قضايا وآراء

انتحار الأمهات! / قاسم حسين صالح

ومثل هكذا خبر يمكن أن  يكون عاديا اذا كانت الأم تعاني من مرض نفسي حاد أو خلل عقلي،  لكن ان تقتل نفسها بسبب الوضع المأساوي الذي يعيشه اطفالها،  فالأمر مختلف ويجب التوقف عنده لتحليل اسبابه.

ان اعز ما لدى الام هو اطفالها،  وهي الوحيدة بين البشر التي تضحّي بحياتها من اجلهم..وتبدو بعض حالات هذه التضحية موقفا شخصيا،  فقد احتضنت أم طفلها لتحميه من سقوط سقف الدار عليها حين اصابه صاروخ..لكنها تختلف تماما في حالات انتحار بعض الامهات التي حدثت مؤخرا،  والسبب ليس موقفا شخصيا بقدر ما نحن جميعا شركاء فيه. فحين ترى الأم اطفالها يتضورون جوعا،  وتعساء.. وحين تكون قد استنفدت كلّ الوسائل لاطعامهم وانتشالهم من بؤسهم،  وحين تنسدّ كلّ ابواب الفرج، وتنطفئ آخر شمعة للأمل..وحين لا يقدّم لها الواقع (الدولة) حلاّ،  ولا تطيق رؤية اطفالها يذبلون ويموتون بطيئا..فأنها تقدم على قتل نفسها.

والانتحار هنا لا يحصل فجأة..بل عبر تراكم احباطات وخيبات تؤدي الى تنامي الشعور باليأس الذي يوصل صاحبه الى العجز التام..وهذا ما حصل لهؤلاء الامهات. فلحظتها تدخل في حوار مع ضميرها المتضخم بالتضحية وبين مسؤوليتها تجاه اطفالها..أو بالأحرى محاكمة بينهما..وبما انها تعترف بعجزها التام لضميرها (الحاكم) فأنه يصدر عليها حكما بقتل نفسها..وتنفذه لأمرين: تبرئة ذمتها من المسؤولية..والاحتجاج ضد من كان السبب. وأذكر هنا حادثة حقيقية وقعت في زمن الحصارعام 95 أو 1996.فقد صعدت أحدى الأمهات جسر الأئمة الذي يربط بين مدينتي الكاظمية والأعظمية في بغداد، وحين وصلت منتصف الجسر رمت بطفليها في نهر دجلة ثم تبعتهما!!..وللسبب نفسه!.

ان مسؤوليتنا العلمية والأخلاقية تدعونا الى ان ننّبه الى ان حالات انتحار بعض الامهات ستبقى ما دام الفقر موجودا، وستزداد كلما ازداد الناس فقرا..وبقت الدولة غير مكترثة بمعالجة الفقر. والمفارقة،  ان دولا عالجت هذه الحالة بتشريعها قانون ضمان اجتماعي،  يمنح بموجبه المواطن راتبا يكفيه الى ان يجد عملا،  فيما العراق الذي يعد ثالث اكبر احتياطي نفطي في العالم (115 مليار برميل) والأغنى نفطيا على الاطلاق (350 مليار برميل) قامت حكومته حدّ البذخ بصرف رواتب وامتيازات خيالية لاعضائها..وتصرفوا كما لو كانوا غير مسؤولين عن شعب هو الذي اوصلهم لحياة الرفاهية..والاقسى انهم لا يكترثون بحياة الاطفال،  فيما المناضل الحقيقي الذي وضع الاطفال في حدقة عينيه أيام النضال، لا يرميهم خلف ظهره حين يجلس على كرسي السلطة، ومثل هكذا مناضل يعدّ زائفا لأنه سعى الى السلطة من أجل الثروة لا من أجل خدمة شعبه ..وأنه يعدّ منافقا أن واصل الادعاء بذلك.

اننا نتوقع ان بعضهم سيردّ ويقول: ان هذه حالات قليلة..وناجمة عن خلل عقلي،  غير ان الناس يدركون ان قولا كهذا هو تبرير لتبرئة انفسهم من جريمة هم طرف فيها..تدمغهم حقيقة أن الأم رمز الصبر وأكثر افراد المجتمع قدرة على التحمّل ..وانه اذا ازدادت نسبة انتحار الأمهات  في المجتمع فهذا يعني أن ما يتعرض له هذا المجتمع من فواجع ومحن وظغوط، لا طاقة لبشر على تحملّها ..وان أصابع الاتهام تؤشّر على السياسيين..بأنهم قتلة الأمهات ايضا!.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1528 الاثنين 27/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم