قضايا وآراء

بلقيس والهدهد: علي خيون والأسطرة الخلاقة / حسين سرمك حسن

وقد كتبت وقتها دراسة تحليلية طويلة عنها لم ينشر منها سوى صفحتين في جريدة"العراق " بسبب ظروف الحصار واختصار عدد ومساحة صفحات الصحف، خصوصا الصفحات الثقافية في ذلك الوقت .ولظروف قاهرة ضاعت الدراسة القديمة، ثم وقعت بين يدي الآن نسخة من الرواية في طبعتها الثانية، فوجدتها فرصة لا تعوّض لإعادة قراءتها ومحاولة تحليلها مراهنا على أن كل محاولة قراءة نقوم بها لأي نص قرأناه سابقا هي قراءة جديدة - وليست إساءة قراءة كما يطرح التفكيكيون - وستكون مختلفة وأكثر ثراء انطلاقا من أحكام المتغيرات الجديدة التي أحاطت بالناقد - اتساع ثقافته وقراءاته المضافة،تجاربه الإبداعية والحياتية وخبراته الشخصية، ظروفه النفسية في لحظة القراءة الجديدة، ضعف أو اشتداد عملياته الإسقاطية عن القراءة السابقة، نضج أدواته النقدية، تراكمات المنهج على الساحة الثقافية العالمية.وغيرها الكثير-.وعلي خيون الذي قال عنه شيخ النقاد الدكتور "علي جواد الطاهر"قبل أكثر من عقد من السنين:" لم يأت طارئا على الفن القصصي. فهو صاحب خمس مجموعات قصصية،وأربع روايات،ولكنه جديد بما حقق من تقدم لنفسه وللفن الروائي في العراق"،أصبح الآن صاحب ثماني مجموعات قصصية ؛آخرها مجموعة"تحت سماء زرقاء"،وست روايات آخرها رواية" النشور" التي صدرت ببغداد سنة 2000. ورواية " بلقيس والهدهد" تتكون من عشرين قسما -أو مشهدا روائيا -تبدأ بقسم "النبوءة" الاستهلالي الذي يتسق مع المسار الأسطوري والخرافي الذي رسمه الروائي لعمله مع اختلافات جذرية سنمسك بها في أثناء تحليل وقائع الرواية. فأغلب الأساطيروالحكايات الخرافية تبدأ بنبوءة،ولا تختلف في ذلك أسطورة أوديب عن حكاية سيف بن ذي يزن -. وليست النبوءة إلا تعبيرا عن حكمة "القدر" الجائرة المسبقة التي تُصمم للتحكم بحيواتنا،بعيدا عن أي تدخل منا؛ نحن أصحاب المصائر المرسومة المتعسفة.تأتي النبوءة على لسان البدوية "ميّاسة" التي تقول لـ "سعود" بطل روايتنا هذه وهي تضرب الودعات : " سوف تصاب بالعمى أو يتوب الله عليك والله أعلم" .يحتج سعود على هذا المصير الأسود، وهو مصير أوديبي ماحق، ويركل البدوية بعنف وحين تسقط وتتكشف فخذاها الممتلئتان تشتعل شهوته التي كانت معطلة بفعل التوتر الذي خلقته النبوءة المفزعة، تشتعل غريزته لمرأى الوشم على فخذيها. وحين أغلق باب الدكان واستدرجها إلى المغارة الداخلية بدا منهوسا بالوشوم التي رآها على فخذيها " أود أن أقبل كل نقطة وشم صغيرة خضراء ".ولا بد أن يكون لأي بقعة ينهمّ الرجل بها من جسم المرأة بصورة استثنائية دافعا لا يتعلق بدلالات هذه البقعة الجمالية أو الحسية حسب، ولكن وهذا هو الأهم، بمعانيها الرمزية المختزنة في اللاشعور والمشتقة من الإيحاءات الغائرة لها في أجساد موضوعات الحب الأولى . وحين يحاول تبرير اندفاعته المحمومة نحوها والتي لفتت نظرها بقوله:"إنك صادقة.لقد عميت تماما.إن حسنك يبهر الأبصار والعقول" تؤكد له أنها تقصد النبوءة بمعناها الحرفي:"بصيرتك هي التي ذهبت الآن،أما الذي سوف يذهب فهو بصرك الذي ترى فيه طريقك".ومن دون أن تعلم هذه البدوية البسيطة فإن نبوءتها هذه هي جوهر الصراع الممزق الذي حكم حياة "سعود"قبل أن يلتقيها،والذي يحكم حياتنا نحن أيضا،الأسوياء في المعلن من سلوكنا والذين تفلح قبضة الكبت في السيطرة على حركة الصراع الدفين الدائر دائما في أعماقنا.لقد عاش سعود في السنوات السابقة من حياته تحت وطأة مطارق التمزق النفسي بين بصيرته - حسب وصف البدوية البسيطة- كتعبير عن انضباط إرادته الذي يجسد تماسك وسطوة السلطة الرقابية الداخلية الرادعة- أناه الأعلى- والتي يغذيها بالحوادث البصر المحايد(إذا لم يسيطر على بصره فستدمر حياته،البصر ممر غير منحاز)،وبين شياطين لاشعوره التي لا تحتمل رغباتها التأجيل- الهو- . وكان في كل جولة صراعية يواجه بالهزيمة الساحقة للسلطة الرقابية والانتصار العزوم لغيلانه الغرائزية السوداء. فقبل أن يصل السماوة هاربا ويتعرف في القطار النازل إلى "وهّاب" الذي احتضنه وجعله شريكا له في دكانه تقديرا لأخيه "فائز" المناضل السياسي الذي كان صديقه في كلية الحقوق، كان قد قام بأفعال إجرامية شنيعة. كان أخوه المناضل المطارد ضحية الفعل الإجرامي الأول، فقد عقد صفقة مالية خسيسة مع الشرطي "زغير" يقتسم فيها معه المكافأة المخصصة للقبض على أخيه .لقد طارد أخاه مع الشرطة حتى سقط أخوه ومات، فحمل جثته بكل قسوة إلى أمه التي انهارت وتوفيت بعد أيام . وفي العادة وحين يكون الضمير محكم السطوة على الجهاز النفسي الداخلي للفرد فإنه يردعه عن أي فعل يناقض القيم والأعراف التي تأسس عليها، حتى لمجرد التفكير بالفعل وليس اقترافه حسب.الأنا الأعلى سلطة تحاسب على النوايا والأفعال بنفس القدر، لكن ضمير سعود لم ينضج بصورة كاملة، ولذلك نجده لا يردعه عن سلوكه الإجرامي.ومن نتائج خرق نواه الضمير اشتعال الشعور الموجع بالذنب- guilt feelingالذي يربك حياة الفرد الآثم . وهو شعور لم يعاني منه سعود إلا على شكل نوبات محاسبة وجيزة تساهم فيها الخمرة في إذابة الأنا الأعلى وإضعاف قبضته الحازمة. فبعد أن أسهم في مقتل أخيه انشغل مباشرة بكيفية الزواج من"حياة"البغي التي كان يزورها مع آخرين ومن بينهم الشرطي"زغير". وغريب هذا الإصرار على الإرتباط بامرأة ملوثة، لكن هذا الإصرار يتسق مع بنيته النفسية المرضيّة التي ستتجسد ملامحها السرانية كاملة مع تصاعد أحداث الرواية . هل يشكل إصراره على الارتباط بمومس فقدانا مؤقتا للبصيرة ؟وهل البصر مسؤول عن هذا التعلق المرفوض ؟. هذا السلوك تمظهر استباقي للنبوءة اللعنة،فسعود محكوم في جانب من سلوكه بما نسميه"عقدة الإنقاذ"؛لابد أن يكون موضوع الحب ملوثا يقوم "المنقذ" بتخليصه من براثن الخطيئة . دوافع ترتبط بالخيالات الإنقاذية الطفلية تجاه موضوع الحب الأول والأثير،هذا الموضوع الذي يرسخ جانبه الملوث في اللاشعور الطفلي باكرا . يقول سعود لنفسه أن الحب أعمى في محاولة لتبرير زواجه من المومس . ولا يكون الحب أعمى إلا حين تتسيّد دوافع اللاشعور اللامنطقية على البصيرة الشعورية وتشوّشها وتقودها إلى منزلقات سلوكية خطيرة."كانت السعادة تملأ صدره، وتخفق في جوانحه،فحياة هجرت عالمها بكل ما فيه من سعة في المال، ومن حرية لا حدود لها،لتلتجيء إلى أحضانه وحده طائعة مختارة - ص24".إن هذا النزوع للظفر بموضوع مشترك- امرأة مشتركة من أيدي منافسين آخرين تمتد جذوره إلى تربة اللاشعور الطفلي.إن السعي الإنقاذي الذي لا نتيجة له، لأنه مؤسس على حيثيات الرغبة المعصوبة لا على قرائن الواقع المادي هي النبوءة التي يقررها"القدر" الأوديبي دون أن تكون لنا أي إرادة في تشكيلها أو مقاومتها. إنها نبوءة مرسومة على لوح لاشعور كلّ منا، كامنة مستعدة لتدمير حياتنا حين تختل موازنات قوانا النفسية الداخلية فتتراجع سلطة الضمير وتتنامى اندفاعة الغرائز الجامحة. وهذا هو العصاب المهلك الذي استولى على مقدرات سعود النفسية.إنه يعرف أن "حياة بغي رخيصة؛ فقد حذره زغير، وكانا يسكران، من أن حياة ليست للحب والهيام، حياة للمتعة العابرة، فقلب الطاولة وجرحه بزجاجة العرق . حياة نفسها كانت تقول له باندهاش : أنها مشاعة لمن يدفع !! وقالت له أيضا:أنت تنام معي كل يوم،فما الذي تريده أكثر من ذلك؟.حتى هو لا يعرف لماذا؟. فقط لاشعوره يتلمظ ويدرك الأسباب الخفية . إنها دوافع النبوءة المكتوبة؛هذه الدوافع التي لا تعكس الاقتدار النفسي بقدر ما تخفي أحاسيس القلق المشتعلة ومشاعر التهديد بالإنخصاء. هذا التهديد الذي حاول سعود إطفاءه من خلال التخلص من الأخ الغريم -عقدة قابيل، ثم الإنبهار بفعل "القلم" الذهبي الذي أعطاه إياه زغير كهدية من أسياده . بهذا القلم -الذي يكافيء الذكورة المهددة في أعماق سعود ويعوضها- استطاع القضاء على المنافسين الآخرين وسحقهم .أسقط أولا بائع الصحف الذي كان يعمل لديه.بعدها أرسل الصحفي سلمان، وهو صديقه منذ الطفولة، إلى السجن . ثم أوقع بزغير نفسه رغم أنه شريكه في الجريمة . ولأن النبوءة الأوديبية تنطوي عادة على مصير أسود يتمثل في السعي اللاواعي نحو تدمير الذات وخرابها الشامل الذي هو مآلها النهائي،فإن سعود كان ينفذ نبوءة خرابه "دون أن يعلم" خطوة خطوة. ما الذي يتوقعه من مومس يتزوجها وكان هو يعاشرها مع آخرين،ويوقع بشريكها ؟.لقد عاد ذات ليلة ليجد حياة وزغير في سرير الخيانة، فأطلق النار عليهما وقتلهما وهرب .وفي السماوة لم يستطع التحرر من اللعنة التي تلاحقه ؛لعنة الإنقاذ التي ًصار لزاما أن تكون مصحوبة بالتأثيم، إذ لا معنى لأي مسعى لإنقاذ موضوع حب طاهر ورصين. الموضوعات الطاهرة والرصينة ليست بحاجة للإنقاذ في الوجدان الطفلي ؛ إنها يجب أن تُلوّث وتُسقط في الدنس لتستكمل لعبة خلاصها. وحين لا تفلح محاولات سعود المعصوب في تأثيم هدف أنثوي محدّد فإن هذا الهدف العصي هو الذي سيستكمل خطوط النبوءة في قسمها الثاني الذي أعلنته مياسة لاحقا: "في ذهنك امرأة أخرى لن تنالها لا بالحلال ولا بالحرام".وكان هذا الهدف المعاند هو:"بلقيس" زوجة صديقه"وهاب" الذي آواه وأطعمه وحماه. ويبدو أننا جميعا- وهذا ما أثبتته أطروحات التحليل النفسي- نحمل في أعماقنا جرثومة تدمير ذواتنا بهذا القدر أو ذاك.نحن حين تتوفر الظروف المناسبة مخيرون،في الظاهر بالشعور،في حين أننا مسيرون،في الباطن،باللاشعور .فمياسة تقول لسعود:أولك رديء وآخرك وطيء .وهي التي أعلنت لسعود نبوءة الخراب بنفسها . وعلى الرغم من ذلك فإنها ترتبط بسعود وترتضيه زوجا ارتكب جريمة قتل جديدة.ارتبطت به ليوصلها إلى الخراب الشامل كما سنرى.والأمر نفسه ينطبق على "بلقيس" زوجة وهاب المخلصة الشريفة التي تعلق بها سعود بجنون ضاربا عرض الحائط بكل قيم الولاء والعرفان . لقد ذهب وهاب إلى المسجد وطلب منه أن تنتظره بلقيس في الدكان حين تأتي. وهو طلب غريب لأن وهاب كان قبل لحظات يوبخه على فضائحه اللاأخلاقية التي يمارسها في الدكان والتي صار معظم من في السوق يتحدث عنها .فكيف يأتمنه على زوجته ؟.سنقول أنها النوايا الطيبة ؛لكن النوايا الطيبة هي التي تمثل عادة الطريق المستقيمة نحو الكارثة،فخلفها تتستر غيلان الدوافع الشيطانية .منذ أشهر وسعود ينتظر هذه "المعجزة" كما سماها.واندفاعته المجنونة نحو بلقيس كانت من النظرة الأولى،وبصورة غير مفسرة . وهذه هي طبيعة اندفاعات اللاشعور.كان في وجهها وقوامها ما يشبه تقاطيع وجه "حياة" المومس التي أهارت مشروعه الإنقاذي بخيانتها. لقد خيل إليه أنها أختها من أم وأب مجهولين .ها هو مضطرب القلب والكيان ينظر إلى الفراش الذي حاول فيه النيل من البدوية لولا مفاجأة وصول وهاب، ويرى أنه سيظفر بما يشفي غليله من حياة في صورة بلقيس . وكلما تمنعت بلقيس كلما اشتد سعير نيران وجده . وهاهي تجلس أمامه مرتبكة من نظراته الفاجرة . وتستمع إلى تحرشاته الصارخة :"إنك لا تشعرين بمن يهيم بك".وعلى الرغم من ذلك فإنها تسهم في تحقيق هدفه الاستدراجي بـفعل "نواياها الطيبة" فتدخل معه مكمن الشيطان حيث يحاول اغتصابها لكنها تقاومه ويفاجئهما وهاب الذي يعلن، منفعلا،طلاقه لبلقيس البريئة من كل سوء ويشتبك مع سعود الذي يقتله طعنا وينفلت هاربا إلى خيام البدو حيث تستقبله مياسة التي توافق على الزواج منه رغم أنها تشاهد آثار دماء وهاب على ملابسه ويعترف لها بالجريمة!!.وفي الوقت الذي كان مبررها سابقا هو أن تحصل على فرصة للعيش في المدينة المرفهة من خلال الارتباط به،صارت مياسة الآن،والغريب أن هذا الأمر تم بموافقة أبيها وأهلها، تتستر على مجرم وتقطع معه الفيافي في صحراء السماوة المميتة. ومعها تتمزق، أو يمزق الكاتب أجزاء مهمة من الأستار التي تتخفى خلفها عُقد سعود المكبوتة . لقد فشل سعود في إنجاز واجباته الزوجية ليلة الزفاف،ولم يفلح في فض بكارتها رغم مرور الأيام . لكن الحل جاء بطريقة شديدة الدلالة نفسيا تؤكد مركب التأثيم والتهديد الخصائي الذي يعاني منه سعود. "كان يأتي مياسة مجاهدا ويرتد خائبا لاهثا.كان يرى وجه البدوية شاحبا ممتقعا،والوشم على فخذيها العاريتين،مثل بقع حبر منثور بلا معنى،وشهوته التي أفقدته صوابه في الدكان،غاضت إلى حيث لا يعرف،ولاح له جبين بلقيس الواسع، وشعرها المسترسل،وقوامها اللدن، فتحسر مقهورا دون أن يثار له موضع - ص45".لقد تركب شكل الهدف الممتنع على أرضية-جسد الهدف المبتذل فلجم قواه لأنه يعلم أن مادية الأخير حقيقة صادمة لا مراء فيها .في الدكان كانت هناك أجواء قلق ومخاطرة، صعّدها تمنّع مياسة والخشية من مجيء رقيب ؛ الأهداف اليسيرة المهيأة لـ"الاختراق" لا تشعل إنجازه ؛ وحدها الأهداف العصية التي تصبغ عملية الاختراق بطابع الاغتصاب هي التي تشبع نهمه.وهذا الفعل الاغتصابي هو الذي ينطوي ضمنا على التأثيم من ناحية ويحقق في الدلالات الرمزية الغائرة والماكرة التقرّب المحارمي من ناحية أخرى .هذا ما تكشفه الطريقة التي صممها الشيخ "غريب" لحل محنة سعود المخجلة المستعصية، كمعالج خرافي وسحري تتضمن خطته الكثير من المقتربات النفسية الناجحة رغم لا قصديتها المشوشة : "كان سعود يقف حائرا، واحتمل ضاغطا على أعصابه والرجل يمسك بساقي مياسة ويقفل عليهما كلابين من الحديد فجعلهما متباعدين عن بعضهما . أيقن سعود أن الرجل شاهد فخذي زوجته الموشومتين فاختلج شيء في داخله ولكنه ظل يحدق في الحديد المربوط إلى الأرض بحزن شديد .هبط الرجل مسرعا فشعر سعود بالإرتياح .نادى عليه الرجل من تحت : - يا شاهين بن سنية عندما أقول لك، يا فاعل . تقترب من زوجتك،وعندما أقول يا مارد خذها وافعل ما تريد - ص48 ". وقد أفلحت هذه الطريقة السحرية في علاج سعود"المربوط"رغم كل تاريخه الجنسي المتهتك السابق. وليس غريبا أن يقال أن الطبيب النفسي الحديث- خصوصا المحلل النفسي- هو الوريث الشرعي لساحر القرية القديم .الناس تدرك ومنذ آلاف السنين - من حيث لا تدري- الكيفية التي تُصرّف بها دوافع اللاشعور المكبوتة في مداورات مسمومة ظاهرة البراءة والارتباك والعبثية،إدراك حدسي لا يتطلب مهارات معرفية . لكن سعود لا يهدأ له بال رغم "استقراره"الظاهري مع مياسة.لقد فقدت قيمتها اللاشعورية كموضوع حب رغم الإعلان الرسمي عنها كموضوع للشعور / زوجة . وقد اشتعلت مكبوتاته وهاهي تلوب حين سمع أن "موحان" شقيق مياسة والمطرود من القبيلة بفعل قرار من أبيه، يحمل رقية قادرة على إغواء أي امرأة وإسقاطها في شباكه، وهو "عظم الهدهد" الذي يشيع بين الناس اتفاق خرافي على أن حامله يكون مغويا خطيرا لأي امرأة حين يفرك العظم بملابسها .ولعل هذه القناعة مشتقة من تطويع جمعي لاشعوري لفعل الهدهد القرآني مع بلقيس، ملكة سبأ، تطويع فرضته مشتركات البشر في خلق متنفسات لمكبوتاتهم الممنوعة.هذا التطويع الجمعي اللاشعوري حملته حتى كتب التفسير . يقول السيوطي مثلا في " تفسير الجلالين" :".. قيل لبلقيس أيضا أدخلي الصرح وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب جار فيه سمك اصطنعه سليمان لما قيل له إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار.فلما رأته حسبته لجة من الماء وكشفت عن ساقيها لتخوضه وكان سليمان على سريره في صدر الصرح فرأى ساقيها وقدميها حسانا قال لها إنه صرح ممرد مملس من قوارير من زجاج ودعاها إلى الإسلام فاستجابت.وهذه اللمحة ؛لمحة البشري الذي لديه قدمي حمار يستثمرها الكاتب بمهارة وهو يبني معمار أسطورته فقبل أن يهجر سعود القبيلة باحثا عن موحان وسط الصحراء عبر منطقة "السلمان" وصولا إلى"جهمة" القصية حذرته مياسة من السعلاة التي هي أخطر من الغيلان لأنها تتراءى للناس في الصحراء بالنهار في صورة إنسان فتضلهم أو تهلكهم جوعا. والعلامة المميزة لها هو أنها خلقة إنسان ورجلاها رجلا حمار. ولكن في عمق الصحراء،وفي خضم رحلة الأهوال،وقد اشتد عليه التعب واجتاحت كيانه المخاوف،تبدأ "الهلاوس"بمحاصرته ؛أحاسيس يشعر بها ولا أساس ماديا لها في محيطه،فيرى على مسافة منه منظرا لا يصدق ؛ كانت مياسة خلفه وقد نثرت شعرها.ولكنه حين ترجل عن فرسه وهرع إليها اختفت فجأة.وحين استدار وجدها خلفه.اندفع نحوها فلم يجدها ووجد بدلا منها شابا توهمه موحان،فاعتقد أنه أصاب بغيته وسوف يحصل على العظم الموعود . لكنه أصيب بالرعب حين خيّل إليه أن له قدمين أشبه بقدمي حمار .حتى الهلاوس يكون مضمونها وشكلها محكومين بصراعات الفرد اللاشعورية . فالعلامة المميزة للسعلاة هي العلامة الفارقة لسعلاته الداخلية،وهاهو يسقطها في صورة مشاهد هلوسية ستعبر به في النهاية من انثيالات الأوهام إلى صرامة الواقع فترخي قيود الأخير وتذيب حدود منطقه الصارم وتمزج عالمي الدائرتين في تركيب مخيف."لمح شيخا يجلس قرب النار.حاول التركيز على قدمي الشيخ دون جدوى.همّ بالترجل إلا أنه توهم لأول وهلة أن الشيخ تحول إلى فتاة عارية تستر نفسها بشعرها،حدق باتجاه قدميها فلم يتبين شيئا.عاد إلى الفرس،فلمح على ضوء النار،أن الفتاة برزت له من جانب آخر عارية مذهلة الجمال .احتار سعود عندما لم ير في قدميها ما يريب. خيل إليه أنه رأى الشيخ عاريا . اقشعر بدنه حين لمح ضلفي حمار.ارتبك سعود،وضغط زناد سلاحه- ص66" ينفلت سعود هاربا للخلاص من جحيم الهلاوس والخيالات المرعبة .ولكن الأذرع الهلوسية / الحلمية تمتد في يقظته التالية عند ضحى اليوم الثاني، فتلقي غشاوة على بصيرته ويطلق النار على الشاب الحقيقي الملثم المسالم الذي يقترب منه ويقتله معتقدا أنه السعلاة،فإذا به موحان، وها هوعظم الهدهد قد صار بين يديه أخيرا.إنه القلم/ مكافيء الذكورة، الجديد الذي سيرسم به خطوط أسطورته - نبوءته. بالقلم القديم أسقط بائع الصحف وسلمان وزغير. وهو ينتظر من "القلم/العظم" الجديد المبارك أن يفك عقدة حياته التي لا حل لها ويشبع جوعه بـ "إسقاط" النساء عندما تشير سبابة غريزته،وخلاصة أولئك النساء هي:بلقيس طبعا. إنه في الواقع يريد إكمال خطوط "النبوءة"التي يجب أن تتم مهما كانت أثمان الخراب جسيمة. فإلى الآن هو يتصرف كمن فقد بصيرته، لكنه لم يفقد بصره. ورغم أن فقدان البصيرة، في حالة الجنون مثلا،لا يبقي للبصر أي قيمة نسبيا سوى وظيفيته الفيزيائية،إلا أن بقاء البصر متماسكا ومحتفظا بوظيفته سيكون موردا شيطانيا لتغذية البصيرة المعصوبة المتماسكة.فلو لم ير تلك النماذج الأنثوية ما قام بأفعاله المنحرفة المميتة، ولو لم ير بلقيس وينسحر بجمالها ما وقع في مصيدة "النبوءة" إلى النهاية . لكن ليست بلقيس بأعظم جمالا من النسوة الأخريات اللائي بدأن يسقطن في شباكه بسهولة بعد أن "تسلّح" بعظم التأثيم الذي كانت أولى ضحاياه،ويا للمفارقة، زوجة موحان نفسه، التي كانت المرأة الأولى التي التقاها في البيوت التي وصلها بعد الحادث . كانت الاختبار الأول لعظمه القضيبي،وقد نجح الاختبار بصورة مدهشة. لكنه تركها نائمة وغادر البيت بعد أن أخذ وطره منها.أما الضحية الثانية فهي "خضرة" التي التقاها في محطته الثانية،وقد هجرها زوجها بعد لعبة الرتم الخرافية- طقس خرافي يربط فيه الزوج المسافر خيطا بين غصنين وإذا انقطع لأي سبب فمعنى ذلك أن زوجته خانته - .وفي المدة التي غفا فيها منتظرا اشباع رغبته جاءته أحلام تطفيء قلقه ومشاعره بالذنب . فقد رأى الشرطي زغير حيا وسأله عن حياة فقال له أن إطلاقاته لم تكن دقيقة وأن الجروح سرعان ما التأمت .ووجد وهاب مخمورا يبكي لأن بلقيس خانته وهربت لأنه وجد خيط الرتمة منحلا .هكذا يوظف عمل الحلم- DREAM WORK البقايا النهارية التي سمعها من خضرة ليشيد عليها قصة حلمية تعفيه من كل أثامه التي اقترفها سابقا . مع الضحية الثالثة يحصل تحول ذو مغزى كبير . فقد زار سعود بيت الشيخ "وحيد" العابد الزاهد وحاول الإيقاع بابنته "نسمة"، لكنه وجدها ميتة في الصباح بفعل لدغة ثعبان وكأن المبدع يريد أن يوصل لنا رسالة الحياة الكبرى من خلال سعود وهي أن لا عظم هدهد يسبق عمل الهدهد الأكبر ؛ الموت الذي أجهض كل مناوراته مثلما أجهض في لعبة عشوائية جهود موحان، صاحب العظم الأصلي، واجتث وجوده. إن عظم الهدهد هو لعبة خلودية يائسة يلجأ إليها الإنسان للإلتفاف على المثكل المرعب والخاصي الوجودي : الموت.هذه الحقيقة هزّت أسس كيانه بعنف .توقف طويلا عند ردود فعل الأب الشيخ المثكول الذي اعتصم بحبل الله صابرا محتسبا بعد موت ابنته . وفي حوار رسمه الكاتب بين سعود والشيخ الزاهد- يحمل شيئا من روح مشهد (سعيد مهران) مع أمام المسجد في رواية نجيب محفوظ اللص والكلاب - يحاول سعود العثور على الخلاص في نفحات الإيمان بالخالق وقضائه الذي شاهد تجسيدا لجانب منه في موت نسمة. لكنه سرعان ما يعود ليقع سريعا بين مخالب "نبوءة" مصيره التي لا ترحم .يظهر ذلك جليا في أحلامه التي هي الطريق الملوكي نحو قلعة اللاشعور كما يقول معلم التحليل النفسي .فبعد أن ماتت نسمة وغادر البيت حلم أن الشيخ وحيد يعاتبه على فعلته،ويطلب منه العظم ويحطمه بقدمه في فعل تطهري سريع وناجز . ثم رأى نفسه يصلي إلى جانب الشيخ،ولكنه ما لبث أن رأى ذئبا يدور حولهما.رأى الذئب يمزق ثوب الشيخ وهو مستمر في صلاته . إنه أنموذج للضمير المتماسك المطمئن. لكن في الحلم الذي تنفلت فيه دوافعنا الدفينة عادة،وجد سعود نفسه يستل خنجره وينهال به على جسد الذئب، لكن الذئب راوغ فجاءت الطعنة في ظهر الشيخ مباشرة .يبدو سعود نتاجا لـ"حتمية"قوى مستترة لا تتيح له الإفلات من مصيدة المصير- النبوءة أبدا. هو نفسه يتساءل عن ذلك في أكثر من موضع في الرواية وبعد كل جولة معصية يقترفها .فبعد أن أوقع "عظمه" بزوجة موحان المغدور وتركها نائمة ومضى باتجاه الصحراء: " كان حزينا مباغتا بما سمع ورأى،ولكنه كان يتحسس العظم كمن يخشى عليه من الضياع . كان ذهنه نهبا لصراع داخلي فظيع، بين رغبات تدفعه إلى المغامرة وبين حزن وندم على ما يفعل من أمور غريبة لا يفقه لها معنى حقيقيا محددا-ص74 " . يتصارع في داخله الشيطان والرحمن صراعا دائما معذبا؛صراع ثقيل الوطأة على روحه، لكن الغلبة في النهاية تكون للشيطان .بعد كل محاولة صراعية تطهرية تنهض الغرائز الشيطانية كالعنقاء من تحت الرماد . وإذا كان معلم فيينا قد تطرف كثيرا في اعتبار أن أسطورة العنقاء تعكس الانتصاب القضيبي المتجدد، فإنه بذلك يحددها ويقسر معانيها ويميتها في النهاية . إن العنقاء الوحيدة التي نعرفها هي عنقاء الغريزة الآثمة (ذات الطبيعة المحارمية في جوهرها )، الحيّة التي لا تموت . هي بعد كل جولة تحترق بنواه الرحمن وترغيب الإيمان لتنطفيء وتصبح رمادا، لكنها ما تلبث أن تنهض سريعا متعالية ماحقة.وهكذا، من الأزل إلى الأبد في حركة سرمدية لا تكل .وليس عبثا أن الوصف الأثير لدى العشاق المتيمين هو ما يرتبط بفعل النار في وجهيه المتناوبين. ولهذا عطل التفكير الأسطوري والديني محاسبة الشيطان المخلوق من مارج من نار إلى يوم البعث في مداورة تمنحه الخلود الموازي لخلود الآلهة المعبرة عن الضمير -الأنا الأعلى.إنها حركة ماكرة وعبقرية"تُمسرح" صراعات القوى المكونة لجهازنا النفسي على المسرح الكوني.وتأتي ضمن لعبة الاشتعال- الانبعاث،والانطفاء- الموت(ولا ننسى بُعد هذه العملية الخلودي المقاوم للموت الخاصي) تأتي النظرة الخرافية الموروثة التي تحاول تفسير ظاهرة الشهب المحترقة المتساقطة التي تتكرر مشاهدها في الرواية أكثر من خمس مرّات آخرها الحركة الأخيرة المدروسة في الرواية؛ الشهب التي يفسرها زوج بلقيس الجديد/المعلّم بنفس الطريقة التي تفسرها بها مياسة البدوية الساذجة، فالأول يقول لبلقيس : " إنها ترجم الشياطين يا زوجتي العزيزة "،والثانية تقول لسعود:"إنها تتعقب الشياطين كي لا تهبط إلى الأرض فتعيث فسادا" .ليعبّر الكاتب بذكاء عن الوحدة المرجعية اللاشعورية الجمعية التي لا تعتمد على المستوى المعرفي في تشكلها ورسوخ القناعة بها .إن تكرار سقوط الشهب الشيطانية الساقطة والمشهد الاحتمالي الختامي الأخير حول الرواية التي شاعت في السماوة حول مصير سعود والتي تقول أنه أصيب بالعمى بسبب عبوره وادي سقر ثم ارتطم بالقطار الصاعد إلى بغداد وتناثر في الأرض كشهاب محترق هابط،هو تجسيم رمزي لسطوة الشياطين الغرائزية وتكاثرها.شياطين لم تفلح كل صحوات سعود الضميرية في لجم نهضتها العاتية،والتي كانت آخرها الهزة الإيمانية التي أثارها سلوك الشيخ غريب الزاهد المحتسب.لقد طاف سعود في الصحراء ؛ الصحراء التي يتجلى فيها الله واضحا لكل عين،خصوصا عين الشيخ، إلا عيني سعود اللتين ظلتا مغمضتين،هكذا كان يقول لنفسه " إن الخوف من الله يتملكني ولكنني أسعى إلى هدف محدّد يشدني إليه نداء غامض، كأنني أتحدى من أجله كل تناقضات نفسي، كأنني طفل يغمض عينيه ويمشي معتقدا أن أحدا لا يراه ". هكذا يساق إلى مصيره بحتمية لاشعورية متجبرة لا ينفع معها حتى التبصر السطحي بالخسران المبين الذي يحيط به من كل جانب رغم ظفره بأهدافه الجنسية . هناك دائما ماهو مفقود وغير مكتمل، وهو الذي يسوقه من وراء ظهر إرادته كما يقول"ايفان كرامازوف"بطل رواية دستويفسكي الشهيرة :"هناك ما يعتمل في ذهني ولا يعتمد على ذهني..أنا كرجل أعمى يدفع من الخلف" .ثم يطرح على نفسه سؤالا مهما : لماذا لا يساعدني الله ويأخذ بيدي كما أخذ بيد الشيخ إلى رحاب الإيمان ؟.وهو سؤال نكوصي باحث عن سند تبريري توفره قوى الأب الحامي المقتدر.ويحتفظ أيضا بجوهر الصيغة الهروبية في التساؤل الذي يطرحه على الشيخ رغم أنه الآن هروب إلى الأمام إذا جاز التعبير : ترى كيف أهرب من نفسي إلى الله مثلك ؟ فتمتم الشيخ :- لا تهرب من نفسك .. بل قدها إلى الله عن قناعة وثبات ودعها تسبح في ملكوته وتمتليء بفيض نوره . فقال سعود جزعا : - كيف ذلك ؟ امتدت يد الشيخ المعروقة إلى يد سعود وشرع يدعو له : - لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين – ص 102.

وهذه الطريقة الوعظية خادعة ومموهة لأنها لا تخترق طبقات اللاشعور لتفكك العوامل الخفية التي تدفع الإنسان من الخلف كما عبر سعود عن ذلك بقوله للشيخ " أفهم كل حرف تقوله ومع ذلك أشعر بعجز كبير ".ولهذا نجد سعود يتوضأ ويصلي مع الشيخ وينام مطمئنا ليستيقظ ويفشل أمام أول اختبار- بعد التطهر المزعوم-واجهه في الصباح وهو يشاهد "نجمة" الصبية التي جاء بها زوجها الكهل العاجز إلى الشيخ يسأله البركة في صبي من رزق الله الحلال .في اليوم التالي كانت الفرس تمضي سريعة تقطع ظلمة الفجر،والمرأة تلف خصر سعود بكلتا يديها كي لا تسقط بفعل الريح .

وقفة : ----- لو راجعنا بدقة مغامرات سعود الثلاث التي أوقع فيها بخضرة ونجمة وزوجة موحان بعد أن ظفر بعظم الهدهد السحري فسنجد أن دوافعنا اللاشعورية المسمومة قد جعلت بصيرتنا تغفل أمرا في غاية الخطورة وهو أن النسوة الثلاث قد سقطن في شباك سعود دون أن يكون لعظم الهدهد أي دور في ذلك . لقد سقطن لأسباب لا صلة لها بالعظم : زوجة موحان كانت عابثة مهيأة لخيانة زوجها والدليل على ذلك هو أنها أدخلته البيت ليبيت معها ليلة بلا تردد أو تحسّب، أما خضرة فقد انبرت واستضافته من دون جميع الرجال والنساء الذين التقوه قرب البئر ..وقد تقرب منها نفسيا مادحا جمالها ومؤججا نقمتها على زوجها الذي هجرها لأن خيط الرتمة انقطع مشككا بشرفها .كانت مقاومتها هشة حين تجرأ وقبّلها حيث لم تستنكر سلوكه التحرّشي بل قالت : - ليس الآن.. ليس الآن .. قد يعود أخي.رفضت بعد أن فرك العظم بملابسها، أي أن العظم لم يكن له دور يذكر .لكنها قامت بعد ذلك تلقائيا بإخباره بأن أخاها لن يعود تلك الليلة فخلا لهما الجو.أما نجمة فهي صبية غرّة استولى عليها بجرأته حين دخل عليها فجأة وهي حاسرة الرأس فلم يتراجع وبدأ يمدح جمالها ويأسى على حالها لزواجها من شخص عاجز ويغرس في نفسها الأمل في الحمل والإنجاب .وعندما فرك ملابسها بالعظم وجذبها إليه اشتغلت بصيرتها وقالت : ليس هنا . أي أن العظم لم يضعف قدرتها على اختبار الظروف وإلا لكانت قد تهاوت عند قدميه .وبعد أن هربت معه ظهر أنها كانت قد رأته سابقا وقررت أن تخون زوجها لتكون من نصيبه.إن غيبوبة بصيرتنا تعود إلى تماهينا مع "بطلنا" سعود الذي صار ممثلا لدوافعنا الآثمة .وهذا التماهي المغيّب يكشف الطريقة التي يمكن أن تنمو فيها أشد الأساطير لامعقولية وغرابة .أساطير وخرافات تنتقل من جيل لآخر بمباركة جمعية ثابتة لا تهزها أقوى الحجج منطقية وعلمية .وهي نفس الآلية التي "أسطر" فيها الناس فعل عظم هدهد سليمان أصلا والتي عبر عنها الكاتب وهو يصف توقعات سعود من بلقيس : "طرد سعود أفكاره السود كلها، مشجعا نفسه بأن هذا العظم الذي انتزع من طائر الهدهد، ليستودع فيه سحرة البدو بعضا من قوة الجن التي أذعنت لنبي الله سليمان منذ القدم، لابد أن تخضع له بلقيس طائعة، وسوف يضمها إلى صدره شاءت أم أبت كما أذعنت بلقيس الأولى للنبي سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه-ص 123". ولكن هناك مكمن خطر هائل آخر يتمثل في تمرير ما هو مدنس تحت أستار ما هو مقدس .إن التطويع الذي يقوم به اللاشعور-الفردي والجمعي على حد سواء- لما هو مقدس ونقله خطوة خطوة إلى موقع مناقض لا يكتشف أبدا، ونتداوله لقرون دون أن تمسك البصيرة الحادة بمغزى التطويع هذا.لقد اقتنع الناس بأن قدرة عظم الهدهد المغوية مشتقة من قدرة عظم هدهد النبي سليمان الذي أغوى الملكة بلقيس .وقد سبقت ذلك موضوعة ساقي الحمار على الجسد البشري الأنثوي .هذا الأنموذج الأنثوي كان هدفا أصيلا لسعي النبي سليمان الإيماني ؛ يدعوه إلى عبادة الله الواحد الأحد وترك الشرك، لكن المكبوت الجمعي المسقط على الحفزات الغريزية للنبي دور في تشكيل مسار الحكاية،إذ أن من حقه أن يتأكد من سلامة ساقي الأنثى التي سيرتبط بها،وقد اختلطت الدعوة إلى التوحيد بالدعوة إلى الزواج .ولا يربك الجو الإيماني في ظل التواطؤ الجمعي اللاواعي أن لعبة حسّية - ذات مسحة مدنسة- تجري تحت الظلال المهيبة لموقف بلقيس أمام سليمان . تحت هذه الظلال تمرّر واحدة من أكثر ألعاب اللاشعور الخلاقة دقة ودهاء . لقد كان بناء الصرح الممرد من سطح زجاجي شفاف تحته ماء جار فيه سمك يسبح هو قفزة علمية هندسية كبرى في تلك العصور الموغلة في القدم .لقد تم هذا الإنجاز لإشباع الفضول الجنسي الذي انسرب تحت أغطية الجلال الآسر للسرد القرآني كخلفية تفسيرية .وهذا يتسق تماما مع أطروحات التحليل النفسي المبكرة التي أشارت إلى أن الفضول الجنسي الطفلي هو حجر أساس العطش المعرفي اللاحق الذي يأخذ لدى بعض علماء النفس صورة دافع غريزي . يرقّق هذا اللعب اللاشعوري دفاعات الشعور ويتعشق معها ويتستر خلف أولوياتها الصارمة . ليلة الاختبار العظيمة : لقد جاءت ليلة الاختبار العظيمة حين توجه سعود إلى السماوة نحو هدف حياته النهائي ؛بلقيس ."إنه يقطع القفار وفي صدره رغبة عارمة لمرأى بلقيس كأن الأقدار تدفعه إلى أمر كتب على جبينه ولابد أن يراه بعينه وأن يعيشه بملء إرادته- ص114 ".جاء واقتحم بيت بلقيس ليلا هي التي ترملت بعد أن قتل زوجها من قبل. وهو مسلح الآن بعظم الهدهد السحري الذي آمن بعد التجارب الثلاث التي أوهمته – آمن فقط لأن لاشعوره يريده أن يقع في هذا الوهم اللذيذ- بقدرة "عظمه" الخرافية.ورغم أن للإخراج الروائي أحكامه إلا أن من الصعب أن تعيش أرملة بعد مقتل زوجها وهي أصلا من بغداد وحيدة في بيت في مدينة ريفية متزمتة . ومن جديد ينشط التواطؤ اللاشعوري حين يطرق سعود الباب ليلا فتفتحه بلقيس بلا حذر، ورغم أنها تتعرف عليه إلا أنها تدخله البيت وتقف أمامه موقف الضعيف المساوم على حصة الدكان والمهادن الصبور في النقاش معه وهو قاتل زوجها المطلوب للعدالة . المهم حلت ساعة الإختبار العظيمة لسلاح التأثيم الذكوري مع الهدف الأنثوي المستعصم والمستعصي . حين ذهبت بلقيس لتجلب له كأس ماء فرك الكثير من ملابسها بعظمه، ولكن بلا جدوى، فقد كانت بلقيس عصية عن الإغواء فهي التي،كما قالت له النبوءة، لن ينالها لا بالحلال ولا بالحرام .الآن بدأ ما تبقى من بصيرة سعود المحبطة بفعل نرجسيته الجريحة يتململ تحت قبضة الرغبة اللاشعورية ."أحس باضطراب واضح في نبضات قلبه، وحزن يكاد يكتم أنفاسه . إن العظم لم يؤثر كما كان يفعل من قبل .ما الذي جرى ؟أتكون الملابس التي أمامه ليست ملابس بلقيس ؟ولكنها ملابسها دون ريب. أيكون السحر قد انتهى في هذه اللحظة وهو في أشد الحاجة إليه ؟ أم أن العظم لم يكن مسحورا وأن النساء في الصحراء كن يتساقطن بين ذراعي ابن مدينة جريء وساحر ؟ أم أن العظم يعمل في الصحراء دون المدينة ؟ أتحتاج بلقيس إلى ورقة وقلم لتنهار أمامه،ولكن من أين له بهما وقد قتل زغير ؟-ص122". لقد وقف الآن عاريا وقد انكشفت كل عقده الدفينة .لكنه لا يقنع بأن هناك امرأة شريفة صامدة مثل بلقيس وأنه إنسان مخصي معصوب لن ينقذه أي عظم . وقد بذلت بلقيس معه المستحيل كي تتخلص منه بهدوء تجنبا للفضيحة وحفاظا على شرفها فلم تفلح. لا موضع للمنطق في عالمه فقد ولّت البصيرة بلا رجعة وبقي البصر. وكي تكتمل خيوط النبوءة الدامية لابد أن يفقد البصر.فما دام بصره سليما معافى فإن اللعنة ستدوم ولن تحل . بصره يغذي بصيرته المنحرفة بمدد من المحفزات التي تشعل توترها العصابي . وعليه،يجب أن يفقد بصره كما تقول النبوءة وعلى يد المرأة التي قالت له البدوية بأنه لن ينالها لا بالحلال ولا بالحرام - وأنموذجها الأول المختزن في اللاشعور هو أنموذج محارمي .. أنموذج أمّ - .وهاهي بلقيس تحمل المطهاة بالدهن الذي يغلي لتملأ به عينيه حتى سال الدم منهما.ولفرط حماسة المبدع لعمله وتلبسه إياه اندفع في تفسير مضرّ فنيا بمسار الرواية وتوتراتها الدرامية واحتباساتها النفسية حيث قال: " فقد عينيه وضاع ما وعده به عظمه المسحور،لقد تحققت النبوءة، وكأن في هذا معنى خفيا لفقده رجولته،وضياع حلمه المنتظر- ص125" .وهذا الجانب التفسيري المضر وقع فيه الكاتب أيضا حين استرجع سعود الممارسة ذات الإيحاءات النفسية والأخلاقية والأسطورية العالية التي قامت بها مياسة عندما حاول أحد الذئاب الهجوم على مجلس قبيلتها.ففي الوقت الذي أصيب فيه بالرعب واستولى عليه شعور غريب بأن الذئب سيفترسه دون سواه وهو مزيج من مشاعر مركبة بالاثم والانخصاء، اتجهت مياسة بهدوء نحو الذئب وكشفت شعرها وخاطبته كأنه إنسان : -ابتعد أبو سرحان ابتعد .. عيب .. أنا حرمة ومعي أهلي .. استح أبو سرحان ..فاستدار الذئب مهرولا إلى قلب الصحراء .لقد استرجع هذه الذكرى حين توسلت به بلقيس أن يغادر بيتها لأنها امرأة وحيدة و" المرأة بشارب الرجل "..وإذا أصر فإن تلك طباع الذئاب .إن تذكير القاريء بسلوك مياسة يضفي على الموقف طابعا وعظيا ليس من واجبات الفن الروائي الحديث . والرواية صغيرة الحجم وأحداثها محدودة ولن تفلت المقارنة غير المباشرة من ذهن القاريء . إن عمل الروائي يقوم على التلميح لا التصريح ورسم مشاهد الوقائع المحملة بالدلالات لا شرحها أو تفسيرها،والقسم الذي وضع له المؤلف اسم " بلقيس والهدهد" ومنه أخذ عنوان الرواية يحمل الكثير من الإحالات المخاتلة التي يمكن للقاريء بشيء من الجهد التأملي الهاديء المعتمد على المسار التحليلي السابق أن يمسك بها ويلتقط جانبا من محاولة الكاتب في فك البطانة المدنسة عن الغطاء المقدّس .فصل ما هو لا شعوري مسقط يطوّع ماهو شعوري ويرقق دفاعاته ويسخره لخدمته .

الآن تبدأ كتابة الأسطورة : بعد القسم السابع عشر :"الشهب" الذي تغادر فيه بلقيس المدينة إلى بغداد بالقطار مع زوجها الجديد حيث شاهدت الأطفال يرجمون سعود المجنون بالحجارة وهو يركض يبغي التعلق بالقطار مثيرا قلقها وتحسبها من "إبليس الذي لا يموت ولا يترك الناس تمضي في صراط مستقيم"،تأتي الأقسام الثلاثة الأخيرة (حقائق وأحاديث موضوعة عن سعود السعدان، اعترافاته الشخصية كما رواها الأصدقاء، و ما رواه بعض المارة )، وفيها،وخلاف ما يتوقعه القاريء تبدأ عملية كتابة أسطورة سعود السعدان الفعلية .إن الكاتب يريد القول أن ما تقدم من أحداث الرواية، من إطلاق البدوية للنبوءة إلى وقت تحققها حين فقد سعود بصره على يدي بلقيس التي لم يفلح معها عظم الهدهد كما صورت له بصيرته المفقودة - خلاف بلقيس سبأ التي جاء بنبئها اليقين هدهد سليمان واستسلمت له وهذه من المقتربات التحرشية للرواية-هو "ثيمة" الأسطورة، النواة،التي تتكرر في جوهرها في العديد من الأساطير، فأوديب أبلغه كاهن دلفي بنبوءة معروفة انتهت بأن فقأ عينيه بأسياخ الحديد المحمرة.إن الأسطورة الفعلية هو ما ستكتبه صراعاتنا المكبوتة على لوح لاشعورنا بعد أن استثار مخزوناته السلوك الآثم لسعود .في هذه الأقسام الختامية تبدأ "الكتابة" الجمعية الأكثر خطورة .فقد قدم لنا الروائي "هيكل" أسطورته/ روايته التي سيكسوها الآخرون لحما، فمن الحقائق والأحاديث الموضوعة ( والحقائق لا توضع ) مرورا باعترافاته الشخصية وانتهاء بروايات المارة يحصل تضارب هائل حول أصل سعود وسيرته ومصيره .لا يوجد اتفاق حول أي شيء .فمثلا قصة الفتاة التي أخذها إلى الصحراء والمصير الذي رسم لها تشكل في صور إخراجية متناقضة . والتضارب نفسه ينطبق على مصير سعود وكيف مات وصلته بطائر الهدهد و..و..والأهم الذي سوف لن يركز عليه القاريء هو أنه لا توجد أي إشارة إلى أي من حوادث الرواية التي انتهت .. لا نبوءة ولا سلامة ولا شيخ ولا بلقيس ..يقول الكاتب : "ما يقلق حقا في مصير السعدان، ومسار حياته وأهم الوقائع التي صادفها، تلك الروايات الموضوعة التي يصعب على المرء تصديقها كما يصعب تكذيبها بالدرجة ذاتها، غير أن عقل المرء وخياله، بقدراته المعروفة،لا يستطيع التقاط إلا ما يمكن تصوره ممكنا وقابلا لأن يحدث على ظهر الأرض، ومصير إنسان واختياراته في الحياة القصيرة الفانية، تحتم نوعا من التصرفات التي لا يمكن أن يتجاوزها الخيال إلى وقائع تستفز الذهن . لقد كان الرجل يكذب بدهاء في حياته ومات ولم يخلف سوى الأكاذيب - ص136".وهنا يضعنا الروائي في قلب أكذوبته- أسطورته الكبرى / روايته ..فسعود لم يخلف وراءه سوى الأكاذيب ..وعلى الرغم من ذلك فقد بنيت عليها عشرات " الروايات " ..وكل من انبرى للتأسيس على أكاذيبه لم يضع في اعتباره أن عقل المرء وخياله بقدراته المعروفة لا يلتقط إلا ما يمكن تصوره ممكنا .. لقد كان النبي سليمان قد صدق أن الملكة بلقيس لديها رجلا حمار، ولذلك أراد التأكد فبنى الصرح الممرد المعجز .

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم