أمس، للضحكه رد لي جناحي ..

 رجّعني

وتغيب الشمس خضره على محجّر الجوارين

 وألمح عمّتي من ابعيد، وتضمني بعبايتهه

 وأحس البيت

 - عمّه الشمس ماتت، وانته ما ردّيت

 - عمّه الشمس ماتت، وآنه ما ردّيت ..........)

هنا نلاحظ أن السرد الشعري ليس خطّيا، وأن الأزمان تتداخل من ارتداد إلى ماضي الطفولة من حاضر الرشد المحبط، فعودة لحظية إلى نداءات الحاضر ثم استعادة شقاوة الصغار فعودة مربكة إلى الفقدان حيث نداء مزدوج من العمة والشاعر عن الغياب الفاجع . ويتمثل جانب آخر من الإرباك الذي يسببه السرد اللاخطي في نسيان القاريء التحقيق في معنى دعوة الشاعر الساخنة للجرس الأول

 

بأن يصعقه مرارا وتكرارا لأن الطلب قد تشكّل عبر نداء الشاعر في زمن خيبته المدوّية التي تصل أشد مستويات قساوتها حين يصف الشمس بأنها ماتت ولا يقول غابت . وفي هذه القصيدة " زفّة شناشيل " يتضح هذا الابتكار السردي بصورة واثقة، مثلما يتوهّج الميل الجنسي - الحسّي - لا التناسلي - الذي تلعبه الكلمات والذي يثبت أن أصل اللغة هو الجنس، في المقطع الذي يحوّل فيه الشاعر مفردة " شيكمشچ " إلى " التكمكش "، والأخيرة هي مقلوب الأولى النفسي في الواقع، فهنا الرهاوة مقابل العجز المندهش، وكل ذلك يتم في الظلام .. الظلام المتواطيء مع يد المحب بحركتها اللصوصية الماهرة :

(والتكمكش حلو يا حبيبة

 واذا لگيتچ أكمشچ ...

 وأرجع من أول أكمكش

 آنه يعجبني التكمكش ....

 والتكمكش حلو يا حبيبه ....)

إن هذا التفعيل الحسّي " المنضبط " والمحسوب لم يكن الشاعر القديم يجرأ على إعلانه بهذه الطريقة الشعرية، كان يتحرج لأنه لا يعرف سوى الطريق " المستقيمة " التي تكبح جماحها القيود الدينية والضوابط الاجتماعية القامعة ولا يستطيع الالتفاف عليها لأنه لم يستطع فهم أن رمزية شعرية " جنسية " جمالية مموّهة يمكن أن تُشتق من التركيبات العضوية العملية والتعبيرية للفعل الحسي الأصلي المنبوذ . لم يكن يدرك أن أي شيء يمكن أن يوظّفه الشاعر كأداة وموضوع لإشباع رغبته، وشحنه بالمعاني الجنسية الملتهبة . هناك فنانون – ومنذ أزمان قديمة – أدركوا روعة مثل هذه الإمكانية، إمكانية أن يحصل إشباع للرغبة الجنسية من خلال اللعب الرمزي والشعري، إشباع غير مرتبط بصورة مباشرة بالعمليات الفيزيولوجية أو بالمكونات العضوية للأعضاء التناسلية . تقول شاعرة سومرية حوالي 1700 قبل الميلاد :

(أنا في طريقي إلى زوجي اليافع

 سوف أصير التفاحة

 المعلّقة على الغصن

 

 موشّحة الساق

 ببشرتي الغضّة ..)

 أي أن التوهج الجنسي للمعشوقة يمكن أن يتجسد في (تفّاحة) يتغزل الشعراء بتفاح الخدين) .. أو في ثمرة المشمش كما فعل النواب . النواب هو الذي أدخل حسّية الطبيعة ورمزيّتها الجنسية في القصيدة العامية . فـ " في نظر الصوفي، يتمثل الكون بأكمله كشيء جنسي، والجسد بأكمله هو موضوع اللذة الجنسية . ويمكن قول الشيء ذاته بصدد كل كائن بشري يتبيّن له بأن القضيب والبظر ليسا الموضعين الوحيدين للّذة، بل اليدان والشرج والفم والشعر وباطن القدمين، وكل بوصة في أجسامنا المدهشة . فما يوقظ الحواس ماديا وذهنيا ويفتح أمامنا ما كان ويليام بليك يطلق عليه اسم " أبواب الفردوس " يظل دائما غائم الملامح، ولمّا كنا جميعا ينتهي بنا الأمر إلى اكتشافه،فهذا يرتبط على الدوام بالشكل الذي تتخذه قوانينه وهي ما لا نعلم عنه أي شيء . فنحن نعترف بأننا نحب امرأة، رجلا، طفلا،، فلماذا لا نعترف بحب غزالة، حجرة، حذاء، السماء المعتمة ؟ . في " نساء عاشقات " لمؤلفه (د. هـ . لورنس)، يكون موضوع رغبة روبير بيركان، النمو النباتي : (التمدّد والتغلّب على الطراوة الدبقة للسوسن الغض، النوم منبطحا وتغطية الظهر بأضاميم من العشب الرهو الرطب، الناعم والأرق والأجمل من مداعبة أية امرأة، ومن بعد ذلك، وخز الخاصرة بالإبر القاتمة النابضة بالحياة في شجر الصنوبر، ومن بعد ذلك، الإحساس فوق الكتفين بخبطات السوط الخفيف للعشب المتطاول، الواخز هو أيضا . ومن بعد ذلك احتضان الجذع الفضي لشجرة بتولة، نعومتها، صلابتها، عقدها، تموّجاتها الحيّة – كان ذلك لذيذا، كان ذلك لذيذا جدا، كل ذلك يعطي الرضى الشديد) ... وقد جعل فنانون آخرون الإيروس شجرة أو منديلا أو قطة أو دبّا ... حتى الرأس المقطوع لمن نحب يمكن أن يصبح مادة جنسية، كما هو الحال مع ستاندال في " الأحمر والأسود "، حين جعل ماتيلد تستعيد جثمان جوليان سوريل بعد إعدامه بالمقصلة : (سمع ماتيلد تمشي بسرعة واضطراب في غرفة النوم، كانت منهمكة باشعال عدد من الشموع، وعندما واتت فوكيه القوّة كي ينظر إليها، تبيّن بأنها كانت قد وضعت على منضدة صغيرة من الرخام، أمامها، رأس جوليان، وراحت تقبّل جبينه) (6) . وببساطة، وباختصار، فإن الشاعر القديم لم يكن يعرف كيف " يكمكش " !! أمّا مظفر فلا يتردد في أن يسقط انفعالاته الغرامية والجنسية على حيوان بسيط مثل " الديك " :

 

(ديچ أبو العرفين

 ومحجّل حِجل حُبي

 علامه

يفرش الجنحين لو شافچ

 من الفرحه

 ويشمر الشوگ گامه

امگابل أنه ديچي

 يا حبيبه

 نلگطچ شامه .. شامه

آنه يا حبيبه

 فحل

 وأعرف سواليف الفخاتي ..)

ثم يقدم تشبيها أنثويا حسّيل يقطر شهوة لكن مضمرة ومتحايلة :

(إنت مسبوچه سبچ

 للّيل

 والهيلات مشگوكه

 دِفو ...

 وضيگ ..

 ووسامه ..)

ثم " تنتصب " قامته التعبيرية بعنفوان رجولي شامخ يتعهد فيه لحبيبته أن يتحوّل معها إلى ماء وورد – وليس بعيدا عن أذهاننا التعبير الشائع عن ماء الرجل -، لكن ماء مظفر كاف لكي يسقي صحراء " تهامه " – وبالمناسبة مفردة تهامه

 

مأخوذة من اسم الأم العراقية الأسطورية الأولى " تعامه " التي شقّها الإله " مردوخ " الإبن إلى نصفين، كالصدفه، صنع من نصفها الأعلى السماء، ومن نصفها الأسفل الأرض، ومن ثدييها الرافدين العظيمين - :

(بيّ حيل اوياچ أصيرن

 ماي ..

 اورد

 أكتل جويريد .... ومامش كل برد

بيّ حيل أسگي " تهامه " ....)

ومع وصولنا تخوم " الذروة " النهائية، واقتراب فعل السقي الوشيك - والنواب صانع أمهر - يحوّل الشاعر ديك حبّه ذا العرفين الذي كان يفرش جناحيه فرحا وينتفخ في مشيته الطاووسية الذكورية أمام أنثاه، ويستعرض أمامها معرفته بأحوال وسوالف وألعاب الفاختات بصفته فحلا محترفا، مع بلوغنا عتبة اللذة " النهائية " يحوّل مظفر " ديكه " – ديچي - الذي كان يختال على الأرض إلى طير ينقذف نحو السماء مبتهجا، وينقلب في حركة دورانية - عدنا إلى الدائرة كرمز للأنثى كيانا وأعضاء – على ذاته في الأعالي من شدة غرامه وغبطته :

(طير أبو الكعكوله

 ومحجّل حِجل

 حبّي، علامه

 حطّت طيور المحله

 وهوّه ...

 يگلب من غرامه)

وفوق ذلك فإن مظفر " عالم نفس " يدرك : أن الرغبة السهلة مبتذلة، وأن الرغبة المعطلة والمعاقة والتي تواجهها الحواجز تشتعل وتهتاج ويكون إشباعها عجيبا وفائقا . إنه السر نفسه وراء خرق المحظور من قبل آدم وحواء، أو من قبل أبطال ألف ليلة وليلة الذين يفتحون " الغرفة المحرّمة " رغم كل التحذيرات التي تُعطى

 

لهم فتحل عليهم اللعنة . و " التكمكش " يعني مشقّة بحث وعناء انتظار ونشوة ظفر، وهذا الموقف لا يبقيه مظفر في حدوده الأرضية، فهو محكوم بـ " الرؤيا " التي تقود الشاعر في إبداعه، الرؤيا الفكرية التي تقف خلف فعله الشعري، بل يوسّعه ويحوّله إلى موقف " فلسفي " عام من الحياة، يرتبط بالموقف من الألم وأهميته في الوجود البشري من خلال صلته باللذة . يضع الشاعر موقفه الفلسفي في صورة معادلة شعرية هائلة الإحكام والدلالات :

(آنه يعجبني أدوّر ..

 عالگمر بالغيم

 ما حِب الگمر كلّش گمر ...)

ولكن من أي مدخل وصلنا إلى الموقف الفلسفي هذا ؟ لقد وصلناه من مدخل " التكمكش " الجنسي . وهذا يوضحه موقف (وليام كارترايت الملفع بالغموض والتعمية والذي كتب في القرن السابع عشر – the royal slave - الرقيق الملكي - فيستحق وقفة تذكّر إعجابا بالأبيات التالية التي تعيد الحب الروحاني إلى مصدره الصحيح - وهو يتفق في المآل النهائي مع تحليلات فرانوا الابن التي اقتبستها سابقا، الناقد - :

(فعلت تلك الحماقة التي انتهت ذات يوم

 إلى ممارسة ذلك " الحب " الهزيل

 فمضيت صاعدا من الجنس إلى النفس، ومن النفس إلى الروح

 لكني هناك، لدى رغبتي بالتحرّك

 دحرجت رأسي أولا من الروح إلى النفس، ومن بعدها

من النفس رجعت أدراجي إلى الجنس ...) (7)

هذه هي الطريق الدائرية – وليست المستقيمة – ذات الممرين النفسيين الإنفعاليين الغريزيين المبيتين سما ومكرا . ولقد كان الإمام علي بن ابي طالب يقول : لو كان الدين يؤخذ بالمنطق لكان مسح باطن القدم أوجب من مسح ظاهرها . إبحث دائما عن الرغبة ولا تخدعنك اللبوسات النظرية والفكرية والفلسفية . الإنسان كما يقول معلم فيينا " كائن تبريري وليس كائنا منطقيا "، تحاصره رغباته وتمزقه شهواته

 

فيجد لها تخريجا فكريا أو تصريفا فلسفيا، وإلا كيف نفسّر نظرية أرسطو في أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل ولم يفكر لحظة واحدة في حساب عدد أسنان واحدة من زوجتيه ؟ ويمكننا أن نضع قسما كبيرا من سحر الشعر في هذا الإطار النظري الذي رسمه النواب، ويتمثل في العناء المُسر والمشقة الباذخة التي تفرضها ضغوط الغريزة فيلبسها الشاعر أبهى الأثواب الجمالية والفكرية وحتى الفلسفية . هذا الإطار المهم الذي سيعود الشاعر منه إلى مرجعه الحسّي، لنتأكد أن العلاقة بين ما هو حسّي وما هو نظري وفلسفي هي أشبه بطريق دائري ذي ممرين . يعود الشاعر هابطا من علياء التنظير الفلسفي المحلّق إلى أرضية " التكمكش " في حقل جسد الحبيبة البستاني الذي أينما مدّ يده و " تكمكش " فستعود مثقلة بآيات عطايا الطبيعة الجسدية الأنثوية، ثمار وأزهار وعنبر وطيور وأقمار . والمقطع التالي يجب أن يؤرخ له في تاريخ الشعر العامي العراقي - :

(منين أجيسچ ...

 تاخذ الختلات روحي

 ألگه عنبر ... ألگه مشمش ...

 ألگه غرنوگين يصلّن

 ألگه شي ساكت مثل فرخ الحبر ...

 ألگه شي ضايع نهر)

هنا لن تأخذ من النواب حقّا شعريا أبدا، ولن تأخذ باطلا حسّيا إطلاقا، ستأخذ عصير " التركيب " الجمالي المُسكر الناتج عن انسراب " أطروحة " الشهوة في أوصال " طباق " العقل التبريري، هذا التركيب الذي تشكّله مطرقة فكر الشاعر الجسور المراوغ،على سندان الغريزة الصبور المعاند، إن " يد النواب تكتشف " زهرات بتولات، وثمرات بكر في حجرة العرس، أين ستجد الطيرين (الغرنوقين) الأبيضين اللذين انشغلا بالصلاة (وهنا عودة تحرّشية مباركة أخرى) ؟.. أين يكمن طير الحبر (الأسود الملموم بنعومة)، والشيء الضائع الذي يشبه النهر ؟ في أي مكان من جسد الحبيبة ؟ ولا يظنن أحد أن ابتكار النواب الثوري هذا هو منجز يسير في الثقافة العراقية . إنه ثورة جذرية مضافة خرقت قيودا تأسست لقرون طويلة . حتى الجواهري لم يستطع التمويه والإيهام وفق الرمزية الحسّية.. كان في أغلب الأحوال، وهذا من مزاجه العنيف حيث قال في لقائه الشهير

 

بالدكتور علي جواد الطاهر : أن أهم صفة في الشاعر هو العنف . كان اقتحاميا، بل انتحاريا رمى عمامته في الكُناسة كما يقول في قصائده، وبدأ يعب من حوض اللذة مباشرة وبلا وسائط وممهدات حدّ الاختناق . خذ قصيدة " النزغة – ليلة من ليالي الشباب " أو " جرّبيني " أو " عريانة " أو " بديعة " وغيرها من القصائد التي نظمها في بدايات حياته الشعرية إذا قارنّا بدايتي الشاعرين . ديك الجواهري لا يحتاج لمرحلة تمهيدية يستعرض فيها أجنحته وريشه الملوّن، فلا وقت لديه لمثل هذه المقدمات الضائعة، ديك الجواهري يأتي لـ " يفعل " لا ليستعرض، وليس بحاجة لأن " يگلب " في السماء مبتهجا بعد أن ينهي فعله، إنه يخلّص شغلته ويمشي . لكن النوّاب، على العكس من ذلك، صبور ومتأن، وهذا مرتبط بمزاجه الشخصي أيضا . إن متعته تكمن في البحث، في " التكمكش "، في الحركات التمهيدية، في " اللذة التمهيدية " الجمالية، لا في اللذة الختامية رغم أهميتها الجسيمة . فلا مانع لديه من أن يبدأ بـ " زفة الشناشيل " ويسير بنا ويصعّد توترنا حتى حافة " ما بعد فوات الأوان " ليعود بنا، متلاعبا بتوترنا العاصف، ويبدأ بـ " زفة الشناشيل " من جديد . وحيث من المفروض أن يصل الشاعر بالمتلقي نقطة الذروة مع ختام القصيدة التي تأتي عنيفة وتفريغية عادة لدى الشعراء الآخرين، نجد النواب يصف، وبهدوء مميت، وبحركة تقسيطية، اللحظة الختامية التي يلتحم فيها بحبيبته، هذا الالتحام الذي يصل حدا من الصفاء الفردوسي أن زقزقة عصفور تخدشه، فيسحب العريسان لحاف الدخلة، وهو الآن بستان أخضر – ولاحظ تشابه البنية الهندسية الأفقية - بستان كامل عامر بكل العطايا بعد أن كانت مفردة : تمر، برحية، مشمشة، طير ... إلخ - كي يغطّيا نفسيهما ويحتميان من الزقزقة المنغصة - فأي نوم رخي هذا !! – وهما اثنان غارقان " في المشمش "، يستعين النواب بالوصف العامي الذي يعني غيبة مخدرة بلا صحوة - :

(اثنين بالمشمش ..

 وإذا العصفور يزقزق فوگ

 نسحب البستان

 نتغطه شهر ...) ولذلك، واتساقا مع الحركة التي تخافت إيقاعها في المقطع السابق الذي عثر فيه - " ألگه " – على كل الأشياء في وضعيتها الساكنة : الغرنوقين المصليين، فرخ الحبر الصامت ... وكأنها مرحلة انتقالية تمهّد للنوم، مرحلة خدشتها زقزقة

 

العصفور .. اتساقا وانتهاء بكل ذلك، نجد الشاعر يحوّل - في عودة مدروسة إلى استهلال القصيدة - الصخب العارم الذي يجتاح الزفّة والدرب – العگد والذي يصعّده الدفّ، إلى صمت، وليس إلى هياج تفرضه اللذة الختامية كما هو متوقع، ولكن تحت غطاء هذا الصمت المهيمن تتم " العملية " التي تتطلب حصانا يطارد القمر وماء منعشا .. وعناق ملامسة حييّة بين العذوق – العثگ والنهر . تأتي الحركة الانفعالية النهائية " ناعمة " يبشّر بها المطر المقبل الذي يعلن مجيئه الشاعر بحركة مفرحة تنبيء بقدوم الغبطة الكونية :

(صنطه الشناشيل ..

 صنطه العگد ..

 نام الدف على مخاديد الجوارين

وحصان العمر مسرع

 وره الگمره عبر

 گنطره وماي وگمر ..

 گنطره ونوم

 وعثگ جاس النهر

گنطره ... گنطره جانه المطر ............)

 

 ......................

هوامش :

(1)و(2) الشعر ونهايات القرن – أوكتافيو باث – ترجمة ممدوح عدوان – دار المدى – 2001 .

(3)سيكولوجية الإبداع – يوسف ميخائيل أسعد – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1986.

(4)طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية – رولان دالبير – ترجمة د. حافظ الجمالي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – ط/1- 1983.

(5)و(6)و(7)في غابة المرآة، دراسات عن الكلمات والعالم – ألبيرتو مانغويل – ترجمة سلمان حرفوش – مراجعة د. فيصل دراج – دار كنعان – دمشق – 2006.

 

............................

 

 

 

في المثقف اليوم