قضايا وآراء

استهلال في مفهوم الشخصية العراقية / قاسم حسين صالح

فهنالك من يعظّمها ويرفع من شأنها بما يوحي لك انها تتفرد بما هو جميل من المزايا، وهنالك من يذمّها ويصفها بأقبح ما في البشر من صفات .

ولهذا الاهتمام بالشخصية العراقية والتناقض الحاد في وصفها او تحليلها، اسباب سياسية ومنهجية . والمشكلة ليست في الاسباب السياسية لأن امرها معروف، فمن اراحها من السياسيين امتدحها، ومن اتعبها ذمها، فضلا" عن ان الكتابات من هذا الصنف تفتقر الى العلم، وان الغالب على الباحثين الذين " حللوها " كانوا يكتبون ما يرضي السلطان أو الحاكم،وهذا أمر أنتم أدرى به. لكن الاشكالية في هذا التناقض تكمن – برأينا – في الاسباب المنهجية . ونعني بالمنهجية اعتماد طريقة البحث العلمي التي تتطلب الموضوعية واستخدام ادوات البحث التي تفي بشرطي الصدق والثبات، وان يكون القائم بها متمتعا" باخلاقية البحث العلمي، لاسيما التجرد من الميول والاهواء، وان يكون متخصصا" في " علم نفس الشخصية " أو ملمّا" بنظرياتها واساليب البحث فيها . ومن اكبر هذه الاخطاء المنهجية ان الكتّاب عدّوا العراقيين شعبا" واحدا"، وانهم وقعوا في خطأ " التعميم " .

 

والواقع ان مفردة" شعب " فيها غموض وتعدد معاني . فهي في القاموس المحيط تعني : " الجمع، والتفريق ...والقبيلة العظيمة" . فيما تعني في السياسة : الناس الذين يسكنون ارضا" معينة بحدود جغرافية يطلق عليها اسم دولة . وبموجب هذا المنطق فان عدد شعوب العالم يساوي عدد الدول المنضوية في منظمة الامم المتحدة ( بحدود 195 دولة ) . وهذا يعني ان سبعة مليارات من البشر يتوزعون على ( 195 ) شخصية فقط ! .. وفي هذا مغالطة . وكما لايصح القول بوجود " شخصية اميركية " تمثل مائتي مليون امريكيا" و " شخصية صينية " تمثل 1500 مليون صينيا"، فانه لايصح القول بوجود " شخصية عراقية " ثمثل ثلاثين مليون عراقيا" .

ويبدو ان مفردة " شعب " اضفى عليها السياسييون معنى ليخدمهم، بوصفهم للناس الذين يحكمونهم أنهم متشابهون، وانه لا فرق بينهم، مع انهم (السياسيون) يفرّقون بين الناس في الوظيفة والتعامل والاعتبار والدين والمذهب وحتى المنشأ الجغرافي! .

ومع ان الشعب بالمفهوم اعلاه " الناس الذين يعيشون في دولة واحدة " توجد بين افراده صفات مشتركة، لكنه ليس من الصحيح علميا" القول بوجود " شخصية " واحدة تمثل مجموع خصائص ذلك الشعب . فالخطأ المنهجي الذي وقع فيه من تناول " الشخصية العراقية " انهم افترضوها مثل " قطرة الدم " التي تنطبق خصائصها، في التحليل، على صنف الدم الذي اخذت منه بكامله .. بمعنى انك اذا اخذت " عراقيا"  بطريقة عشوائية، وحللت ما فيه من صفات فانك تعممها على ثلاثين مليون عراقيا" .

والاصح القول بوجود اقوام .. كل قوم منها تجمع افراده امور مشتركة : تاريخ، لغة، قيم، تقاليد أو عادات، اساطير، فولكلور،أزياء.. ينجم عنها صفات أو خصائص مشتركة بين افرادها تميزهم عن الاقوام الاخرى . وتأسيسا" على ذلك يمكن القول بوجود " شخصية قومية " بمفهوم القوم اعلاه، اصح علميا" وعمليا" من القول بوجود " شخصية " عراقية، أو ايرانية، أو  عربية، أو امريكية .. تمثل شعوب تلك البلدان .

انني اتحدث بلغة (علم نفس الشخصية) لا بلغة السياسة . وارجو ان لايفهم من قولي هذا انني افرّق بين مكونات الشعب العراقي، فللسياسيين " الحق " في ان يصفوا العراقيين بانهم " شعب واحد " على افتراض ان نواياهم صادقة في ان يعملوا من اجل ان يعيش العراقيون جميعا" في وئام وسلام، ويتمتعوا بخيرات وطنهم بالعدل والانصاف . ولكن القول بـ " الشخصية العراقية " بمعنى انها تمثل كل العراقيين، ليس صحيحا" حتى من الناحية الساسية لانه يعني ضمنا" : الغاء أو تهميش أو صهر أو تذويب شخصيات الاقوام الاقل عددا" في شخصية القوم الاكبر عددا" ..لاسيما اذا كان النظام ديمقراطيا.

ويخلط كثيرون بين مفهومي " الشخصية العراقية " و" الهوية الاجتماعية العراقية ". فالشخصية مفهوم فرضي يصف ما يتميز به الفرد من : سلوك behavior  وفكر  thought       وانفعالات emotions ومشاعر feelings، فيما الهوية الاجتماعية تعني المعتقداتbeliefs والمشاعرfeelings   التي نحملها بخصوص الجماعة التي ننتمي لها، واحساس الفرد بأنه عضو في جماعة يشترك معها في خصائص تشكل جزء من هويته الشخصية.. وهو غير مفهوم (الهوية الوطنية) الذي يعني مشاعر الانتماء التي يحملها الفرد نحو وطنه. ومع ذلك فان كلا المفهومين يدخلان في تركيبة مفهوم (الشخصية). وبهذا المعنى فان مفهوم الشخصية العراقية تتعدد فيه الهويات الاجتماعية فيما يتوحد فيه مفهوم الهوية الوطنية، حتى لو تعددت الاقاليم في الوطن، شرط أن لا ينمو مفهوم جديد هو (الهوية الاقليمية) يحمل اتجاهات تعصبية.

 

ما أريد أن أخلص اليه من هذا الاستهلال أن لكل قوم " ولا احبّذ مفردة قومية،لأن فيها نفس عنصري " من الأقوام التي تسكن العراق " شخصية " لها صفات تنفرد بها عن " شخصيات " الأقوام الأخرى، وصفات أخرى تشترك بها معها بحكم أنها عاشت آلاف السنين في وطن واحد، وخبرت أحداثا واحدة لها انعكاساتها النفسية والاجتماعية، وان هذه الصفات المشتركة هي التي تمثل ما اصطلح على تسميته ب " الشخصية العراقية "..وبقدر ما ينبغي تعزيز الصفات المشتركة لتقوية الهوية الوطنية،الشعور بالانتماء والولاء للعراق،بقدر ما ينبغي ايضا تعزيز الهويات الاجتماعية،ليكون الوطن في اقوامه أشبه بحديقة تتنوع فيها ألوان الورود فتكون لناظرها أجمل وامتع من حديقة بلون واحد ..حتى لو كان أجملها.

 

أ.د. قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1529 الثلاثاء 28/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم