قضايا وآراء

رشد المجتمع / عبد الفتاح المطلبي

وما تلاها لم  تبزغ بعد إنسانية الأنسان بل كان كأحد دواب الأرض ألأخرى.

  كانت الأنسانية آنذاك في طفولتها والآساطير التي تسجل سيرة ذلك الزمن الغابر تورد أن ردود الأفعال كانت تتسم بالجهل والعفوية اللتين هما جناحا الطفولة  فالطفل عندما يلعب بالنار ويحرق نفسه، يفعل ذلك بعفوية فطرية وبجهل تام بعواقب فعله ولكنه عندما تحرقه النار وينقذه منها رد  الفعل الإنعكاسي عند ذاك يسجل تجربته القاسية في دماغه الطفولي المسطح ليكتسب ما يصطلح عليه بالخبرة وعند ذاك سيفكر مرتين قبل أن يلعب بالنار مرة أخرى وهكذا كانت المجتمعات في عصر طفولتها كالطفل الذي يلعب بالنار.

لست هنا بصدد سرد صفحات من التاريخ ولكنني سأشير وبشكل مختصر إلى السلوك الجمعي البشري إبان العصور المبكرة، فمنذ نشأة الإنسان واستئناسه لأخيه الأنسان وشروعه باتخاذ كهف أقرب لكهف أخيه تشكلت  التجمعات التعاونية الآولى في عمليات الصيد ومجابهة الأخطار وكانت هذه الممارسات التعاونية تفضي في كثير من الأحيان إلى استحواذ الأقوياء على الغنائم وطرد الأفراد الأضعف وكان هذا السلوك تقوده الطفولة المجتمعية بجناحيها  الجهل والعفوية الفطرية المستندة إلى  خامات الغرائز الأولى غير المشذبة بالخبرات بعد، ذلك جعل الأنسان الأول يدرك الخطر الجديد القادم من أخيه الأنسان ليبدأ تشكل منظومة الولاءات الفردية للمجموعة التي يهددها  الخطر ذاته وهنا بدأ المجتمع الإنساني بالخروج من طفولته نحو مرحلة المجتمع الصبي أو الصبا الإجتماعي.

امتدت مرحلة الصبا الإجتماعي حقبا طويلة تخللتها نجاحات وإخفاقات إجتماعية ا ولكن كما هو معلوم إن مرحلة الصبا بمفهومها الفردي هي المرحلة التي يبدأفيها الصبي بممارسة النزعة الأستكشافية لما حوله واختبار مواطيء أقدامه بحذر تحكمه غريزة حب البقاء ومن ثم توطين الثقة بالنفس تصاعديا مع مرور الزمن، أما الصبا ا لإجتماعي فتكون المجتمعات في مرحلته هشة التكوين لا تتقن عملية صياغة وصناعة الأهداف المجتمعية الواضحة فتراها تجمعها الأخطار وتفرقها النزاعات المصالحية، كان الفرد في تلك المجتمعات إبان صباها لا ينزع للعقل  بل كان العقل منفيا إلى منطقة الأهمال والسبات بفعل تواجد الغرائز وحضورها الفاعل في ساحات الفعل الإنساني المختلفة لذلك فإنها (الغرائز) تقود المجتمعات إلى مهاوي متنوعة وكوارث كبرى قد تفقد خلالها نصف افرادها في نزاعات على البقاء والنزوع إلى الإستحواذ الإقتياتي الحيواني والنزعة الفطرية لقيادة القطيع وقد ميزت هذه المرحلة حركة الهجره والتنقل الواسع بين  أسقاع الأرض من الشرق الذي يعتقد أنه الموطن الأول للإنسانية نحو الغرب .

المجتمعات في سن المراهقة: مرحلة المراهقة عند الكائن الفرد تبدأ باختلالات هرمونية واسعة وكأنها ثورة عارمة على مرحلة الصبا التي لم تعد مقنعة فتنطلق تلك الهرمونات محرضة  أحيانا ومثبطة أحيانا أخرى  مخلفة هيجانا وثورانا  في الأعضاء والأنسجة  ولا يقر ذلك الهيجان حتى يستقر كل ذي شأن بشأنه  من الناحية البنيوية والوظيفية، وفي حالة مراهقة المجتمعات يمكن استعارة ما يحصل  في جسم الكائن الفرد وإلباسه لبنية المجتمع إبان مراهقته، يقول بعض علماء الإجتماع إن المحرك للإختلالات في البنى الإجتماعية إبان مراهقتها هو الحاجة للخدمة أوالحاجة لأشباع مطلوبات المجتمعات من الخدمة وكذلك شح الموارد الملبية لأشباع تلك الحاجات مما يؤدي إلى فوضى اجتماعية  تؤول بدورها لحركات اجتماعية واسعة ونزوع الى استحواذ مجتمعات على ملكيات مجتمعات أخرى وفي أحايين أخرى يغزو مجتمع مجتمعا آخر من أجل استخدامه في تنفيذ التحولات الكبرى  كما كان يحصل فيى عمليات السبي الكبرى كالسبي البابلي والحروب من أجل استرقاق المجتمعات الضعيفة وتسخيرها كأيدي عاملة توفر الخدمة المطلوبة للمجتمع المستحوذ، ذلك جرى في مرحلة مراهقة المجتمعات.

رشد المجتمع: تنقسم هذه المرحلة الى قسمين

أولا- مخاض يسبق الرشد الإجتماعي: يقول عالم الإجتماع (توماس هوبز)  إن المجتمع  المدني مر عبر سلسلة من المراحل للوصول إلى ما هو عليه الآن فقد كان في حالة حرب دائمة ومزرية الكل ضد الكل وأشر مبررا لذلك أنه من أجل التخلص من حالة الخوف الدائم من الموت  انتج ذلك الخلوص إلى نوع من التفاهمات والإتفاقات والقيم  والأعراف مهدت لإنشاء مؤسسةاصطناعية  تسمى الدولةو اشار في هذا الصدد الى أن الأصل في الموضوع هو سيادة الحق الطبيعي الذي يتيح لكل شخص أن يفعل ما يشاء لحفظ حياته وعبر تنازل كل شخص عن سلطته وقواه الخاصة لصالح شخص أو مجلس حكومي لضمان الأمن والسلام وقد حصل ذلك عبر تنظيم العلاقات بين الأفراد وحسب منظومة من القواعد  عملها حفظ المصالح ورغم إن أرسطو أشار  إلى أن الإنسان مدني بفطرته أي أنه يمتلك القابلية الفطرية للإجتماع  لكن ذلك لا ينفي عنه صفة الصراع من أجل التقدم والتمركز والبقاء    فيما أشار ماركس الى أن المجتمع قسمان هما المجتمع السياسي والمجتمع المدني واشار الى ان المجتمع المدني هو ساحة الصراع الطبقي التي تلقي بظلالها على المجتمع السياسي متأثرا هذا الأخير بإفرازات هذا الصراع وموجها له

ثانيا: الرشد الإجتماعي- يسبق الرشد الإجتماعي عملية  ترميم وهيكلة المجتمع بعد تلك المخاضات ويطلق على هذه العملية بالتنشئة الإجتماعية( socialisation )و هي عملية  تربوية طويلة يحدث من خلالها ترميم وترقيع النسيج الإجتماعي وقيادته للإنحياز للعقل باعتباره قاعدة الرشد الإجتماعي ويحصل ذلك عبر تنشئة الفرد ثقافيا بما تعنيه كلمة الثقافة من الكل المركب الذي يشمل المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق والقوانين والأعراف والعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع . ومن خلال تكامل هذه العملية تتولد في المجتمع المثقف سلطة الرشد الإجتماعي  التي تكون أشد تأثيرا وقوه من السلطة السياسية، ويؤكد عالم الإجتماع ( الكس دوتوكفيل) على وجود هذه السلطة التي تختلف عن نمط السلطة السياسية المتمثلة بالقهر والإستبداد ويؤكد على إنها ستكون أقوى من سلطة السياسة من حيث إنها تعمل على جعل الأفراد  نسقا منسجما ومتشابها بنمطية متشابهةو منعزلة لا شأن لها سوى بتحقيق الرفاه والمتعة على مستوى الفرد  وحصر اهتمام الأفراد بتنمية التواصل فيما بينهم باعتبارهم هم كل المجتمع ويسمي ( دوتوكفيل ) ذلك بالنزعة الفردية الناتجة عن النظم الديمقراطية.

من تداعيات ذلك يبزغ نوع آخر من السلطة المدنية التي يشوبها الطابع السياسي تكون بالمرصاد للعمل على تصحيح السلوك السياسي للطبقة السياسية في حالة الأنحراف عن أهداف المجتمع الراشد، ويقر (ماكس فيبر) عالم اجتماع الماني، بوجود هذا النوع من السلطة ذات الطابع السياسي والتي تمارس في المجتمعات الحديثة الديمقراطية ومن خلال مؤسسة الدولة  التي خولها المجتمع عن طريق الممارسة الديمقراطية.

من كل ما تقدم نستطيع القول على ان المجتمع الراشد هو الذي يستطيع إنشاء الدولة والحفاظ على ديمومة استقرارها بمجموع مؤسساتها السياسية والقضائية والعسكرية والإداريةو الإقتصادية التي تنظم  فعاليات ذلك المجتمع ضمن رقعة جغرافية ذات حدود واضحة  تسمى وطن,.

 

 

هامش:عبد الغفار شكر- نشأة المجتمع المدني

       الشامل – مفهوم المجتمع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1533 السبت 02/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم