قضايا وآراء

السنين إن حكت: سر يروى بعد ستة عقود... السيّاب ترك دراسة اللغة العربية بسب صورة ! / زيد الحلي

ثم اختفت او لفها النسيان، ولا أعرف سبباً لذلك، فهي كما يرى القارئ أجمل صور السياب على قلة صوره المنشورة، ان كانت للرجل صور جميلة !

 والذي يلاحظ الصحف والمجلات التي تناولت حياة السياب او تناولت آثاره يجد انها أعادت نشر الصور التي سبق نشرها وهي لم تتعدى أصابع اليد الواحدة، حتى أصبحت مثل لازمة تؤشر للسياب ولم يشذ عن هذه القاعدة حتى موقع ( الشاعر بدر شاكر السياب الذي أسسه بعض محبي شعره ودارسي أثاره على الانترنيت، ولهؤلاء اهدي صورته موضوعة المقال، لوضعها في موقع الشاعر !! .... وأذكر انني، قرأت يوماً دراسة عن السياب اشار فيها كاتبها الى ان الشاعر الكبير كان يعاني من وضع نفسي، لقامته الجسدية المائلة للقصر ونحوله المفرط بسب إصابة لم يكتمل شفاؤها هي التدرن الرئوي (السل) الذي صاحبه لفترة طويلة من عمره الغض، ولشعوره بأنه دميم ما جعله يبتعد عن الكاميرات... ويبدو أن في هذا القول بعض الصحة، وابني هذا الافتراض على قول سمعته من الشاعر الكويتي (علي السبتي) الذي التقيته في العام 1981 في الكويت حيث أوفدني وقتها الشاعر الأستاذ حميد سعيد عند رئاسته لتحريرصحيفة " الثورة " وكنت احد صحفييها، وكان توجيه رئيس التحرير الالتقاء بالشخصيات الثقافية هناك فقط .. وقد التقيت بعدد كبير منهم ... كان من بينهم الشاعر السبتي، وفي ثنايا الحديث معه،عرجنا على الشاعر السياب اذ من المعروف ان الشاعر الكويتي، احتضن السياب في محنة مرضه في سنتي 1963 ــ 1964 ولازمه، اخاً وصديقاً وراعياً حتى وفاته في المستشفى الأميري في الكويت، وقد حدثني بدقة عن الأيام الثلاثة التي سبقت لفظ انفاس السياب، وهذا الحديث مكانه في موضوع اخر في لاحق الايام ..

وأعود الى حيث إشارتي قبل قليل إلى عزوف الشاعر السياب عن التقاط الصور والابتعاد عن المناسبات التي تكثر فيها لحظات التوثيق، وهنا يعطيني الشاعر الكويتي " علي السبتي" سبباً، لم اطلع عليه قبل ان التقيه، حيث ذكر معلومة ربما لا يعرفها حتى كتابة هذه السطور، اقرب المقربين الى السياب لحراجة البوح بها او الاعلان عنها تقول " المعلومة " ان السياب، كان في سنتيه الاولى والثانية طالباً في قسم " الادب العربي " في دار المعلمين العالية لكنه انتقل الى دراسة اللغة الانكليزية في الدار ذاتها، ليس حباً في تعلم اللغة الأجنبية، بل هرباً من حادثة ثقيلة مرت عليه وهي رفض إحدى زميلاته الطالبات التقاط صورة جماعية لطلبة السنة الثانية، حيث تصادف وقوفها الى جانبه وهي الطالبة الجميلة، فارهة الطول ممشوقة القوام، وهو الشاب الفاقد لكل أشكال الوسامة ... وقد أطلعنيمضيفي الشاعر علي السبتي على اسم زميلة السياب مؤكدا ان صديقه ( بدر) أتمنه على اسم تلك الزميلة، اثناء حواراتهما الكثيرة في المستشفى، طالباً الاحتفاظ به الى ما يشاء، وفعلاً ظل الاسم حبيس ذاكرته 18 عاماً قبل ان يطلعني عليه ... وقد حاولت بعد عودتي الى بغداد، دون جدوى، معرفة عنوان الإنسانة التي تسببت بترك السياب دراسة اللغة العربية والتوجه صوب اللغة الانكليزية، حيث تعددت روايات اقامتها، فأصبت بالملل، رغم قناعتي بأن الألتقاء بها سبق صحفي بارز يضيف رؤى جديدة عن صفحات حياتية بقيت مطوية في سفر السياب، لكن ليس كل ما يتمناه الصحفي ..... يدركه !!

 لقد أصبحت حادثة رفض تلك الطالبة التصوير مع السياب، مثار تندر الطلبة ... وحاول السياب التغطية عليها بالإكثار من شراء الملابس الراقية والتأنق واستعمال العطور المستوردة، غير آبه بالأعباء الاقتصادية الصعبة التي كان يمر بها، فقد كان مصروفه يأتيه من جده " عبدالجبار السياب "، بعد ان تزوج والده " شاكر " من أمرأة أخرى وأنتقل الى مكان بعيد عن عائلته الأولى، فتكفله جده، لكن حالة نفور زميلته منه أخذت مداها النفسي عند السياب، فكان قراره بالانتقال الى قسم اللغة الانكليزية ..

ان الشعر وحب الظهور، صنوان لا يفترقان، الا في حالة السياب .. حيث قصمت حكاية رفض زميلته التصوير، نفسيته، لكونه تصادف وقوفه الى جانبها، وأضافت اليها نتوءات مرّة وثقيلة، جعلته سريع الغضب، متقلب المزاج، وهو المكتوي اصلاً بمحطات مأساوية منذ ان وعى الدنيا في العام 1926 حتى مغادرته الحياة يوم 24 كانون ثاني 1964 على يد صديقه وكاتم اسراره " علي السبتي " في ميته سبقتها آلام مبرحة تمثلت بإصابته بمرض السل ثم الاضطراب العصبي في عموده الفقري الذي تسبب في فقدان الشعور بساقيه ... ويقول صديقه الذي تكفل بعلاجه الشاعر " علي السبتي " انه حاول التحايل عليه لتصويره في اثناء صراعه مع المرض فلم يفلح سوى مرة واحدة حيث التقط له صوراً وهو في فراش المرض بحضور عائلته، وقد أراني تلك الصور، لكنه لم يسمح لي باستنساخها رغم محاولاتي العديدة وإلحاح السيد" عامر الجميلي " المستشار الصحفي العراقي آنذاك في السفارة العراقية، الذي كان حاضراً معي، حيث قال ان رغبة " السياب " كانت ان لا يشاهده احد على سرير المرض... وفعلاً، كانت صوراً مؤلمة وكان السياب في هزال مريع، وكأنك ترى هيكلا عضمياً لطفل في الخامسة من العمر! ولم يخف الشاعر الكويتي وهو يحدثني عن معاناة السياب في مرضه، ملاحظاته من قوة شكيمة السياب الممزوجة بمرارة تساؤلات ترقى الى عتاب غير مستحب، كان يوجهها وهو ينظر الى سقف الغرفة في مشفاه وكأنه يناجي الخالق العظيم بعبارات مبهمة .. معناها مدفون في صدر السياب وظاهرها حركة شفاه خجولة !! وأتذكر، هنا، مقطعاً من قصيدة " دار جدي " ... حيث يقول السياب :

 أهكذا السنون تذهب؟

 أهكذا الحياة تنضب ؟

 أحس أنني أذوب، أتعب

 أموت كالشجر

 ××××××××××××××××

وأعود الى الصورة التي بدأت الحديث عنها، وكيف عثرت عليها .. كان ذلك قبل اربعة عقود ونيف، وتحديدأ قي العام 1968 وذلك في اثناء عملي في صحيفة " الحرية " البغدادية، حيث وجدتها على شكل ( كليشه) في أحدى غرف الجريدة المعتمة والملآى بالرطوبة و(الكليشه) هي نقل الصورة الفوتغرافية الى صورة بالحجم المراد، معجونة بمادة " الزنك " وقد وجدتها بين أكداس من (الكليشهات) ٍكليشهات اخرى ضمها كيس ورقي عليه عبارة (زنكغراف النحاس) وهذا يعني انها كانت مهيئة للطبع حيث ثبتت على الخشب، لكني رغم الفترة الطويلة التي مضت على تلك الكليشة لم اجد عليها آثار الدهان الذي يرافق عادة عملية دوران ماكنة الطبع سيما في المكائن اليدوية التي كانت سائدة آنذاك، فبقيت قطعة الخشب التي لصقت عليها الكليشه نظيفه، عدا ما علق عليها من غبار السنين، ويدرك المختصون في الطباعة والمخضرمون في الصحافة ما أقوله من خلال (النقاط) الصغيرة جدا التي ترافق الصور الزنكغرافية، نتيجة الحفر بمادة (الزنك) لأظهارها ..

ووجدت ايضا، مسودات بخط الشاعر في تلك الغرفة، تناولت بعضها في مقالتي المنشورة في 2 / 6 / 2009 بعنوان (السياب نجح في الشعر ورسب في المقالة) وفي وقت أخر سأتناول مسودات أخرى بخط السياب، كان كتبها ربما في العام 1955 وهي عبارة عن أوراق حملت تشطيبات كثيرة، رفع فيها السياب جملة هنا ووضعها هناك، ثم أعادها الى وضعها السابق، وهكذا حتى ضاعت فيها مقدمتها عن وسطها.... هي مقالة دافع فيها السياب عن نفسه إمام ناقديه وهي تستحق وقفة عند دارسي " السياب " ..

 كانت تلك الغرفة الرطبة في جريدة " الحرية " منجماً ثقافياً لم أعي أهميته إلا بعد حين، والشذرات التي انشرها بين مدة واخرى هي من معين تلك الصحيفة العريقة.

 

   [email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1530 الاربعاء 29/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم