قضايا وآراء

"مراسم الكذب" لشكري الباصومي / هيام الفرشيشي

 يعسر علينا تصنيفها في صنف أدبي معين، بل هي نصوص تتلبس فيها ذات الكاتب باللغة، فتفرض من خلالها أسلوبها القائم على تكرار خاصيات معينة مثل استعمال مفردات قديمة وتفسيرها معجميا وعودة إلى المصادر، وتوسيع مفردات الفضاء المرجعي لنصوصه من خلال استعمال مفردات لغوية تبدو للعامة غير لائقة ويقع تجنبها عودة إلى مقاصدها المرذولة باللغة الدارجة في حين أن معانيها مغايرة تماما لاستعمالاتها اليومية، والتلاعب باللغة المفضي إلى التلاعب بالمشاهد، وتصدير بعض نصوصه بنصوص أدبية قديمة وحديثة لينتج من معناها نصوصا جديدة. وهذا يشير إلى قصدية واضحة في كتابة نصوص بأسلوب خاص، وحيث بين بيرو أن الأسلوب هو " طريقة في إقحام البعد الذاتي على عملية الهيكلة اللغوية سواء كانت هذه الهيكلية لغاية جمالية أو غيرها " (1) .

وإذا قمنا بالإقرار بأن النسق اللغوي في أي نص مكتوب يستحيل إلى ذات تتقنع باللغة، فتقوم بصياغة لغتها بطريقة خاصة بها، فإن النقطة الأولى هي استعمال اللغة استعمالا ذاتيا وخاصا وفق نسق تصوري تخيلي يعلن من خلاله الكاتب حضور الأنا وهي تغرف من رؤيتها الخاصة للعالم الخارجي وفق نسق لغوي خاص بها أهمها استعمال مفردات لغوية من المعجم القديم يقوم الكاتب بتفسيرها معجميا ومن المصادر الأدبية القديمة، أو كما بين بيرو بأن " الأسلوب هو الإطناب والتكرار، بمعاودة الكاتب وتكراره لعناصر مخصوصة ...

يفتتح الكاتب " مراسم الكذب " بنص " ليس شعرا " ص (8 و9)

مازلت أهذي وأرسل شذراتي

لعلي يوما أقول شعرا !!!

ويمضي داخل نسيج النص في التعريف بمفردة الشذر معجميا " الشذر قطع من الذهب، والواحدة شذرة تلقط من المعدن دون إذابة الحجارة أو ما يصاغ من الذهب "، فيطلع الكاتب بمهمته في تفسير مفرداته المستقاة من المعجم القديم وعودة إلى كتب القدماء كمصادر حيث يذكر في هذا النص ( وجاء في العين، وجاء في الجمهرة، كما رآها الجوهري في صحاحه، وحديث عائشة، وقول سلمان بن صرد) لتحيل المفردة ضمن سياقات متعددة على التسرع والتفرق والتهيؤ للقتال والوعيد، فإذا به يصرح منذ البداية أنه يكتب شذرات هي أشبه بحجارة من ذهب صقلها بذاته ومعارفه، ولكن ثمة استعمال مضمر لهذه الحجارة لتلقى على صور ووقائع متشذرة بنبرة الوعيد والاحتجاج ...

وقد افتتح هذا النص بعبارة " أما قبل " فما قبل كتابة الشعر ثمة عودة إلى شذرات كشكل فني هو من إنجاز الكاتب، يبرز من خلاله نسقا متشذرا لا يخضع إلى ما هو منسجم، ويراه شكلا بكرا لم يسبقه إليه أحد من قبل يمهد لكتابة الشعر، أدركه بعد تأن ونضج ذهني وشبهه بحجارة من المعدن الثمين ولن يعد من سقط الكلام بل هو بحث في ما قبل الشعر ...

في النص التالي المعنون ب " قبل البداية " في الصفحة التاسعة، ثمة تكرار لأسلوب استعمال مفردة قديمة ويقوم بتفسيرها معجميا ودلاليا عودة إلى مصادر الكتب القديمة :

عفط المذيع

زمجر ...

جرح كلامه شفتيه

صدر بيانه

بدأت مراسم ... الكذب!!!

وكعادته هيأ القارئ لدخول نصه بأيسر السبل بالإشارة إلى التفسير المعجمي للفظ القديم (عفط  من خلال (غريب ابن الأثير / وصاحب اللسان /) فإذا بالألكن الذي لا يفصح هو المهيأ بإصدار البيانات الكاذبة ... أو ما عنونه ب " مراسم الكذب " وهو عتبة الكتاب المكون من مركب إضافي، ويتضمن إشارة إلى الأخبار الكاذبة المزوقة (فإذا كانت جمعا لكلمة مرسم) فثمة إشارة إلى فضاءات لرسم للوحات تحجب الحقائق وتضفي صورا خادعة، وإذا هي إشارة إلى فن يخدع الرؤية ويكتفي بالشكل الذي لا يحيل على حقيقة الذات ولا على حقيقة الصورة المرئية، فإذا ما هو مرئي وما هو لا مرئي متناثر، لا يحمل صورة واضحة وحقيقية، وإذا بشذرات الكاتب وهو يتصفح مراسم الكذب، كأنه يتفحص لوحة قبالة مكتبه بجريدة "الشروق " لم تعلق على الحائط بل على رف، تواجهه اللوحة تماما وقد رسمت عليها أذن بشرية في خضم نسيج داكن من الألوان والظلال المعتمة . فمراسم الكذب لا تكتفي برصد الصورة المرئية فحسب بل على متابعة الصوت والإنصات إليه، فإذا بالصوت لا يفصح ...

في النص الثالث المعنون ب " فاتحة " ص11 يفتتح الكاتب نصه بمنح نصوصه تأشيرة العبور إلى ضفاف القارئ بعدما استقى تأشيرة العبور إلى كتابة شذرات تنبعث منها روائح الوعيد وكشف المستور انطلاقا من نشر كل الصور المركبة التي رسمت في " مراسم الكذب "، ولفت انتباه القارئ إلى كل ما هو مرذول، راكن في الزوايا المعتمة دون أن يكشف عليه ضوء النص ... النص المثقوب بالفراغات والمنتهي بثلاث نقاط تعجب، يكشف عن الرغبة، الرغبة التي تتقنع بالرمز، هي رغبة في أن يفصح الكاتب عما يخبئ في ذاته عبر الفراغات ومحاولة استنطاق هذه الفراغات في بناء ردة فعل معينة . رغبة ممزوجة بالسخرية من الآخر تبدو متأخرة لكنها تستند إلى طقسية النشر الذي يعد لغاية نشر احتجاج الكاتب فحسب، بل رغبته في نشر الغسيل على نوافذ الآخرين المفتوحة على الفضاء والأفق، ليحاصرهم الغسيل ويضيق مجال الرؤية، مما يجعلهم يحاصرون بعوالمهم الضيقة المتآكلة التي تنخرها صور فظيعة وتنبعث منها الروائح الآسنة ...:

بي ...

رغبة

كي أنشر

على نوافذكم

كلماتي ...

أعذروني ...

إن تأخرت قليلا

للنشر طقوسه ...

وحده الغسيل

القذر

لا يحتاج إلى تأشيرة

من خلال هذا المدخل ل "مراسم الكذب "، نتبين أن شكري الباصومي يحاول أن يخترق منطق الصورة العقلية والكلمات المطمئنة، عبر لغة تتجاوز السكون نحو لغة بالغة السخرية الناقدة، النافذة، المقتحمة، لغة تحتمل مفرداتها معان كثيرة، لغة تحاول أن تتجذر في نواة كاتبها، ولكنها تتشذر وهي تباغت وتهاجم، وتفقد قواعد العقل نظرا لانفصام القيم وانقلابها أحيانا، لغة تحاول أن تزيح صور واقعية هادئة مطمئنة إلى صور يرسمها الكاتب الصحفي الساخر، الذي ما فتئ يبحث عن شكل كتابي خاص به يرصد علاقته بذاته ورؤيته للمجتمع والعالم في خضم الضجيج الصحفي، وملاحقة أخبار الآخرين، فإذا بالصحفي يلاحق طيف الكاتب الأدبي، وإذا بالطيف يتحول إلى أطياف تختفي وراء صور الآخرين المقنعة بالأوهام، لا يستطيع الكاتب إدراكها واكتشافها حسيا عبر نصوصه إلا من خلال هتك الأقنعة، ليجهض الوهم ويدرك حقيقة المشهد المحفوف بالظلال ....

ونلاحظ أن شكري الباصومي يرسم مشهديته من خلال اللعب باللغة التي تحتمل عدة معان، حتى من خلال العودة إلى بعض المفردات القديمة التي تدل من خلال السياقات العادية واليومية على ما هو مرذول، وغير لائق، فهو يستعملها قصدا، ويخبر قارئه أنه يشاكسه فعلا، بلغة لا تخرج عن الأدب بل هي الأدب بعينه، والأبلغ في تشخيص شذراته ... فيتحول ما هو متروك إلى أدبي، وما يبدو صورا يومية ناصعة إلى صور قذرة عبر العودة إلى اللغة معجميا وأدبيا ...

ففي نص " طحين " :

على قمة المنحدر

نسمع جعجعة

ونرى ...

طحينا ...

ونحلم ....

بالعسل من ...

مؤخرة اليعسوب ...

ويبدو هذا المقطع مستفزا للقارئ العادي الغير عليم بمعاني بعض المفردات معجميا، بل يعتقد أن الكاتب يجاهر بقلة أدب ... سيما وإن كان المقطع الأخير من النص هو كتابة مثل شعبي وتحويله من اللغة العامية التي استعملت كلمات تعد نابية بالنسبة إلى العامة، ليواجه العامة بأن العنف لا يوجد في اللغة العربية بل في اللغة اليومية، وأن تحويل بعض المعاني من سياقها العادي إلى هتكها بالمحرمات المسقطة عليها، ما هو إلا ممارسة عنف على اللغة العربية، ورغبة في تشويهها ومن ثمة التقليص من مفردات استعمالها، من ثمة يهتك مراسم الكذب ويستعمل اللغة على حقيقتها .... لندرك في مسك ختام الكتاب، وتحديدا في نص " مسك الختان "، أن الكاتب يقيم في معجم اللغة العربية، كما يقيم الحرف في كلمات المعجم، كما أن استخدام اللغة العربية الصحيحة هو ما حتم على الكاتب أن يعنى بها من درسوها واستعملوها الاستعمال الصحيح " لما زاروا الحرف في معتقله أقسم ألا يغادره مادام " الموظفون الصغار " يديرونه : " سأضحى بشريان الحياة مادام شريان الحياء لديهم عاطلا "، وبين " فاتحة " الكتاب، وبيان " الختان "، نستشف عودة الكاتب إلى اللغة العربية الأصيلة، لغة القرآن التي تحمل طاقات تطهيرية وأساليب التوعد والوعيد لكل من ظلوا طريق ما ورد في لغة القرآن من طهارة روحية، وإن كان ما يراد بالختان هو دخول الذكر دين الإسلام، فدخول الأنا المذكرة لعالم الإبداع يتم من خلال لغة مشحونة بالطاقات التعبيرية والترميزية ...

وفي عودة الكاتب إلى بعض مفردات اللغة القديمة لهتك المحرمات ليرى من خلالها صورها ومعانيها، هي عودة إلى المحمول اللغوي لما يحويه من إرث فكري وحضاري وفني لا يمكن التنصل منه، بما أنه يحفر الذاكرة ... وبذلك يحفر الكاتب في اللغة، في اللاشعور الجماعي عن وعي وتيقظ وجرأة ... وينتقل الكاتب من استعمال بعض مفردات اللغة القديمة نبشا في المسكوت عنه، إلى تصدير جل نصوصه بنصوص أدبية قديمة وحديثة، تصديرات تفضي إلى معاني النصوص الجديدة وإلى الصور الجديدة :

ففي نص القرد صفحة 39

فاستنادا إلى ما قالت العامة عن القرد وما روي عن يزيد ابن معاوية في " رسالة الغفران "، وما أورده التوحيدي في " البصائر والذخائر " عن قرد زبيدة : " لما مات قرد زبيدة ساءها ذلك، فكتب إليها أبو هارون المعلم : أيتها السيدة إن موقع الخطب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور من نيل الكبير المفرح . ومن جهل قدر التعزية عن التافه الخفي، عمى عن حال التهنئة بالجليل السني ... فلا نقصك الله الزائد في سرورك، ولا حرمك قذر هذا الذاهب من صغيرك وكبيرك " فأمرت له بمال . فكان أبو هارون يقول : " رحم الله كل قرد "

أما نص الكاتب شكري الباصومي فقد كتبه من خلال مشهدية كاريكاتورية تبرز التشوهات الموجودة بشكل علني واضح، فالهدف من استعمال مفردات قديمة ونصوص قديمة لكتابة نصوص جديدة وصور مشهدية جديدة، وما بين النصوص التصديرية القديمة ونص الكاتب الجديد يجد القارئ نفسه في رحلة بين الماضي والحاضر، ولكنها تشير إلى المعنى الكامن المتلبس بالإنسان وراء هذه الصور :

اضحك للقرد

يكشف لك

ما تيسر ...

مما عنده

أبرز له أسنانك ...!

أثبت للجميع

أنك آخر ...

الأغبياء

 

 وفي لعبة الزمن، والتعامل مع المفردات والنصوص القديمة وتحويلها إلى معان لنصوص جديدة، يرصد الكاتب الزمن الذاتي الذي يقترن بتحولات الروح، ويبلور الصوت السيكولوجي لروح تنبعث من الزمن المتقادم وهي تخترق ترسبات اللغة، وتنبلج من تلك التراكمات حيرة الكاتب وتداعيات صور وأصوات الزمن القديم، كأنه يضفي موسيقى الروح أو موسيقى الطبيعة وهي تنبعث من كهوف الماضي القديم أو أصوات جنائزية تنبعث من آثار قديمة وتتعالق باللغة كالأطياف ..

ففي نص " خذيني " ص 17 – 18

التي وقع تصديرها بعبارة " آغاثا كريستي " : " تزوجت عالم آثار حتى يجدني جميلة كلما تقدمت بي السن " :

كجريدة بالية

مثل كتاب

على رصيف

بائع أمي

كنار

تمرد حطبها

كحطاب

أضرب فأسه

خذيني

كخبز مقنع

كماء عكره

حمل

في أعالي النهر

كذئب

حن إلى الافتراس

خذيني ...

زاد الوجع

زاد أنيني

ففي عمق صور اللغة هناك روح الإنسان في حالة وجع، ويتشكل ذلك الوجع من خلال عدة تشبيهات تبرز تناثر الوجع في أكثر من صورة، وعن فوضى الأسئلة وأشجان الروح العتيقة ...

وما نستشفه من خلال تصديراته، أنها تدلل على ما يرد في سياق النص، وليست مجرد عتبات حافة، بل هي تدلل على الغائب الحاضر في نص الكاتب، أو المعنى الحاضر في النص الذي ينكتب بمشهدية جديدة، مما يشير إلى رؤى الكاتب وتشكيله لنصه، فإذا بالنص التصديري مرجع وصدى لصوت الكاتب ... هي نصوص كرجع الصدى لمعان ومضامين تنجلي عبر لعبة المرايا من خلال نصوص أدبية، تتشكل معانيها في أكثر من صورة وأكثر من رؤية مشهدية تشكيلية :

ففي نص " قداسة " ص 15

التصدير : " إذا كان الرأي عند من لا يقبله،

والسلاح عند من لا يستعمله،

والمال عند من لا ينفعه،

ضاعت الأمور "

الجوهر النفيس في سياسة الرئيس (ابن الحداد)

طار الحمام

ولم يحط

أخطأت الرصاصة

لم يأبه الحمام ...

ماض إلى الأمام

ميتا يطير

قدست يا أمير

قال الراوي :

ومازالت الدهشة ماثلة،

والقافلة تسير

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1538 الخميس 07/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم