قضايا وآراء

راعي الآثام الجليلة .. قراءة في نص "سادن الباب الشرقي" للشاعر المبدع سعد الصالحي

فما الذي يستهدفه شاعر النص سعد الصالحي في نصه الموسوم :

سلمان داود محمد (عادة) سادن الباب الشرقي.. ؟ *

قبل الولوج في عالم النص يجب القول : إن ما طرقه سعد ألصالحي من سياق كتابي، قد غاير الدارج بين الشعراء في إهداء النصوص، كون الإهداء كما هو معرف ومعروف، يأتي بعد عنوان النص وهذا لم يكن تماما، وعليه يأخذ النص  على هيئة الرسالة الشعرية  الموجهة إلى مخاطب معروف ومعرّف هو: الشاعر سلمان داود محمد الذي يراه شاعر النص  (سادنا) شعريا كمسؤولية أدبية عالية  لمكان مقدس هو (الباب الشرقي)* في بغداد الذي يحتضن أهم نصيب وطني في العراق هو (نصب التحرير) .

لذلك وفي أول مفصل من النص وضع سعد (الأوامر) كإرسال ابتدائي في خانة (الجمال) برغم وطأة قبحها كأوامر لاتمت إلى الجمال بصلة، وإذا تصورنا هذا الجمال افتراضا، هل نجده بغير الشعر مثلا أو ما يحاكيه أو يماثله روحا وقيمة .. ؟

الأوامر تبقى لاتمثل إلا الجزاء والعقوبة، فالصياغة إذن هي صياغة معنى تلتحق بها  (الكبائر)، بما يتمم المعنى  كهدف . فهل إن شاعر النص من ذوي الكبائر ويتوق إلى إحالة مردودات الفعل ألكبائري بذمة الشاعر السادن .. ؟ ربما ليبقى بمنأى عن الأفعال الانعكاسية لتلك الكبائر من خلال تظليل مخاطبه بمفردة واحدة ذكية تنضوي على الخوف والاستمالة معا بكلمة .. (لاتأبه  ؟!!)  لنقرأ ..

ورد في أوامر القسم الجميل :

إنه أولى الكبائر .. لاتأبه

هذه ليست مماحكة تصويرية لحالة طارئة، بل هي تعبير حقيقي  عن ظاهرة مضارعة للحياة، يعي سعد  دلائلها  في حسية الإطلاق المفعم الذي يتعدى في قصيدته  (السدانة) وتتجاوزها إلى روحية إطفاء الزمن واحترام قدسية المكان . فالناص وبلغة الراهب يحذر مخاطبه في المفصل صراحة من مغبة الإيغال في الكبائر بترميز اللفظ  كاستخدام شعري يحمل حالة التندر على الأشياء والتلاعب بهيئة المفردة بوحا (من الآن فصامتا، يستقدمونك) بدلا من (فصاعدا)،  بهدف تأكيد التحذير ودعوته للصمت بدل الإجهار في قدح المؤسسات الشمولية أو التعرض لها دون سقف واق ونظام يؤمن حرية التعبير ويدافع عنها بحماية المبدع . " بالمناسبة كان الشاعر الكبير سلمان داود محمد مستهدفا دائما بالتصفيه لإعتبارات شعرية ووطنية ..

ومن الآن فصامتا يستقدمونك

وتترك ابن الزبير،يلمع صليبه ب (الدم لوك)

لا أعرف  هنا السبب الذي دفع الناص إلى تجزئة  (الدملوك) هذه المفردة المحلية التي تعني نوع من دهان الأخشاب إلى  (الدم _  لوك) وهي غير  (الدملوك) العربية والتي تعني الحجر الأملس المستدير، كون المعنى سيفضي إلى غير  مدلولاته .

كما إن (ابن الزبير) الذي أشار إليه كرمز ظل ب(صليبه) مبهما وعليه فهناك تلاعب لفظي في بنية تشكيل هذا المقطع لايمتلك مقومات أدائه الشعري الابشفاعة المقطع الذي يليه  "  هذه حقيقة " مؤشرة حتى من قبل الشاعرسلمان داود محمد أيضا..

قالوا : هكذا سترى البحر، بعدما تنتهي الحرب

قلت : لن أرى البحر قط

هنا الجمال قد بلع مقاصد الأداء الشعري بكثافة التكثيف  المعنوي الشاخص، وقد فجرته (لن) اللعينة بفطنة شعرية كبيرة .

وهذا مايفسر بعدين أشبه مايكون بالتناص المجازي إذ (لاسلام بعد الحرب _ولامن حياة لرؤية البحر )، وحالة اليأس هذه لم تكن وليدة زمن محدد،  بل هي حالة ملازمة لمن عانى حربين شرستين  "في الخليج " وثالثة آلت إلى الاحتلال والضياع .

الأكيد في السياق الخطابي للنص .. إن الشاعر كان يشير إلى مخاطب محدد (السادن) بينما أحال الإرسال إلى لسانه كمنشئ ليتولى البوح في استرسال أجمل  

كنت أحلم في غياب الرائحة بالقرفصاء

بعدما صرت، لا أصلح " للعادة سر "

فما هي تلك الرائحة التي يحلم بها .. ؟ .

هي دون أدنى شك رائحة مخلفات الحروب كالحرائق والأشلاء والذكريات التي تدفع عن ما  تبقى للذات من حواس وأعضاء،  وأولها أدوات الأفعال الحياتية كمؤديات  (الأصابع) بعدما أسقط صلاحيته للعمل العسكري، باستحالة المسير وفق الإيعاز العسكري المعروف (عادة سر) : إذ انه ظل  منشغلا ومشغولا في البحث عن متبقياته  لذلك يقول  ..

لأبحث عن أصابعي

في مواقع جمع القصائد

وعلى ما يبدو إن لا فرق بين (جمع القصائد أو جمع الخسائر) في المواقع كتأكيد لصفة المنشئ والمخاطب كشاعرين . فالقصائد هي خسرانات الشاعر الدائمة ف(الحرب =الشعر) و(الخسائر = القصائد) والحلم سيظل بعيدا  (عن رؤية البحر)وهذا هو بعده النائي خلف الحجابات الشعورية التي تحمل التمني كنقطة بارزة في جسد اليأس المرهون بالحرب، فلا (حلم بالقرفصاء) وال  (عادة سر) إيعاز سلبي يعري (الأوامر (وما يتصل بها من  (كبائر) إ.. فلم يعد (السادن) صالحا لأية خدمة ولاحتى للأفعال الخفية،  ربما وهذا ما يرسخ ظاهرة (العوق) البائنة بعد الحرب .

لا أقصد إني نصف معاق

بيد إن النكهة

تلمس في أجزاء في هذا التنحل

النكهة،كما أرى هي محسوسة كفعل لاشعوري غائب وهذا ما يجعله يتلمس خدرا في طرف مقطوعة، كإحساس قد يسبق الإحساس بالأعضاء الباقية له، كالذي يفقد طفلا ويشعر بوجوده بين إخوته، بل ويسبقهم إلى قلبه،  وجدا وقربا و(التنحل) هذا يقودنا إلى مفضيات معنى أوسع، تلك المتعلقة بشوق الأعضاء الباقية إلى أخواتها ليكمل بعضها البعض كتعبير عن ذواتها كما تتمنى أن تؤدي أفعالها بعاطفة استثنائية متبادلة، كإن تلامس أطراف الأصابع أوتار آلة موسيقية على حد بوح النص .

وربما بعد أوتار،

سأطلق من قيثاري إبهاما،

يشير إلى آخر يسار الجسد

تلك إشارة واضحة كاهتمام الناص كعازف لأحدى آلات الموسيقية، حين يمسك (زند ) الآلة الموسيقية لتؤدي الأصابع واجبها على الأوتار في العزف، فيتحول الملموس إلى محسوس في الإفصاح عن التكامل الفعلي والضمني في تعويض المفتقدات .

فما هي وظيفة الإبهام المطلقة .. ؟ .

إنه يشير إلى أجزاء معاقة، لكنه ما فتيء هو على قيد الحراك، وتلك هي غصته، وبعد، اكتمال الصورة لجماليات النص يطلق سعدي الصالحي جملته الصارخة كآخر صوت له، الذي فجر (فاؤها) المعنى

 فتتساقط  الأصنام .

بلا فأس .. أعلقها،

على عنق احد احد

الذي يتأمل هذا المفصل الأخير فإنه أشبه ما يكون  بالمشهد السينمي المقروء بصريا، والمعمق روحيا بالموروث وبشكل معكوس تماما، إذ كان المسلمون الأوائل يموتون من اجل كلمة التوحيد ب (احد احد) بيد أن الناص يساقط الأصنام متدلية على (عنق احد احد) وهذا بون فلسفي عبر التلاعب بالنسق التعبيري  .. أراد به الناص الإثارة القرائية والمعنى وأجده تكريسا لزعامة المتبوع (الأوحد) في الحكم، المسبب الوحيد لمآسي الحروب كشاهدة جرم واحتجاج في إن واحد، ولنا في استدراك البوح كأضحية حين يقول ..

أطوف بنصف شاعر

وتلك خطيئة الماء

"متفق عليه "

أخيرا،ماهي (خطيئة الماء) بعد (أطوف بنصف شاعر) وما الذي (متفق عليه) ؟ الماء قبل كل شيء (سبب كل شيء حي) وهو أيضا سبب الكوارث والغرق . خطيئته الأولى كسبب لحياة يلخصه بيت شعري قديم جدا اجهل قائله ..

ألمي مني ففي الوادي جريت           نبت العود وفي النار اكتويت

وخطيئته الثانية  الغرق والطوفان، أما (متفق عليه) العائدة إلى (عادة) فهي بعض  لغز النص في احتمالات التأويل .

شكرا للشاعر سعد الصالحي على نصه الجميل .

 

للاطلاع:

سادن الباب الشرقي للدكتور سعد الصالحي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1528 الاثنين 27/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم