قضايا وآراء

إشكالية الشعر بين النقد والانتقاد .. نقد لمقال نقدي / هشام مصطفى

من خلال نقده لذا فعلينا أولا أن نقرر عددا من المبادئ حتى لا ينحرف المقال عن مساره الذي خطط من أجله .

وأول مبدأ يمكن أن نقرره هنا أننا لا يجب أن نشخصن الموضوع إذ هو(أي المقال) في الأساس يقوم على نقد النقد أو رؤية داخل الرؤية وبالتالي فإن الرؤية لابد أن ترتبط بفكر صاحبها لا شخصه .

وثاني المبادئ أننا نهدف إلى تحديد موقف من النقد ذاته إذ لابد أن نعرف ماذا يجب علينا من خلال الدراسة النقدية والفرق بين ذاتية  الرؤية والتي تدخل في نطاق الرأي لا أكثر ولا أقل وبين الدراسة المؤسسة للنقد والتي تؤطر قبل أن تشرح وتبني قبل أن تهدم فالتشريح إن تم قبل التأسيس له سيضل عن مساره ويصبح لا هدف له أو كالأعمى الذي سلك دربا لم يخبره ولم يعِنه عصا أو دليلا  وكذلك الهدم لابد له من الاستعداد الجيد للبناء الموازي  له كي تخرج رؤية نقدية متكاملة لا مبتسرة تعرض لذاتية  الموقف وتنأى عن موضوعية النقد والدراسات النقدية .

وإن كنا نتفق على هذين الأساسين فإننا لابد لنا أولا أن نناقش الهدف من أي دراسة نقدية أو مقال فإن كاتب المقال لابد له من تحديد هدفه وبدقة وبالتالي تحديد منهجيته في العرض حتى يعرف ماذا يريد من الدراسة وحتى تتسم بما يسمى بالإتساق بين هدفها ومسارها ومنهجيتها

ولعلنا هنا في مقال الأخ الكريم الدكتور (عدنان الظاهر) نجد ما يمكن أن نسميه تأطيرا لما يريد ولكن الغريب في الأمر أن هذا التأطير اتسم بالذاتية المحضة والتي تعتمد على رؤية أحادية لا العرض المتوازن بين الآراء وخاصة أنه يتعرض لشاعر له حجمه وتاريخه الذي أسس له مكانة متميزة بين أقرانه من شعراء جيله وخاصة أيضا أنه تعرض لموضع جد خطير تنهل الدراسات الأدبية والنقدية منه ومازال لم يوف حقه بعد وتتابع الآراء فيه لذا فقد اتسمت المقدمة ( مقدمة غير قصيرة وغير مُمِلّة !) ذاتية الطرح أحادية الرؤية لم تؤسس تأسيسا علميا له مراجعه التي يمكن أن تشكل السند لما يمكن أن يطرحه وبهذا فإن ما قدمه أستاذنا الكريم لا يمكن بأية حال من الأحوال اعتباره تأطيرا بل عرضا لوجهة نظر ذاتية تتحكم فيها هوى النفس وميلها إلى لون دون غيره لذا فهي تنفي الآخر  وكذلك فهي ليست علمية يعتمد عليها في إصدار الأحكام ناهيك عن صعوبة هذه الاحكام القائمة على الانطباعية لا المنهجية الصارمة أو على الأقل التي تأخذ بروح المنهج لذا فقد تميزت بأنها حاسمة غير قابلة للمناقشة والجدلية وبذلك فقد أهم مقومات النقد والتي تقوم على جدلية الرؤى ومحاولة الشمولية في الفهم وهو بتلك المقدمة يلغي تماما الآخر إذ يزيل بسهولة متناهية منتوجا تاريخيا إنسانيا لا يمكن التنكر له ومازال يمارس العملية الإبداعية ويعالج الكثير من قضايا عصره وإن اختلفت الوسائل بينه وبين الشعر الحداثي  وكذلك يمارس ما تعانيه الحداثة الشعرية ذاتها من رفض الآخر لها والتشكيك في أسسها وهو موقف يرفضه النقد تماما أذ يعتمد النقد على رحابة الفهم وإمكانية المعايشة نظرا لعدم التعارض وذلك لسبب بسيط للغاية أن الأسس الجمالية التي تعتمد على الاتجاهات المختلفة للشعر تختلف وتتباين أشد التباين والاختلاف وعليه لا يمكن أن تقوم المقارنة أو المقابلة بل المعاضدة لأن كل اتجاه يعضد الآخر لا يعارضه وهو يشكل وجها جماليا لا يمكن إنكاره لأنه يعالج الأزمة الإنسانية والتي تتميز بشدة خصوصيتها وتنوعها.

هذا عن المقدمة أما عن المنهج فأشد ما يمكن أن تستغرب له أن تلك الرؤية التقدمية إن جاز لنا هذه التسمية والتجاوز عن الذاتية والأحادية تختلف بل تتعارض تماما عن الممارسة النقدية ذاتها إذ  أن الممارسة النقدية جاءت جزئية الطرح والرؤية على غير الفهم والوعي الحداثي والذي يقوم على الرؤية الكلية للعمل والرفض التام للفصل التعسفي فكيف يكون الموقف عندما تعتمد في رؤيتك على فصل الجزء عن الكل وكيف نرى رؤية صحيحة لهذا الكل أو الإثبات لرأي مسبق ؟

أعتقد أن النتيجة الحتمية هي انحراف المسار والخروج عن الهدف

كيف لنا أن نحكم على حجر في بناء فالحجر لا يمكن أن يحمل دلالات جمالية إلا إذا رأيناه من خلال السياق البنائي والخطوط الهندسية للبناء ذاته وإلآ  سيبقى حجرا لا غير ولا يحمل غير سمات لا تتغير .

فالأخ الكريم قد قام بالفصل الحاد للكلمات عند نقدها عن مسارها في سياق الجملة وحكم ولم يؤطر لهذا الحكم وإنما هو حكم قائم على الإحساس الذاتي للكلمة وإن كانت تتوافق أم أنها قد أقحمت إقحاما في النظم وأنّى له هذا وقد فصل ولم يرها من خلال العلاقة الأفقية لها أو الرأسية أو أن يربطها بالشبكة الداخلية للنص حتى يحكم لها بالقوة أو ضعف تأثرها الامتدادي داخل البيت الواحد أو الوحدة أو النص ؟

هذه الرؤية النقدية هي رؤية قد تجاوزاتها الرؤى النقدية الحديثة سواء أكانت منهجية المسار أو انطباعية المرتكز لذا فقد حمل المقال في جملته تناقضا هاما بين المقدمة المتقدمة والممارسة التقليدية والتي تجاوزتها كل أساليب النقد وكأننا بذلك عدنا إلى سوق عكاظ .

ويبدو التناقض جليا في كثير من المواضع مثلا حينما يقرر شاعرية الناقد المطبوع فيقول عنه (إنه شاعر مطبوع ، موهوب بالطبع والجبلّة ) ثم يأتي بعدها مباشرة فينفي عنه هذه الشاعرية إذ يقول (إنه متين اللغة سليمها بارع في توظيفاتها حسب مقتضى الحال والمناسبة ... لكنَّ اللغة لا تصنع أو تخلق شعراء وإلاّ لكان علماء اللغة من أعاظم الشعراء) إذن كيف يستقيم الحكم النقدي والذي يحمل الضد معا !

وهو بذلك لا يقدم دليلا أو إشارة بل أحكاما ليس إلآ  وكأن النقد بسلطويته المقيتة قد أحكم سيطرته على الشاعر والإبداع وإن كان الناقد يدعو إلى الحرية والحرية لا غير كأحدى مقومات الإبداع وبالتالي يفقدها من ينظم على البحور الخليلية (مع التجاوز عن هذه التسمية الشائعة الخاطئة) حيث يقول في موضع سابق (هل يتقبل عقل وفكر الإنسان الحر هذه القيود الصارمة التي تنفي توقه الطبيعي للحرية والتحرر؟ هل يقبلُ الإنسان المعاصر أنْ يضعَ أو أنْ توضع في معصميه كبولاً [كلبجات] خارجية تنشط وتؤثّر بطريقة موضوعية  ، مثل قوانين الفيزياء ، لا سيطرة للشاعر عليها وليس له إلاّ القبول بها والخضوع عبداً لها) فكيف يبيح لنفسه ما يحرمه على المبدع الأول (الشاعر)

ناهيك عن الممارسة ذاتها إن نجد الأخ الكريم يقرر في موضع ناقدا (خامساً /  إنه لا يختار من قوافي أعجاز أبياته الشعرية إلاّ ما يوافق وينسجم مع روح البيت الشعري كاملاً ويجعله بقدرة قادر مقتدر ركناً من أركان بيته الشعري فلا نشوز ولا خروج ولا نبوّ ولا إقحام وإعضال وافتعال . إنه يُقنع القارئ أنَّ قوافيه نهايات منطقية ضرورية لا بدَّ منها . إنها الحلقة الأخيرة في سلسلة من الترتيبات اللغوية والمنطقية فللغة منطقها الخاص وفقهها الخاص وضروراتها الحيوية الأخرى) وهو إذ يقرر للشاعر هذه الخاصية والتي تحسب للشاعر فهو يناقض منهجيته وموقفه الذي قرره سلفا من عمودية الشعر حيث يقول (القافية هي القيد الآخر الأقل جبروتاً من طغيان التفعيلة واستعبادها المطلق للشاعر . إنها بوليس [شرطي أو دَرَكي أو جندرمة] تساعد التفعيلة في أنْ تستكمل تنفيد شروطها ومطلق طغواها على الشاعر وفكره وعواطفه ثم لغته) هذه لمحة من التناقضية والتي حملها المقال

غير المنهج النقدي ذاته والذي عبرنا عن رفضنا إياه إذ يخالف روح العصر والحرية في الإبداع والذي يدعونا له نفسه

إن هذه الممارسات النقدية ما كان لها أن تكون إن كانت الرؤى التنظيرية متسقة مع الممارسة وإن كانت المناهج النقدية تم تعريبها بروح الإبداع العربي وهي بالأساس نجد ملامح عربية لا يمكن إنكارها أو إغفالها ويمكن لك مثلا مراجعة الأسلوبية كمنهج نقدي غربي ولكنه متوافق مع روح ما دعا له العلامة العربي عبد القاهر الجرجاني إلآ  أننا لم نستثمر هذا التراث الرائع في إنتاج منهج ونظرية عربية خالصة للأدب والنقد واكتفينا بالنقل واعتبار تطبيق المنهج هو الأساس لا جعله جسرا للوصول

وأخيرا إن ما عرضنا له لا يجب اعتباره هجوما على شخصية الدكتور فله كل التقدير ولا يجب أن نغفل الجهد والاهتمام بالعمل بل والإحساس بالصدق في الدفاع عن الموقف الذي انطلق منه وكذلك لا يجب اعتبار المقال دفاعا عن السماوي فهو شاعر ولا يمكن أن ننكر هذه الشاعرية أو جودتها فتاريخه الأدبي كفيل بهذا وإنما الذي دفعنا لهذا المقال هو الغيرة على النقد والأدب والشعر هو الإحساس بالحاجة الماسة لرؤية جديدة تنتج أدبا جديدا نابعا من هويتنا ورؤانا قد تعتمد على المنتوج الإنساني لا العربي فقط حتى تتسم بشمولية الفكر ورحابته إننا هنا نناقش فكرا لا شخصا وموقفا نقديا لا إنسانا

لعلنا نبدأ كي نصل

 

للاطلاع على دراسة الاستاذ الدكتور عدنان الظاهر

مع الشاعر يحيى السماوي في: ديوان لماذا تأخّرتِ دهراً؟* / عدنان الظاهر

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1538 الخميس 07/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم