قضايا وآراء

العرب وكيمياء الذهب (المثلّث الذهبي) (1-3)/ عدنان الظاهر

وواصل هذا العلم نهجه ومسيرته من ثُمَّ في مدينة الإسكندرية أيامَ أنْ حكمَ اليونان والرومان مصر. وإستمرت شهرة مدرسة الإسكندرية حتى الفتح الإسلامي لمصر عام 624 الميلادي.

 يرجع تأريخ الكيمياء (1) (إلى نحو ثلاثة آلاف أو يزيد من السنين قبل الميلاد. وأنَّ الحضارات التي يُستوحى منها شيء عن الكيمياء وكيفية نشوئها كانت حضارة مصر القديمة، حيث نشأت صناعات عديدة أهمها صناعة التعدين وعلى الأخص تعدين المعادن الثمينة وفي مقدمتها الذهب وكان يقومُ بها الكهنةُ داخل المعابد حِفْظاً على أسرارها).

لذا لا نستبعد أن تكون كلمة كيمياء مشتقة أصلاً من الكلمة المصرية القديمة " كَمي أو خَمي " التي تعني التراب الأسود (2). أو كما يقول باحثون آخرون أنها مشتقة من " كيم أو كِمْتْ " المصرية القديمة التي تعني التربة السوداء (3).

يقول إبن النديم في الفهرست (4) (… زعم أهل صناعة الكيمياء وهي صناعة الذهب والفضة من غير معادنها أنَّ أولَ من تكلم على علم الصنعة هرمس الحكيم البابلي المنتقل إلى مصر عند إفتراق الناس عن بابل. وكان حكيماً فيلسوفاً وأنَّ الصنعة صحّتْ له وله في ذلك عدّة كتب. وقد قيل إنَّ ذلك قبل هرمس بأُلوف السنين على مذهب أهل القِدَم). وفي موضع آخر قال إبن النديم (5) (والكتب المؤلفة في هذا الشأن- الكيمياء - أكثر وأعظم من أنْ تُحصى لأنَّ المؤلفين لها تنحّلوها عنهم. ولأهل مصر في هذا الأمر مصنِّفون وعلماء. والبرابي المعروفة وهي بيوت الحكمة وماريّة القبطية من بلاد مصر).

لكن إبن النديم (5) يعود ليقول (… وقيل أنَّ أصل الكلام في الصنعة للفُرْس الأُوَل. وقيل أول من تكلّمَ عليه اليونانيون وقيل الهند وقيل الصين والله أعلم).

أما " تيلر " الذي تكلّمَ عن صناعة الإكسير الذي يُطيل الحياة، وهو أمر يدخل في صميم صناعة الكيمياء، فقد قال (6) (…إنَّ موضوع إكتشاف إكسير الحياة فكرة موجودة في الأدب الهندي قبل الميلاد بما يزيد على الألف سنة. وربما إنتقلت إليهم هذه الصنعة عن طريق الصين. إذ إهتمَّ الصينيون بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. إلاّ أنَّ إهتمامهم الأكبر كان نحو إكتشاف إكسير الحياة الذي يُطيلُ العمر).

لقد أكثر الباحثون في تأريخ الكيمياء من ذكر هرمس فأطلقوا عليه لقب الحكيم البابلي مرّةً، وهرمس المثلّث بالنعمة والمثلت بالحكمة وهرمس الهرامسة مرّاتٍ أُخَرَ. كما يعتبره صابئة حرّان المندائيون أحد حكمائهم المقدسين ويطلقون عليه إسم الكوكب عطارد. وله هيكل في حرّان على شكل مثلّث في جوفه مربع مستطيل (7). ويحسبون أن هرمس هذا هو إدريس (أو إخنوخ) الذي يشغل الموقع السابع في تسلسل ذرية آدم طبقاً لسفر التكوين من العهد القديم (8). فإذا ما كان الأمركذلك فلسوف يختلف هذا الهرمس

(إدريس) عن الحكيم البابلي والكيمياوي القديم هرمس الذي هاجر إلى مصر بعد تفرّق الناس عن بابل (قبل أو بعد الميلاد؟؟ !!). وعن هرمس هذا يذكر إبن النديم في الفهرست (9) أن الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي كان قد إطَّلع على كتاب يُقرُّ به الحرنانيون الكلدانيون المعروفون بالصابة (الصابئة الحرانيون)، وهو عبارة عن مقالات في التوحيد كتبها هرمس لإبنه. وأن مشاهير وأعلام هؤلاء القوم (9) هم " أراني وأغاثاذيمون وهرميس وبعضهم يذكر سولون جد أفلاطون الفيلسوف لأُمّهِ ". أما البيروني (10) فيتطرق هو الآخر إلى ذكر الصابئة الحرّانية الذين ينتمون إلى آنوش بن شيث بن آدم

(الذين هم بقايا أهل الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصّر الروم اليونانيين، وينتسبون إلى أغاذيمون وهرمس وواليس ومابا وسوار ويتدينون بنبوّتهم ونبوّة أمثالهم من الحكماء…).

إذن فهرمس الحكيم التوحيدي هذا والنور الروحاني الخالص - حسب معتقدات الصابئة المندائية - ومن ثم الكيمياوي المعروف لشديد الإرتباط بالصابئة (المندائيين) بفرعيهم البابلي والحرّاني. قد لا يكون الرجل بالضرورة مندائياً، لكنه ربما كان حنيفياً وغنوصياً ومن ثم تأثر بعد هجرته إلى مصر بأقباطها ولاسيما(الشيثيين منهم، أتباع شيث إبن آدم). عندئذٍ سوف لن يكون هرمس هذا هو هرمس الذي ترك موطنه بابل عند تفرّق الناس عنها.

يزيد الأمر تعقيداً ما ذكره إبن النديم (4) (… ذِكرُ هِرمس البابلي: قد أُختلفَ في أمره، فقيل إنه كان أحد السبعة السدنة الذين رُتِبوا لحفظ البيوت السبعة. وأنه كان إليه بيت عطارد وبإسمه يُسمّى. فإن عطارد باللغة الكلدانية هرمس. وقد إنتقل إلى أرض مصر بأسباب وإنه ملكها وكان له أولاد عدّة، وإنه كان حكيم زمانه).

في كتابه تأريخ الأدب العربي (11) يذكر كارل بروكلمان أهل مدينة حَرّان الساميين الوثنيين وتأثرهم بدين هرمس وبالحضارة الأكدية التي إزدهرت في جنوب العراق بعد الحضارة السومرية. (… ووجد العلم اليوناني موطناً ثالثاً في مدينة حرّان بأرض الرافدين. كان سُكّانها على الرغم من البيئة المسيحية الخالصة التي حولهم قد إحتفظوا بوثنيتهم الساميّة القديمة التي تأثرت بدين هرمس تأثراً قوياً. وقد إزدهرتْ فيها بخاصة الدراسات الرياضية والفلكية التي أنبتتها الحضارة الأكدية من قبلُ ثم رعتها الحركة الهلينستية).

قبل أن أُنهي جولتنا في بطون الكتب ومجاهل تأريخ الكيمياء لا أرى بأساً من إضافة معلوماتٍ أُخَرَ عن حكيم بابل هرمس: قال إبن النديم (12) (إنَّ الضحاك بن قي بنى بأرض السواد (بلاد ما بين النهرين، العراق) مدينة إشتّقَ إسمها من إسم الكوكب المُشتري فجمع فيها العلم والعلماء وبنى فيها إثني عشر قصراً على عدد بروج السماء وسمّاها بأسمائها وخزّنَ كتب أهل العلم وأسكنها العلماء. ثم بنى سبعة بيوت على عدد الكواكب السبعة، وجعل كل بيت منها إلى رجل فجعل بيت عطارد إلى هرمس…، وكان فيها عالم يُقال له هرمس، وكان من أكملهم عقلاً وأصوبهم عِلماً وألطفهم نظراً فسقط إلى أرض مصر فملك أهلها وعمّرَ أرضها وأصلح أحوال سكانها وأظهر علمه فيها. وبقيَ جُلُّ ذلك وأكثرهُ ببابل إلى أن خرج الإسكندر ملك اليونانيين غازياً أرض فارس من مدينة للروم يُقال لها مقدونية).

فهل كان هرمس البابلي النازح إلى مصر معاصراً للأسكندر المقدوني؟؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، أيجوز التكهن أن الإسكندر حين فتح العراق وزار بابل كان قد أغرى هرمس، حكيم بابل، أن يرحل إلى مصر لكي ينشر دينه وعلمه في أوساط المصريين والجالية الإغريقية هناك ولا سيما في مدينةالإسكندرية التي تحمل إسمه؟؟ توفي الإسكندر في بابل عام 323 قبل الميلاد. (يُراجع حول هذا الموضوع الفصل الخامس من المصدر الثامن).

 

يُدرِج إبنُ النديم (13) قائمةً بأسماء كتب هرمس (في الصنعة) كما يلي:

كتاب هرمس إلى إبنه في الصنعة. كتاب الذهب السائل. كتاب إلى طاط (إبن هرمس) في الصنعة. كتاب عمل العنقود. كتاب الأسرار. كتاب الهاريطوس. كتاب الملاطيس. كتاب الأسطماخس. كتاب السلماطيس. كتاب أرمينس تلميذ هرمس. كتاب نيلادس تلميذ هرمس في رأي هرمس. كتاب الأدخيقي (كذا ورد في الفهرست). كتاب دمانوس لهرمس.

 

2 - هرمس وقراطس

يُعلّق الأستاذ الدكتور محمد يحيى الهاشمي (14) أهمية كبيرة على كتاب يدعوه (كتاب القراطيس) الذي نقله هوداس Houdas إلى اللغة الفرنسية ونشره برتلو في كتابه عن الكيمياء في القرون الوسطى M . Berthelot (La Chimie au Moyen, Tom 111,Paris 1893).

ويقول (…وكنا نتمنى الحصول على الأصل العربي لنتبينه وندرسه لأنه في زعمنا من الوثائق الهامّة في تأريخ الكيمياء العربية. ويغلب على ظننا أنه المصدر الأول لهذا العلم في هذا الجزء من العالم).

لحسن الحظ إستطعتُ الحصول على نسخة مصوّرة من هذا الكتاب فإكتشفتُ أن إسمه

- خلافا لكل ما هو معروف عنه – ليس " كتاب القراطيس، جمع قرطاس " وإنما هو

" كتاب قراطس الحكيم ". وقراطس هو إسم شخص يُكتب باللغة الألمانية .KRATES وهذا الإسم كما هو معلوم ليس غريباً على أسماء الإغريق. فنحن نعرف

مثلاً ديمقراطس أو ديمقريطس (ديمو- قراطس) ونعرف أبوقراط (أبو قراطس) ثم

سقراط (سقراطس) وغيرها.

ماذا عن هذا الكتاب الذي يحمل إسم (كتاب قراطس الحكيم) وما علاقته بموضوع هرمس الحكيم؟ سأنقل عن المصدر (14) ما يلي (… مما يقوّي زعمنا بأنَّ الكيمياء عُرِفتْ في القرن الثامن الميلادي الدراسة التي قام بها روسكا Julius Ruska عن علاقة الأمير خالد بن يزيد بن معاوية الأموي بالكيمياء في كتاب نشره بعنوان " كيميائيو

العرب " الجزء الأول، هايدلبرغ 1924 ، ذكر فيه إسم كتاب " القراطيس " قد تُرجِم من اليونانية إلى اللغة العربية…). كما يذكر نفس المؤلف في موضع آخر (15) ما يلي (… كان يعيش في الإسكندرية راهب يُدعى " ماريانوس " كان يشتغل في الكيمياء، وقد سمع به الأمير العربي خالد بن يزيد وإستدعاه إلى دمشق ليتعلم منه الصنعة، وبعد أخذ ورد قَبِلَ هذا الراهبُ المجيء إلى سوريا ليُعلِّمَ خالد الكيمياء، وقام في ترجمة عدة كتب إلى اللغة العربية).

في مصدر آخر (16) نقرأ ما يلي (… ويؤيد ذلك إبن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان، فيذكر بأن خالد كان مُتضلعاً في الكيمياء والطب وله رسائل تدل على ذلك، وأخذ الصنعة عن رجل من الرهبان يُقالُ له مريانوس الراهب الرومي…).

هل نستطيع الإستنتاج أن الراهب الرومي ماريانوس هذا هو من قام حسب طلب خالد بن يزيد بترجمة " كتاب قراطس الحكيم " من اليونانية إلى العربية؟ وما علاقة الكتاب بهرمس؟ الملاحظات التالية تُلقي الضوء على الكثير من الأمور البالغة الدلالة (17):

 

2-1 يبدأ الكتاب بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إهدنا برحمتك) ثم يقول (الحمد لله وله المنّة وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله، هذا فسطار مصر أول من دعا له بالإمرة ثم قال قد بلغني أن الأمير يذكرُ أنه بلغه أنني لم أزل متعيناً بالعمل وأنني قد جمعتُ ما لم يجمع أحد مثله من أهل زماننا…).

ما معنى " فسطار مصر "؟ وهل ذكرَ المترجم ماريانوس الرومي البسملة والحمد مجاملة لخالد بن يزيد المسلم؟ وهل هو المقصود بالأمير؟ جائز، لأنَّ مترجم هذا الكتاب يعود فيذكر على آخر صفحة من الكتاب (الصفحة 33) ما يلي (… فلّما قرأ خالد بن يزيد الكتاب كتبَ إلى الفسطار يُعلِمه أنْ قد بعث إليه بكتاب كان مقروناً في خزانة الكنوز مع كتاب قراطس ويُعلِمه أنَّ هذا الكتاب موجزاً قليلاً (هكذا وردتْ) فإنَّ فيه منافع كثيرة ودليل على كثير من سرِّ الحكمة).

هل أنَّ أمير مصر يومذاك عبد العزيز بن مروان هو الفسطار؟

لقد وقف جوليوس روسكا وقفة طويلة لدى كلمة فسطار (المصدر 21 الصفحات 21 و 13) فحاول ردها إلى فسطاط بدل فسطار ووضع مقابلها باللغة اللاتينية Fustat = Fossatum .ثم حاول أن يجد لها نظيراً بلغة أخرى بعد أن قلب حرف الفاء في فسطار إلى حرف القاف لتصبح قِسطار أو قُسطار التي ربما تكون، بزعمه، Quaestor التي تعني باللغة الرومية – البيزنطية موظف الشؤون المالية التي بقيت مُتداولة لفترة طويلة بعد حكم العرب. يُشير روسكا في حاشية الصفحة 13 إلى مؤلف كتاب " الكلمات الآرامية الغريبة في اللغة العربية ".

2-2 يظهر أن المتكلم في بدايات الكتاب هو نفسه المترجم ماريانوس. وإن قراطس مؤلف الكتاب قام بتأليفه أيام أن كانت مصر وثنية قبل أنْ تتنصر. هناك بعض الأدلة على ذلك في الكتاب نفسه (… بعثتُ إليك بكتاب – قد يكون المخاطب هو خالد بن يزيد – لو وقف عليه الأولون من كتبي من الحكمة لضنوا به لأن الحكماء كلهم لم يضعوا مثله ولا بذلوا من الحكمة مثل الذي بذلوا منه فكان مضنوناً به مسروراً به فما وصلت إليه الجماعة ولا أكثر الخاصة في رضى الخلفاء حتى ظهرت النصرانية وكان من حديثه وأمره أنه كان يُسمّى كنز الكنوز وكان مصحفه من كتب كنوز الحكماء كانت تُكنز لآلهتهم وكان أعظم آلهتهم صنماً كان بالإسكندرية يُدعى بهذا. وكان بالإسكندرية فتى لبيب يتّبع الحكماء وكان يقال له ريسورس وكان من أصبح الناس وجهاً وأقومهم قامةً وأتمهم عقلاً فتلطّفَ لجارية من خدم رأس الكهّان في هيكل سرافيل يُقال له أثينة. وكان هذا الكاهن يُقال له أفسطليوس حتّى إستهواها وتزوجها وأظهرتْ له الكتب وغيرها من أسرار الحكماء فلمّا بلغهم قسطنطين الكبير برومية سرَقَتْ كتب سراوندين وهذا الكتاب الذي بعثتُ به إليك معها وهربتْ معه فمرّا جميعاً حتى ظهرتْ النصرانية بالشام ومصر فهذه قصته ثم لم تزلْ الملوك تُطنب في هذا الكتاب إلى أن جاءت دولة العرب. قال وقد وصل إليَّ وبعثنا إليك بالمصحف وأمرتَ به على غير تبديل ولقد أردتُ أنْ أدعو له بالمترجم فلبّا ثم ذكرتُ ما هو أفصح بالرومية والعربية في تبع الكلام وتأليفه فتركتُ وأُيدتُ بروح القدس حتى بلّغتُكه وتبلَّغَته).

الكتاب إذن موضوع قبل الميلاد، ولكن متى تم تأليفه على وجه الدقة؟ الإجابة عن هذا السؤال عسيرة المنال.

2-3 الكتاب هو محاورات حول مسائل الكيمياء وسواها على شكل أسئلة يطرحها قراطس ويُجيب عليها هرمس الذي يسميه هرمس المثلّث بالنعمة (الصفحة الثالثة والصفحة 33) وهذا يخاطب قراطس ب (يا قراطس السماوي، الصفحة السابعة).

2-4 تكون لقاءات قراطس مع هرمس المثلث بالنعمة أما عن طريق الرؤيا أو خلال نعاس النوم أو في الأحلام. يقول قراطس على الصفحة 18 من الكتاب (… فبينا أنا أُكلّمهُ وأسأله أن يزيدني في كتابي هذا تلخيصاً وتبييناً إذ غلبنتني عيني بعد غيبوبة الشمس فرأيتُ فيما يرى النائم أنني في سماء أخرى وفلك آخر ولكن أُريد محراب أفطوس وهو من ألوان النار فلّما دخلتُ المحرابَ من بابه الشرقي فرأيتُ في السموات آنية كثيرة من ذهب لم أرَ سجدَ لها أحدٌ إلاّ صنم الزهرة وهو الصنم الذي كانوا يُصلّون له في ذلك المحراب فقلتُ من هذا الذي عمل هذه الآنية فقال الصنم عمله رصاص نحاس الحكيم وإعلمْ يا قراطس …فقلتُ لفلك الزهرة…).

ونقرأ على الصفحة العاشرة من كتاب قراطس الحكيم (… فلمّا فهّمني هذا من قوله غاب عنّي فرجعتُ إلى نفسي وصرتُ كالمستيقظ من نومه مُتفجّعاً رصيناً قد غلبني

(هكذا وردتْ) شدّةُ أمرين أحدهما دفعه إيايَ عن وضع كتابي على ما كنتُ عزمتُ عليه والآخر أنه لم يتم قوله حتى توارى عني…).

وعلى الصفحة رقم 30 نقرأ (… فغلبتني عيني وتاركمت عليَّ الهموم فنمتُ فرأيتُ كأني على شاطيء النيل على صخرة مُشرِفة وإذا أنا بشاب جسيم يُقاتلُ التنّين فوثب الشاب إلى التنّين …).

2-5 الزهرة هي مرة إمرأة ولها بيت دخله قراطس عدة مرات (من هي هذه الزهرة؟) ورآها في وسط المحراب بجمال لا يوصف وعليها كثير من الحلي وأنها طلبتْ منه مرّةً أن يحلف بحقها. وهي صنم مرةً أخرى ولها فلك ولها وزير هو كاهنٌ هندي… الصفحات 18 و 19.

2-6 ما معنى هرمس المثلث بالنعمة وهل لمُثلّث هرمس علاقة بالثالوث المسيحي: الأب والإبن وروح القدس؟ هذا يخالف الفرض السابق من أنَّ هرمس كان قد عاش قبل الميلاد. أو أنَّ الروم المتنصرين (ومنهم مترجم الكتاب ماريانوس) هم من أطلق عليه هذا الإسم. أم أنَّ في ذلك إشارة لهيكل عطارد (هرمس) الذي هو على شكل مُثلّث في جوفه مربع مستطيل (7)؟

2-7 ورد في الكتاب إسم ديموقراط خمسَ مراتٍ. ورد مرة واحدة بشكل (ديمقراط) وأربعَ مرات بشكل (دومقراط). ذكره هرمس ثلاث مرّاتٍ كمصدر ومرجِع، وذكرته الزهرة مرة واحدة، كما رجع قراطس إليه مرة واحدة أيضاً.

2-8 في الكتاب أخطاء لغوية وأخرى نحوية. لكنَّ السرد محبوك بشكل يُلفِتً النظر. وربما يُعطي الإنطباع بأنَّ الكتابَ موضوعٌ أصلاً بالعربية وليس مُترجماً. أضف إلى ذلك ما ورد في المصدر (14) (… وحسب دراسة المصادرالتي قام بها روسكا ومقارنة الترجمة بالأصل اليوناني ووجود بعض أسماء عُرِفتْ فيما بعد، إستدلَّ روسكا أنَّ هذا الكتاب لم يُترجمْ في عهد الأمير خالد بن يزيد بل تُرجم بعد قرن من الزمن…).

قد يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: هل كانت اللغة العربية معروفة في مصر قبل دخول العرب المسلمين إليها؟ وكيف ضبط هذه اللغة الجديدة على مصر رجل روميٌّ فقام خلال سنيِّ حُكم الخليفة عبد الملك بن مروان (65 – 86 للهجرة) بترجمة كتاب لخالد بن يزيد موضوع أصلاً باليونانية؟

2-9 هل في هذا الكتاب ثمَّةَ ما يمتُّ للكيمياء بصلة؟ الجواب نعم ولا !!

في الكتاب تأكيد على أمور غاية في الأهمية بالنسبة لأي تفاعل كيميائي،كضبط أوزان المواد المتفاعلة حسب ما يُسمّى الآن بقانون النسب الوزنية الثابتة في التفاعلات الكيميائية.

وفيه تأكيد على ضبط درجات الحرارة (النار) اللازمة لإجراء التفاعلات الكيميائية. ويقسمها كتاب هرمس إلى ست درجات (مراتب) هي: نار يسارة (أي يسيرة) ورماد وجمر ولهب دانٍ ولهب وسط ولهب شديد. لم ترد إلاّ إشارات ملتبسة ومرتبكة فيما يخص الزمن اللازم لإتمام إي تفاعل كيميائي. يقول هرمس (الصفحة 23) (… وأما الأيام فإنَّ أبارنحاس الذي فيه السر كله فإنه يكون في يوم أو بعض يوم وسأذكر الأيام الذي (كذا وردت) يكون فيها تمام السم والأكسير في المُستأنف في موضعها …). ترد في الكتاب كثيراًكلمتا أبار النحاس كأحد المركبّات الكيميائية. والمعنى غامض، ما هو تركيب هذا المركب؟ لا أحد يعرف بالضبط ما هو.

وأمر آخر يسترعي الكثير من الإنتباه وهو قول هرمس (الصفحة 28) (… ينبغي للحكيم أن يعلم قبل كل شيء وقبل أن يضع يده في هذه الصنعة الكريمة أيكونُ أم لا ومن أي شيء يكونُ وكيف يكون…). يقصد على ما يبدو الإكسير.

وردت في الكتاب أسماء بعض العناصر الكيميائية المعروفة مثل النحاس والكبريت والزرنيخ والرصاص والزئبق والذهب. وأسماء لبعض المركبات الكيميائية وهي أسماء غير متداولة في عصرنا مثل المُرتُك والإسفيداج والسيلقون والتوتياء والمرداسنج والمغنيسيا والإقليمياء. (في المصدر الثاني تفسير هذه الأسماء ورموزها الكيميائية). كما أنَّ في الكتاب ذكراً لمركّبات أخرى مجهولة التركيب الكيميائي مثل الزاووق والكبريّة. إستخدم هرمس الزاووق لتبييض النحاس، فهل هو سبيكة الرصاص والقصدير التي كانت إلى عهد قريب تستعمل من قبل الصفّارين في بلداننا لتبييض قدور وآنية النحاس (الصِفْر)؟ لقد إستخدم المؤلف هذه السبيكة لصهر الذهب ذي درجة الإنصهار العالية. فهذه السبيكة المنصهرة من شأنها أن تُخّفِضَ درجة إنصهار الذهب الأمر الذي يوفّر على الكيميائي الجهد والوقود والوقت. نقرأ على الصفحة 11 (… فقلتُ له وكيف ذلك وقد ذكرت الحكماءُ الزاووق شيء وحده يُبيّض النحاس فقال إنما ينبغي أن يقولوا إنَّ الزاووق يُبيّض لأنَّ الأجساد قوية على النار لا تأبقَ (لا تتبخر) منها…).

 أسوقُ أُنموذجاً واحداً لتفاعل كيميائي قام هرمس بشرحه لقراطس على الصفحة العاشرة من الكتاب: (… خذ المعادن بأوزانها وإخلطها بالزاووق ودبّرها حتى تصيرَ سُمّاً نارياً وهذا الذي نُسمّيه أبار النحاس فإذا إحترقتْ الأجسادُ وثبُتتْ سمّيناها كبرية يابسة وعند ذلك يصير الذهبُ… ويصبغ الورق ذهباً ولسنا نعني ورق العامّة ولكنْ ورق تركيب الحكماء الذي سميناه ورقاً فإذا أعدنا عليه بقيّة السم صبغ الذهب وليس بذهب العامّة ولكنْ تركيبنا الذي إحمارَّ (أي إحمرَّ) فسميناه ذهباً…).

ماذا يفهم الكيميائي من هذا الكلام المُلغّز والذي يبدو ضرباً من الهلوسة والتخبط وخزعبلات أطفال؟؟ لا شيء.

في الكتاب الكثير من هذه الشعوذة والدعابات غير المسؤولة لكني سأكتفي بإيراد نموذج ثانٍ فقط. في حوار آخر يجري بين قراطس وهرمس يقول هرمس (… ينبغي أن نُبيّنَ كم من مرّة يُعادُ الزاووق في الأجساد فقلتُ له فقلْ دام صلاحك فقال إنَّ القدماء قالوا إنَّ الرصاصَ بالكبرية فهذه التشوية الأولى وقال شوّهِ مع الزاووق فهذه التشوية الثانية وقالوا أُرددْ الصفائح في المرق ليخرجَ وسخها فهذه الثلاثة (يقصد الثالثة) وقالوا إسحقْ الزيبق فهذه الرابعة وقالوا إسحقوا بالعسل فهذه السادسة وقالوا إسحقْ عُزّى الذهب ببول العجل فهذه السابعة…).

ماذا يفهم القاريء من هذا الكلام أكان القاريء كيميائياً أو غير كيميائي؟؟؟ مَرقٌ وبول عجلٍ وعسل !!!

2-10 أخيراً لا بدَّ من وقفة جادة عند موضوع على درجة كبيرة من الأهمية: أقصد الربط القوي المحكم بين الإنسان والطبيعة. ففي الكتاب مقارنات بين المعادن والإنسان. فعلى الصفحة التاسعة نقرأ قول هرمس (… إجعلْ الأجساد لا أجساد واعلمْ أن للنحاس نفس وروح وجسد (كذا وردت) كالإنسان …)

كما أنه يجعل عملية إعداد الإكسير كيميائياً بل وحتى عمليات ذوبان المعادن والمركبات ببعضها شبيهة بعملية خلق الإنسان. نقرأ على الصفحة 14 (… لأنَّ المركب هو مركبان إثنان كل واحد منهما مركب مثل الرجل والإمرأة مركبة فإذا إجتمعا وتزاوجا أخرج اللهُ من بينهما ولداً وذلك للشهوة التي جعل الله بينهما فلزم بعضُها بعضاً وفرح بعضهم بلقاء بعض فهذا علم الواحد وتبيانه…).

من خلال متابعتي لكتب أوائل الكيميائيين وجدتهم جميعاً يَنحَون هذا المنحى. أخصُّ بالذكر منهم جعفر الصادق وجابر بن حيان كما سنرى لاحقاً.

 

لقد أوليتُ هذا الكتاب (كتاب قراطس الحكيم) أهمية خاصة لأن مؤرخي الكيمياء يعتبرونه أول كتاب وُضِعَ في علم الكيمياء. ومن جهتي فإني أعتبره الجسر الذي ربط الماضي بالحاضر وربط كيمياء عصور ما قبل الميلاد بكيمياء عصر العرب في صدر الإسلام.

 

 3- المثلّث الذهبي  (خالد والصادق وجابر)

نَعَمْ، المثلث الذهبي أو مثلث الذهب في القرنين الأول والثاني الهجريين: خالد بن يزيد بن معاوية الأموي والإمام الصادق جعفر بن محمد الباقر ثم تلميذه جابر بن حيّان الكوفي.

ما الذي جعل هؤلاء الرجال الثلاثة الأفذاذ أن يتولعوا بالكيمياء وأن ينخرطوا في علم صناعة الإكسير وتحويل المعادن الرخيصة إلى الذهب؟ لكلٍ منهم أسبابه ودوافعه الخاصة ولكن، على ما يبدو مما كتبوا هم أنفسهم أو مما كُتِبَ عنهم كان يجمعهم هاجس واحد ودافع إيماني قوي وفلسفي جارف لخّصه أُوسوالد شبنجلر Oswald Spengler (18) في كتابه " سقوط الغرب " قائلاً (… ففي المدنية الإسلامية وُلِد الجبرُ ووُلِدتْ معه روح خفيّةٌ باحثة عن سر الخلود في الكون…هذه الروح على زعمه هي التي أوجدتْ الكيمياء السحرية التي أنجبتْ الكيمياء العصرية. فالذي كان يحاول أن يسعى إليه العربي قديماً مُستنيراً بنور هذه الفكرة ليس إدراك ظواهر المادة بل معرفة سرّها الخفي وكيفية إنقلابها من عنصر إلى عنصر). لأهمية هذا الكلام سأرجع إليه لاحقاً وربّما لأكثر من مرّة.

 

 3-1 خالد بن يزيد بن معاوية الأموي  (توفي عام 85 للهجرة)

قد يكون لخالد بن يزيد دافع آخر ألجأه إلى تعلم وممارسة الصنعة والإهتمام بكتبها ومصادرها ومترجميها وترجماتها. نقرأ قول إبن النديم (19) مثلا (… يُقالُ إنه قيل له: لقد فعلتَ أكثر شغلك في طلب الصنعة فقال خالد: ما أطلبُ بذاك إلاّ أنْ أُغني أصحابي

وإخواني. إني طمعتُ بالخلافة فأُختُزِلتْ دوني فلم أجدْ منها عِوَضاً إلاّ أنْ أبلغَ آخرَ هذه الصناعة فلا أُحوِجُ أحداً عرفني يوماً أو عرفته إلى أن يقفَ بباب السلطان رغبةً أو رهبةً. ويُقال والله أعلم إنه صحَّ له عمل الصناعة وله في ذلك عدّة كتب ورسائل وله شعر كثير في هذا المعنى رأيتُ منه نحوَ خمسمائة ورقة ورأيتُ من كتبه: كتاب الحرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير، كتاب وصيته إلى إبنه في الصنعة).

إذن قد رأى صاحب الفهرست إبن النديم خمسمائة ورقة من شعر خالد بن يزيد. يذكر المسعودي (20) بعض هذه الأشعار في معرض كلامه عن الكيمياء فيقول (ولطلاّب صنعة الكيمياء من الذهب والفضة وأنواع الجواهر من اللؤلؤ وغيره وصنعة أنواع الأكسيرات من الإكسير المعروف بالفرّار وغيره وإقامة الزئبق وصنعته فضّة وغير ذلك من خدعهم وحيلهم في القُرَع والمغناطيس… وما ذكروه في ذلك من الأشعار، وما عزوه إلى من سَلفَ من اليونانيين والروم مثل قلوبطرة الملكة وماريّة وما ذَكَرهُ خالد بن يزيد بن معاوية في ذلك، وهو عند أهل هذه الصنعة من المتقدمين فيهم، في شعره الذي يقولُ فيه:

 

  خُذْ الطلْقَ من الأشقْ   وما يُوجدُ في الطُرْقْ

  وشيئاً يُشبهُ البرقا   فدبّرهُ بلا حَرقْ

  فإنْ أحببتَ مولاكا  فقد سُوِّدتَ في الخَلقْ

 

في الجزء الأول من كتاب " الكيميائيون العرب " لجوليوس روسكا Julius Ruska المُخصص لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو باللغة الألمانية (21)، يذكر بيتين من الشعر منسوبين إلى خالد بن يزيد في وصف الحجر (أي الإكسير) هما:

 

  هو الحجرُ المُصابُ بكلِّ أرضٍ  وفي الأسواقِ تلقاهُ حقيرا

  يضُنُّ به الجوادُ على أخيهِ   إذا أضحى به يوماً خبيرا

 

وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب المُخَصَص لجعفر الصادق (22) يذكر روسكا خمسة أبيات من الشعر المضطرب اللغة والميزان وجدها في كتاب باللغة العربية منسوب للصادق. يخاطب الصادق إبنه مُعلِّقاً على الإكسير الذي قام هو بتصنيعه قائلاً: كما قال الحكيم

(أنقلها كما وردتْ في كتاب روسكا):

 

 يُقابلُ النارَ ولا يسطو عليهِ  وهل رائت والده يسطو بولدانِ

 له طبايع شتّى أربعٌ وقوى  ثلاتةٌ جُمِعتْ من غيرِ جُثمانِ

 أمْا سمِعتْ بصابغٍ ومُنصَبِغٍ   للهِ دَرُّكَ في تركيبِ إنسانِ

 سبعٌ ضدّي هُماماً واحداً  مَلِكاً جزلٌ عطاياهُ فتّاكاً بأقرانِ

 تلك القيمةُ قد قامتْ غداةَ إذا   بغيرِ حشرٍ ولا نشرٍ لديوانِ

 

فهل خالد بن يزيد هو " الحكيم " الذي رجع الصادق إليه أم أنه قصدَ حكيماً آخرَ

سواه؟؟

يُمكنني القيام بتصحيح بعض كلمات هذه الأشعار كيما تستقيم لغةً ووزناً قدر المستطاع. عندئذٍ تُصبح الأبيات كما يلي:

 

 يقابلُ النارَ ولا تسطو عليهِ  وهلْ رأيتَ والداً يسطو بولدانِ

 له طبائعُ شتّى أربعٌ وقِوى  ثلاثةٌ جُمِعتْ من غير جثمانِ

 أمْا سًمِعتَ بصابغٍ ومُنصَبغٍ   للهِ درُّكَ في تركيبِ إنسانِ

 سبعٌ بضدِّ هُمامٍ واحدٍ مَلِكٍ   جزْلٍ عطاياهُ فتّاكٍ بإقرانِ

 تلكَ القيامةُ قد قامتْ غداةَ إذا   بغيرِ حَشْرٍ ولا نَشْرٍ لديوانِ

 

لم أجد هذه الأبيات الشعرية التي قيلت في صفات الإكسير في النسخة العربية الأصلية للكتاب المنسوب لجعفر الصادق والذي يحمل عنوان " كتاب رسالة جعفر الصادق في علم الصناعة والحجر المُكرّم " وهو من منشورات يوليوس روسكا نفسه (22).

 

خلاف هذه الأشعار القليلة التي تُنسبُ إلى خالد بن يزيد الأموي، لم يصلْ إلينا شيء من الكتب التي تُنسب إليه في علم صناعة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب أو سواها. بلى، لقد أكثر المؤرخون من ذكر خالدٍ كواحدٍ من أوائل كيميائيي العرب ونسبوا إليه كتباً ذكروها بأسمائها. سوف لا أُعيدُ ما قاله هؤلاء المؤرخون بصدد خالد ومؤلفاته ففي المصدر (23) سرد لأقوالهم بشيء من التفصيل.

هناك كتاب (24) مؤلفه مجهول يحمل عنوان " كتاب الحبيب… هذا كتاب الحبيب الذي أوصى به إبنه وأكثر وصيته في كل ضربٍ من الأدب ". قد يحمل هذا العنوان البعضَ على الظن أنَّ هذا هو أحد الكتب المنسوبة إلى خالد بن يزيد (19) والذي يحمل إسم " كتاب وصيته إلى إبنه في الصنعة ". كتاب الحبيب (لدي نسخة مُصوّرة منه) لا علاقة له بخالد ولا بالكتاب المنسوب إليه وليس فيه أيُّ ذكر لخالد على الإطلاق. سأُلخّص بعض أهم سِمات ما جاء في هذا الكتاب ولاسيّما الفكرة التي سيطرتْ على عقول القدماء وقناعتهم من أنَّ صناعة الإكسير وباقي التفاعلات الكيميائية شبيهة بعملية ولادة الإنسان إخصاباً وتعلّقاً ونشوءأً وتطوراً في رحم الأُم:

 

3-1-1 جاء الكتاب بصورة حوارات بين رجل مجهول وإمرأة مجهولة. خلا أنَّ إمرأة خاطبتْ على الصفحة 70 من الكتاب رجلاً فسمّته " يا رَوْسَمْ ". وعلى الصفحة 78 نقرأ عبارة " قالت ثيوسابيّة ". فهل هما من أدار جُلَّ حوارات الكتاب؟

 

3-1-2 وردت في الكتاب كمراجع ومصادر أسماء 24 حكيماً أو فيلسوفاً من المعروفين جيّداً ومن غير المعروفين. لقد تكرر ورود إسم هرمس 13 مرّةً و ريسيموس عشر مراتٍ

و ديمقراط تسع مرّاتٍ و ماريّة ستَ مرّات و أغاديمون ست مرّات أيضاً.

 

3-1-3 خلافاً لكتابي قراطس السابق ذكرهُ وكتاب جعفر الصادق (سأتعرض له في حينه تفصيلاً) يُولي الكتاب أهمية قصوى للرماد سويّةً مع السُم والروح والجسد. نقرأ مثلا:

 

(… ليُحيي ذلك الماء ما في الرماد من الروح. الصفحة 47).

(…الأصباغ من الأرمدة، تخرجُ من ولادة جديدة كمواليد المخلوقين والزرع والشجر. الصفحة 52).

(.. ولهذا مدح هرمس الرماد وزعم أنَّ الرماد إذا مات أمسك الأرواح. الصفحة 77).

(… فما كان للأنبياء والكهنة الذين أُعطوا مفاتيح هذه الصنعة همة إلاّ الرماد، فعليكم به فإنَّ السرَّ كله فيه. الصفحة 77).

(… وأنا أُعلمكم أنَّ الحُمرة إنما كانت وظهرت من ذلك الرماد الرفيع. الصفحة 77).

 

3-1-4 وعن الروح والجسد والإنسان نقرأ بعض ما جاء في هذا الكتاب:

(… زواج الذكر بالأُنثى وخروج الجنين التام: صنعتنا تدبيرها كتدبير النُطفة والحيض إلى ان يكونَ صبيّاً كاملاً. الصفحة 37).

(…الزيبق يصير حجراً ورقياً فإذا رأيتموه كذلك فإعلموا أنه قد ألقى نُطفته وقد لقّحَ وبذا يجتمع خَلْقهُ. الصفحة 42).

(… والأسطيوس يولدُ كلَّ سنة. الصفحة 44).

(… قال الحكيم – لا نعرف من هو هذا الحكيم !! - إقلبْ الطبيعة وإستخرجْ الروح الكامن في جوف ذلك الجسد. الصفحة 47).

(… الماء يستخرج روح الأرض. الصفحة 51).

(… النُطفة والدم والماء الخالد… الجسد يُجسّد الروح والروح يُصّير الجسدَ روحاً. الصفحة 52).

(… لا بُدَّ لنا من إتمام العمل مثل الذكر والأُنثى … حتّى تصيرَ روحاً لا جسدَ لها ونَفْساً أُخرِجتْ من الأجساد المُركّبة. الصفحة 65).

(… المعادن كالبشر: روح وجسد وموت وحياة. الصفحة 66).

(… كما أنَّ الخلايق يتحولون من طبيعة إلى طبيعة فهذا الموت وهذا العيش وكذلك النحاس يحترق بالكبرية ويتحول من طبيعة إلى طبيعة حتّى يُتِمَّ الله منه هذا الذي تطلبين. الصفحة 66).

لا بأس هنا من أن نُلفت النظر إلى أسلوب كتابة بعض الكلمات الواردة في هذا الكتاب من مثل كلمة (الخلايق) بدل (الخلائق) و (ساير) بدل (سائر) و (طبايع) بدل

(طبائع)… وهو نفس أسلوب الكتب المنسوبة إلى جعفر الصادق وجابر بن حيّان. وهناك أوجه شبه أخرى لا يسع المجال أنْ أتتبعها كلمةً كلمة.

(… وهو السُم الذي هو الذكرُ والأنثى وهو جميع المطلوب وهو الذي يصبغ الأبيض أبيضاً ويُزيدُ الأحمرَ حُمرةً،… وصارت مثل النُطفة في الرحم كيف تَعْفُن في الرطوبة والسخونة. الصفحة 71).

(… قول التلاميذ لهرمس: إنّا لم نلقَ شِدّةً أشد من تزويج الطبائع حتى إزدوجتْ طبايع الشمس والقمر. الصفحات 73 – 74).

 

3-1-5 هناك في الكتاب تساؤلات شكّاكة ومواقف سليمة لا تخلو من بعض الصحة والطرافة تسترعي الإنتباه من مثل:

 

(… قالتْ فأفْتِني عن قولك أنَّ أسطانس ذكر النحاس والحديد والرصاص والقصدير والورق وجعل لكل شيء منها تدبيراً على حدته وزعم أنهم يكوِّنون في التدبير ذهباً قال هذا مُحال باطل كله فلا يُصدّقُ به إلاّ جاهل وإنما وضعه أسطاس ليُلبّسَ به على الجهلة وأنا أُعلمك أنَّ هذه الأجساد التي ذكرتِ ليست بنا لها حاجة وأن الذي نُريدُ جسداً واحداً الذي فيه الصبغ الواحد غير أن هذا الجسد لا يَصبِغُ حتى يُصبَغَ فإذا صُبِغ صبغَ ولهذا قال ديمقراط إنكم أنْ أصبتم التركيب صبغتم كل جسد بإذن الله. الصفحة 67).

 هنا نفي لإمكانية تحويل النحاس والحديد والرصاص والقصدير والورق (ربما يقصد الفضة) إلى ذهب. لكن يبقى الأمرُ غامضاً فيما يتعلق ب (الجسد الواحد الذي فيه الصبغ الواحد …والذي لا يصبغُ حتى يُصبَغ …).

(… قال: إنَّ من دخل في الصنعة إنما يطلبُ أنْ يُصيّرَ الأشياء ذهباً. فإنْ لم تجعلي الذهب في الذهب فلستِ في شيء. قالت وما الذي يُنتفعُ به أنَّ الذهبَ من الذهب؟ قال لأنه يخرجُ من القليل الكثير. قالتْ لو عرفَ هذا أهل الدنيا لَكثُرَ ذهبهم. الصفحة 78).

سؤال رائع: وما الذي يُنتَفعُ به أنَّ الذهبَ من الذهب؟ ثم تعليق المرأة السائلة الذكي والذي لا يخلو من سخرية مُبطّنة: لو عرفَ هذا أهل الدنيا لكَثٌر ذهبهم !!

 

3-1-6 خالد وإبن خلدون

لإبن خلدون موقف خاص من مسألة إشتغال خالد بن يزيد بالكيمياء وصناعة الذهب خالف فيه كافّةَ من نعرف من مؤرخي الكيمياء القدامى. يقول إبن خلدون في مقدمته (25):

(…ولإبن المُغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المُعجَم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزةً كلها لغز الأحاجي والُمعاياة فلا تَكادُ تُفهم. وقد ينسبون للغزّالي رحمه ألله بعض التآليف فيها وليس بصحيح لأنَّ الرجلَ لم تكنْ مداركه العالية لتقفَ عن خطأ ما يذهبون إليه حتّى ينتحله. وربما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم. ومن المعلوم البيّن أن خالداً من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والصنائع بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تُترجمْ اللهمَّ إلاّ أنْ يكونَ خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبّهَ بإسمه فممكن).

لعلَّ من المفيد أن نذكرأنَّ باحثاً معاصراً (26) حاول الربط بين خالد بن يزيد الذي عناه إبن خلدون وخالد بن يزيد الذي كتب عنه إبن جلجل في كتابه الموسوم طبقات الأطباء والحكماء حيث وصفه بإنه (بن روماني النصراني الذي كان بارعاً في الطب, ناهضاً في زمانه…). قال هذا الباحث (…وربما قصد إبن خلدون بخالد بن يزيد آخر هو ما ذكره إبن جلجل في كتابه…).

لا أظن أن إبن خلدون كان مصيباً في تقريره من أنَّ (… وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تُترجم أللهم…). فهذا البيان يخالف كل ما قد كتبه المؤرخون العرب والمسلمون والغربيون حول العلوم العربية. فلقد ذكر الدكتور الهاشمي (18) (إنَّ المناسبات التجارية بين جزيرة العرب وبين باقي الأقطار وخاصةً سورية جعلت نفوذ كثير من المذاهب حتى في العهد الجاهلي (كما يدّعي ذلك مؤرخ الكيمياء هولميارد) ممكناً. وقد تسرّبت أيضاً مفاهيم الكيمياء، ويؤكد العربُ أنهم ورثوا هذا العلم عن خالد بن يزيد، حتى أنَّ بعض الروايات تُعزيه إلى النبي وإلى خَتَن الرسول وإبن عمّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن المُحَقق أنَّ المسلمين تعرفوا إلى هذا العلم بصورة سريعة جداً وقد إستقوه من منابع عديدة، وأن أهم مصدر لهم على ما بيّناه كان مدرسة الإسكندرية). ونقرأ في كتاب الهاشمي (27) (إنَّ نفوذ المعارف اليونانية إلى الحضارة الإسلامية،كما يعلم كلُّ من إشتغل في تأريخ العلوم، كان من الإسكندرية إلى بغداد عبر المدارس السريانية في الرهّا ونصيبين ورأس العين وغيرها من المدارس حتّى أن مدرسة جندي سابور التي أسسها كِسرى أنو شروان تابعة لتلك المجموعة. ويقول إشبنجلر في كتابه سقوط الغرب إنَّ مبدأ العلوم العربية لم يكن في عهد الخلفاء الأمويين ولا العباسيين، بل يرجع إلى القرن الرابع الميلادي إلى مدارس الأديرة السريانية حتى أن صلة العرب بهذه المدارس قديمة جداً).

وقال غير الهاشمي (المصدر الأول والمصادر المذكورة في أسفل الصفحة 307) (…إنَّ أولَّ نقلٍ حدث في الإسلام كان بفضل خالد بن يزيد الذي كان مُغرَماً بالمعرفة وقد كَلّفَ إسطفانوس و ماريانوس وغيرهم بترجمة الكتب إلى اللغة العربية).

كما قال إبن النديم في فهرسته الشهير (19) (… عَنيَ بإخراج كتب القدماء في الصنعة خالد بن يزيد بن معاوية وكان خطيباً شاعراً فصيحاً حازماً ذا رأي وهو أول من تُرجِمَ له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء …).

وحسب كارل بروكلمان (المصدر 11 وشروح وحواشي الصفحات 89 و 90 من هذا المصدر): (إنَّ الثقافة الهلينستية التي وجدت موطيء قدم لها في سوريا وأرض الرافدين تحت حكم الإسكندر الأكبر لَقيتْ في إنتشار المسيحية عَضُداً قوياً. وفي سوريا وهي تابعة للإمبراطورية البيزنطية كانت الأديرة مرابع للثقافة اليونانية التي إكتسبها سكان هذه الأديرة من طريق ترجمات عديدة وإن لم يكونوا قادرين على تنميتها وزيادتها. وقد غلبت إلى جانب ذلك دراسة اللاهوت وإنْ لم تُهملْ الفلسفة والطب. وكان الطب اليوناني بخاصة موضع تقدير في الإمبراطورية الساسانية. ولرعايته أنشأ كِسرى أنو شروان سنة

531 م في جنديسابور بخوزستان أكاديمية وجدتْ الفلسفة أيضاً موطناً فيها. وقد ظلّت مُزدهرةً إلى العصر العباسي. ووجد العلم اليوناني موطناً ثالثاً في مدينة حرّان بأرض الرافدين…، هذه المصادر الثلاثة جميعاً قدّمتْ إلى المسلمين العلم اليوناني مُتَرجَماً. وإذا صرفنا النظر عن ترجمات قديمة للإنجيل قد ترجع إلى زمن الجاهلية وجدنا أنه ترجع إلى العصر الأُموي ترجمة " مفتاح أسرار النجوم " وهو كتاب هرمسي في التنجيم).

يُعلّق بروكلمان في أسفل الصفحة 90 من المصدر 11 على ترجمات الإنجيل القديمة قائلاً

(ربما كانت أقدم ترجمة عربية هي ترجمة الإنجيل التي نشأت في بطريركية أنطاكية ونُقِلت إلى بطريركية أُورشليم المجاورة قبل حرب الإمبراطور هركليوس Herakleios

المُظفّرة ضد الفرس. وربما وُجدت إلى جانب ذلك ترجمة للإنجيل من زمن الجاهلية نُقلت عن الآرامية الفلسطينية المسيحية. ونجد في سيرة إبن هشام (ص 149 وما بعدها) طَرَفاً منها (يوحنا 15: 23 – 16: 1). وينقل إبن قتيبة عن ترجمة قديمة للإنجيل في كتابه

(عيون الأخبار)…).

أنهى إبن خلدون كتابة مقدمته في العام 779 الهجري (أي حوالي العام 1358 الميلادي).

كتبها في المغرب وأهداها إلى (…أتحفتُ بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المُجاهد الفاتح الماهد…، أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز إبن مولانا السلطان الكبير المُجاهد المُقدّس أمير المؤمنين أبي الحسن إبن السادة الأعلام من بني مرين) / (الصفحات 5 و6 من المصدر 25). في حين نشطت أغلب وأشهر حركات الإستشراق وترجمات آثار العرب ومخطوطاتهم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد سبق إبنُ خلدون هذا النشاط بأكثر من خمسة قرون من الزمن. معه عذر ولكن، لِمَ أغفل ذكر إبن النديم وفهرسته الأشهر؟ أفَلمْ يسمعْ به أو أن يطَّلعَ عليه؟ لقد ذكر إبن خلدون في مقدمته

(الصفحة 3) مشاهير المؤرخين من العرب المسلمين أمثال إبن إسحق والطبري وإبن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من الفلاسفة كالغزالي وإبن رشد والكندي والفارابي وإبن سينا والكيميائيين والمشتغلين بصنعة الكيمياء كالمجريطي والمٌغيربي والطغرائي وجابر بن حيان وسواهم. كما ذكر الكثير من مصادر علماء الفقه والشريعة خاصة على الصفحات 261 – 246 من مقدمته. وقد إنتقد غامزاً دقّة المسعودي والواقدي بالقول (… وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات / المقدمة ص 3). كيف يعرف إبن خلدون المسعودي ويجهل مُعاصره إبن النديم؟؟ لو كان إبن خلدون، كما أحسب، قد إطَّلع على فهرست إبن النديم لكان غيّرَ الكثير من مواقفه وآرائه. أو أن الرجل قد عرفه وإطّلع عليه بالفعل لكنه لسبب ما أهمله ولم يأخذ به.

سأرجع إليه ثانيةً حين أتعرض لموضوعة إبن خلدون وكيمياء الذهب.

 يبدو لي أنَّ الرجل مستودع هائل ونادر للمتناقضات. فقد جمع في رأسه الصرامة الموضوعية التي سبقت زمانها من جانب، والإعتقادبالخوارق والمعجزات والسحر(المُقدمة: علوم السحر والطلّسمات/ الصفحات 393 - 399) والخزعبلات من جانب آخر. نقرأ نموذجاً من هذه التخريفات التي لا تليق برجل كإبن خلدون على الصفحة 73 من مقدمته ما يلي (… ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهلُ التجربة أنَّ الدجاج إذا غُذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل وأُتُخِذ بيضُها ثم حُضِنتْ عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المُحضّن فيجيء دجاجها في غاية العِظَم وأمثال ذلك كثير…). هل نُصدّق أن قائل هذا الكلام هو نفسه إبن خلدون صاحب نظريات البداوة والحضارة والعمارة والفساد؟؟

 

3-2 جعفر الصادق  (80 - 148 هجرية)

3-2-1 المؤرخون والصادق

هل مارس جعفر الصادق علم الكيمياء؟

سأدعُ غيري يُجيب.

فقد ألّفَ مؤرخٌ وخبيرٌ متُخصّص في الكيمياء (2)كتاباً كاملاً أسماه (الإمام الصادق مُلهِمُ الكيمياء). في حين يعتبره باحث آخر ثاني إثنين إشتغلا قديماً بالكيمياء، غير أنه يُضيف قائلاً (… إلاّ أنه لم تظهر أية مستندات تبين معرفة طبيعة العمل الذي قام به كلٌّ من جعفر الصادق وخالد بن يزيد في الكيمياء ولا مذهبهما في هذا العلم. وبالرغم من ذلك فإنَّ لهما تأثير كبير في تأريخ العلوم لما لهما من منزلة سامية بين الناس جعلتهم يُقبِلون على هذا العلم، وعلى رأسهم الرائد الأول في الكيمياء جابر بن حيان) (المصدر الأول، الصفحة 310 والمصادر التي المُثبّتة في أسفل الصفحة).

يبدو جليّاً من هذا الكلام أن هذا الباحث لم يعرف كتاب الصادق الموسوم " كتاب رسالة جعفر الصادق في علم الصناعة والحجر المُكرّم " الذي نشره جوليوس روسكا وترجم فقراتٍ منه إلى اللغة الألمانية عام 1924 (المصدر 22).

أما الدكتور زكي نجيب محمود (28) فقد قال في معرض كلامه عن جابر بن حيان

(…وإنَّ جابراً ليتصل ذكره برجلين هما: خالد بن يزيد بن معاوية وجعفر الصادق). ثم يواصل كلامه في مناسبة أخرى ليقول (… هذا إلى وفرة المصادر التي لا تتردد في أنَّ جعفراً المشار إليه في حياة جابر ونشأته هو جعفر الصادق. فيذكر حاجي خليفة جابراً مصحوباً بعبارة: تلميذ جعفر الصادق. ويقول " كارا دي فو " وهو يتحدث عن جابر: ومعلّماه هما خالد بن يزيد بن معاوية وجعفر الصادق. وفي مقدمة كتاب الحاصل لجابر يقول هو نفسه: وقد سميته كتاب الحاصل وذلك أن سيدي جعفر بن محمد صلوات الله عليه قال لي: فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب وما المنفعة منها؟ فعملتُ كتابي هذا وسمّاه سيدي بكتاب الحاصل) (المصدر 28، الصفحات 20 – 21 والمصادر المُثبّتة في أسفل هذه الصفحات).

فضلاً عن كتاب الصادق سابق الذكر،والذي يحمل إسمه صريحاً، إني لأعتبر جابر بن حيان نفسه حُجّة أخرى قوية دامغة قائمة بذاتها تؤكد صحّة صلة الصادق بالكيمياء. فلقد دأب جابر أن يستشير سيده الصادق في أمور كثيرة تخص صنعة الكيمياء، يأخذ بآرائه ويستنير بتوجيهاته السديدة ويخاطبه " لبيك سيدي " أو " كما قال سيدي جعفر ".

سأعرض نموذجاً من هذه الشهادات المُنبثّة في متون بعض كتب جابر الشهيرة. من

" كتاب الرحمة الصغير لجابر بن حيان " (29) يقول جابر:

(قال جابر بن حيان قال لي سيدي جعفر يا جابر فقلتُ لبيكَ يا سيدي فقال هذه الكتب التي صنفتها جميعها وذكرتَ فيها الصنعة وفصّلتها فصولاً وذكرتَ فيها من المذاهب وآراء الناس وذكرتَ الأبواب وخصصت كل كتاب منها بعمل مخصوص وفرّقتَ التدابير فيها فمنها ما هو على طريق مداواة الأمراض التي لا يفهمها إلاّ عالم وصل ومنها ما هو على طريق النجوم من المناظرات والمقابلات وإستوعبتَ الصنعة في العلل في علم الفلك وبعيد أنْ يَخلُصَ منها شيء إلاّ لواصل والواصل غير مُحتاج إلى كتبك ومنها ما هو بطريق الحروف التي تارةً تَثبُت حقايقها وتارة تفسد وهذا علم قد إندرسَ وباد أهله وما بقيَ أحدٌ يُعَد ليفهمَ له حقيقة ومنها ما هو موضوع على الخواص ثم يقصد ذلك بالقياس والتخمين الذي لا يبعد أن تُساوي فيه غيركَ ثمَّ وضعتَ كتباً كثيرةً في المعادن والعقاقير فتحيّرَ الطلاّبُ وضيعوا الأموال وغيرها كل ذلك من قبلك وإفترقوا ودعتهم الحاجة إلى ضرب الزيوف وعمل الزغل ودعاهم الفقر والحاجة إلى النصب على أرباب

الأموال وغيرهم وكل ذلك من قِبَلِكَ وقِبَلِ ما وضعتَ في كتبك والآن يا جابر إستغفرْ الله وأَرشدهمْ إلى عمل قريب سهلٍ تُكفّرُ به ما تقدم لك وأوضح وما يأخذه إلا من قسمَ الله له فيه برزق فقلتُ يا سيدي أشِرْ عليَّ أيَ البابَ أذكرُ فقال ما رأيتُ لك باباً تامّاً مفرداً إلا مرموزاً مُدغماً في جميع كتبك مكتوماً فيها فقلتُ قد ذكرته في السبعين وأشرتُ إليه في كتاب النظم وفي كتاب الملك من الخمسماية وفي كتاب صفة الكون وفي كتب كثيرةٍ من الماية ونيّف فقال صحيح ما ذكرته من ذلك في أكثر كتبك وهو في الجملة مذكور غير أنه مُدغم مُخلّط بغيره لا يفهمه إلاّ الواصل والواصل مُستغنٍ عن ذلك ولكنْ بحياتي يا جابر أَفرِدْ فيه كتاباً بالغاً بلا رمزٍ وإختصرْ كثرة الكلام ولا تُفسدْ الكلام بما تُضيف إليه كعادتك فإذا تمَّ فإعرضه عليَّ فقلتُ السمع والطاعة ثم إبتدأتُ ووضعتُ هذا الكتابَ وسميته بكتاب الرحمة الصغير…).

 ماذا يمكن أن نستنتج من هذا الحوار الواضح الذي لا لبس فيه؟

أولاً: سعة أُفق جعفر الصادق ومعرفته الأكيدة بأسرار صنعة الكيمياء .

ثانياً: بعض كتب جابر بن حيان لا يتميز بشيء ذي بال لأن جابراً يُساوي فيه غيره من الباحثين والمؤلفين.

ثالثاً: وأن كتب جابر في المعادن والعقاقير قد حيّرت الطلاب وأضاعت أموالهم فأُضطروا

إلى تزييف الذهب والإحتيال والنصب على الممولين.

رابعاً: يأخذ الصادق على جابر أنه يجنح فيما يكتب إلى الرموز والتعمية عن عمد.

خامساً: وأن أسلوب جابر هذا في الترميز والإدغام لا يفهمه إلا من إهتدى إلى علوم الصنعة (الواصل) وإن من وصل لا يحتاج إلى علم جابر.

سادساً: ويطلب الصادق من جابر أن يختصر في القول وأن لا يُفسده بالثرثرة الزائدة عن اللزوم (…ولا تُفسد الكلام بما تُضيف إليه كعادتك). ثم يزيد فيطلب منه إذا ما فرغ من وضع الكتاب أن يعرضه عليه.

ما معنى أنْ يطلُبَ الرجلُ من إمام المدونين (25) في علوم الصنعة جابر بن حيان أن يعرض عليه ما سيكتب؟ لا يصدر مثل هذا الطلب إلاّ من أُستاذ مُشرف وموجّه وعالم قدير. إنه أل (Supervisor) حسب التقاليد المعاصرة في مجالات البحث والتقصّي.

هل هناك ما هو أروع وأبلغ من هذه التوجيهات والنقود والنصائح؟ وهل يُمكن أن تصدر من رجل لا علاقة له بالعلوم والصنائع وبعالم الكتب والتأليف؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1528 الاثنين 27/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم