قضايا وآراء

تجارب إبداعية جديدة: "علي الإمارة" في "لزوميات خمسميل" / حسين سرمك حسن

(اقتحموا اللغة / لتقولوا حقائق ضخمة / ليس في الوقت متسع / فالكلمات تنزف / فقط ../ إحرثوا تربة القلب / وازرعوا ...)

 (علي الإمارة) ..  ديوان (أماكن فارغة)

 

من المؤسف أن قسما من نقادنا يلاحقون وينهمّون بأبسط كاتب في مجاهل كولومبيا مثلا، ويتغافلون عن التجارب الإبداعية الجديدة والمتفرّدة التي يبتكرها مبدعو بلادهم . وهذا الشيء نفسه يمكن أن نقوله عن نقّاد الشعر، فهم يتابعون بحماسة أنصاف الشعراء من الأجانب، ويروّجون لنصوصهم المترجمة التي لا يعرفون أصلها، مبتعدين عن الرصد النقدي الجاد والمحب - مادمنا ننطلق من حقيقة أن الذاتية حال في الموضوعية، وأن وجود الناقد الموضوعي الفولاذي محض وهم - للتجارب الجديدة المبتكرة التي يقوم بها مبدعون عراقيون، وتشكل مبادرات ريادية يمكن في حالة احتضانها وتفحّصها وتقويمها والإمساك بخصائصها الخلاقة، والطرق المتكرّر عليها، أن تكون مفتاحا تجريبيا قد يفضي إلى تأسيس ركائز تجديدية تتأسس عليها مناهج ومذاهب أدبية أوسع وأشمل وشديدة الإبهار والفرادة . وضمن مسعانا للإحتفاء بالتجارب الإبداعية العراقية الجديدة التي ينضجها مبدعوها على نار المحنة، فيثبتون حقيقة أن الإبداع العراقي يشتد عزمه ويعلو كعب نهضته في مواجهة الأزمات الخانقة، نقدّم تجربتين شعريتين جديدتين للشاعر المبدع " علي الإمارة " قد تكون له راية الريادة فيهما عراقيا وعربيا، ولم تتم مراجعتهما وتفحصهما نقديا بصورة جادة وصبور . كانت التجربة الأولى التي سنتوقف عندها لاحقا هي نظم الشعر الفصيح على طريقة الموال "الزهيري" في الشعر العامي . أما التجربة الثانية التي سنتناولها هنا فتتمثل في ديوانه: " لزوميات خمسَميل - قصائد وحكايات "، وفيه قدم الإمارة لونا أدبيا جديدا يقوم على الجمع بين السرد النثري والشعر ليس في النص الواحد ولكن من خلال تقديم نص شعري ثم عرض القصّة التي عبّر عنها . والقصص القصيرة / الحكايات هي وقائع من حياة مدينته " الخمسَميل "، وقائع عذاب وانذلال ومهانة ؛ فقر مدقع يدفع بالإنسان إلى أشد مستويات التردي التي تجرّده من إنسانيته وتحيله إلى كم حيواني محتقر . يُسأل علي في أحد اللقاءات الصحفية: لماذا خمسَميل ؟ فيجيب: خمسميل هي ذلك الجزء الهلامي من المدينة الذي يغير ملامحه باستمرار، كما أنها أنموذج الجحيم الأرضي المنطوي على الفردوس المفقود، وهي أيضا قاع المدينة بكل تناقضاتها وإرهاصاتها على الرغم من صغر مساحتها . وهو يرى أن هذه المنطقة الصغيرة قادرة على أن تثير غبار الشعر والتاريخ معا.وإذا كان المبدع الكبير الراحل " عبد الرحمن منيف" قد قال: "النجف وحدها تصنع مائة رواية أهم وأخطر من مائة عام من العزلة . قلت ذلك مائة مرة، لكن لا أعرف لماذا لم يتصد أحد "، فإن علي الإمارة قد تصدى لوقائع حياة وعذابات بلدة صغيرة أصغر من " ماكوندو " ماركيز ليقدّم عملا غرائبيا لكن شديد الواقعية أولا ويرسم بيدين إذا جاز التعبير ؛ واحدة شعرية عمودية، والأخرى نثرية سردية ثانيا . في نصوص علي هذه يبدو الواقع اشد غرابة من الخيال الإبداعي الذي يحاول تصويره بغية تخطيه . في الخمسميل، مثلا، نشهد أول حالة سرقة براز في تاريخ الخليقة . فعندنا، في أساطير السومريين، يسرق زو - العصفور الصاعقة ألواح الآلهة، وهناك لدى الأغريق سارق النار " برومثيوس " الذي حقّق للبشرية فاتحة تحدّيها الأوديبي وهو في الوقت نفسه مفتاح نهوضها الحضاري حين سرق النار خلاف أوامر الآلهة وتابواتها، فقضت عليه بعقاب أبدي تأكل فيه الغربان كبده .أما في الخمسَميل فإن السارق الجسور هو سارق "البراز" . فـ" من أجل أن يجتاز منصور خير الله وصديقه عودة حسين الإختبار الذي كان يُجرى للمتقدّمين للعمل في الموانيء العراقية كان عليهما أن يقدّما برازا خاليا من ديدان المرض المنتشر في تلك الأيام .لذا اضطرا(وهما المصابان بديدان المرض ويفشلان في كل مرة يتقدمان فيها للإختبار) أن يقوما بعملية سطو ليلي على فندق شط العرب - حيث كان يسكن الإنكليز - وذلك لسرقة عينات من براز الإنكليز التي ستكون خالية بالتأكيد من الديدان، فالإنكليزي الفاتح المتفوق الأبيض - حسب تصورهما - سيكون برازه " أبيض " خال من الديدان . وحين أوشكا على الخروج رآهما أحد الموظفين الإنكليز متلثمين فأطلق النار على عودة فقتله في الوقت الذي سحب منصور سكينه الكبيرة - القامة - وقتل بها الموظف الإنكليزي وهرب بكيس البراز إلى خمسميل . أما الإنكليز فلم يعرفوا ما الذي سُرق منهم في تلك الليلة . بعدها نجح منصور في الاختبار وتعين في مصلحة الموانيء العراقية في زمن "جون وورد" أول مدير عام لموانيء العراق 1919 - 1942 . وهكذا دفع عودة حسين دمه قربانا لبدء حياة جديدة لعائلة من خمسة أفراد: أب وأم حبلى وولدين وبنت - ص 8و9) . لقد ذكرت في دراسة سابقة عن ماركيز أنه أول من حوّل الفضلات البشرية - "الخراء" بشكل خاص - إلى قيمة جمالية في الإبداع العالمي خصوصا في روايته الشهيرة "الحب في زمن الكوليرا "، وذلك في مواضع كثيرة منها اللحظة التي تمنح فيها " فرمنتينا داثا " عاشقها الموله أول نظرة من الشباك منذ عقود وهو في العربة فتشتعل أحاسيسه وتلتهب أحشاؤه ويكون ردّ فعله على هذه النعمة السماوية أن يتبرز على نفسه . لكن لدى ماركيز يوظف هذا الفعل كجزء من لعبة فنّية شكلية، تفتقد لـ " البرهانية " كما يقول المبدع " محمد خضير " في نقده لرواية الحب في زمن الكوليرا . هنا تتشكل منافذ للتفريج النفسي الانفعالي في سلوك ناكص هو مدعاة للطرافة والسخرية البيضاء أكثر من أن تكشف بؤس الوضع البشري المخيف .

من يصدّق أن الإنسان المقهور يُحصر في زاوية مميتة في دفاعه عن بقائه - مجرّد بقائه البايولوجي " الحيواني " الرخيص - حدّ أنه يخاطر بحياته ليحصل على عينة براز كريه توفّر له سبل العيش ورغيف الخبز . يترجم علي القصة في قصيدة عمودية مكونة من أربعة مقاطع يستهلها بخطاب يوجه إلى آخر، لا نستطيع تحديد من هو المخاطِب ولا من هو المخاطَب فيه . وفي ذلك قصدية أن نتماهى مع الطرفين لأن الخطاب يمس صميم وجودنا المتهالك:

تعال نذهب حيث النار والماء - وحيث تسقط في الأعماق أسماء

أريك ما يجعل الأيام مسبحة - من الجنون، فلا يشغلك إغماء

 أريك لو تُفتح الأبواب مزرعة - من العذابات حيث الموت نعماء

الدود يحفر في تاريخنا نفقا - على الوجوه له رسم وسيماء

.. الدود هنا رمز للعنة مفزعة تنخر في أسس حياة الناس المسحوقة وليس تعبيرا عن كائن طفيلي ميكروسكوبي هش . إنه دود الإستغلال والخراب والمهانة . رمز لضيم مديد وبؤس متطاول يواصل الشاعر / الشاهد رسم لوحته الموجعة في المقطع الثاني الذي يُحكى بضمير الشخص الثاني / المخاطب أيضا ؛ ومن جديد لا نستطيع تحديد طرفي الخطاب لأن السياسة التي يسير عليها علي تتمثل في تقديم القصة الشعرية أولا تليها القصة النثرية، ومن المعروف أن السرد الشعري مموّه يلعب على سلسلة حلقات الواقعة صوريا ومجازيا، في حين أن السرد النثري مباشر ولابد أن يقدم - حتى مع لعبة التباس التسلسل الزمني، ومع استخدام اللغة الشعرية - الحوادث المقصودة كي يحافظ على تماسك نسيجه الحكائي . لكن الشاعر يصعّد في المقطع الثاني هذا الاحتدام الدرامي والسمة الحركيّة لخطابه:

إمسك يدي إن هذا الدرب منزلق - وهذه فجوة للويل تندلق

 خفّف خطاك فلا يشعر بنا أحد - فنحن في قبة النسيان نأتلق

ها نحن نقرب من قاع الأسى وهنا - أفق من الدمع يغشانا فننطلق

أركض بنا تلك أفواه مباغتة - وقد تناسل فينا الخوف والقلق

ولا تهمك آثار الدماء بنا - فألف عذر إذا عدنا سنختلق

وصحيح أننا نستشف من خلال مسار المقطع أن الراوي والطرف المخاطَب يقومان بفعل محظور ومحفوف بالمخاطر المميتة، إلّا أننا لا نعرف حتى الآن طبيعة هذا الفعل، فالشاعر يوسّع دلالاته لتأخذ أبعادا وجودية أوسع وأشمل ؛ دلالات تكشف تساؤلات الفرج والرجاء الذي لا يأتي، وخيبة الأمل المستديمة في الخلاص من ظلمة ليل المحنة المدلهم، حتى أننا لا يمكن أن نضع في حسابنا التأويلي كمتلقين صدمة أن كل هذا اللهاث الشعري الممتحن للراوي وهو يعلن عن خراب وجوده الخانق ومأزق الفعل الجسيم الذي اقترفه مع شريكه سيكون من أجل " كنز البراز" . تأتي هذه الصدمة حادة بعد توسيع حدود المعاناة بدرجة هائلة في المقطع الثالث كمرحلة انتقالية:

 قل للحديد أما من جمرنا فرج - وهل رأيت قطارا شفّه العرج

 متى يجيء ؟ فقد ماعت نواظرنا - وهذه الأرض لا لون ولا مرج

أيامنا لحستها الريح فاضحة - والعمر في غيمة الأخطاء يندرج

 متنا انتظارا وما في الأرض متسع - أما لهذي السما يا جوعنا درج ؟

 يا ويحهم خلّفوا أسماءهم ومضوا - لخمسميل وأغوى خطوهم حرج وتظهر القصدية العالية لدى الشاعر في تصميم صدمة لحظة التنوير الدرامية في أنه جعل المقاطع الثلاث السابقة ساحة لوقائع ثم لتساؤلات ملتهبة عن الخلاص المنتظر المعطل ؛ عن الخيبة الأليمة التي لا فكاك من مخالبها الباشطة ؛ عن البحث المحموم الذي يعلنه الراوي المحاصر بلعنات العيش المذل عن مخرج من مصيدة محنته الشائكة، ثم إذا به يضعنا أمام تناقض هائل بين حجم جحيم الوجود وتفاهة أداة الإنقاذ وهو البراز:

 (كنز) البراز لنا درب وإغناء - هل نحن للفقر يا منصور أبناء ؟

فنادق الرهبة الأولى تبعثرنا - وتقتفي دمنا المنهوب شحناء

ندنو وتبعدنا الديدان فاضحة - أليس للعطش المسحور إدناء ؟

 بهو الحياة تجلى .. كيف ندخله ؟ - وفوق أوجهنا للموت سحناء

ملثمون بميراث وأوبئة - يفنى الزمان وما للجوع إفناء

 تنتهي القصيدة / الحكاية بمقاطعها الأربع ونحن إلى الآن نهتز وجدانيا لمحنة الراوي / السارد الشعري في عرضه لصور أساه المتناثرة والتي تتطلب خيط سرد يشد حزمتها لتصبح سردا مضاءا ومسلسلا حلقة بحلقة وحلقة في حلقة وحلقة مع حلقة، ولهذا يقدم الشاعر / القاص الحكاية منثورة ملتحمة الحلقات فنعرف أن الراوي هو (عودة حسين) الذي قُتل على أيدي الإنكليز، يخاطب بتساؤلاته اللانهائية رفيقه منصور خير الله الذي ظفر بكنز البراز / كنز الخلاص . يسرد الشاعر الحكّاء المقتدر القصة نثرا في البداية، ولكنه يؤسس في الخاتمة / خاتمة الترجمة النثرية للحكاية، لحلقة شعرية وسيطة تمهّد لاستقبال القصيدة السردية التالية، فهو حريص على وحدة المناخ النفسي الشعري في تحقيق النقلات لكي تأتي موحدة، سلسة، ومنسابة بتلقائية غير مفتعلة: (.. أب وأم حبلى وولدين وبنت .. جاءت هذه العائلة من الأرياف البعيدة وابتنت لها بيتا في خمسميل قرب المقبرة .. كانت خمسميل هواجسا من القصب والبردي والطين وعيونا تتطلع إلى نافورات الحياة المنبثقة من الميناء والزمن الأزرق الذي تأتي به البواخر وتنفضه على الأرصفة فيرتديه الفقراء قمصانا مائية ويركبونه دراجات هوائية تنزل من أعالي الماء حتى تخوم العطش - ص 9) . هكذا يتعاضد الشعر والنثر كي يقدما الحكاية النثرشعرية النهائية، حكاية تأتي كتركيب هيغلي إبداعي إذا جاز التعبير من طباق السرد الشعري وأطروحة السرد النثري . لكن الشاعر القاص في ختام حكايته الأولى ينثر بذور حكاياته المقبلة شعرا ونثرا، فمن المقبرة سوف تنتشر خيوط سردية مركبة شعرية ونثرية عن بيت منصور الناجي من الموت بعد أن ظفر بكنز البراز وهو يقام في خمسميل بجانب المقبرة .

وعلى طريقة أم الحكايات ؛ ألف ليلة وليلة، تبدأ الحكايات المقبلة تتناسل من رحم الحكاية الأم هذه حيث تبدأ الخطوة الأولى بسرد حكاية بيت منصور الذي ابتناه في خمسميل بجانب المقبرة، من تراب الموتى الأول، ويالها من مفارقة أن تشيد مأوى للحياة من منتجات الموت وعلى أرض مملكة الموت (ولاحقا سيبني وحيد ابن منصور وأصدقاؤه سدة خمسميل الكبيرة من تراب الموتى في جانب المقبرة):                   

 بما مضى من دم تُبنى لنا دار - صوت الجماجم في الأعماق هدّار

ها نحن نسكن آباءً .. فيسكننا - موت، وتكشف للأيام أخدار

تمد أذرعها الجدران ذاكرة - من التراب لها في النفس أكدار

 وحين تبلعنا الأبواب ندخل في - جوف الزمان فمغدور وغدّار

نصغي لدقات ساعات مؤرقة - كأن دقاتها في البيت أقدار

وحين نلاحظ الكيفية التي بنى فيها الشاعر السارد حكايته الأولى فسنجد أنه قدم حكاية طويلة نثريا أتبعها بعدد من الحكايات الثانوية القصيرة جدا:

 - منصور يبتني بيتا في خمسميل بجانب المقبرة، من تراب الموتى الأوائل

 - في يوم مطر ورعد رُزق منصور بولد أسماه وحيد لأنه الوحيد من العائلة الذي سقط رأسه في خمسميل

 - أم أوس هي القابلة المأذونة في خمسميل والتي يقع بيتها مقابل المقبرة .. وهكذا .. وحين يستنزف أغراض الحكاية الأم عبر تناسلها الحكائي الموجز فإنه يعود ليقدم حكاية طويلة ممزوج فيها النثر بالشعر سرديا والشعر بالحكاية شعريا ويبدأ بتوليدها بيديه الماكرتين الحاذقتين مجموعة من الحكايات الثانوية .

وحين يُسأل الشاعر عن سبب اختياره القصيدة العمودية لمعالجة هذا العمل، يجيب معبرا عن التصميم المسبق الذي صار سمة من سمات الحداثة حيث لم تعد الفطرة ركيزة أساسية للإنجاز الفائق في الشعر بل الدراية والتخطيط والثقافة العالية: (أولا أن القصيدة العمودية يمكنها أن تبقى وتستمر إذا ما أفادت من المنجز الشعري خلال العقود الأخيرة، وإذا ما تمثلت بمعطيات الحداثة سواء في الأدب أو الفنون الأخرى،"فالقصيدة العمودية الجديدة" (وستكون لنا وقفة مع هذا المصطلح - الناقد) هي قصيدة المتنبي موسيقيا وبناء شكليا لكنها قصيدة المنحى الجديد المتحقق بالانزياح والتكثيف والترميز وكل أساليب الشعر الحديث وفنونه) .

أما عن سبب اختياره " اللزوم " في الشعر العمودي الذي يضيف أعباء على قدرة الشاعر على الحركة التصويرية الرحبة ويضع قيودا على معصمي تلقائيته الغامرة . فباختياره اللزوم يكون الشاعر قد " ورّط " نفسه عن سابق عزم في مصيدة عروضية إذا جاز القول، وفي هذا تحدّ مستفز قد يكتم أنفاس مشروعه الذي هو في أمس الحاجة إلى سماوات تعبيرية نقية مفعمة بأوكسجين الروي المنعش . إذن ما هي " فلسفة " الشاعر من هذا السلوك الشعري " المازوخي " ؟ . يقول علي: (وثانيا: اخترت اللزوم لأني بصدد جحيم أرضي حيث أردت أن أدخل إليه عن طريق جحيم اللغة الذي هو اللزوم هنا . فاللزوم - وهو الالتزام بأكثر من حرف رويّ في آخر البيت - قفص شكلي ضيق يصعب التحرك فيه وبه، لكني اعتمدت على المساحة الشعرية التي يمكن أن تضيئها المفردة التي يقف أمامها الشاعر - كقافية في القصيدة - دون غيرها مجبرا على إضائتها شعريا، فرأيت في هذا الضيق المنجمي حبلا شعريا تمدّه المفردة الحيّة إلى وعي الشاعر، لأنها بنت اللغة - الكائن الحي -، وحين تلامس حيويتها موهبة الشاعر سيكتشف الطاقة الكامنة في هذه المفردة فيسعى إلى تفجيرها شعريا، فتتراءى له حرية جديدة منبثقة من فضاء المفردة الذي هو فضاء اللغة، فعندها يستطيع الشاعر أن " يأسر السماء والأرض داخل قفص الشكل " كما يقول الشاعر الصيني القديم " لوتشي " . من هنا أن المعرّي لم يكن يستعرض قدراته الشعرية أو اللغوية حين كتب لزومياته، ولكنه وقف أمام اللغة هذه الوقفة، فراهن على حيوية المفردة وطاقتها الشعرية الكامنة، ولا سيما أنه جاء بعد المتنبي الذي يصعب التميّز بعده، فتميّز عليه المعري باللزوميات من ناحية، وبمزج الشعر بالفلسفة من ناحية ثانية - ص 2و3) . وهو في هذا السلوك المازوخي يتفق في النتائج مع سلوك منصور وعودة في مخاطرتهما المدمرة وما تنطوي عليه من احتمالات مميتة تحقّقت فعلا . إن الواقع الماحق بحمولات تبعاته الباهضة، والذي حطم حياة الأسلاف في خمسميل، قد استورث (عضويا) وانزرع في نفوس الأحفاد - ومنهم علي الإمارة - عميقا في لاشعورهم الجمعي والفردي على حدّ سواء ؛ في اللاشعور الجمعي كموروث يُختزن في صندوق الذاكرة الأسود،و(يُرضع) من ثدي العذاب، فيسري مسرى الدم في عروق الوجدان . وليس أدل على ذلك - وهو الأمر الذي يثبت أن المؤلف لا يموت - من أن عليا- دون غيره - هو الذي استدعى تلك الأحداث الغائرة التي لن تتحقق صورتها الدلالية الفعلية وإيحاءاتها الغائرة، وإن مجرد حذف اسمه يتسبب في إهارة بناء النص لأن الأخير، إذا قدمناه غفلا من اسم مبدعه، سيتيه في حومة التأويلات المربكة، وستضيع مرجعيته الانفعالية التي لا تكتمل إلا إذا ارتبطت باسم مبدع عراقي ومن خمسميل قطعا . لن تستكمل ملامحه إذا وضعنا اسم كاتب روسي أو فرنسي عليه . بالعكس سيساء لحرمة النص، وتنتهك قداسة هويته، ومن ثم يُساء للمتلقي المسكين الذي سيخسر متعة الإنهمام بنص عراقي مؤصل .

وعلي الأمارة بهذه النرجسية الصحّية أراد التميّز عن ورثة المتنبي الكبار وأعظمهم الجواهري، فخلق ما أسميته عام 1994 بـ " القصيدة العمودية الحديثة " حينما وصفت منجز الجماعة " المرتدة " - وأولها جماعة " قصيدة الشعر " - التي كان لزاما، كما تفرض موجة الحداثة، أن يتجه شعراؤها نحو كتابة قصيدة النثر، لكنهم " ارتدوا " نحو العمود الشعري .. فكانت ردّة مباركة لأنها أنجبت القصيدة العمودية الحديثة التي امتازت بالوحدة الموضوعية والنفس السردي وتوظيف المرجعيات الأسطورية والقرآنية والموروث الشعبي والخرافي وغيرها، كما انتعشت باللعب الرمزي الآسر، واستندت إلى ثقافة عالية وإدراك حاد لأهمية اللون ولعبة الضوء والظل والعين السينمائية والتوتر الدرامي ولحظات الذروة .. إلخ . وتأريخيا يمكننا القول أن الشاعر علي الإمارة هو من أوائل من أسّسوا الركائز المعرفية والجمالية لهذا المنجز الإبداعي المتفرّد . وفوق ذلك فله قصب الريادة في ابتكار وتأصيل هذا الجنس الإبداعي السردي النثرشعري الجديد . هذا الجنس الذي، وهذا امتياز آخر، أسس فيه لغرائبية جديدة مفارقة للواقعية السحرية التي ورث تقنياتها مبدعو أمريكا اللاتينية عن ألف ليلة وليلة عبر المزاوجة الخلّاقة بمتغيرات الواقع الخارق . لكن عليا يستخرج لآليء السحر من خلال الحفر العميق في تربة الواقع العراقي وخصوصا هذه البقعة الصغيرة المسماة بالخمسميل المشتق اسمها من الركيزة الاسمنتية ذات الشكل التابوتي التي دقّها الإنكليز في أيامهم وكتبوا عليها حفرا (5 miles) أي خمسة أميال وهو بُعد هذه البقعة التي سمّيت فيما بعد (خمسميل) عن مركز قيادة الجيش الإنكليزي في الشعيبة . لا يصعد الإمارة بوقائع الحياة اليومية البسيطة ويحلق بها في سماوات المخيلة ليمنحها درجة قصوى من الغرابة الصادمة، بحيث ينتفخ الواقعي ليكون مثيرا للمفارقة وليس للألم الوجودي كما فعل علي الذي يهبط من سماوات المخيلة نافضا يديه منها في استلهام الواقعة الملتحمة بتراب الخمسميل، والمكتفية بذاتها غرائبيا وسحريا . راهن علي بنجاح على غرابة الواقع العراقي بذاته ؛ غرابة تؤسس سحرها وإنكارية وقائعها لمن لم يعش تفاصيل جحيمها المدمّر . إن جانبا من تقصير المبدعين العراقيين في ملاحقة وتمثل وتجسيد التحولات الحاسمة في حياة مجتمعهم يتمثل في أن متغيرات الواقع العراقي صارت تسبق المخيلة، في حين أن مخيلة المبدع في أي مكان من العالم تسبق الواقع وتشكّله. في خمسميل " ماكوندو " علي الإمارة، تشتعل المفارقة الوجودية حدّ الإنسحار المدهش حين تتلازم أكف الموت مع أكف الحياة:

- أم أوس قابلة خمسميل المأذونة والتي، بحكم مهنتها، كانت مسؤولة عن الولادات (الحياة) في المنطقة، تسكن بيتا يقابل المقبرة (مملكة الموت) !!، فيعبر الشاعر تعبيرا بليغا عن هذه المزاوجة:

 يا أم أوس تنامى قبرنا الرحب - لمّا تزاوجت الأقمار والسحب

فكّي حقيبتك السوداء ساخرة - فأن أحلامنا البيضاء تنسحب

خذي المقص وشدّي حبل سرّتنا - على التوابيت كي يمشي بها الصحب

على التراب أراجيح وشاهدة - أطفالنا فوق أعراس القبور حبوا

- وهب: صبي كان يسرق أسنان الموتى الذهبية من مقبرة خمسميل ويبيعها على صاغة الذهب . وقد وجده منصور صباح أحد الأيام ميتا في قبر مفتوح ولم يُعرف السبب !! . ومن ذهب الأسنان ينطلق الشاعر إلى دائرة كونية ضاجة بالمتناقضات .. تناقضات الفناء في هجمته الكاسحة على حرمة الحياة الكسيرة في ظل واقع استغلالي تحكمه الفوارق الطبقية فتزيد من محنة الإحساس بالإنجراح اشتعالا:

 إفتح خزائن هذا الموت يا وهب - وكن كثير التقى إن عضك الذهب

 أيأكلون بأسنان مذهبة ؟؟ - ويشربون .. وفي أفواهنا اللهب ؟

والشاعر يعمد إلى تأجيج صدمة مفارقات هذه اللعبة التي لا تنتهي ؛ لعبة الحياة والموت، فكل قطعة من أسلاب الموتى يمكن أن تكون حلية للأحياء الذي تغيّب نشوة الظفر بصيرتهم عن المثكل الذي يختل لهم خلف الباب، ونحن نحيا، فنحن في الواقع نموت يوميا:

قلادة تصبح الأسنان لامرأة - يوما إذا لوحتها النار والضهب

وعد إلينا بأسمال مذهبة - فهكذا تأخذ الأيام ما تهب

وبين موضع وآخر، وبعد أن يفرغ الشاعر من معالجة قصة محددة شعريا، معالجة تُسرد بضمير المخاطب عادة، يلحقها بمقطع أو مقطعين يشعل فيها التأملات الموجعة في مصائرنا، والنهايات السوداء المحتومة لأقدارنا التي تتلاعب بها أصابع المثكل الخفية، ومقاطع التأملات هذه تاتي في الغالب محكية بضمير المتكلم الفرد أو الجمع، أو جموع " الغائبين " - ويا له من توصيف لغوي محدّد، فضمير الغائب هو ضمير الموت، لا ضمير للحياة سوى " أنا " و " أنت " -، فبعد أن يتحدث - مثلا - عن وهب سارق أسنان الموتى الذهبية، وموته، ينسج شبكة من المراجعات الآسية الكسيرة لما ينتظرنا نحن أنفسنا من مهانة واندثار مقدّر لا مفر منه، في مسيرة موت متجحفلة تحت أردية القلق المستعر، قافلة موت مثابرة تنبح حولها كلاب الحياة بلا رجاء:

 نسير في غبش الأوحال قافلة - نجرّ أيامنا والحبل مقدود

نلمّ في الحفر القصوى مصائرنا - والعمر من عثرات العصر معدود

 دار الغراب على أحداقنا ونما - فينا السراب وصرح الماء مهدود

خلت لك الأرض من وحي ومن ألق - فما ستفعل بالأمجاد يا دود .. ؟

حتى هذا الدود الهش أكثر ديمومة منّا، وأقل ألما في مواجهة مصيره النهائي . المحنة ليست في الموت بحد ذاته، ولكن في الوعي به . الإنسان ليس حيوانا يموت فقط، يل يعي أنه سيموت . هذا الوعي هو الذي أزهق حياة جلجامش وخرّبها بالرعب من الفناء، وعلى وتر الوعي بالموت هذا تضرب أنامل الوريث - علي - الحاذقة، فيقدم أبلغ تعبير عن هذه اللعبة المرهقة والسمجة في صورة صراع الفأس والصخرة بمعانيهما الرمزية العميقة:

(الفأس) قال:ستهوي اليوم جدران - وقالت (الصخرة الرعناء):

سكران ولملمت سخطها الجدران واختبأت - والفأس فوق ثقوب الليل سهران

 ماذا نضمّد .. جدران تنز دما - يا ربّ هل لذنوب الأرض غفران ؟

 بكى العراء علينا والسماء بكت - لكنما دمعها زيت وقطران

 من يوقف الفأس فالجدران قد ربحت - عادت ترابا وفوز الفأس خسران ؟

إننا في الواقع نقف أمام رواية عظيمة، رواية محلة صغيرة، الخمسميل في تحولاتها، تحولات الحياة والموت، لتصبح أخيرا محلة (الهادي)، وهذا ما يعلنه الشاعر في رسالة / برقية مرسلة بالبريد الجوي من دائرة بريد قرب الله، يرسمها الشاعر تشكيليا على الصفحة الأخيرة من الكتاب / الرواية / الديوان (ص 105) يشير فيها إلى الكيفية التي كان يصيح فيها " رحيم الأعور " سائق الحافلة 1995 بصرة .. هذه الحافلة هي حافلة " لزوميات خمسميل " التي كان من الممكن أن تصدر في عام 1995 أو أي سنة أخرى، مادام قانون العذاب يفترض أن شاعرا يقودها، كحافلة وجودية، سائق متمرّس هو " علي الإمارة " . وشكل الرسالة المربع يضم في أحشائه أضلاع الفردوس المفقود، فردوس خمسميل الدامي الأربعة التي تختصر كل التاريخ الأسطوري والوجودي لهذه البقعة المربعة المنتفخة من الأرض: الأشباح الراكضة في العراءات البعيدة، الجماجم المضيئة في الأسفار المقبرية، صيحات الغرقى في الأنهار المسافرة، والقطارات الفالتة من سكة الزمن والمرسومة على جدران السجون الحميمة - أقفاص الحرية الأبدية . وهذه الأضلاع الأربعة هي أيضا خلاصة الركائز الرؤيوية والمضمونية والرمزية الأساسية لرواية علي الإمارة والتي تتجمع أحيانا في نص واحد مثل حكاية موت وحيد . ومحلة الهادي هي تمظهر يكمن في قاعه أخطبوط ذكريات الخمسميل ؛ المحلة التي كانت تُزال منها، وبلا وخزة مهابة أو رجفة خشوع، قبور ومراقد الأولياء والصالحين حين تعارض مدّ سكة الحديد (سيّد ياصف بن علي) أو تعرقل فتح شارع جديد (سيّد غازي وسيّد مهدي) . الإسمنت والحديد لا يقرّان حرمة لا لأولياء ولا لصالحين . رواية عظيمة عن العراق، وتحديدا عن العالم السفلي في العراق، والأكثر إيغالا في الأذى أن العراق بأكمله وعبر تاريخه الطويل كان عالما أسفل، لا عالم علويا فيه، هذا العالم يصوره ويسرده الشاعر من خلال أجيال عائلة منصور، ونهايات أبطال أجيالها الفاجعة .. قتل الإنكليز الجد الأكبر خير الله بعد أن قتل ضابطا منهم، فأورث (قامته - سيفه القصير - أداة الموت) لإبنه منصور الذي أورثها لإبنه (دعبول حيّه) الذي قتل بها اثنين . ودعبول بدوره أورث القامة / أداة الموت ومعها نداءات الهلاك لأخيه وحيد . وبين موتين: موت منصور الأب، وموت وحيد آخر الابناء، يختصر الإمارة حياة لا العراق حسب بل النوع البشري بأكمله . وفي سرده الشعرنثري يفتتح مسيرة الخراب بموت منصور في ثلاجة الموتى حيث نسيه الحارس وأقفل عليه بابها .ورغم أنه كان بإمكانه الخلاص لو رصف الجثث وصعد فوقها إلا أنه وُجد ميتا متجمدا بعد خمسة أيام بعد أن كتب على حائط العنبار بدمه: (حرام أن نجعل من جثث الموتى سلّما):

 بهيئة الثلج جمر الموت يطّرد - حتى بموتك يا منصور تنفرد

 هل تفتح الباب كفّ الغيب؟هل قدر- يضيء،حيث ظلام الأرض يزدرد ؟

يا موقد الثلج صار العمر محرقة - وأنت مازلت في الأعماق تبترد

صعدت من سلّم الأرواح منفلتا - مخلّفا بعدك الأجساد تنجرد

 لكن الإعجاز الأكبر يتمثل في وصف الميتة الشعرية الختامية لـ " وحيد " والتي تصلح أن تكون قطعة من عيون الأدب العالمي في أدب الموت العظيم . لقد أصيب وحيد الشرس بمرض السكّر (السكّر المرّ كما يصفه الشاعر)، وحيد صاحب القلب العنيد وسليل الجماجم المضيئة، فصار هذا الإنسان لعبة فناء بين فكوك النمل الهشة !! والشاعر يقدّم المشهد الهائل للكيفية التي يفتك بها النمل بجسد وحيد مازجا - في إنسيابية مشهدية سينمائية مخيفة يعجز عنها أكثر مخرجي أفلام الرعب تمكنا - بين إيقاعات طبول نهم فكوك النمل المدوية التي لا تُسمع إلا بأذن الوجدان المرعوب، وإيقاعات طبول أفريقية هامسة في ليل غابة الذكريات الموحش ؛ ذكريات يستعيدها قلب وحيد العنيد السابح في قدسية الخسارات المستعادة، في تلك الإستعادات يقدم علي - وهذا امتياز باهر - خلاصة لروايته الفريدة في نثر شعري فاجع يعجز الناقد عن تقديم خلاصة أو تعبير مواز له، ويجد لزاما عليه أن ينقل فقرات قليلة لكن شديدة التعبير عن مشهد الموت الرائع - موت رائع !!- هذا: (تدفقت أسراب النمل الذي يتغذى على الذكريات إلى حجرة وحيد الشرس حين انبعثت منها رائحة الذكريات الزكية .هنا في خمسميل حيث ابتنى الأشرس الكبير بيتا فوق طنبور الإنكليز،وصاغ من حجرته الخاصة قبة زرقاء تسبح في بحر الزمن وتطل على بساتين التاريخ القاحلة وصحاراه الوارفة الخضرة . نمل بأنواع متعدّدة وأشكال وأحجام مختلفة يزحف باتجاه الجسد الأرضي الممتليء بالرعود والأمطار القديمة ... جسد الفجائع والانتصارات الذي أودعته النجوم بريقها وأسلمته المقابر مفاتيح الكنوز العظيمة المهرّبة عبر حدود الضوء مع ثريات اليأس وأقمار القلق الدامية . على بساط العائلة المزركش بالآلام الخضر والخرافات الملونة، على البساط الذي سحقته القلوب الدامية، كانت هناك جمجمة أخرى تتجه نحو الضوء الأول .. قلب يتذكر .. بيد أن جحافل النمل الجائع لم ترتدع في زمن أصبح فيه التذكّر طعاما نادرا . فقد أحيط بالجسد المقاوم للسعات الحديدية بسلاسل نملية هائجة باحثة عن مدخل يفضي إلى قصر الذكريات البعيد .. في هذه اللحظة أحدثت نملة هائلة فجوة في كعب القدم اليمنى حيث اللحم الميت المتشقق بتراب العراءات .. فاقتحمت الرؤوس السود السياج الأكبر متجهة نحو ينابيع الحنان وشلالات الحب المنهمرة من القلب المتذكر .. كل هذا أجج عطورا سماوية انتشرت في الجسد المستسلم لضياء شموس بعيدة، وأغرى الفكوك واللوامس الترابية المندفعة إلى الأعلى حيث تفرعت شجرة النمل إلى غصنين متوازيين عند منطقة العجز المستلقي على بساط الفجيعة .. جحفلان متسابقان بنهم وحشي لم يمنع دبيبهما المتنامي القلب السابح في قدسية الذكرى من التطلّع الحميمي .... ولاحت على المرأى القلبي طيوف قطارات فالتة من سكة الزمن، أفاع حديدية ترقص على موسيقى مصائر مجهولة سمعتها الكتل الزاحفة فحث الخطى في صحراء البطن اللاهبة التي أحرق هجيرها أعدادا هائلة من النمل المندفع نحو جبل الذكريات العالي ... أعلنت الطلائع الأولى من المخلوقات الشريرة عن سقوط الحجاب الحاجز واحتلال الجزء السفلي من الصدر الرحب المتماسك في نشوة الاحتضار الإلهي - ولمزيد من تفصيل رعب الموت الشعري راجع الصفحات 98 - 103) . دائما هناك أفعى مسؤولة عن لحس راحات أقدام وجودنا .. أفعى جلجامش .. لكن علي الإمارة يضع نقاط الخراب الموائمة على حروف الحياة المناسبة .. فالدود - والذي خرج أيضا من أنف أنكيدو بعد أن عطّل جلجامش دفنه - هو أعظم ممثلي المثكل الفاعلين والفعليين .. النمل الذي خاطبه علي من دون حاجة لتوبة خيّامية منخذلة، تستجدي الغفران المهين ممن يتلاعب بمصيرك، لولا الموت لا تُحترم الآلهة، وهذا هو الامتياز الوحيد الذي لم تسحبه من تحت أقدام الآلهة الزلقة ثورة الاستنساخ الوراثي، المجد للدود:

خلت لك الأرض من وحي ومن ألق - فما ستفعل بالأمجاد يا دود .. ؟

وتتألق الرؤية الغائية للشاعر حين نجد - ولأول مرة - ومن بين (75) مقطوعة يتكون كل منها من عشرة أبيات - لنقل قصيدة ونتجاوز توصيف البلاغيين القدامى الفايخين الذين يعتبرون ما زاد فقط على إثنى عشر بيتا قصيدة، وهل كتابة عشر أبيات أمر يسير ؟! - أن المقطوعتين / القصيدتين الأخيرتين تتطابقان في لعبهما اللزومي إذا جاز القول، وكلتاهما تصفان الهجمة الدامية لنمل الموت الفاني على جسد وحيد الشرس المتهالك:- من المقطوعة (74):

 الذكريات ملاذ القلب مثواه - تثيرها في سماء الروح مطواه

تقطرت من مرايا القلب أزمنة - وأوغلت في طريق الفجر بلواه

خرافة من جيوش النمل ترصده - لما تصاعد في الآفاق فحواه

 - ومن المقطوعة (75) التي تُسرد شعريا بضمير المتكلمين / ضميرنا الفزع المهدّد، كي يتطابق مع المقطوعة الأولى (1) - ص 5 - في عودة دائرية تغلق دائرة الخراب الأبدية نقرأ:

ضوء الجماجم في أعماقنا رصد - صرح إلى عالم باق نقلناه

ماذا هناك سوى خمر معتقة - في حانة الجن يا نبعا نهلناه ؟

فجرّنا العالم السفلي وانتعشت - خرافة وازدهى حلم قتلناه

هاتوا لنا ورقا، هاتوا لنا زمنا - لكي ندوّن غيبا ما فعلناه

 ورغم حقارة وجود الإنسان، ورزالته حين يتهاوى أمام النمل الهش الأهوج

 

 وقفة:

 حين عملت كطبيب معاون لمدير مشفى رعاية المعاقين، كنت أزور المستشفى بعد منتصف الليل، بصورة مفاجئة لأن الممرضين الخافرين كانوا أحيانا يهملون المعاقين خصوصا المصابين بالشلل الرباعي، الذين يجب أن يقلبوا في فراشهم كل ثلاث ساعات لكي لا تحصل لديهم قرح الفراش المميتة التي تنخر العظام . كان هناك معاق أصابته شظية في رقبته فسببت له الشلل الرباعي، لكنه كان رساما مقتدرا . بدأ يرسم ممسكا الفرشاة بأسنانه . وأقمنا له معرضا وأهديت له كتابي: " المرشد النفسي في رعاية المعاقين "، هو سمير إبراهيم . لكن ذات ليلة .. زرت المشفى ودخلت غرفة سمير فوجدته يرسم باهتمام . ولكن كان هناك جرذ يأكل إصبع قدمه المشلولة دون أن يشعر .. والدم يسيل من شدقي الجرذ .. حينها شعرت .. لم أشعر .. أردت أن أشعر .. حاولت .. حاولت زمنا طويلا .. سنوات .. ليال مظلمة طويلة أن أنسى مشهد إبهام قدم سمير إبراهيم وشدقي الجرذ المزوّقين بالدم .. قمعت مشهد الموت .. وجاء الآن علي الإمارة .. لا ليثير ذكريات دبقة تجذب النمل الأسود والأحمر إليها بعنف وتشف حسب، ولكن ليطوّح بالافتراضات النظرية المنافقة .. افتراضات عشبة الخلود الباردة ... معرض الرسم الذي أقمناه لسمير إبراهيم كان عشبة خلوده .. لكن أين هو الرسام الآن ؟؟ .. أين أبطال خمسميل: كريم جاسم الذي لم يعرف أحد أنه تبرع - شاحبا - بإحدى كليتيه، إلى أن تبرع بكليته الثانية، وعبّود البرق الذي سبق القطار ركضا ليخبر سائقه بأنه خرج عن السكة المطلوبة (في اليوم التالي رأى المجتمعون عند ضفاف بحر الريح عبودا وقد عاد شجرة هائلة من الغبار، أما دشداشته فلم يبق منها سوى خيوط لم تستر عورته جيّدا، ولكن الجميع شاهدوا على كتفي عبود جثة الريح - ص 36) والذي أصبح لقبه الأبتر بعد أن رتّب له حميد الحسود مؤامرة بتر القطار فيها ساقيه . وعقيل عبد الرضا الذي بدأ يدخل حجرته زحفا لأنها تنز ماء ويطمها بالتراب كل مرّة .. ودينار الشحاذ، ومحمود الحقير، وكريمة، وغازي البصري، واسماعيل رقعة، ومهدي هادي، وغيرهم .. فقط وهج الحب المخدر في الخمسميل هو الذي تلاعب بمشاعرنا: "حمد" أخو دعبول يموت بسبب تسارع دقات قلبه حتى الموت حين يتبصص على "نذيرة" الجميلة، و"اسماعيل رقعة" الذي (وعدته "نذيرة" بقبلة إذا جلب لها خاتمها الذي سقط في النهر، فرمى نفسه في النهر ولم يخرج إلا بعد ثلاثة أيام جثة طافية فوق الماء، وفي أحد أصابعه الخاتم - ص 21) . كم يتعب ماركيز حين يؤسطر واقعات الواقع ؟؟ .. وكم يتكرم الواقع العراقي - مابعد السوريالي - على الإبداع، حين يمسك بحلقاته السوداء المسنّنة مبدع مثل علي، يعمل وكيلا سرّيا لوكالة مخابرات العالم الأسفل، بين ظهراني وجودنا المصعوق بخوائه وخذلانه . يذكّرنا علي الإمارة - وهذا امتياز - بأننا لسنا حيوانات تموت، ولا حيوانات " تعي " بأنها ستموت، ولا حيوانات تؤسس للخلود بعد أن تموت (قبور وموميائيات ورقم ومعارض رسم ولزوميات .. إلخ) ولا حيوانات تريد تأليه نفسها درءا لتهديد المثكل، ولكننا حيوانات تموت فعلا، تموت رغم إرادتها الرافضة، ورغم تعلقها بالحياة، ورغم إصرارها الدفين والأناني على البقاء . رسالة علي هو أننا سنموت حتما، ورغم أنوفنا، وغصبا عن إرادتنا، واستسخافا لمواقعنا الرسمية، وأننا نحيا عمرا مديدا كي نتشرف برؤية وجه العزيز المحطم والمثكل: الموت . قال لي صديقي الشاعر " صاحب الضويري " حين زرته في المستشفى بعد محاولة الإنتحار الفاشلة التي أطلق فيها النار على قلبه:

 (ما كو أسهل من الموت ... گل لليخافون

 محّد وصفلياه .... شافنّه العيون .......  )

 تُرى لماذا نخاف من الموت إذا كان بالبساطة التي أخرجها لنا صاحب ؟ وهل علينا، لكي نتأكد، من سهولة الموت، أن " نجرّبه " ؟ وهنا تكمن المعضلة الوجودية الكبرى في إشكالية الموت حسب " عبد الرحمن بدوي " في كتابه: " الموت والعبقرية "، وتتمثل في أن الموت لا يُجرّب، ولا يستطيع واحد منا أن يموت ويقول: لقد متّ . الموت تجرية ختامية ونهائية تسدل الستارة على كل التجارب الماضية . فقط في الإبداع نستطيع تجريب الموت، أن نموت مع " بطل " ثم نحيا من جديد كما يقول معلم فيينا . وهذا ما وفّره لنا علي الإمارة عبر ميتات أبطاله الأسطورية:       (سليمة، فاتنة خمسميل الأولى، بل هي زعيمة الجمال التي يحس حتى الأعمى بمرورها .. اعتادت سليمة أن تمشي حافية القدمين لأنها ترى تراب خمسميل سجادة من الدهشة والبراءة ... كان كنز أنوثتها محجوزا لسيّد جواد المعلم في مدرسة خمسميل ؛ خطيب سليمة المعروف بورعه وتقواه ... وفي صبيحة يوم زفافها كانت سليمة تمشي حافية كعادتها فدخلت في قدمها إبرة خياطة .. قيل أنها مشت مع دم سليمة فماتت عروس خمسميل، وانكسرت مرآة الجمال بحجر القدر - ص 82و83) .        لكن وصفة الخلود المخدرة والإلتفافية يقدمها الشاعر من خلال العرس الكوني الذي يجري في المقبرة .. في حجر الموت يصمّم الشاعر زفّة هادرة تلتحم فيها الهلاهل وأصوات الطبول بالبكاء والنواح . لقد أصر أهالي خمسميل على أن لا يتيحوا للمثكل فرصة التشفي الكامل بمصائرهم أبدا حين غدر بجميلتهم، فقرّروا أن يزفوا العروس إلى مثواها وهي بكامل حلّة عرسها ومواد التجميل على وجهها: (ولشراسة الأرض في هذا اليوم الموحل، فقد اختير وحيد الشرس لحفر قبر العروس، وما أن فتح وحيد بابا في الأرض يفضي إلى العالم الآخر حتى انبعثت من باطن الأرض أصوات طبول ترابية هائلة امتزجت مع أصوات طبول عباس، فتكونت شعلة موسيقية هادرة مالبثت أن اتحدت مع أصوات الطبول الرعدية المنهمرة من السماء لتنجبا صخبا كونيا بقي عالقا في ذاكرة خمسميل رغم الثقوب التي لحقت بهذه الذاكرة فيما بعد - ص 85) . ولا يتوقف التصميم الإبداعي العلاجي عند هذا الحد، بل يتعداه إلى مناورة استخفاف بحضور أخاذ الأرواح وذلك حين يطلب سيّد جواد من الحاضرين أن يسمحوا له بقضاء ليلة مع جثة زوجته، لكنهم يتشاورون ويقرّرون منحه ربع ساعة فقط يمضيها مع زوجته ... ربع ساعة خرج بعدها أبكم .. فقد النطق حتى نهاية عمره .. هذه حكاية جواد الأخرس كما يسميها الشاعر:

 تبقى جواد سراجا هذه العبر - بئرا تضيء لمن بالغيب يستبر

ها أنت تنظر للأجساد تخرج من - سمّ الخياط حطاما ليس ينجبر

 طبل النشور يدقّ اليوم دقّته - يخيف من حفروا قبرا ومن قُبروا

عرس كسبورة سوداء علّقه - على جدار الليالي ذلك الخبر

من ذا يخيط نهارات مشققة - أهكذا يُستفز الكون يا إبر ؟؟ 

 ولم يترك الشاعر / السارد أية فسحة رمزية دون أن يستغلها ليمعن في تشديد سواد اللوحة .. فالربع ساعة التي منحت لجواد تمّ ضبطها (على ساعة زاير عبيد تاجر الحبال، الساعة السويسرية ذات السلسلة الإفعوية التي يعلقها على قلبه قلبا ثانيا . حين يضغط على زر فيها تفتح الأفعى فمها لتقول له كم الوقت - ص 85) .ومعروفة معاني الأفعى الرمزية المتصلة بالزمان ولعبة الحياة والموت . فهي سارقة العشبة، والمتجددة التي لا تهمها حركة الزمن ودوران الدهور . والشاعر يجعل الأفعى تفتح فمها لتخبر صاحبها بالوقت، وهي، في الواقع، تفتح فمها لتحذره: هذا هو الشوط الذي انقضى من عمرك .. فتنبه للمسافة التي تبقّت كي يلاقيك أخّاذ الأرواح ؟؟ .

 ولكن عليا يلخص أغلب ما قلناه فيقول:

 زرعت في الرمل تاريخا بلا أمل - سماده جثث للسطح تزدلف

 تريد أن نأكل الأسلاف من سغب - ونستفيق وفي أفواهنا صلف

  خزائن الرمل أعياد مشوهة - تكاد عن نفسها الأشياء تختلف

يا محنة العمر في ضدّين مرتحلا - فكيف هذا وهذا، اليوم، يأتلف ؟

 في كتابه: (من النهضة إلى الردة - تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة) يشير جورج طرابيشي إلى دور مهم للمبدع (نجيب محفوظ) وذلك حين تناول في أعمال روائية كثيرة آخرها (ملحمة الحرافيش) (تلك الفئة الاجتماعية المتميزة التي لعبت في تاريخ مصر المملوكية دورا يشابه من بعض الوجوه دور الفرسان المحترفين في أوروبا قبل الثورة الصناعية أو دور الساموراي في اليابان في العهد الإقطاعي، والتي عرفت في مصر باسم " الفتوات " مثلما عُرفت في المشرق العربي باسم " القباضايات "، والتي مالت وجوديا إلى الانحلال والإضمحلال طردا مع توطد السلطة المركزية للدولة الحديثة . فقد انفرد نجيب محفوظ دون سواه من الروائيين بإحياء تراث الفتوة وتقاليدها ودستور سلوكها وجدليتها الطبقية الخاصة (فتوات / حرافيش) حتى باتت ميثولوجيتها علامة فارقة لأدبه، ابتداء من " أولاد حارتنا " وانتهاء بـ " ملحمة الحرافيش " .. ولعلنا لن نفهم الوظيفة الدلالية لميثولوجيا الفتوات والحرافيش كما أعاد نجيب محفوظ بناءها ما لم نقارن بينها وبين مثال أكثر معاصرة وأدخل في الخيال المشترك للإنسان الحديث هو ذاك الذي تقدمه السينما الأمريكية، العظيمة التأثير على هذا الخيال، من خلال ميثولوجيا " راعي البقر " . فالفتوة، بمعنى من المعاني، هو كاوبوي الرواية المحفوظية، ولكنه ليس ذلك الكاوبوي المسطح المنمط الذي يكرر نفسه في نسخ لا عدّ لها كرجل مسدس وصائد هنود، بل ذلك الكاوبوي المتفرد القسمات، المتعدد الأبعاد، المشحون بالدلالات الإنسانية والرمزية والميتافيزيقية والراسم علامات استفهام حول مسلمات الوجود) .

 وفي مجال علم الإجتماع العربي يمكننا القول أن الريادية تُعقد للدكتور علي الوردي في دراسة ظاهرة " الشقاوة " كما تُسمى ظاهرة الفتوة في العراق . بدأ ذلك في كتابه: (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - 1965) حيث عد دراسة شخصية " الأشقياء " مدخلا أساسيا لفهم الطبيعة الإجنماعية للمدينة العراقية: (لكي نفهم طبيعة التوازن الاجتماعي في المدينة العراقية ندرس شخصية " الأشقياء " . فهؤلاء كانوا يمثلون القيم الاجتماعية السائدة، المحمودة منها والمذمومة . إنهم كانوا يحترفون اللصوصية في كثير من الأحيان، ويفاخرون بسفك الدماء والإعتداء والسطو، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه ذوي نخوة وشهامة لا تُضاهى . فهم يحمون أبناء محلتهم ويدافعون عنهم ولا يسرقون منهم شيئا، وإذا استنجد بهم أحد فتلوا شواربهم وأسرعوا إلى مواطن النجدة دون مبالاة بالخطر) . ومن المعروف أن كثيرا من الشقاة العراقيين قاتلوا في صفوف الحركة الوطنية ضد الإنكليز الغزاة مثل إبراهيم عبدكة وعبد المجيد كنّة وعباس السبع وغيرهم . ويأتي الآن علي الإمارة ليقدم معالجة ريادية فنيا وتاريخيا، فمن الناحية الفنية قدّم جنسا أدبيا سرديا جديدا هو القص النثر شعري، رواية تركزت على ملاحقة تحولات حياة مكان هو الخمسميل من خلال أجيال عائلة من الشقاوات ؛ الشقاوات الذين خصهم علي بالمقطع الثامن والعشرين وهو يتحدث عن ظاهرتهم بصورة عامة ويذكر أنهم شبّان ميّالون للعنف، وبعضهم يقضي أغلب لياليه يشرب الخمرة في المقبرة . وليس عبثا أن الشقاوات كانوا يتراهنون فيما بينهم على من يستطيع المبيت في ظلمة مقبرة ليلة كاملة دون أن يُصاب بالجنون !! . لا يُجن الإنسان إلا عندما يقف وحيدا في مملكة الموت . الجنون حيث يفنى العقل هو شكل من أشكال الموت . وفي وحشة المقبرة تجرى كل الأفعال المحظورة بحرّية (مثل سرقة وهب أسنان الموتى الذهبية، أو سرقة أمخاخ الأطفال المتوفين من قبل المرأة - الساحرة التي شاهدها منصور في إحدى جولاته الليلية في المقبرة !!) أو سكر الشقاوات بين القبور، ففي لبّ هذا الفعل التعرّضي الجسور تكمن محاولة لإطفاء قلق الموت المشتعل في النفوس: أن تسكر قرب الموتى متشفّيا بمصائرهم ومعلنا استهانتك بما رسمته لك مخالب الثكل السوداء على لوح مصيرك الأبيض . والشقاوات ظاهرة نقمة على الحرمان والجوع والعسف واللاعدالة وضعف السلطة:

الأشقياء حريق والشقاوات - أعصابنا في أياديهم أتاوات

هم أسكروا الموت،هم ناموا بغرفته - هم ضاجعوا الليل،هل ترضى السماوات ؟

 نبض السلاسل منقوش على جسد - قتلى، أسود، أفاع، ببغاوات

 أنظر أزقتنا بالسخط وارفة - أرق ما عندنا هذي القساوات

لاحق الإمارة حياة الخمسميل من خلال عائلة منصور . منصور قتل بقامته، سيفه القصير المستقيم، ليلة سرقة كنز البراز،الموظف الإنكليزي الذي قتل صاحبه عودة . وهذه القامة ورثها منصور من أبيه خير الله الذي قتل بها ضابطا إنكليزيا، وقتل على أثر ذلك كما قلنا سابقا، وقد نقش منصور على كل من جانبيها رأس أفعى، وكان يضعها في الليل تحت وسادة إبنه الأكبر " دعبول " . ودعبول هذا شقاوة قتل سفيان الذي تحرّش بأخيه حمد ودخل السجن حيث نقش الحيّة على ساعده الأيمن فلقب بـ " دعبول حيّة ":

ماذا تريد من الأكباد سفيان - أما كفاك بأن العمر عريان

مسموعة عربات الوهم موغلة - يجرّها في جنون الوحل عميان

صرح المتاهات أجساد مباغتة - ماء على عتبات الجمر صديان

في رغبة خرقتها الريح ناقمة - رمادها في خواء الوقت خزيان

وحين يوقع محمود الحقير " كريمة " أخت دعبول وهو في السجن في فضيحة تحطم شرفها وتحرق نفسها، يوصي إليها برسالة شفوية من السجن أن تؤجل موتها أسبوعا لحين خروجه من السجن . الموت خاضع للإرادة .. هكذا يفلسف علي الأمور .. إذا أردنا تعطيل موتنا من أجل هدف له أهميته الرمزية العظيمة في حياتنا فسوف نتغلب عليه، هناك إرادة، أو قل غريزة، اسمها إرادة تعطيل الموت، ولنستدعي هذه الوقائع التاريخية الدالة:

- في القرن الخامس قبل الميلاد، ركض محارب إغريقي مسافة (42) كيلومتراً من مدينة (ماراثون) الى مدينة (أثينا) وبعد أن أبلغ مواطنيه بنبأ انتصار الإغريق على الفرس سقط ميتاً.

 - وفي إحدى المعارك ركض أحد السعاة وسلّم (نابليون) رسالة فسأله الأخير: هل جُرحت؟ فأجابه الساعي: كلا، لقد قُتلت... و خرّ صريعاً.

- في عام 1960 ساقت عاصفة رهيبة أربعة من جنود بارجة سوفيتية في أمواج المحيط الهادي العاتية، ضاعوا لمدة (49) يوماً ثم تم إنقاذهم واكتفوا خلال تلك المدة بأكل جلود أحذيتهم العسكرية .

 ... وحين وصل كريمة التماس أخيها السجين الذي كان لها معه زعل عميق، عطلت موتها أسبوعا كما أراد . وحين يصف علي اللقاء الضاري أخويا وانفعاليا بين دعبول وأخته المحتضرة، تحار وتُدهش: أين هو الشعر ؟ هل هو في الهامش السردي ؟ أم هو في المقطع الشعري التاسع والأربعين الذي رسم فيه لوحة اللقاء الدامية ؟ أم هو في الورقة التي تفوح منها رائحة الشعر وجلال مهابته ؟: (وفعلا .. حين جاءت الرسالة على لسان المفوّض جبار، تماسكت الفتاة المحترقة بنار الشرف المخدوع ودفعت أفاعي الموت المحتشدة بعصا الجسد النحيل المحترق، فبين دعبول وأخته صمت ثقيل وزعل عميق يعود إلى خمس سنوات حين رآها تمشي ذات مرّة مع محمود الحقير ... وما أن دخل دعبول البيت، وقبل أن يغتسل من جرب السجن رمى بنفسه على صدر أخته . وعلى بساط أمهما الملوّن المزركش بالفجائع، إلتقى الجسدان ؛ المجروب والمحروق في عناق أخوي مكبوت تحت الثياب منذ خمس سنوات . وفي لحظات احتضار بهية كانت الساعة السوداء القديمة المعلقة على الحائط التي جلبها منصور من الأرياف، تدق دقّات القلب الأخيرة حين غسل الأخوان المتعانقان بالدموع الغزيرة كل أدران الصمت والزعل المقيت . ورغم هذا كله لم يكن دعبول يعرف أن محمود الحقير هو الذي أعد هذه المأدبة للسيّد الموت - ص 67):

للنار ذنب مضيء فيك يُقترف - دمع الرماد على خديك ينذرف

 (كريمة) الوهج المدفون يعلنه - تاج الخديعة مزهوا وينصرف

حرائق من ربيع العار وارفة - تطل من فوقها مكبوتة شُرف

 تحت العباءة أحلام مشوهة - جنّات خوف مع النيران تنجرف

 يا ترفة الروح كيف الجرح صار مدى - وكيف صار رمادا وجهك الترف ؟

صار الفضاء لنا قيدا ومطرقة - أهكذا للّظى يُستدرج الشرف ؟

 إن أروع ما يقدمه الإمارة في مشروعه الفذ هذا هي " الفسح التأملية " - كما اصطلحت عليها أكثر من مرة - الشعرية والنثرية التي يطلق فيها موالات رثائه الذاتي، رثاء ذاته التي أدرك أنها مهدّدة صدقا مع انسحاق ذكريات " السكّر المرّ " في جسد وحيد الأشرس . فُسح التأملات هذه هي التي يصور من خلالها - ببلاغة وبراعة - فلسفة لعبة الحياة والموت، وهو يكرر نداءه الموجه في هذه الفسح السردية الثمينة، إلى ذات مُخاطبة أنثوية هي الخمسميل الأم:

 من أين آتيك لا باب ولا طرق - أنلتقي هكذا .. وهما ونفترق ؟؟

أنا ابتكرتكِ من خوفي ومن قلقي - بل أنتِ بعض الذي يأتي به الأرق

 إن لم تكوني خرافات وأشرعة - من الحروف فماذا ينفع الورق ؟

أمن عويل المرايا أنت مورقة - أم أنت صمت الأماني وهي تحترق ؟؟

سحر الحضارات في جنبيك منصهر - تلفّه هذه الأسمال والخرق

هكذا يوسّع علي الرؤية من أقصى المحليّة، محلّية منزوية وغائرة في منطقة صغيرة ومحدّدة اسمها " الخمسميل " إلى أقصى العالمية والإنشغالات الكونية، في معالجة الحي الذي لا يموت، الموت، الذي يهم كلّ قاريء في العالم .

 لكن الخطايا تتناسل في الخمسميل، خطايا عراءاتها وانتصاراتها وانكساراتها في صراعها مع الموت والإنذلال، فتتناسل جرائم الشقي دعبول، حيث يقترف جريمة القتل الثانية حين يفتك بمحمود الحقير حين يعلم أن الأخير قد وضع جمجمة أبيه منصور النورانية في كرة القماش التي يلعبون بها كرة القدم . دخل دعبول السجن مرة ثانية ونقش الحية الثانية على ساعده الأيسر . ولاحظ الموازاة الرمزية بين صورة الأفعيين اللتين رسمهما منصور الأب على " القامة " وبين الأفعيين اللتين رسمهما دعبول على ذراعيه . يتسلم راية الشقاوة من دعبول أخوه "وحيد " الذي لُقب بالشرس نسبة إلى قوّته وجرأته الممزوجتين بالشراسة . وكان يُصدر فحيحا مخيفا عند غضبه، لذا كان الناس يتحاشون غضبه:

 أمسك يد الشمس في الأعماق يا شرس - راهنت موتك تدري أنه فرس

 ممرغ بأماني النار منفلت - من التراب، وفي الأحداق منغرس

تطلّ من شرفات الحزن محتشدا - بالنور لا رجع يفضي ولا جرس

حناجر الماء في أذنيك صارخة - يلمّ صيحاتها في المنتهى خرس

ولا أعلم كيف يستطيع دعبول أو أخوه وحيد الأمييان البسيطان اللذان يتفاهمان بلغة " القامات " والخناجر، أن يمليا على "علي الأمارة" معاناتهما شعرا فخما من ناحية اللغة والتصوير والتركيب والترميز ؟؟ عن طريق أطروحة " رولاند بارت" يصبح المبدع كاتب عرائض ماهر، وليس مرجل لاشعور يغلي بمكنونات مختزنة يصفه " غوتة " بأنه مكان جمع الحطب الذي ينتظر شارة الخلق كي تشعل الحرائق فيه . ووحيد الشقاوة - وتأييدا لرأي العلّامة الراحل علي الوردي الذي ذكرناه آنفا عن الجانب الإنساني المضيء من شخصية الشقاوات - أصبح مختارا لمنطقة الخمسميل، كما حافظ - خلافا لما يُتوقع من شقاوة - على بيوت أهالي المنطقة وممتلكاتهم بعد نزوحهم الأكبر منها بسبب وباء الكوليرا، وهو الذي قام مع أصدقائه ببناء سدّة خمسميل الكبيرة من تراب الموتى في جانب المقبرة . المقبرة هي بطلة رواية علي الإمارة، المقبرة ورموزها: الجمجمة، الفأس، النمل الفارسي، الأفعى، التراب، الرمل، التابوت، المراثي، الندّابات (وعلى ذكر الندّابات اللائي يدرن من بيت لبيت يلطمن، فقد ذكر الدكتور "فوزي رشيد" الباحث الأثاري المعروف، أن مجموعة منهن كانت موجودة في كل حي سومري !!):

 إحفر هنا .. تحت هذا الحزن أهوار - وسوف تخرج جنّات وأسوار

إضرب بفأسك هذا الصدر سوف ترى - قيحا ينز به ماس وأنوار

وانزل على البطن فالأحلام مشرحة - والناس تحت قباب الموت زوّار

بحر من الخوف مدفون بأنفسنا - للدرّ فيه مخاضات وأغوار

وعلى أوتار هذا الخوف الدفين بأنفسنا اللاهثة الملتاعة والمنفلتة ذعرا من مطاردها الماكر والحكيم في الوقت نفسه، تتلاعب أصابع الإمارة المسمومة بميلوديات الفناء الشعرية المذهلة .

 لقد قال علي حقا واجبا حين دعا " الشعراء " المتردّدين - تُرى هل من يتردد يستحق وصف شاعر !! كيف يرتاد شاعر متردّد ظلمات مجاهيل اللاشعور المرعبة ؟؟!!:

 (اقتحموا اللغة / لتقولوا حقائق ضخمة / ليس في الوقت متسع / فالكلمات تنزف / فقط ../ إحرثوا تربة القلب / وازرعوا ...)... وأشهد أن عليا اقتحم أسوار اللغة وقال حقائق ضخمة .. حرث تربة القلب وزرع .. فكان النتاج شجر غريب وعجيب الثمر .. من جنس إبداعي فريد .. لقد خلق أسطورته .. أسطورة الخمسميل ... أسطورة العالم الأسفل عندما يُصيح عالما أعلى، مرة واحدة وإلى الأبد .

حاشية للمثكل:

 تتجلى قسمات وجه المثكل في الألفاظ الحربية المستخدمة في مبنى هذا النص، وهذه ظاهرة من عطايا الحروب المدمّرة التي عاشتها البصرة العظيمة، وانعكست على القاموس اللغوي لمبدعي المدينة (راجع مثلا دراستنا عن الشاعر كريم جخيور التي نشرت في الزمان مؤخرا) . ففي رواية علي نقرأ ألفاظا حربية مثل: السواتر، الملاجيء، الجحافل، إعادة التنظيم، الجنود المجهولين، الدروع، الأسلحة، السقوط .. والاحتلال، المواضع، الجثث ... إلخ . يقول الكاتب: (.. ماتت أعداد أخرى من الحشود النملية المحيطة بالقلب بفعل كثافة الدخان الأخير الذي امتلأ به الميدان الصدري الكبير . أما تلك الحشود المتبقية التي أعادت تنظيم شرورها بعد عاصفة التذكر الدخانية الأخيرة، فقد خرجت من المواضع اللحمية الرخوة، حيث أعطت النملة الكبيرة إشارة الإقتحام لحصن الذكريات، في الوقت الذي امتدت يد طولى من الجسد المسجّى لتكتب عبارة حملها جدار القبة بصعوبة بالغة: تموت القلوب وتبقى الذكريات - ص 103) . إن تطعيم النص بالتعبيرات العسكرية قد أجج فعله النفسي ومنحه شحنة انفعالية عالية وإيقاعا لاهثا . حيثما يحضر الموت، ينصقل وجه الحياة ببهاء القلق .

 

*لزوميات خمسميل، قصائد وحكايات - علي الإمارة - شركة آب للطباعة - بغداد - 2001 .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1536 الثلاثاء 05/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم