قضايا وآراء

تماثيل الملوك والالهة الفرعونية / زهير صاحب

دورا فاعلا في تشكيل الروحية الخاصة لقوانين التماثيل التي تمثل الاله والملك. ذلك ان حركة الاسلوب كانت مرتبطة بالعقيدة الدينية والتي كانت بمثابة حجر المغناطيس التي حددت حركة المعنى والبنية الشكلية لهذه التماثيل. لقد كانت التشكيلات مكرسة لخدمة الديانة وخدمة شغف الفكر باللانهائية والخلود، فقد حددت الكهنوتية الدينية باعتبارها اضخم نظام كهنوتي في العالم القديم، نظام الاعمال النحتية بسمة الثبات وقلة المتحولات والتي لا يمكن ان تحدث، الا كانعكاس للازاحات الفكرية الكبيرة. وهكذا وجد الفكر الديني طريقه للفن واساليب التمثيل، في آليات توظيفها كحس تعبيري عن حالات انفعالية، عالم من القيم المطلقة والباقية، يعلو عالم الظواهر المبتذلة.

571والعلامة الثانية التي يبثها المركز، في بنية الثقافة المصرية القديمة، هو الطابع الملكي لدلالة التماثيل، فبالاضافة الى ما هو ميتافيزيقي في بنائية التماثيل، كانت هناك البنية المايثولوجية للتمثال، باعتباره قوة فوق واقعية، غير محددة التشخيص. هذا الملامحدود الذي يتحرك ضمن منطقة القصد والارادة، نحو لا محدودية البطولي، وفوق بشرية القدرة الخارقة. كانت البنية الفكرية الضاغطة نحو تحديد نظم الاشكال الملكية وميلها الى الثبات وقلة المتحولات. ذلك ان جميع ما يتصل بالعمل الفني من تقاليد واعراف فنية، ما ان تستقر وتختبر وتصل من جيل لاخر، حتى تصبح لها طبيعة مترسخة، ويبقى الناس متشبثين بها، ويغلبهم ازاءها التوقير والاحترام، لارتباطها بسلسلة متصلة من الافكار والقيم الاجتماعية، باعتبارها نوعا من العلامة العرفية التي تشتغل خارج حدود التاريخ وتبدلاته البسيطة التي تنال القشور ولا تنفذ الى الجوهر. فثمة صياغة هذه الافكار داخل نسق الفن، صياغة تنتمي للصورة التي فهمها بها الوعي الاجتماعي، واخضعها لسيطرته المنظمة والواعية.

وكان لانغلاق البيئة الطبيعية المصرية ازاء ما هو خارجي، ان انعدمت نظم التأثير في البنية الثقافية المصرية، مما قاد الى زوال الخارج والداخل الى دائرة التأثير في البيئة الفكرية المصرية. ان غياب فكرة تلاقح الفكر المصري مع الاساليب المعروفة الحضارات المجاورة، ان تحددت نظم التمثيل والسمات الفنية المميزة للتماثيل بنوع من القيم الثابتة والخالدة، يسيطر عليها نوعا من النمطية في جميع ما يتصل بالتماثيل باعتبارها نوعا من العلامات تفرزها بنية الثقافة. ذلك ان نظام تمثيل الملكي والالهي، اعتبر على قدر من الاهمية، باعتباره نوعا من الخطاب الجليل، المتجسد في العلاقات الذهنية المشتركة، وارتباطه بدلالاته الرمزية والتعبيرية بوجود الشعب المصري في زمانه ومكانه. فلكل ثقافة فرديتها الجماعية الخاصة، ومثل الفردية الجماعية، كمثل فردية الشخص الذي يصدر عنه العمل الفني، حيث انها تترك طابعها الذي لا يمحى على الفن الذي تبتدعه، ان للاعمال الفنية كخصوصيات ابداعية اصلا حضاريا ودلالة جماعية.

 

المضامين الفكرية:

تكمن اشكالية قراءة ما هو فكري في بنائية تماثيل الملوك والالهة المصرية، باعتبارها خطابا تداوليا اتفق الفكر على عظم اهميته. هو ان الفكر كان يتعامل مع ما هو غيبي، مع قوة تقرر نظام الكون، وعظمتها انها ليست مرئية، منفصلة تماما عن عالم البشر المحدود والفاني. قوة تعمل خارج حدود الزمان والمكان. تخاطب بالجليل رغم عدم حضورها المحسوس، مهيبة في نظم الغيبيات، حيث الحلم والتأمل والخيال، وحدة التأمل العظيم الناشط، الذي يكتشف نظامها كتمثال. حين يحتل الروحي مكان الصدارة، بعد ان يتراجع ما هو طبيعي محض الى مرتبة ثانوية، بنوع من الانسجام المتضايف بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي.

كان على الفكر في حينه، ان يحلل ويركب نظم العلاقات لابداع صورة الاله والملك الاله، ان وظيفة الرؤية الان هي التأويل والكشف، تأويل نوعا من الصورة، لاحضار الغيبي من تخفيه، على الفكر الان ان يحيل اللامرئي الى مرئي كما اسلفنا. فهي كنظام تعود الى عالم غير قائم على الارض، ولا يمكن لولا وجود الخبرة الكاشفة عن هذه الصور المبهمة للعالم غير المنظور. فلم يعد التمثال تمثيلا لشيء مادي، وانما اصبح حدسا لفكرة، ذلك ان صورة الفرعون لم تعد صنما وانما غدت تمثالا.

571aكان على الفكر، ان يحدس ومضة الخلود في تكوين الانسان، باعتباره اعظم الموجودات، ويحل فيها حلولا روح الغيبي، بنوع من التعالق بين ما هو سماوي وما هو ارضي، بين ما هو لا محدود ولا تشبيهي مع ما هو محدود وتشبيهي، تضايفا هبط به ما هو غيبي بصورة الحضور البشري، وارتفع كنظام صورة، ما هو ارضي نحو جلال المثال الاعلى. وصولا الى الكمال المطلق، حيث التأمل الناشط في منطقة تقع بعد صورية الصورية. حين يتحرر البشري من حالة الانسان، ويوحد مع اشكال الآلهة، بغية توضيح تمظهر الانسان بمسحة الهية. فقد كان غرض الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الانسان على الدخول في صلات وثيقة وحميمة مع الهتهم.

ان صلة الشبه المادية المنظورة في نظام صورة الفرعون، قد امكن الاستعاضة عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز، حيث ترتفع المدلولات فوق الظاهرات الطبيعية، ذلك ان تظاهر العيني محقق عن طريق محض صورة، يعتبرها حدس الفن مقاربة للمضمون حدا تشبيها. ذلك الفكري الذي لا ينفي ضرورة تفريد العام، ليعبر عن المفهوم السامي، وهو مفهوم يخرج بالمادي الى حيز مثالي رفيع، بقوة معتقد وقوة نهوض اجتماعي. فقد اتبع الفنان تأليفا شكليا وبما يتناسب مع روحية الافكار والتقاليد، وكما تبدو في حقيقتها الفكرية، فقد تخلى بشكل واضح عن قوانين المراقبة البصرية الدقيقة في التمثيل، لصالح الافكار الرمزية المرتبطة بها للايحاء بمغزاها الرئيس، هذه المدلولات الرمزية، هي بمثابة تكثيف للافكار بخطاب التشكيل، ولعل ذلك ما يحرر الادراك من الوظيفية التي اوكلت اليها. فهي عبارة عن قوى مثقلة بمضامين عقلية، وكانت تؤدي فعلها بمثابة رؤى روحية ورموز. ان السمة المميزة الاولى لمثل هذه الاشكال الرمزية، تكمن في وجود توافق بين المدلول ونمط التمثيل، بحيث لا يكون القصد ان تمثل هذه الاشكال ذاتها، بما فيها من خصوصية وفردية، ولا ان تعرض للوعي مباشرة السماوي والميتافيزيقي المتضمن فيها، بل تكون اشارة الى الالهي وتلميحا اليه.

 

خامات التماثيل:

ان فكرة الجمال في التماثيل الفرعونية تتلخص بالتجلي المحسوس للفكرة، فمضمون تمثال الاله ليس إلا فكرة الاله، اما صورته فتتلخص في تعبيرها الخيالي، وكي يتداخل هذان الوجهان في نظام التمثال، يلزم تحول المضمون الى موضوع فني، وان يجد جلال المضمون تعالقا مع قدسية الخامة وجمالياتها. ولعل هذا ما عناه (جوته) : سواء كنت بازاء قطعة من الرخام، ام بازاء صدر الحبيبة، فان من المهم ان تعرف كيف ترى بعين سبق لها اللمس، وكيف تلمس بيد تجيد النظر. وبقصدية مستندة الى الخبرة القائمة على التجريب، بحث الفكري المصري في خصوصيات الخامات وبما يلتقي مع جلال المضمون، فوجد في الخامات شيئا من الحيوية الفتشية حين تحل بها روحية المضمون وقدسيته، فقد كان الفكر يبحث عن خصوصية الابدية والدوام في خصوصية الخامات، فوجدها في حجر الكرانيت الصلب، ذو الالوان السوداء والمائلة للاخضرار. كي يوجد تعالقا بين حيوية المادة الرمزية وتجلي الفكرة الكامنة فيها. وكي يوجد لها تأثير سايكولوجيا في ذات المتعبد، فقد عرضها في قدسية فضاء المعابد، تسطع بضوء الشمس، رمز الاله (رع) بعد ان ترك ما حولها مظلما، وكان الوجود قد تحقق الان، وان عملية الخلق الاولى قد تحققت الان.

571bودخلت ذات الفنان الواعية في حوار جدلي مع خصوصيات الخامات الجمالية ودلالاتها الرمزية، فوجد الذات عالمها في الازل واللانهائية المتجسدة بمادة الذهب، حيث نقاء المادة وازليتها في ابدع صورها الرمزية. لقد كان الجدل الروحي يجتاز الذات بصدد امكان التعبير الروحي في خصوصيات الخامات، الصلابة، الملمس، الكتلة، السطح، اللون، ومن هنا نحتت باعقد التقنيات المستندة الى معرفة كبيرة في كيمياء الخامات، اجمل تماثيل الفراعنة الذهبية واشكال الكائنات الرمزية. فليس التعبير هنا مجرد عرض خارجي قد تلبس بالعمل الفني وانما هو بمثابة مركز اشعاع تنظيم حوله سائر مكونات العمل الفني، بقيمه المادية والفكرية. فثمة حقيقة باطنة تفصح عنها الحقيقة الظاهرة، فتتجلى الروح والعاطفة في كل واحد لابراز قيم التشكيل التعبيرية.

وكي يحقق النحات استيعابا بصريا ناجحا لهيئات التماثيل، فقد نحتت التماثيل الملكية ذات الحجوم الكبيرة والتي يصل ارتفاعها الى اكثر من عشرين مترا، ويزن كل واحد منها حوالي مائة طن، والتي كانت تعرض امام واجهات المعابد، واشهرها تماثيل الفرعون رمسيس الثاني في معبده في ابو سمبل، والتي تقرر حجومها الهائلة خصوصية الاستيعاب البصري، اذ انها كانت تشاهد من مسافات بعيدة، كي تبث الروحي في سايكولوجيا المتعبد, نحتت هذه التماثيل من احجار رخوة ذات نوعيات خشنة السطوح من حجر الكرافيت، كون التدقيق البصري في نظامها الشكلي لا ينال منها الا هيئتها الكلية، دون تفحص تفاصيلها الدقيقة. وفي ذلك تكمن القدرة على الرقي على الصور الفردية، وشتى انواع التفاصيل والجزئيات، فقد اعطيت الحقائق تفسيرات عقلية، ورفع العضوي والطبيعي لمستوى الفكر.?

لقد ساعدت البيئة الطبيعية المصرية، على انتاج تلك الذخيرة الهائلة من المنحوتات الملكية، ففي مصر تتوفر انواع متعددة من الاحجار التي كانت المادة الخامة الضرورية في انجاز الاعمال الفنية. ومنها الحجر الجيري بنوعيه العادي والممتاز، والحجر الرملي، وحجر الكرافيت وحجر الكوارتز والرخام. بالاضافة الى الحجر الجيري الابيض اللون، والذي استعمل كثيرا في بعض الموضوعات، لجودة مادته ورخاوتها وسهولة نحتها، لقد بحث الفكر في زمانه ومكانه في مقالع اسوان والسودان عن مادة الذهب، وعن العاج والخشب في الغابات الافريقية، عن مثل هذه الخامات والتي وجد فيها تعبيرا روحيا وجماليا يتفق مع جلال الفكر الديني. وجميع هذه الخامات النحتية، لا تكتسب صيغتها الجمالية او شكلها الاستطيقي، ما لم تتناولها يد وذهنية الفنان المبدعتين، بان تحل بها فكرة القديس حلولا.

 

تقنيات النحت :

كان النحات في مصر القديمة، ينحت الخشب بمقشر ذي مقبض من خشب ونصل من نحاس، وينحت الحجر الرخو بمنحت من نحاس ومدق من خشب. اما تماثيل الحجر الصلب مثل الديواريت والكوارتز والكرافيت، وهي التي تثر اعجابنا البالغ لكمال صنعتها ودقة نحتها، فقد ذهب الظن الى ان النحات استخدم في نحتها ادوات من الصلب او النحاس او البرونز وقد ركبت فيها قطع من الماس او احجار ثمينة اخرى.

ويتضح مما تبقى من اثار على بعض التماثيل، ان النحات كان يؤشر الخطوط الخارجية للتمثال على سطح القطعة الحجرية اولا، ومن ثم يزيل تلاميذه الاجزاء الخارجية المحيطة بهذه الخطوط. ومن ثم يعود يرسم خطوطا جديدة تتصل بايضاح تفاصيل الهيئة، فينحتها التلاميذ مرة اخرى. وكان ذلك يتكرر حتى تتوضح صورة التمثال، فيقوم النحات بنحت تفاصيله الدقيقة باداة مدببة، وتؤشر على سطحه الكتابات الضرورية، وفي مرحلة اخيرة يصقل سطح التمثال بمصاقل من احجار صلبة وناعمة، وكان يستعان على نحت التماثيل الكبيرة باقامة سقالة (سكلة) من الخشب حولها .

ولم يقتصر فنان النحت المجسم في انجاز تماثيل الملوك والالهة من مادة الحجر، وانما استعمل البرونز في نحت مثل هذه التماثيل المهمة، والتي كانت تنجز باستخدام الصب والقوالب، وكانت هناك عدة طرق في صب التماثيل. فكان النحات يصب تماثيله في قالب مغلق يتألف من نصفين ينطبقان على بعضهما انطباقا وثيقا، فيكون التمثال المنجز صلدا، اما التماثيل البرونزية المجوفة فيمكن انجازها، بادخال لب فخاري في قالب حجري وصب المعدن السائل حوله. وهناك تقنيات اخرى، تعتمد على طرق الواح من النحاس على قالب منحوت من الخشب، حيث تثبت الواح النحاس على الخشب بمسامير معدنية، فيكون هيكل التمثال الداخلي خشبيا، الا ان شكله الخارجي مكسي او مموه بالنحاس. ومن اشهر تماثيل الملوك البرونزية هو تمثال الملك (بيبي الاول) من الاسرة السادسة. ورغم تلف سطحه بسبب وجود طبقة من الصدا، الا انه بقي يدلل على كفاءة صناعية بارعة في تقنيات تشكيل المعادن، ويعد من القطع الفريدة في تاريخ النحت المصري القديم .

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1535 الاثنين 04/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم