قضايا وآراء

العرب وكيمياء الذهب (المثلّث الذهبي) (3-3)/ عدنان الظاهر

(… وإن أردتَ إستيفاء هذا إلى آخره فأرجعْ إلى كتابنا في الذكر والأنثى فإنك تجد أسباب ذلك وبراهينه واضحةً إنشاءالله تعالى قالوا فالحجر هو المنيُّ دون ساير الأشياء التي يتوهم أن العمل فيها ومنها قالوا وفيه جميع الأقسام الأربعة التي هي سابقة لكل موجود وهو الموضوع الأول والصورة والمُحرّك والتمام…).

كما يذكر جابر في هذا الكتاب أسماء 14 حكيماً ممن عرفنا في الفقرة السابقة بالإضافة إلى ذكر أسماء الأنبياء ووصيٍّ واحد. فلقد ذكر إبراهيم الخليل وموسى وعيسى والنبي محمد ثم علي بن أبي طالب. وذكر حتى المعتزلة وإدّعى أن قارونَ المصري وصاحب الثراء الأسطوري كان قد سرق سر الحجر (الإكسير) من موسى !!.

 

3-3-4 جابر وأسرار الصنعة:

كان الصادق مُصيباً (المصدر 29) حين قال لتلميذه جابر (… فقال ما رأيتُ لك باباً تاماً مفرداً إلاّ مرموزاً مُدغماً في جميع كتبك مكتوماً فيها…). وجابر نفسه لا يُنكر ذلك بل ويؤكده في كتبه المرّة تلو المرة بدعوى منع أسرار الصنعة من الوصول إلى أيدي الجُهّال والمُفسدين الذين يُسيئون إلى هذه الصنعة الشريفة التي هي أصلاً إلهام من الله كما يقرر جابر نفسه. قال جابر في كتاب " أُسطقس الأُس وهو الثالث " (المصدر 30 وعلى الصفحة 107) ما يلي:

(… فإنْ أنتَ لم تقفْ على ما في كتاب الكمال فأستغنِ بما أقول لك في كتابي هذا فقد أغنيتك عن ما في كتاب الكمال فإذا إعتمدتَ أنتَ على كتاب الكمال وكان من يفهمك عالِماً لم تحتجْ إلى غير كتاب وإنْ قرأتَ كتاب الكمال لكان أقرب عليك لأنَّ فيه كيفية التدبير وفي كتابنا هذا شيء من تفسير التدابير الذي في كتاب الكمال لم يضمنه كتاب الكمال لأنه لا يجوز أنْ يكونا في موضعٍ واحد بل الصواب على رأي الفلاسفة أن يكونا في مواضعَ شتّى لئلاّ يكون الوصول إلى ذلك سريعاً…).

 جابر يُفرّق ويوزع أسرار الصنعة على صفحات مؤلفاته الكثيرة فضلاً عن الترميز والتلغيز والمجاز والإستعارة. في كتاب " تفسير كتاب الأُسطقس " (المصدر 30 على الصفحة 117) قال جابر:

(… وقد أخبرتك إني فرّقتُ الباب الأعظم في هذه المائة وإحدى (هكذا وردت) عشر كتاباً مشروحاً لكنه مُفرّقاً وجعلته مائة وإثني عشرة كلمة وأثبّتُ في كل كتابٍ منها كلمةً مُفردة مشروحةً فإنْ تميزتها وجمعتها فأنتَ أنتَ…).

 

3-3-5 إكسير جابر بن حيّان:

يتفق إكسير جابر في الكثير من خصائصه مع إكسير جعفر الصادق رغم أنه لا يُشير بوضوح إلى طُرق تدبيره أو تحضيره كما كان يفعل أُستاذه الصادق. الأمثلة على ذلك كثيرة لكنني سأقتطف بعض النماذج الدالّة على غموض منهج جابر من جهة وعلى الشبه الكبير بين إكسيري الرجلين من الجهة الأخرى. في كتابه " كتاب أُسطقُس الأس وهو الثالث " الذي سبق ذكره في الفقرة السابقة كتب جابر على الصفحات 103 و 104:

(… وينبغي أنْ تُدبّرَ كلامي في هذا الموضع وقولي إنَّ الحجر الذي يكون منه الطريق الجوّاني هو ماء في منظره نار في طبيعته مُحرِقٌ لحرارته كل في طباعه فإفهمْ إلاّ أنَّ بعد معرفتك الطبيعة الكاملة التي يكون منها هذا العمل فأفصلها في الأول لتكون أعلى وأسفل فما على (الصحيح علا …) فقد طَهُرَ وما بقيَ أسفل فإنه يحتاج إلى الطهارة فيلحق بالأمام ثم افصلْ الأسفل فيكونَ أعلى وأسفل شديدي الظُلمة وطهّرْ الأرض بالماء يكون أرضاً وطهّرْ الأرض حتى يكون دماغاً ثم عُدْ إلى الأعلى فأفصله حتى يكونَ أعلى وأسفل وطهّرْ الأسفل حتى لا يكون مُحرِقاً وطهّره حتى يكون ناراً ودبّرْ النارَ حتى يكون قلباً وكَبِداً وشرياناً ودبّرْ الأرض حتى يكون روحاً والروح نوراً روحانياً والنور دماغاً قمرياً أبيضَ صافياً لا تشتعلُ فيه النارُ فإذا حصل لك دماغٌ وكبدٌ وقلبٌ وهو الشريان النابض فأقرنْ الدماغ بالكبد وأدخلْ عليهما القلب ليكون القلب مُدبّرهما جميعاً والمفيق لها الأشياء كلها يتمُّ لك إنسانٌ تام وقال بليناس الحكيم اللطيف أكرمُ من الغليظ نور الأنوار بقوة القوى يصعد من الأرض إلى السماء ثم ينزل فيكون مسلط على الأرض والسماء والأعلى والأسفل وأعلمْ أن الحلَ والعقدَ والتهيئة كمال العمل وأعلمْ أن التشوية والتسقية والدفن به ينشأُ هذا العمل كما ينشأُ الطفل بالرضاع…).

ماذا نفهم من هذا الكلام؟؟ فلنقارنه بما قال الصادق في أمور الصنعة وتدبير الإكسير. وجدنا هناك كيمياء ولم نجدْ هنا إلاّ الرموز والتعمية والغموض المُتَعَمَد.

وفي صفات وأفعال إكسيره قال جابر في نفس هذا الكتاب على الصفحات 111 و 112

ما يلي:

(… فافهمْ ما أصفُ لك فيه فأولُ التدبير يؤخذ على بركة الله وعونه من الممزوج من الأربع طبايع المأخوذة من الألوان الغريبة أعني الهادمة فتُسقي من الروح جزوء بمقدار ما تعجنه ثم تُشوى فيُفعلُ ذلك خمس مرّاتٍ ثم تُسقى الهواء بمقدار ما يعجنه ثم تشويه تفعلُ به ذلك ثلاث مراتٍ وبعده يخرج شمساً ذائباً ثم تعمل منه فتأمّلْ تستضيء بها بإذن الله جلَّ وعزَّ ويسطعُ نورها يميناً فإذا تمَّ وغاصَ فإستعملْ له حُقّاً كأطول ما تقدر عليه وليكن لطيفاً في عرضه من الفضة أو الذهب أو من الذهب والفضة أجزاء …).

وفي " كتاب التجريد وكتاب المنفعة " (المصدر 30 / الصفحات 138 و 139) وصف لعملية تحضير الإكسير جاء فيه:

(… قال رحمه الله إنَّ التكليس على نوعين كما أنه في التدبير أيضاً على جهتين ونصيبين أحدهما الإحراق والآخر التصدية بالمياه الحارة الحامضة المالحة الآكلة فإذا فرغتَ من تكليس جسد كما علمتَ فخذه مُجوّدَ التكليس فَصفّهِ ثم جففه وأحكمْ أمره ثم إسحقه

بالنشادر المُصعّد المحلول حتى يشربَ ما شرب ثم جففه في الشمس أو في هواء حار ثم أعده إلى السحق والتسقية والتجفيف حتى يصير فيه مثل وزنه أعني به أنه إنْ كان أُوقيةً صار أُوقيتين ثم حله بعد ذلك إمّا في دِن خلٍ أو دن خمرٍ ثم أروجها(؟) وإمّا في زبل الخيل فهو أوسطها وإما في بير النداوة وهو أبطأها في مدة التدبير ويامه (؟) من طولها وقصرها والنظر إليه فإذا إنحلَّ فأخرجه وحطّه (هكذا وردت) في قرعة عمياء أو قدح وفوقه آخر وأتركه على نار لطيفة جداً حتى ينعقد وأنظرْ إليه بعد إنعقاده فإن كان كالشمع في اللين ولم يكن كالتراب فقد كَمُلَ وإن لم يكنْ كذلك فأعلمْ أنه يحتاج إلى التشميع وذلك بأن تحله ثانيةً ثم تعقده ثم كذلك أبداً حتى ينعقدَ مُتشمِعاً إذا رأى النار ذاب كذوب الشمع فقد كمل…).

في كتاب " كتاب أُسطُقس الأُس على رأي الديانة وهو الثاني " يُقسّم جابر بن حيان الإكسير إلى ثلاثة أنواع: العالي الشريف والأوسط ثم الأدون. وهي تسميات لم نجد ما يماثلها في كتاب الصادق. نقرأ على الصفحات 93 و94 من هذا الكتاب (المصدر

 30):

(… فقد أتينا بأوائل الفصول وأُسطقساتها في أنحاء البلدان وكلها وهي القول على الحيوان والحجر في الرأي الدياني والمذهب الفلسفي وبقيّ أن نقول على المذهب الذاتي العامي وذلك أن التدبير والأعمال وآثار الأصباغ ينقسم إلى ثلاثة أقسام فأحدها العالي الشريف الذي يكون من أفضل الأحجار وألطفها وبألطف التدابير والجواهر إنْ من الحيوان وإنْ من النبات وإنْ من الحجر وهو دواء يحل ويعقد وساير التوابع من الأعمال التي نذكر في أثناء الكتب وأما الثاني فهو الأوسط الذي ربما كان من الحجر الواحد أو من الأحجار الجماعة لأن الفرق بين شرف التدابير إنما هو في قليلها أو أكثرها وصفاء جوهرها وتمام أجزائها ووفور أصباغها وأما النوع الثالث فهو النوع الأدون منها وذلك مُنساغ في الحيوان والنبات والحجر وطهارة هذا أقلها وكذلك الحال في قواها وأصباغها ومنازل تدبيرها على ما سنشرع في مُستَأنف الكتب وأقول بقول جامع يدل على كنه الحال في وجود حجر الفلاسفة الفاضل الصبغ وكنه الطريق إلى إدراكه وذلك أن العالم الكوني كله كاين من مزاج الطبايع الأربع …).

وعن قوّة تأثير إكسيره في باقي المعادن وتحويلها إلى الذهب قدّمَ جابر وصفاً متشابهاً له

– مع فوارق طفيفة في الصياغة اللغوية - في إثنين من مؤلفاته هما " كتاب أسطقس الأُس وهو الثالث / الصفحة 110 " ثم " تفسير كتاب الأُسطُقس / الصفحات 116 و 117". سأنقل ما جاء في الكتاب الثاني من وصف:

(… فإذا أردتَ أنْ تُلقي إكسيرك بعد تشميعك له أخذتَ من إكسيرك جزءاَ واحداً فألقيته على ألف جزءٍ من القمر وألقِ من ذلك حبّةً على ألف حتى تُقوّيه الساعة فإنه يصبغها بإذن الله شمساً وألقِ جزءاً من الإكسير على ألف ألف جزء من النحاس يأتيك شمساً إبريزاً وعلى تسعمائة ألف جزء من الرصاص وعلى ثمانمائة ألف من الأُسرب (أي الخارصين أو الزنك) وعلى سبع مائة (هكذا وردت) ألف من الشِبهَ يأتيك إبريزاً أو حبتان هي الزائدة على المتوسطة بمقدار ما كانت الزيادة للمتوسطة على التسقية …).

لم يشأ جابر بن حيّان أن يكشف عن خطوات تحضير إكسيره كما فعل جعفر الصادق. لكنَّ الفارق بين طبيعة ومفعول هذين الإكسيرين جدَّ شاسع. فإكسير الصادق الحاوي أساساً على عنصر الذهب يتفكك بحرارة صفيحة محمية من الفضة فيتحرر الذهب خالصاً نقياً. أما إكسير جابر فإن كمية قليلة منه تصبغ الكثير من النحاس والأُسرب (الزنك أو الخارصين) والرصاص فتتحول هذه إلى ذهبٍ إبريز. لا أحد يعرف آليات هذا التحوّل خاصةً وأن الصبغ كظاهرة كيميائية تتعامل مع سطوح المعادن ولا تغوص إلى بواطنها أبداً. فإذا أخذنا وزن غرام واحد (أو درهم واحد) من هذا المعدن المصبوغ وغراماً واحداً من عنصر الذهب النقي سنجد الفرق شاسعاً ما بين الوزنين النوعيين لهما (أو كثافتيهما) وسينكشف زيف هذا الإكسير وزيف الذهب المزعوم على الفور.

وعليه فلا أجد ما يدعوني إلى تصديق صحّة رواية الجلدكي التي ينقلها عنه الدكتور زكي نجيب محمود (المصدر 28، الصفحة 17) والتي يقول فيها عن جابر بن حيّان (… قد أفضى بأسرار صناعته إلى هارون الرشيد وإلى يحيى البرمكي وإبنيه الفضل وجعفر، حتّى لقد كان ذلك سبباً في غناهم وثروتهم. فلمّا ساورتْ الرشيدَ الشكوكُ في البرامكة وعرف أن غرضهم هو نقل الخلافة إلى العلويين مُستعينين على ذلك بمالهم وجاههم قتلهم عن آخرهم، فأضطُرَّ جابر بن حيان أن يهربَ إلى الكوفة خوفاً على حياته، حيث ظلَّ مُختبِئاً حتى أيام المأمون، فظهر بعد إحتجابه).

بلى، كان يسيراً على المفكّر والباحث المتعمق جابر بن حيان لا تصنيع الذهب أو قلب المعادن الأخرى إليه ولكن، إستخلاص الذهب بعنصر الزئبق من خاماته ومعادنه ومن الأتربة والصخور، وهي الطريقة القديمة التي إستخدمها الفراعنة والصينيون من قبلُ والهنود والفرس. أو بإستخلاصه من المركبات الأخرى بالإستعانة بمركب معقد سائل نجح في تركيبه وإحتفظ لنفسه في كتمان سرِّه.

ثُمَّ، هل كان حقّاً عسيراً على الخليفة هارون الرشيد لو أرادَ إلقاء القبض على العالم والمفكر الشهير جابر بن حيان؟؟ وهل كان في مقدور هذا الرجل الزاهد والمتصوف الفذ أن يهرب من سلطان خليفته وأن يظلَ مُختبِئاً مُحتَجِباً طوال فترة حياة هذا الخليفة التي طبّقتْ شهرتهُ الآفاق؟؟

 

3-3-6 الأجساد والأجسام والنفوس والأرواح:

من الطريف أن نذكر أن جابر بن حيان كان قد قسّم المعادن والمركبات إلى أربع طوائف هي أجساد مثل الذهب والفضة وأجسام مثل الزجاج والياقوت والطلْق والماس ونفوس مثل الكبريت والدهن والزرنيخ وأرواح مثل الزئبق والنشادر والكافور. ثم علّق على الزئبق قائلاً (والزيبق مشكوك فيه لأنه مع الأرواح روح ومع النفوس نفس ولذلك هو شديد الشبه بكوكب عُطارد إنه مع السعد سعد ومع النحس نحس…) (المصدر 30, كتاب أُسطقس الأُس على رأي الفلاسفة لجابر بن حيان وهو الأول من الثلاثة, الصفحات 67 و 68).

حول تحديد ماهية الأجساد وطبيعتها قال جابر (… وأما الأجساد فهي التي نفوسها وأرواحها على مقدار تمامها وكمالها ليست زايدة عليها ولا ناقصة). وقال عن الأجسام

(… فهي التي إما أن لا يكونَ لها مزاج البتة ولا دخول في هذه الصنعة …) أي أنها لا تذوب ولا تمتزج مع سواها من المواد أو أنها لا تشترك في تدبير الإكسير.

الغريب أن جابراً يقول عن الروح (لا دهانة لها) والنفس (هي في ذاتها دهن وكل دهن فإنه مُتشبث مُتَعلِق بالأجسام).

لم نرَ للجسم ذكراً في عالم كيمياء جعفر الصادق، إنما درجَ الرجل على ذكر الجسد والروح والنفس فقط. وقال إن النفس هي الجسر الذي يربط الروح بالجسد.

 

3-3-7 شروط إبداع المُبدِع:

يضع جابر ثلاثة شروط لنضوج وبروز عبقرية العالِم والباحث هي الزمان وتوافر رجال لامعين كفؤين في هذا الزمن ثم إتفاق معاشرة هؤلاء الرجال عن قُرب وكثب معاشرة التلميذ للأُستاذ الموجّه والمُشرِف. يذكر جابر من هؤلاء الرجال الأفذاذ (سيدي جعفر بن محمد ومثل معلمي حربي وأُذن الحمار المنطقي). (المصدر 30، كتاب أُسطقس الأُس وهو الثالث، الصفحة 100).

المعلِّم حربي هذا هو حربي الحميري الذي علّمَ جابراً اللغة الحميرية.

 

 4 إبن خلدون وكيمياء الذهب

 كلما أعدتُ قراءة المقدمة شعرتُ بالجزع على إبن خلدون ولكم تمنيتُ أنْ لولم يتورط الرجل ويُقحم نفسه في أمر الصنعة والكيمياء. أجلْ، كان قد ورّطَ نفسه في موضوع كان غاية في الصعوبة والإشكال، الأمر الذي جرّه إلى تبني مواقفَ من جوهر وفحوى الصنعة مُضطربة مُبهمة أساء فهمها وما كان قادراً على تفسيرها تفسيراً علمياً سليماً فتهرّبَ منها تهرّب العاجز ولم يجدْ لها تفسيراً أو قبولاً إلاّ بالرجوع إلى السحر والخرافات والمعجزات وكرامات الأولياء كما سنرى عمّا قريب.

كما أجرى سياحات بين النقائض فتارةً مال إلى هذا الحكيم الكيميائي وإلى مُناقضه تارةً أخرى. سأُرَتّبُ مجمل مواقف وآراء إبن خلدون في علم الصنعة في فقرات لتيسير متابعتها من قبلنا جميعاً ومن ثم الحكم عليها وعليه بميزان الحق والعدل، بالقسطاس المستقيم.

 

4-1 إبن خلدون والزمن

ربط إبن خلدون (المصدر 25 الصفحات 420 - 421) بين طبيعة تكوّنِ عنصر الذهب وما أسماه بدورة الشمس الكبرى التي تستغرق حسب زعمه ألفاً وثمانين سنةً. فما هي دورة الشمس الكبرى ومن أين أتى العلاّمةُ إبنُ خلدون بهذا الرقم وكيف إفترضَ أنَّ هذا المقدار من الزمن هو الزمن اللازم لتكوّنِ الذهب بشكل طبيعي؟؟ لم يذكرْ إبن خلدون مصادر هذه المعلومات، فهل إعتمد في ذلك على المُنجمّين وقتذاك وعلى معلومات قارئي الحَدَثان وهم فئة من مُدّعي العلم والقدرة على التنبؤ وحسابات أعمار الدول والسلاطين والخلفاء والملوك؟؟ لم يثقْ إبن خلدون بالمختصين بعلم الحَدَثان أبداً. ولقد أفردَ فصلاً مُستقلاً في مقدمته حول هذا العلم.

حول نفس هذا الموضوع يقول إبن خلدون (كذلك لا يتدبرُ ذهبٌ من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريقُ عادته إلاّ بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع… إنَّ مُضاعفة قوّة الفاعل تُنقِصُ من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى. فإذا تضاعفتْ القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك… إنَّ الطبيعة لا تتركُ أقربَ الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زمناً لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الذهب والفضة … / المصدر 25, الصفحة 421).

 

هنا أمران يستحقان الملاحقة والتعقيب

أولاً: فبالنسبة إلى أُطروحة (مُضاعفة قوّة الفاعل تُنقِصُ من زمن فعله) فإنها صحيحة بالنسبة لعلم الفيزياء وقوانين ميكانيك نيوتن. فمضاعفة سرعة السيارة مثلاً تُنقص زمن الوصول إلى الهدف بمقدار النصف. كما أمكن الحصول على الماس الصناعي (وهو كاربون متبللور بشكل طبيعي) بإستخدام الحرارة العالية والضغط الهائل. هذا القانون الذي تبنّاه إبن خلدون غير صحيح فيما يخص نظريات تكون المعادن وجيولوجيا طبقات الأرض. فعمر الأرض وفق آخر الحسابات حوالي أربعة بلايين عاماً ونصف البليون، فما قيمة الألف عام اللازمة حسب إبن خلدون لتكوّن الذهب إزاء هذا الرقم الفلكي؟؟ عمر الذهب هو عمر الأرض، والذهب الذي أُكتُشِف في سومر وتحت أنقاض بابل وداخل إهرامات الفراعنة في مصر كحليٍّ وزينة وأقنعة وسواها كان موجوداً في باطن الأرض أو في قيعان بعض الأنهار منذ بلايين السنين. فأية قوّة، عدا النيوترون كما سنرى في الملحق رقم 2، قادرة على إختزال الزمن اللازم لتكون عنصر الذهب بشكل طبيعي؟؟

 

ثانياً: تكلم إبن خلدون عن فعل الطبيعة وقارنه بما يفعل الإنسان فأخطأ هدفه وأخطأ في الإستنتاج. أخطأ لأن جابراً ومن سبقه ومن عاصره من علماء الصنعة ما كانوا يُقلّدون الطبيعة وما كانوا يجارونها في صنعتهم. على العكس تماماً من ذلك،كانوا يتحدون الطبيعة وما كانوا بالمستسلمين لقوانينها. فلم يكن جابر بن حيان يؤمن بالمستحيل أبداً وهو القائل

(… كيف يُظنُ العجزُ بالعلم دون الوصول إلى الطبيعة وأسرارها؟ ألمْ يكنْ في مُستطاع العلم أن يُجاوز الطبيعة إلى ما وراءها؟ فهل يعجزُ عن إستخراج كوامن الطبيعة ما قد ثَبُتتْ قدرته على إستخراج السر مما هو مستور وراء حُجُبها؟) (جابر بن حيان / كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، نشر كراوس / عن المصدر 28 الصفحات 48 – 52). فأسرار الطبيعة قد تكون محجوبة عن أنظار العلماء، وعلى هؤلاء العلماء كشف الحُجُب وإزالة الستور عنها، وذلكم ليس بالشيء المستحيل. لا مستحيلَ إذنْ في عرف جابر بن حيان. لقد أسقط الرجل مقولة أرسطو الثالثة " المستحيل " في مسلسل المقولات الثلاث الشهيرة وهي الممكن والواقع والمستحيل. وعليه فقد تعامل جابر فقط مع الممكن وحولّه إلى واقع ملموس.

يريد إبن خلدون من الطبيعة أن تُقلّدَ البشر فيما يصنعون وأن تختزلَ الزمن اللازم لتكوِّن الذهب كما كان يفعل أو يحاول جابر ورهطه !!. جابر وبقية العلماء كانوا يحاولون معرفة سر الإختلاف في طبائع المعادن وفيم يختلف الذهب مثلاَ عن النحاس أو الزئبق والرصاص والفضة. لماذا هو ذهب بلون معين وخصائص أخرى معينة تجعله يقاوم الرطوبة والملوحة وماء البحر والحرارة العالية ولا يذوب حتى في أقوى المذيبات المعروفة، وغيرها من الأسئلة التي كانت تشغل بالهم نهاراً وليلاً.

الذهب بالنسبة إليهم يمثل الخلود ومقاومة البلى (الموت). كافة المعادن الأخرى تتحول وتتفكك وتصدأ إلاّ الذهب، فإنها بالية لا تخلد مع مر الزمن. كانوا يبحثون عن الخلود أولا في عالم المعادن، وربما كانوا سينتقلون من بعد ذلك إلى عالم الإنسان: تخليد الإنسان أو إطالة عمره بالإكسير. الذهب الخالد في التراب ومن التراب. والإنسان هو الآخر قد خُلِقَ من تراب (ومن آياته أنْ خَلَقكم من تُرابٍ ثُم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون / من سورة الروم، الآية 20). وهذا هو جوهر ما قاله أوسفالد شبنجلر Oswald Spengler في كتابه " سقوط الغرب " (… ففي المدنية الإسلامية وُلِدَ الجبرُ ووُلِدتْ معه روحٌ خفيةٌ باحثة عن سر الخلود في الكون، وإن آثار هذه الروح لتتجلى لنا في جميع منتجات الشعوب الإسلامية في الرياضيات والبحث الطبيعي والفن أيضاً) (المصدر 2، الصفحة 28).

لقد فات شبنجلر أن البحث عن الخلود وظاهرة تخليد الإنسان كانت سابقة على الإسلام وإنها مُتأصِّلة منذ القِدَم في تراث شعوب الشرق الأوسط برمته. ففي سومر جنوب العراق سعى جلجامش قبل خمسة آلاف عام وجاب الآفاق بحثاً عن الخلود وكشفِ سر موت صديقه أنكيدو. الطريف - تقول الأُسطورة – إنَّ جلجامش نجح في إيجاد عشبة الخلود لكنَّ الأفعى سرقتها منه وأكلتها (… وأبصر جلجامش بئراً باردة الماء. فورد فيها ليغتسل في مائها. فشمّتْ الحيةُ شذى النبات. فتسللت وإختطفتْ النبات. ثم نزعتْ عنها جلدها. وعندذاك جلسَ جلجامش وأخذ يبكي. حتى جرتْ دموعه على وجنتيه…)

(31). الحيّةُ هذه أغرتْ أُمّنا حوّاء في أنْ تخالفَ أمرَ الرب وتأكل من شجرة معرفة الخير والشر التي كانت في وسط جنة عدن (32). أما في القرآن الكريم فالشيطان وليست الحية من خدع أبانا آدم (… فوسوس إليه الشيطانُ قال يا آدمُ هل أَدُلّكَ على شجرة الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يبلى. فأكلا منها فبدتْ لهما سوآتهما وطفِقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدمُ ربَّه فغوى. سورة طه. الآيات 120 و 121).

شجرة الخُلْد والمُلك الذي لا يبلى!! هذا هو النبات الذي كان يبحث عنه جلجامش كي يدرأ عن نفسه بشاعة الموت الذي رآه في وجه صديقه أنكيدو. أما المُلك الذي لا يبلى فهو نسل الإنسان الذي يتخلّدُ به هذا الإنسانُ عن طريق إتصال النوع بالأحفاد جيلاً بعد جيل. الموت يقطع هذه السلسلة ويمنع الخلود.

لا غرابة إذن إذْ جعل فراعنة مصر من الذهب أقنعةً لوجوه وأجساد كبار موتاهم. فالذهب معدن خالد لا يتحول ولا يتبدل ولا يبلى. وبه تخلُدُ ولا تبلى أجساد الموتى - كما كانوا يظنون - وتكون جاهزةً لإستقبال الأرواح بعد عودتها من العالم الآخر.

ما كان جلجامش يُفرّقُ بين الروح والجسد. أو ما كان يفقه الفرق أصلاً. لذا كان همه وتركيزه الأوحد على إنقاذ جسد صديقه ورفيقه وحبيبه أنكيدو خاصةً حين رأى الدود على وجهه ويخرج من منخريه. كان يرى تفسخ الجسد البشري أمامه رأي العين فخاف الموتَ وجزع منه أشدَّ الجزع فهام على وجهه يجوبُ الصحارى ويمخر عُباب بحار الدنيا مُحاولا الحصول على دواءٍ يُحصّنه ضد الموت. لا يريدُ الرجل أن يتفسخ كصديقه ولا يريدُ أن يبلى جسده. (… إنه أنكيدو صاحبي وخِلّي الذي أحببته حُبّاً جمّاً. لقد إنتهى إلى ما يصيرُ إليه البشرُ جميعاً. فبكيته في المساء وفي النهار. ندبته ستة أيامٍ وسبع ليالٍ. مُعللا نفسي بأنه سيقومُ من كثرة بكائي ونواحي. وإمتنعتُ عن تسليمه إلى القبر. أبقيته ستةَ أيامٍ وسبع ليالٍ حتى تجمّدَ الدود على وجهه. فأفزعني الموتُ حتة هِمتُ على وجهي في الصحارى. إنَّ النازلةَ التي حلّتْ بصاحبي تقضُ مضجعي. آه ! لقد غدا صاحبي الذي أحببتُ تُرابا. وأنا، سأضطجعُ مثله فلا أقومُ أبَدَ الآبدين. فيا صاحبةَ الحانةِ، وأنا أنظرُ إلى وجهك، أيكونُ في وسعي ألاّ أرى الموتَ الذي أخشاه وأرهبه !) (31).

 

4-2 إبن خلدون والسحر والخوارق والمعجزات والكرامات

قال إبن خلدون (المصدر 25، الصفحة 428)

(والذي يجب أن يُعتَقَد في أمر الكيمياء وهو الحق الذي يُعضّده الواقع إنها من جنس آثار النفوس الروحانية وتصرّفها في عالم الطبيعة إما من نوع الكرامة إنْ كانت النفوسُ خيّرةً أو من نوع السحر إنْ كانت النفوسُ شريرة فاجرة…).

فالخير والشر يلتقيان هنا حسب نظرية إبن خلدون… من حيث أنهما يؤديان إلى صحة أمر الكيمياء مع فارق واحد: تتم الصنعة للكيميائي الخيّركرامةً، بينما يمارسها الكيميائي الشريرُ من باب السحر فتتم له. يضعنا منطق إبن خلدون هذا بين إزدواجية الخير والشر، الكرامة والسحر. الخير بالكرامة والشر بالسحر، لكن النتيجة واحدة: صحّة أمر كيمياء الصنعة التي يُنكرها إبن خلدون أصلاً.

وقال على الصفحة 441، نفس المصدر

(…ذلك أنَّ الكيمياء إنْ صحَّ وجودها كما تزعمُ الحكماءُ المتكلمون فيها مثل جابر بن حيّان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلاّج وغيره…) ثم واصل الكلام قائلاً

(… فكذلك من طلبَ الكيمياء طلباً صناعياً ضيع ماله وعمله. ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لإنَّ نيلها إن كان صحيحاً فهو واقعٌ مما وراء الطبائع والصنائع فهو كالمشي على الماء وإمتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة. أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى (وإذْ نخلقُ من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخُ فيها فتكون طيراً بإذني)… وعلى ذلك فسبيلُ تيسيرها مُختلفٌ بحسب حال من يؤتاها فربما أُوتيها الصالحُ ويؤتيها غيرهُ…، ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً فقد تبين أنها تقع بتأثيرات النفوس وخوارق العادة إما معجزةً أو كرامةً أو سحراً…).

يتقبل إبن خلدون الظواهر الخارقة للعادة وهي خرافات، كالمشي على سطح الماء وطيران الإنسان في الهواء ويضرب من كرامات الحلاّج مثلاً…تلك الكرامات التي أوردت الرجل موارد الهلاك فأُضطر إلى التبرؤ منها خلال محاكمته الشهيرة زمن الخليفة العباسي المُقتدر بالله.

يبدو لي أنَّ إبن خلدون واقع في قبوله للسحر تحت تأثير الآية السابعة من سورة الأنعام

(ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاسٍ فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلاّ سِحرٌ مُبين).

نقرأ على الصفحة 440 (المصدر 25) أمراً عجباً إذ نجد إبن خلدون ينحو هو الآخر منحى قدماء علماء الصنعة إذ قارنوا دوماً بين عملية تصنيع الذهب من غير معادنه وبين عملية ولادة الإنسان. يتكلم إبن خلدون هنا عن أطوار تكوّن الذهب ويقارنها بأطوار تكون ونمو الجنين في رحم أمه فيقول (… وأنظرْ شأن الإنسان في طور النُطفة ثم العَلَقة ثم المُضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم ثم إلى نهايته ونِسب الأجزاء في كل طورٍ تختلف في مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الأخر وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر فأنظرْ إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يُساوق فعل الطبيعة في المعدن ويُحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم) يواصل إبن خلدون الكلام حتى يقول وهذا هو بيت القصيد (… وإنما حال من يدّعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدّعي بالصنعة تخليق إنسانٍ من المَنيِّ ونحن إذا سلّمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفية تخليقه في رَحِمه وعلم ذلك علماً مُحصّلاً بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلّمنا له تخليق هذا الإنسان وأنّى له ذلك).

هل فات إبن خلدون أن ولادة الإنسان من أبويه شيء وأن وجود الذهب في الطبيعة منذ بلايين السنين شيء آخر؟؟ الإنسان كائنٌ حيٌّ لكنَّ الذهب جماد لا أمٌّ له ولا أبٌ. والجماد لا ينمو.كيف يفترض أن الذهب يتكون بأطوار ثم ينضج بعد 1080 سنة ويقارن هذه الأطوار بأطوار خلق ثم نمو الإنسان في الرَحِم؟؟ إن إستدراك الرجل لا يعفيه من الأخطاء القاتلة التي أوقع نفسه فيها، أعني قوله السابق (وأنّى له ذلك) فلقد آمن الرجل بالخرافات والسحر والمعجزات والكرامات كما رأينا آنفاً.

 

4-3  إبن خلدون والطغرائي

يتبنى إبن خلدون جزئياً فلسفة الطغرائي (المصدر 25 الصفحة 439) الذي إعتقدَ بإمكانية تحوّلِ المعادن الرخيصة إلى معادن نبيلة أو ثمينة حيث قرر (بأنَّ التدبيرَ والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبوله خاصةً والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النور على الأجسامِ بالصقلِ والإمهاء).

يُعلِّق إبن خلدون على هذا الكلام بأنه (صحيح)، ثم يستأنف قائلاً (لكنْ لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذٌ آخرُ يتبين منه إستحالة وجودها وبطلان مزاعمهم أجمعين لا الطغرائي ولا إبن سينا).

خلاصة رأي إبن خلدون هو إنكار إمكانية تحوّلِ المعادن. لقد جرّه هذا الرأي عَرَضاً إلى إتخاذ موقف غاية في الغرابة مؤداه أنَّ الموسرين من عليّةِ القوم يُنكرون صنعة الكيمياء ضارباً من إبن سينا مَثَلاً. عِلماً إنه سبق وأن إختلف مع إبن سينا حول هذا الموضوع وإختلف مع الطغرائي كما رأينا قبل قليل. يمضي إبن خلدون قُدُماً في وجهة نظره الطبقية هذه ليقولَ (أما الفقراءُ المُدقِعون الذين تُعوِزهم أدنى بُلغةٍ من العيش وأسبابه فإنهم يقولون بأسبابها)… ويضربُ من الفارابي مَثَلاً.

هل حقّاً إنَّ الفيلسوف والمفكّر الفذ الفارابي آمنَ بقدرة المعادن على التحول بدافعٍ من فقره وهو المشهور بزهده وإعراضه عن مظاهر الحياة الدنيا؟؟. لو أراد الثراء لأتاه من كل حدبٍ وصوب وكان الأثير في بلاط سيف الدولة الحمداني أميِر حلبٍ الشهباء.

 

4-4 إبن خلدون والفارابي وإبن سينا

 

صنّفَ إبن خلدون المدارس التي إنشغلت بعلم وصناعة الكيمياء إلى مدرستين هما

أولاً: مدرسة قادها الفيلسوف الفارابي الذي رأى أنَّ العناصر المُنطرِقة وهي العناصر المعروفة اليوم بالفلزّات: الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والخارصين أو الزنك … رأى أنها نوع واحد وإختلافها إنما بالكيفيات. يُعدد أبو نصر الفارابي الليونة والصلابة والألوان المختلفة بإعتبارها هذه الكيفيات المتباينة. لذا فإنها حسب رأيه قابلة للتحول. أي أن في المستطاع تحويل الرصاص مثلاً إلى ذهب. هذه هي خُلاصة نظرية الفارابي.

وقف في صف واحد مع الفارابي كل من أبو بكر محمد بن زكريا الرازي والمسعودي والطغرائي والمجريطي (نسبةً إلى مدينة مدريد) وغيرهم.

 

ثانياً: وثمةَ مدرسة ثانية كان على رأسها الشيخ الرئيس إبن سينا. لقد ذهبتْ هذه المدرسة إلى القول بأنَّ هذه المعادن السبعة مختلفة الفصول وإنها ليست نوعاً واحداً بل إنها أنواعٌ متباينة وكل نوع منها قائم بنفسه. وعليه فلا حظَّ لها في إمكانية التحول من معدن إلى آخر.

لقد سبق إبنَ سينا الفيلسوفُ الكبيرُ يعقوب بن إسحق الكندي (الذي أبطلَ دعوى المُدّعين صنعة الذهب والفضة من غير معادنها) (20). ثم الجاحظ الذي قال هو الآخر قبل إبن خلدون بستة قرون تقريباً كلاماً لا يتفق مع نظريته في الزمن وإن إتفق معه في إستحالة تحوّل المعادن. قال الجاحظ (وإنَّ الذهبَ لا يخلو من أن يكون ركناً من الأركان قديماً منذ كان الهواء والماء والأرض. فإذا كان كذلك فهو أبعدُ شيء من أن يوّلدَ الناسُ مثله). لقد كسرَ الرجلُ ثم أجبرَ، أو الأصح أجبرَ ثم كسرَ (33).

يتضحُ من هذا الكلام أنَّ كلا من الرجلين قد أخطأ وقد أصاب في عين الوقت. أخطأ الفارابي إذْ إعتبرَ هذه المعادن نوعاً واحداً وأصاب إذ رأى إمكانية تحول بعضها إلى البعض الآخر، الأمر الذي أثبته العلم الحديث (الملحق رقم 2).

أمّا إبن سينا فلقد أصابَ إذ جعلَ هذه المعادن أنواعاً متباينة وأخطأ إذْ قررَ إستحالة تحوِّلها.

 

بالإستعانة بالجدول الدوري للعناصر يُمكن تفسير وفهم مواقف كل من الفارابي وإبن سينا من مسألة تحول المعادن الأخرى إلى عنصر الذهب. لقد سبق جابر بن حيان والفارابي ومن نحا نحوهم زمانهم إذ آمنوا بإمكانية تحويل الرصاص والزئبق مثلاً إلى ذهب. وهو الأمر الذي أثبته العلم الحديث كما سنرى عما قريب.

العناصر الثلاثة في العمود الرأسي من الجدول الدوري (النحاس وتحته الفضة ثم يأتي الذهب) تُمثل موقف إبن سينا، من باب المجاز، حيث قرر أنها مختلفة الفصول وأنها ليست نوعاً واحداً بل إنها أنواعٌ متباينة. معه حق، فالفروق فى كتلها الذرية إنما هي فروق كبيرة

(الأرقام السفلى على شمال الرمز الكيميائي للعنصر). كذلك الأمر بالنسبة إلى أعدادها الذرية، أي عدد ما في نواتاتها من بروتونات (الأرقام العليا على يمين رمز العنصر).

أما العناصر الثلاثة على الخط الأفقي في الجدول الدوري (الذهب والزئبق ثم الرصاص)

فالفروق بين كتلها وأعدادها الذرية هي فروق ضئيلة جداً كما يوضح هذا الخط. هذه الأرقام تُعزز موقف الفارابي الذي رأى أنها نوع واحد وإختلافها إنما بالكيفيات.

 

        29

     نحاس  Cu

    64

 47     فضة Ag      108

 

 79 80 82

 Au Hg Pb 197 200 207

 رصاص زئبق ذهب

 

مٌلحق رقم 1 (نظائر الذهب)

للذهب ثلاثة وعشرون نظيراً Istopes والنظائر هي ذرات العنصر نفسه لكنها تختلف في أعدادها الكتلية Mass Numbers أي أنها تختلف في عدد ما في نواتاتها من نيوترونات Neutrons وبالتالي ستختلف لا بخصائصها الكيميائية لكن بخصائصها الإشعاعية إنْ كانت مُشعّة، كالعمر النصفي Half Life ونوع الإشعاع الصادر عنها وطاقة هذا الإشعاع.

ليس في نظائر الذهب هذه نظيرٌ مُستقر، أي لا يتحول بالإشعاع، إلاّ النظير ذو العدد الكتلي 197 ، أما باقي النظائر (22 نظيراً) فجميعها نظائر مُشعّة تتفكك فتتحول إلى عنصر آخر هو الزئبق إما بإنبعاث دقائق بيتا Beta Particles وهي ألكترونات نووية المنشأ، أو أنها تتحول بعملية أُخرى مُغايرة بأنْ تلتقفَ نواةُ نظير الذهب واحداً من ألكترونات المدارات (مستويات الطاقة) الأقرب للنواة في عملية تُسمى

Electron Capture Process .

نعود ثانيةً لمسألة الزمن. لكل نظير نشط إشعاعياً مقياس خاص لطول عمره أو فترة بقائه مُشعّاً يُسمى العمر النصفي آنف الذكر Half Life . تتراوح هذه الأعمار النصفية لنظائر الذهب بين 3,9 ثانية للنظير m 193 و 183 يوماً للنظير m 195

(m = Metastable ). واضح من مجمل هذا الكلام أنْ لا مجال للتفكير في أزمان تتجاوز الألف عام بقليل كما إفترض إبن خلدون لولادة ونضج أطوار الذهب في عالم الطبيعة. الذهب لا ينضج كما تنضج التفاحة بعاملي الحرارة والزمن على غصنها في الشجرة. وليس هو بالكائن الحي يتكون نتيجة إخصاب البويضة الإنثوية بالحيامن الذكرية حسب تصورات إبن خلدون. البشر شيء والمعادن شيء آخر.

 

ملحق رقم 2 (النيوترون… حجر الفلاسفة المنشود)

 

بفضل التطور الأُسطوري في حقول علم الفيزياء النووية وهندسة وبناء المفاعلات والمُعجِّلات النووية تحقق في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي حُلُمَ البشرية القديم وأوائل المُشتغلين بصناعة الكيمياء كالمجريطي والطغرائي والمُغَيربي والفارابي ثم جابر بن حيّان (أمام المُدونين كما يُسميه إبن خلدون). ففي ستة تفاعلات نووية أمكن تحويل الرصاص غير المُشع ذي العدد الكتلي 206 إلى ذهب ثابت ذي عدد كتلي 197.

يُمكن إختصار هذه التفاعلات النووية الستة إلى معادلة واحدة تيسيراً لفهم العملية:

 

 82 0 - 2 79

 Pb + 3 n = 3 B + 3 He + Au

 206 1 4 197

 

معنى المعادلة أنَّ ذرّة رصاص واحدة (Pb) تمتص ثلاثة نيوترونات (n) لتُعطي ذرة ذهب واحدة (Au) وثلاث ذرات من غاز الهيليوم (He) وثلاث دقائق من أشعة بيتا (B) السالبة المُسماة Negatrons . (34).

 

أمكن عام 1941 تحويل عنصر الزئبق إلى ذهب (35) بإستخدام مُعجّل النيوترونات السريعة Fast Neutrons Cyclotron كما في المعادلات التالية:

 

 80 0 80 0

 Hg + n = Hg* + Gamma

196 1 197 0

 

 80 -1 79

 Hg* + e = Au

197 0 197

 

العلامة كالنجمة فوق ذرة الزئبق (*) تعني أنَّ هذه الذرة في حالة مُتهيجة بطاقة عالية، ولكي تستقر وترجع إلى الحالة الطبيعية لا بدَّ لنواتها من أنْ تلتقفَ ألكتروناً (e) من أقرب مدار ألكتروني إليها فتخسر بذا وحدة واحدة من وحدات عددها الذري الثمانين ليصبح هذا العدد 79 وتنقلب نتيجةً لذلك إلى الذهب المُستقر الثابت المألوف.

كما أمكن تحويل الزئبق إلى ذهب (36) بإستخدام دقائق ألفا Alpha المُعجّلة حسب المعادلة:

 

80 2 79 1

Hg + Alpha = Au + 3 P

196 4 197 1

 

معنى المعادلة أنَّ ذرةً واحدة من عنصر الزئبق تتحد مع دقيقة واحدة من أشعة ألفا Alpha فتتكون نتيجة لذلك ذرة ذهب واحدة Au وثلاثة بروتونات P .

 

.........................

مصادر البحث

1- د. حكمتْ نجيب عبد الرحمن (الكيمياء عند العرب ورائدها الأول جابر بن

حيّان / الصفحة 303) أبحاث الندوة العالمية الأولى لتأريخ العلوم عند العرب المنعقدة بجامعة حلب من 5 – 13 نيسان (أبريل) 1976.

2- د. محمد يحيى الهاشمي (الإمام الصادق مُلهِم الكيمياء / الصفحة 185) منشورات المؤسسة السورية العراقية.

3-  المصدر الأول، الصفحات 301 – 302 .

4-  إبن النديم (الفهرست) / الجزء العاشر / المقالة العاشرة، الصفحات 507 – 508 .

5-  المصدر الرابع ، الصفحة 521 .

6-  المصدر الأول ، الصفحة 304 .

7-  الشهرستاني (كتاب المِلل والنِحل، الجزء الثاني, الصفحة 48) / مؤسسة الكتاب الثقافية. بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1998 .

8-  عزيز سباهي (أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية، الصفحات 138 – 139)/ منشورات دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 1996 .

9-  المصدر الرابع، الصفحات 456 – 457 .

10-  البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي المتوفي 440 هجرية

 (الآثار الباقية عن القرون الخالية، الصفحة 318)/ منشورات إدوارد ساخاو،

Leipzig 1923 .

11- كارل بروكلمان (تأريخ الأدب العربي، الجزء الرابع، الصفحات 89 – 90)/ دار المعارف بمصر 1975 .

12-  المصدر الرابع، الصفحات 346 – 347 .

13-  المصدر الرابع، الصفحة 510 .

14-  المصدر الثاني، الصفحات 92 – 93 .

15-  المصدر الثاني، الصفحة 29 .

16-  المصدر الأول، الصفحة 309 .

17-  كتاب قراطس الحكيم (كيمياء العصر الوسيط، كيمياء العرب، الكتاب الثالث) منشورات برثيللو Par M. Berthelot ، باريس. المطبعة الدولية 1893.

18-  المصدر الثاني، الصفحة 28.

19-  المصدر الرابع، الصفحات 511 – 521 .

20-  المسعودي (مروج الذهب ومعادن الجوهر،الجزء الرابع، الصفحة 169)/ دار الأندلس، بيروت 1981.

21-  يوليوس روسكا (الكيميائيون العرب، باللغة الألمانية / الجزء الأول، خالد بن يزيد، الصفحة 30).

Arabische Alchemisten, von Julius Ruska, Heidelberg 1924.

PP.30

 

22- يوليوس روسكا (الكيميائيون العرب، باللغة الألمانية / الجزء الثاني، جعفر الصادق، الصفحة 102).

23-  المصدر الأول، الصفحات 308 – 310.

24-  كتاب الحبيب (كتاب باللغة العربية نشره يوليوس روسكا).

25-  مقدمة إبن خلدون (دار العودة، بيروت 1981، الصفحة 421).

26-  المصدر الأول، الصفحة 308.

27-  المصدر الثاني، الصفحات 78 – 79.

28-  الدكتور زكي نجيب محمود (الأعلام: 3، جابر بن حيّان / الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975، الصفحة 18).

29-  منشورات Berthelot عنوانها (هذه رسائل مهمة في العلوم الكيمياوية والصنعية لجابر بن حيان وغيره من الحكماء والفلاسفة). باريز 1893 .

30-  The Arabic Work of Jabir Ibn Hayan, Edited With Translations into English and Critical Notes by: Eric John Holmyard. Paris 1928.

31-  طه باقر (ملحمة جلجامش وقصص أخرى عن جلجامش والطوفان، الفصلان الثالث والرابع، الصفحات 121 – 181) الناشر دار المدى / دمشق، الطبعة الخامسة 1986.

32-  العهد القديم / الإصحاحان الثاني والثالث من سفر التكوين.

33-  الجاحظ (كتاب الحيوان، الجزء الثالث، الصفحة 115)/ نقلاً عن المصدر رقم 2 الصفحة 87.

34-  Chemistry, by: J. Bailer, T. Moekker, J. kleinberg, et al. Publisher: Academic Press 1978/ PP 224- 225.

35-  A. Sherr and K.T. Bainbridge (Nashville, Harvard University, USA, April 1941).

36-  K. Hoffmann (Kann Man Gold machen ?) , Leipzig / Jena / Berlin, Urania Verlag 1979.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1533 السبت 02/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم