قضايا وآراء

سماويات (5): ينقدون ويمكر الشاعر: سادن الوجع الجليل أنموذجا .. بحث في نقد النقد / حسين سرمك حسن

 وتأتي هذه الشكوى الساخنة عبر سلسلة أبيات تتحكم بها أداة (لو) التي هي كما هو معروف حرف إمتناع لإمتناع حيث تنتفي نجاعة السؤال والعتاب بسبب انتفاء الاستجابة المناسبة من الجهة التي كان الشاعر يعتقد أن فيها عونه وسنده ومعقد آماله:

عاتبتُ – لو سمع القريب عتابي ..

وكتبتُ – لو قرأ البعيد كتابي

وسألتُ – لو أن الذين محضتهن

ودّي أضاؤوا حيرتي بجوابِ

تبدو المعاناة هنا بين طرفين: بين الذات الفردية / ذات الشاعر المنخذلة، وبين الأحبة الذين خذلوه ولم يعودوا يقرأوا رسائله أو يضيئوا حيرته بجواب ناجع، هي مقابلة خارجية، لكن هناك معاناة داخلية طرفاها الروح الممزقة .. العمر الذي جفت أعشاب آماله وانطوى شبابه بفعل الخيبات والأحزان:

وعصرتُ ماء العين لو أن الأسى

أبقى بحقل العمر عشب شباب

وأنبت عني لو يُناب أخو الهوى

بسخين أحداق ونزف إهابِ

ولكن الأكثر مضاء وألما هي هذه المفارقة المؤلمة ؛ فالشاعر هو المغني الذي يعبر بصوته الجارح عن آلامنا وإحباطاتنا .. هو الذي تتركز كل إمكاناته في تهجدات صوته .. في ترانيم شفتيه .. في ابتهالات حنجرته التي ترتبط أوتارها بسويداء قلبه .. لكنه الآن يعاني من الشلل التام:

وترنمت لو لم تكن مشلولة

شفتي .. ومصلوب اللحون ربابي

فهو يستقي صور أشعاره وأغانيه من ثراء وجوده الفردي .. من تفتح مكنونات تجاربه .. من غيوم أحلامه المثقلة بالوعود والإشباعات .. في حين يدير عينيه فيجد حقول آماله محروقة .. وغيوم أحلامه ظمأى .. وأزهار تطلعاته مذبوحة:

كيف الغناء ؟ حدائقي مذبوحة

أزهارُها ... ويبيسة أعنابي

شجري بلا ظلٍ .. وكل فصوله

قيظٌ .. وظمآن الغيوم سحابي

وأمام هذه الخيبة المزدوجة: الخيبة من عون الأحبة في الخارج وقحل الوجود .. والخيبة من خواء الداخل، يبقى الأمل المنقذ الوحيد والعظيم في هذه الحالات عادة وهو: الحب الذي يحيي ويميت . لكن حتى هذا الحليف الأبدي جاء مدمرا ومخيبا لآمال الشاعر بالنهوض والنماء:

طرق الهوى قلبي .. وحين فتحته

ألقى به عصفـــــا وعود ثقابِ

حتى إذا كشف الضحى عن شمسه

ألفيتني ميتــا بنبض ثيابِ

ومن سمات بناء قصيدة السماوي هو هذه الحركة " الذهاب إيابية " إذا جاز الوصف، فهو ينطلق في مسار تقدمي يستعرض فيه صور موضوعة محددة ينتقل منها إلى موضوعة أخرى ليتراجع إلى الموضوعة السابقة فيثريها ويجعلها أكثر غنى وقوة في طاقاتها التعبيرية . ها هو يعود ليعرض خيبته الذاتية وتمزقات روحه بصورة أعلى نغمة وأوسع إحاطة بمشهد الخراب .. هو التنامي اللولبي الذي يعاود فيه الشاعر الطرق على أوتار الخسارة المميتة بنغمة أعلى .. ولكن للتعبير عن ملمح خراب أكثر عنفا .. فهو يعاني الآن من مصدر وجع باهض يتمثل في أعتى أشكال الصراعات النفسية الداخلية:

يتقاتل الضدان بين أضالعي:

عزم اليقين وحيرة المرتاب

وإذا كان هناك جاني إيجابي يكافح على أرضية حلبة صراع النفس في الداخل (عزم اليقين) يصارع ضد الطرف السلبي (حيرة المرتاب) .. والصراع – مهما كانت ضريبته – يبقى علامة حياة .. علامة تناقض صورة (الميت بنبض ثياب) التي رسمها في البيت السابق، فإن عالم الخارج هو عالم خراب نهائي شامل:

صبحي بلا شمس .. وأما أنجمي

فبريق بارودٍ وومض حرابِ

وفي حركة راجعة أخرى ومضاعفة، وهي سمة أسلوبية كما قلنا، يرتد الشاعر ليطرق على رجفة الصراع / رجفة الحياة فيلبسها شكلا آخر .. شكل روح محطمة مهزومة لكنها معاندة:

روحي تمص لظى الهجير وتستقي

شفتاي من دمع ووهج سرابِ

وتتجلى المعاندة في محاولة معالجة هذا الإفلاس الساحق برصيد الذكريات المهلهل البائس:

أرفو بخيط الذكريات حشاشة

خرمت ملاءتها نصال غياب

ولن تكون الذكريات هنا (صدى السنين الحاكي) .. فصدى السنين الحاكي اجترار واستعادة مرفّهة تأتيك من بعيد .. من عمق مخزون التجارب السعيدة ليضع أمام عيني مخيلتك صور الماضي الراحل المنعّم .. لكنها هنا حاضر وليس ماضيا .. خيط جراحي أسود يسهم في عملية خياطة وترتيق داميين . وسط وحشة مدلهمة وعزلة خانقة وانهجار موجع .. (الغياب) هو نواة هذا الخراب الذي يعيشه الشاعر داخليا وخارجيا .. غياب صوته .. غياب شمسه .. وغياب أحبته:

الدار بالأحباب ... ما أفياؤها

إن أقفرت داري من الأحباب ؟

هذا الغياب المدوّي .. الغياب الذي يورث وجعا ماحقا جامعا عاشره الشاعر بلا هوادة فصار وكيله ورفيقه فقد وُلد ليخسر .. وُلد ليموت:

أنا سادن الوجع الجليل خبرته

طفلا .. وها قاربتُ يوم ذهابي

تنتهي الحركة الأولى من القصيدة الآن وهي مراجعة وتصوير لحالة الخراب الشاملة التي يتحطم الشاعر تحت مطارقها في عالميه: الداخلي والخارجي، وتبدأ الحركة الثانية بالتقاط لمحة من الحركة الأولى – وهذه سمة أسلوبية من سمات قصيدة السماوي – ليوسّعها هنا وينسج من خيطها خيوطا فرعية كثيرة . لقد فتح الشاعر، في الحركة الأولى، بابه للعشق كمنفذ للخلاص، فإذا بالزائر المنقذ المنتظر يعصف بكل شيء في عالمه المتداعي الأركان اصلا .. ها هي حبيبة جديدة " حارقة " لكن نيرانها الآن " صوفية " الطابع . وهي لا تأتيه زائرة كما هو الحال في الصورة السابقة، لكنه ياتيها بذاته – وهذه عادة الصوفي – طائعا مختارا .. يأتيها قاصدا حاملا حطبه .. وهي جيئة ذات طابع انتحاري .. طابع تدميري للذات المساقة طوعيا نحو نار وجودها وكينونتها .. لكنها الولادة في الموت .. والإنبعاث في الفناء .. في هذه النار تتفتح أزهار الحياة، وتنتعش حقول أعشاب الذات المحترقة أصلا:

صوفيّة النيران لا تترفّقي

بي لو أتيتك حاملا أحطابي

قد جئتُ أستجدي لظاكِ .. لتحرقي

ما أبقت الأيام من أعشابي

وهنا نكون، في مستهل هذه الحركة " الجديدة " قد انتقلنا مسافة يسيرة إلى موضع " عقدة " أخرى .. لكن يحيى يعود منها إلى عقد " سابقة " لكن في توغّل جديد وبطريقة تشبه " التكوين الشبكي "، أي تكوين شبكة الصيد حيث نستطيع الإنطلاق من أي عقدة في الشبكة لنصل إلى أي عقدة مجاورة ثم نعود إلى العقدة الأصلية بعد " العبور " أو " المرور " بنقاط كثيرة أخرى، لكن تبقى العقد كلها مربوطة ببعضها بخيوط وثيقة ومحكمة . الآن يعود إلى عقدة المعاناة الذاتية ولكن في غور مؤسي في تربة آلام الطفولة ضاربا على الوتر المحارمي المموه بلذاذات الخطاب الشعري:

أنا طفلك الشيخ .. ابتدأت كهولتي

من قبل بدء طفولتي وشبابي

لعبت بي الأيام حتى أدمنت

وجعي وخرّزت العثار شعابي

يحدو بقافلتي الضياع كأنني

للحزن راحٌ والهموم خوابي

ويحيى المعروف بلعبه على أوتار الضمائر في النص الواحد ينتقل في هذه الحركة الثانية من ضمير المتكلم في الحركة الأولى إلى ضمير المخاطب المؤنث .. يستهل خطابه به ثم يعود سريعا إلى ضمير الأنا وهو الضمير المتسيّد المطلق على المنجز الشعري ليحيى السماوي بإطلاق . وهو إنعكاس للموقف النرجسي الطاغي الذي هو واحد من المهاميز الأصيلة للإبداع الشعري . وحتى في استخدامه ضمير المخاطب هذا فهو للتعبير عن صوته الذاتي .. كما أنه موجز جدا بقدر مسافة شطر أو مفردتين أو حركة تساؤل:

إن تفتحي باب العتاب فإنني

أغلقت في وجه الملامة بابي

ويحيى محترف بنية شعرية، بنّاء حاد البصيرة والبصر والذاكرة، فهو لا " ينسى " أبدا ما ابتدأ به نصه من ثيمات وصور وافكار – وهذه سمة تناولتها في دراسات سابقة - . لقد استهل القصيدة بإعلان نفض يديه من العتاب .. فلا قريب ولا حبيب يسمع عتابه: (عاتبت – لو سمع القريب عتابي -)، وهو يعود هنا لدعوة الحبيبة إلى أن لا تفتح باب العتاب فقد سبق له وأن أعلن أنه أغلق بابه مرة واحدة وإلى الأبد . لكن الشاعر، وهو من الفئة التي تقول ما لا تفعل .. وتهيم في سماوات الكلام مثلما يهيم الإنسان الضائع في الوديان الفعلية - لكنه الهيمان الخلاق – يعود فورا إلى نوع من العتاب المغطّى من خلال الرد على سؤال محبوبته:

أهواكِ ؟ لا أدري .. أضعتُ بداهتي

وأضاعني في ليلهِ تغرابي

هو لا يستطيع الإمساك بدقة بدوافع حبّه لها .. وهذه عادة الصلات العشقية التي تحمل في أحشائها صور موضوعات الحب الأولى التي تثبت عليها العاشق في طفولته . على طريقة التساؤل المحيّر الذي أطلقه الفنان الراحل (رياض أحمد) في أغنيته الشهيرة (أحبك ليش ؟ ما أدري) . فأعظم تجارب الحب التي غيّرت مجرى التاريخ ودمرت حيوات العظماء الذين خاضوها لم يكن بمقدور أحد من المؤرخين طرح أسبابها الحقيقية وسرّ سعي العاشق " الكبير " نحو حتفه من خلال حبّه، كان " سومرست موم " يقول مواريا: لو كان أنف كليوباترا أقصر مما كان عليه لتغير وجه التاريخ !! . لكن الشاعر، الذي هو محلل نفسي بطبيعة فعله الخلاقي اللاشعوري، يدرك أن السبب غائر وكامن بعيدا في تربة الطفولة .. وجواب " كل الذي أدريه " المغلف بما يشبه الإنكار وعجز التعيين يحمل يقين التشخيص .. فهو كل ما ندريه كمحللين .. كل ما ندريه عن تلك الصلة العظيمة الأولى بين الطفل وأمه – موضوع حبه الأول والأخير -:

كلّ الذي أدريه أني بذرة

أما هواك فجدولي وتُرابي

صلة الحب تتأسس من تلك اللحظة المباركة التي تنغرس فيها بذرة الفرد في تربة الرحم الأمومي الفردوسي الحاني (ومن هذه اللحظة تتأسس صلة الإله القمح المنقذ بأمه وهي المنقذة أصلا وليس دموزي البكّاء)، وسيكون مبررا نفسيا وعبر وصلة خفية لاشعورية طبعا انتقال الشاعر لوضع نفسه في موضع الطفل في علاقته بمحبوبته التي ستصبح في موضع أمّ .. الطفل المفطوم تحديدا الذي سيكون أكثر ضراوة بخلاف ما يريده الشاعر من تهدئة مراوغة:

نزقي عفيفٌ كالطفولة فاهدئي

أنا طفلك المفطوم .. لا ترتابي

الشيب ؟ ذا زبد السنين رمى به

موج الحياة على فتى متصابي

ويبدو أن استعادة الصلة الأولى والأثيرة بالأم لا يمكن إلا أن تثير معها – بالنسبة للشاعر العراقي تحديدا – كل تداعيات " أسطورة " الإبن القتيل .. أحزانه وخيباته التي تتطاول من تخريب الطفولة إلى نهش جسد الكهولة المتهالك:

" ست وخمسون " انتهين وليس من

فرح أخيط به فتوق عذابي

الدغل والزقوم فوق موائدي

والقيح والغِسلين في أكوابي

في العراق يبدو خاطئا أن نؤسس لأسطورة الإبن القتيل، بل أن نكتب اسطورة الإنسان القتيل .. فهي عملية قتل مستمرة من الطفولة وحتى الموت . فالأرض الحاضنة: أرض الرافدين التي خلق فيها الله الإنسان وهو يبكي، لا تتيح – أو لا يُتاح - للحياة بنقائها أن تزدهر وتزدهي .. إنها أرض الموت .. حكم عليها بالخراب الأبدي رغم أنها تضم كل إمكانات الحياة الخلابة .. هي أرض ثمار الفردوس الدامية .. الأرض التي شهدت أول حالة نبذ للإبن، في التاريخ، إلى خارج هناءة رحم الأمومة بعنف وقسوة .. لتعبر متاهات القرون وضياعات الحقب فتشمل بأذاها يحيى الإبن:

أحبيبة الوجع الجليل .. مصيبتي (وهذا الوصف يعيدنا إلى سادن الوجع الجليل !!)

أن العراق اليوم غاب ذئابِ

لو كان يفتح للمشرّد بابه

لأتيته زحفا على أهدابي

وطويت خيمة غربتي لو أنها

عرفت أمانا في العراق روابي !!

أوقفت ناعوري على بستانه

وعلى دجاه المستريب شهابي

وفي بداية هذا المقطع ينسب الشاعر صفته المنسوجة من موروث قداسة وفاجعات واقع (سادن الوجع الجليل) لحبيبته المخاطبة ليتشاركا في هموم نائبات قُّدرت لهذه الأرض الموصومة بسواد " الخطايا "، تلك الخطايا التي ينتقل إليها الشاعر الآن بانسيابية عذبة رغم أنها مفاجئة، عذبة لأنها ستخفف كثيرا من قتامة السواد الذي لفّ النص، ويصلها الشاعر عبر تعاطف المتلقي – بدا لي أن النقاد لم يلتفتوا إلى غوايتها " المدنسة " – وكأنها جزاء وفاق يكافيء عذابات النبذ والغربة والخذلان التي بلغت ذروتها والشاعر يصل ذروة " الست والخمسين " .. هذا ما ستربكنا به الحركة الثالثة التي يفتتحها الشاعر بوصف الإلتحام الجسدي العزوم الذي يمزج – كعادة الشاعر – بين تلونات الدناسة وتمظهرات القداسة المؤثلة بنقاء النوايا " العذرية " . فكل حركة التحام حقيقي عاصف وجسور هو " صلاة " بالنسبة ليحيى .. وهذا جانب من جوانب جوهر حبه " العذري " .. أو دينه العشقي، وأنا على دينه . وقد تحول يحيى هنا من استعمال ضمير المخاطب لأنثاه إلى ضمير الغائب، وكأن تيار المحبة قد تلاءم مع الصيغة الأولى التي استولت على الحركتين السابقتين، في حين تجانس التيار الشهواني مع الضمير الثاني لضرورات نفسية . فالتيار " العذري " السابق يُستساغ، بل يبارك، جمعيا من ذائقة المتلقين والنقاد حتى حين يأتي بصيغة مباشرة بين المحب ومحبوبته، في حين أن التيار الحسي / الجنسي قد يكون مستفِزا في صيغته المستقيمة بين العاشق ومعشوقته . وهذا أعظم ما يقدّمه الشعر للمتلقي في مجال تصريف الشحنات العاطفية من جانب، وفي مجال دوام التيار الحبي بالارتباط بالتيار الشهوي من جانب آخر . ففي ساحة النص يمكننا أن نتيح الفرصة الكبرى لانطلاقة الرغبات الحسية الحبيسة بلا رقابة توصل إلى الشعور بالإثم .. شعور يؤرقنا في الحياة الواقعية ويقضّ مضاجعنا بلا رحمة:

عانقتها فتوضّأت بزفيرها

روحي .. وعطّرني شميم خضاب

وإذ يتهرب بعض النقاد من تناول هذه الحركة المكشوفة، فإنني لا أجد لذلك مبررا أبدا، إلا إذا كنا نتناول النص الشعري من منظور ديني، وهذه كارثة . فنحن أما أن نعامل الشاعر كشاعر وعندها سنحاكم نصّه على أساس أنه لغة وشخوصعه وأفعاله مخيلة، وأما أن نعامله كرجل دين وعندها لا يمكن أن تكون القصيدة سورة أو حديثا أو فتوى مقدّسة . نستطيع هنا أن نجهض هذه الحركة منذ استهلالها فندين الشاعر ونقول له: كيف تتوضأ وأنت الإنسان المسلم بـ " زفير " امرأة ؟ وما هي هذه الصلاة الجديدة التي تستعد لأدائها ووضوؤها – يا يحيى - زفير أنثى تعانقها ؟! . يستطيع الشاعر أن يتخلص بسهولة من هذا السؤال / التهمة بالقول إنه إنما استعمل الفعل " وضأ " بمعناه الأصلي: النظافة والحسن، يُقال وضأ الشيء بالماء: نظّفه وغسله . و " وضأه فوضأه: أي غالبه في الحسن والنظافة فغلبه . وبذلك يرتد النقاد الأصوليون خائبين إن لم يكونوا مسلّحين بأدوات غير الكلمة كما يحصل في الثقافة العربية حاليا . وهذا المعنى " العام " للجذر " وضأ " أقدم من المعنى التخصصي الأكثر محدودية الذي جاءت بها الممارسات الدينية الضيقة حيث صار معنى " توضأ بالماء للصلاة: اغتسل وتنظف " . ويستطيع الشاعر إذا كان ماكرا درجة مثل يحيى أن يقف في موقع الهجوم من جانبين: الأول لغوي حيث يصرخ في وجوه النقاد الدينيين أو الذين لا يفصلون بين الحقيقة الشعرية والحقيقة الموضوعية أنه استخدم هذا الجذر بإحدى دلالاته المعروفة عند العرب المسلمين الأفاضل وهو " توضَأ الغلام والجارية: أدركا،، أي بلغا ونضجا، وبذلك فإني أقصد من قولي " .. فتوضّأت بزفيرها روحي " هو أن زفيرها المنطلق من أعماقها قد شحن روحي بطاقة عززت نضجها وتمامها ووحدتها . أما الجانب الثاني فهو الأكثر خطورة وجذرية . إذ أن من الحقائق المعروفة هي أن اللغة العربية بدأت وثنية يتحدث بها المشركون عبدة الأصنام، وبذلك فإن معانيها الوثنية هي الأصل، وسيحق للشاعر أن يطلق في وجوه نقاده سؤالا معرفيا هائلا صاعق الجسارة وهو:  (.. طبيعي أن تكون مسألة اللغة التي نطق بها الله منزّلا وحيه على خاتم أنبيائه، مدارا أساسا، وخلاصتها هي: كيف للغة إنسانية – وثنيّة، أن يتبناها وينطق بها كما هي بقواعدها وقيمها الفنية – الموسيقية، إله أوحد، حارب الوثنية وقضى عليها ؟ أو كيف للواحد المطلق، أن يتكلم بلغة المتعدد النسبي ؟ وكيف أُلغيت المعرفة الوثنية في ماضي هذه اللغة، لكي تتحول المعرفة الإلهية فيها إلى ماض لا يتغير ؟ وما العلاقة بين الشفوية التي عاشتها هذه اللغة، قبل الوحي الإلهي، والكتابة التي أخذت تعيشها بعده ؟ وكيف أصبحت، بفعل هذه الكتابة نفسها، ماضيا وتاريخا ؟ - أدونيس / محاضرات الأسكندرية / ص 55) . فيعود هؤلاء النقدة الحقدة متحسرين كسيرين . فيلحقهم يحيى وهو يلوّح بعصاه الشعرية ويصيح بهم: اسمعوا باقي الأبيات المكملة ولا تقتطعوا منها جزءا تحاكموه على طريقة " ولا تقربوا الصلاة ":

كادت تفرّ إلى زنابق خصرها

شفتي فرار ظميئة لشراب

ويسألهم: هذه امرأتي، فأتوني بامرأة لديكم يتكون خصرها من زنابق، هاتوا أنثى مثل أنثاي لجدائلها موج، وفي جسدها قباب وحقول نعناع وسهول ريحان:

سكرت يدي لما مررت براحتي

ما بين موج جدائل وقبابِ

وحقول نعناعٍ تفتح وردها

وسهول ريحانٍ وطلّ حبابِ

ثم يختم مرافعته الهجومية بتذكيرهم بالحقيقة الكبرى في جوهر الفعل الشعري وهي التي يعبر عنها أبو العلاء المعري خير تعبير:

لا تقيّد عليّ لفظي، فإني

مثل غيري، تكلّمي بالمجازِ

وهذا هو نمط جديد من الحب " العذري "، بل هو الحب العذري الحقيقي، حيث لا يزني الشاعر، ولا يتعدى على الحقوق العاطفية لأحد .. وحيث يعود هو هو ذاته بعد خوض " التجربة " مثلما كان قبلها، طهورا بتولا رغم أنه يقف وحبيبته الآن عاريين تماما لا يسترهما سوى ثوب الظلمة:

لُذنا بثوب الليل نستر شوقنا

من عين ملتصّ ومن مرتابِ

فشربت أعذب ما تمنّى ظامىء:

شهد غسلت به مُصاغ الصَابِ

وهنا يمكننا أن نستعيد وقفة تحليلية دقيقة للناقدة " فاطمة القرني " – القرني / ص 197 – أشارت فيها إشارة سريعة إلى أن التعلق بالمرأة قد يكون شكلا من أشكال مقاومة الفناء في الغربة . وإذا وسعنا النظرة فإن الإلتحام بالأنثى أو أي موضوع حب عموما يشكّل، في ظل ظروف القهر والنبذ المدمّرة، يشكّل منفذا للشعور بالكينونة وتماسك الذات ولتحقيق الإمتداد الخلودي للإنسان . وفي كثير من الحالات تحصل نهضة في الجهاز الجنسي المسؤول عن الإنتعاض في ظروف الخطر التي توصل إلى قلق وتوتر شديدين . ومن خلال خبرتي في الحروب، سمعت من الكثيرين من الجنود أن قذفا منويا يحصل لديهم وهم ينتظرون هجمات العدو أو تحت القصف الشديد . ولعل في انتقالة يحيى المباشرة من " سرد " محنة غربته وخراب حياته في المنافي وكيف نبذه وطنه / العراق العظيم الذي أصبح غابة للذئاب بعد أن كان واحة سلام – رغم أن وصف غابة سلام هذا أمر مشكوك فيه فالعراق يعيش حالة طوارىء منذ فجر خليقته – إلى التصوير التفصيلي لعملية مواقعته لحبيبته، دفاع ضد هذه التهديدات التي تقصيه خارج الرحم الأمومي الأصل فتعلن بذلك فناءه . كما أن في لجوئه الإحتمائي بالحضور الأنثوي المهيب بقوة والتحامه بجسد محبوبته بخشونة حدّ أن تصرخ به ناهرة وتصفه بالمجنون شكل أخرجه التوغل في منحدر الدفاع المفرط (أحيانا وفي ذروة الحب يقول العاشق لمعشوقه: أريد أن آكلك !!):

يا أيها المجنون - صاحت - دعك من

تفّاح بستاني ..... وزقّ رضابي

جرّحت فستاني .. فكيف بزنبقي ؟

فأعد عليّ عباءتي وحجابي

وتحت عيني الربّ الحاميتين، يؤدي يحيى صلاته المقدّسة .. وهو يحتضن حبيبته / دواء فجيعته، وترياق سموم غربته، الحبيبة التي استرخى (صلاها) الآن .. وأنعمت عليه (نفلت) وأزادت بحنان أمومة مفقودة .. فلم يعد أمامه إلا أن يهتف من بؤرة روحه المحزونة: شكرا لله .. شكرا لله .. شكرا لله .. فالجبال تدك وتُنسف .. والبحار تُجفّف .. والقمر دسناه بأقدامنا .. ولم يبق من دلائل مؤكدة على نعمة الله غير جسد الأنثى السماوي العظيم ..:

حتى إذا نهض المكبّر .. والدجى

فرك العيون ولاح خيط شهابِ

وتثاءب القنديل .. وابتدأ السنا

عريان ملتفّاً بثوب ضبابِ

صلّت وصلّيت النوافل مثلها

وبسطتُ صحن الروح للوهّابِ

وفي حوارية موجزة بقدر أربعة أبيات يطرح معضلة نقمتها اللذيذة وعتابها عليه، جعلها هي تقف الآن في موضع " المدان " .. وهو المعاتب بعد أن أعلن في الاستهلال أنه لن يعاتب أحدا أبدا لأن لا عتاب يجدي نفعا بعد الآن .. وهو ينبري للسؤال بعد أن أخبرنا أنه لن يوجّه أي تساؤل بعد اليوم لأنه قد نفض يديه من رجاء الحصول على إجابة تضيء ظلمة حيرته .. بل إنه يقلب كل ما أسسه في البداية .. ويتنصل من كل عهوده .. ها هي شفتاه المشلولة تغني .. وسماؤه تمطر .. وبعد أن أعلن: أنه " ميت بنبض ثياب " .. ها هو يقتحم قلعة حبيبته بكل عزم وثبات حدّ تجريح فستانها / جسدها .. ويبدو أن هذا ديدن سلوكه العشقي الذي تكشفه الحوارية:

خوفي عليّ – وقد تلبسني الهوى –

منّي .. ومنكِ يوم حسابِ

إن كنتِ جاحدةً هواي فهاتني

قلبي وتبر عواطفي وصوابي

نمْ يا طريد الجنّتين معانقا

خالا يشعّ سناهُ بين هضابِ

عرفتك مخبولا تُقايض بالندى

جمراً وكهف فجيعةٍ برحابِ

وفي الحركة الأخيرة الكشف الواضح عن المبدأ الأول والأخير لدستور " الحب العذري " الحقيقي .. الدستور الذي خطه الشاعر العاشق يحيى السماوي وأعلنه مع نهضة المكبّر: أن حيّ على الحب .. حيّ على الحبّ السوي الذي يلتحم فيه التيار الحبي بالتيار الشهوي / الجنسي وينصهران في تيار واحد أصيل .. (من كان ذلك المتصوّف المسلم أنزل الوعاء في بئر لكي يسحب الماء ويشرب ؟ رفع الوعاء فرآه مليئا بالذهب . أفرغه وأنزله من جديد ثم سحبه فكان مليئا بالذهب . أفرغه وأنزله من جديد ثم سحبه فكان مليئا بالفضة . أفرغه وقال: " أعرف أنك مليء بالكنوز يا مولاي . ولكن أعطني فقط بعض الماء لأشرب .. أنا عطشان .. " . أنزل الوعاء ثانية وسحب الماء ثم شرب ..) (كازنتزاكي – الطريق إلى غريكو) ..  هكذا يجب أن يكون الحب .. كالماء .. محبة وشهوة .. ونحن عطاشى .. بل نكاد نموت من العطش والله .. اللهمّ أعطنا " كفاف يومنا من جسد الأنثى ومحبتها .. اللهم أعطنا كفاف يومنا من حب يحيى السماوي العذري .. ولا تجعلنا نتعدى على كفاف يوم الآخرين ... آمين يا ربّ العالمين " ...

وقبل أن ننتقل إلى معضلة نقد نقدية أخرى ينبغي أن نمعن النظر في خاتمة هذه القصيدة " سادن الوجع الجليل " أو حركتها الرابعة والأخيرة، فهي عودة من الشاعر إلى مصيبة وطنه يفتتحها بالإعتذار لأبناء وطنه في دار دجلة إعتذارا مزدوجا ومضاعفا: فمن جانب هو يعتذر لأنه ترك أرضه الطاهرة لينتبذ في المنافي، ومن جانب ثان فهو – وهذا الأكثر إثارة للوجع والندم – يعتذر لأن لا أمل له في العودة رغم أنه ليس مسؤولا عن مشاكسة طريق الإياب لقدميه العاشقتين ذاك التراب الطهور:

أصحابنا في دار دجلة عذركم

إن غرّبت قدماي يا أصحابي

جفّت ينابيع الوئام وأصحرت

بدء الربيع حدائق اللبلابِ

أحبابنا .. واستوحشت أجفانها

مقلي وشاكسني طريق أيابي

أحبابنا عزّ اللقاء وآذنت

شمسي قبيل شروقها بغيابِ

أحبابنا في الدجلتين تعطّلت

أعيادنا من بعدكم أحبابي

ويهمني هنا استعادة بعض آراء النقاد حول فهم الشاعر لموضوعة الحب وحدود إنهمامه بمكوني موضوع حبه: روحه وجسده، وفي درجة انصهار التيارين النفسيين السلوكيين المعبرين عن هذين المكونين: تيار المحبة وتيار الشهوة، ومنها مثلا لا حصرا: (تمثل الدعوة بـ " قصّ لي " هزة الإيقاظ التي تشد الشاعر من انزوائه المنكسر إلى مواجهة ذاكرته المثخنة التي كان يفرّ منها، وهنا نلحظ في " قصّه " ميله للتهويم الكلي، لا تلك التباريح المفصلّة التي كانت تفيض بها غزلياته المشرقية، ففي سبعة أبيات وحسب يحدد من هو: ماض فتي مستلب الألق، وكهولة منكفئة تستدني الحياة في انتفاضات شغبها، ثم .. بهذا يلبي بعد حصارها الضاج:

ساعة مرّت .. وأخرى وأنا

 ألثم الورد وأحسو الشهبا

لا يمارس مثل هذا القفز أو التقافز بمواجهة موقف شبيه إلا من هو هارب متخفف حتى من ظلّه: من طال به أمد النضال، وتشعبت به سبل التخيير والحكي والتبرير، فلم يغنم سوى الخيبة، ولم يظفر بغير الإنكسار ؛ هي ممارسة قسرية ترتهن لها الكثير من التجارب الإبداعية لشعراء المنفى ... فهم أسرى ذاكرة موجوعة متخمة بالفجائع .. يستغرق برؤها عقودا من الزمن لو تغيرت الحال إلى النقيض الأحسن، فكيف بها ولا تلويح إلا لمزيد من الخذلان والتردي ؟! .

إن قدرة الشاعر في مهجره المشرقي على مراوغة الذاكرة في النصوص الغزلية، أو لنقل: تحقيق التوازن بين سلطة الذاكرة والنزوع إلى الحلم بحيث وُجّهت أو استثمر مخزونها في خدمة الخيال حتى كدنا ننسى – بموازاة جذل التصوير في بعض النصوص – عظم مصيبة الشاعر / العراق، وعمق ألمه – القرني / ص 202 و 203) .

وهذه القصيدة: " سادن الوجع الجليل "، هو النص الدامغ الذي يكشف موازنة الشاعر بين سلطة الذاكرة والنزوع إلى الحلم .. وحيث انعدام التهويم الكلي .. والتقاط الذكريات المريرة التفصيلية .. وحيث الإنتقال من المحنة الشخصية إلى الإلتحام الحبّي الشهوي العاصف، ثم عودة الشاعر الواقعية وليس الذاكراتية إلى واقع وطنه الممزق شرّ ممزق برماح الطائفية والفساد والقتل المخطّط وقطع الرؤوس وتزييف الدين الشريف والركوع للأجنبي:

أحبابنا في الدجلتين تعطلت

أعيادنا من بعدكم أحبابي

ندعو ونجهل أن جُلّ دعائنا

منذ احترفنا الحقد غير مجاب

نخر الوباء الطائفي عظامنا

واستفحل الطاعون بالأرباب

عشنا بديجور فلما أشمست

كشف الضحى عن قاتل ومرابي

ومسبّحين تكاد حين دخولهم

تشكو الإله حجارة المحراب

ومخنّثين يرون دكّ مآذن

مجداً .. وأن النصر قطع رقاب

واللاعقين يد الدخيل تضرّعا

لنعيم كرسيّ بدار خرابِ

جيفٌ – وإن عافت عفونة لحمها –

أضراس ذئبان وناب كلاب

وطن الفجيعة والشقاء ألا كفى

صبرا على الدُخلاء والأذنابِ

والله من وراء القصد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1537 الاربعاء 06/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم