قضايا وآراء

هاملت البياتي والقباني / عدنان الظاهر

كتب الشاعر البياتي قصيدة أعطاها عنوان (هاملت). بينما كتب نزار قباني قصيدةً أسماها (هاملت شاعراً). كتب البياتي قصيدته في موسكو بتأريخ 15 ـ 8 ـ 1960 . وكتب القباني قصيدته بعد البياتي بعشرة أعوام كاملة، أي عام 1970.

كتب كل شاعر من هذين الشاعرين قصيدته بما يلائم مناخه النفسي وأجواءه السياسية والإجتماعية في حين كتابتهما لقصيدتيهما. كان لكل منهما دوافعه الخاصة ومزاجه الخاص وظروفه الخاصة. كان البياتي شاعراً مسيّساً هارباً من بلده العراق، يشكو التشرّد ومحنة التغرب بصحبة زوجه وأطفاله  وظلَّ طوال حياته في صف الفقراء والمحرومين. أما القباني فكان أساساً شاعر غزل ومغامرات رومانسية وشاعر جنس

 (برجوازياً) مرفّهاً مدللاً أينما حلَّ وحيثما إرتحل. كان البياتي يتخيل نفسه شاعراً مظلوماً ومغبوناً

و ضحية حكّام ظالمين وموضوع عداوة ما لا يُحصى من الشعراء والنقّاد. لذا، لا يدهشنا إختياره لإسم وشخصية " هاملت " كممثل مسرحي يبخسه مشاهدوه حقه. البياتي هنا مناضل (يهتك الأسرار  والنار تلتهم الستار). يخاطب مشاهدي مسرحه ومسرحيته بلهجة الإستعطاف الآمرة من قبيل (لا تضحكوا...

لا تقاطعوا الحوار... لا تقلبوا شفاهكم... لا تطفئوا الأنوار)... إنه هنا  يمثل دور بطل مسكين لا يأبه لمحنته أحدٌ في الوجود. يصرخ ولا مَن يسمع. يتوسل ولا مِن مجيب. دمه يلّطخ الجدار وخنجره يغوص في قلبه إلى القرار. إنه حقّاً رجل مسكين، يمثّل دوراً غاية في الجدية والخطورة ولكن... تماماً مثل دون كيخوت... يقاتل طواحين الهواء بسيفٍ من خشب على صهوة حصان هزيل. نضحك ـ كمشاهدين ـ أم نبكي؟ ختم البياتي قصيدته بالأبيات التالية:

 

هذا أنا، هاملتُ، محمولاً مع التيارْ

بلا قِناعِ

أعبرُ الأنهارْ

عَبرَ حدودِ المسرحِ الصغيرِ والسِتارْ.

 

لم أقتنع ـ كقارئ ومشاهد ـ لا بتمثيل البياتي لدور هاملت ولا بالشعر الذي قرأ أمام جمهور مشاهديه على خشبة مسرحه. كان كمن ينوح على نفسه دونما صوت. وكمن يلطم في هواء أو في فراغ. لم يصفّق له جمهورُ مشاهديه. لم يتعاطف معه. كان يتوسل مكرراً (لا) عشر مرّاتٍ في قصيدة تتكون من 26 سطراً أغلبها يتراوح بين كلمتين وثلاث.

أهم عناصر القصيدة الممسرحة:

1 – مسرح

2 – ممثل واحد

3 – جمهور يضحك على الممثل ويسخر منه.

4 – جو فقير للغاية وشديد البرودة.  مشهد واحد أو فصل واحد مسطّح ذو بعد واحد ممل. وممثل لا يجيد التمثيل. مجرد (قره قوز) يستعطف مشاهديه متوسلاً أن لا يضحكوا عليه. أن لا يقلبوا شفاههم هزءاً به وسخريةً. أن لا يقاطعوا كلامه وتمثيله. الأبيات الأربع الأخيرة في القصيدة كافية وتُغني عن باقي الأبيات.

 

البياتي وهاملت: هل أجاد البياتي لعب دور هاملت؟ ما كان هاملت ممثلاً. كان أمير الدنمارك. كان مثقفاً وكان يسعى إلى كشف حقيقة مصرع أبيه وكشف القاتل: عمه كلوديوس. هاملت كان مناضلاً أصيلاً وكاشفاً للزيف والرياء والقتلة ودفع حياته ثمناً في سبيل ذلك. البياتي تراجع في حياته عن أمور كثيرة. منها السياسية والعقائدية. هاملت لم يتراجع. لم يخضع للإبتزاز والإغراء والتهديد وقبل إتهامه بالجنون وما كان كذلك. نعم، قد يكون إفتعل الخبال لكي يكشف القتلة على قاعدة (وبحجة السكران أبكي على كيفي). لا مجالً للمقارنة بين الرجلين أو بين ما مثلا من أدوار. قال البياتي:

 

أديتُ دوراً، كان... لا تقاطعوا

من أفجع الأدوارْ

فالمسرحُ العالمُ التيّارْ

يجرفني

وإنني أنهارْ

لا تضحكوا

 وأوقفوا  التيارْ

لا تقلبوا شفاهكمْ

لا تطفئوا الأنوار.

 

ما كان هاملت أمير الدنمارك كذلك. في شعر البياتي روح إنهزامية وفي موقفه خلل.

أعود لسؤالي السابق: ما الذي دعا المرحوم البياتي إلى إنتحال إسم وشخصية هاملت؟

أخطأ الشاعر إذ وضع هاملت وقضيته الكبرى في مسرح صغير بارد. لم ينجح البياتي في هذه القصيدة لا من حيث الرؤيا الفنية الشعرية ولا من حيث إخراج المسرحية ولا حتى فيما قال من شعر هو من قبيل المُكاء والتصدية بروي وقافية حرفي الألف و الراء  المكرورتين (أسرار... ستار... تيار...قرار... أشرار...).

 

 البياتي ومسرحية شكسبير: لم يستطع البياتي أن [ يلتقطَ ] روح وقضية أمير الدنمارك الشاب هاملت. لم يستطع الغوص في عالمه المعقّد. لم يُشرْ إلى مصابه بإغتيال أبيه ثم ضياع تاج الدنمارك منه. ولا إلى محنته الأخرى بزواج والدته الملكة (جيرترود) من عمّهِ وقاتل أبيه الملك (كلوديوس). لقد واجه هاملت الحقيقي وليس هاملت (القره قوزي) مشاكل جدية وغاية في الخطورة: مقتل أبيه بسم الزئبق. زواج أمه من عمه القاتل (حتى قبل أن يبلى حذاؤها). إتهامه بالجنون. ضلوع الصبية (أوفيليا) ... إبنة  بولونيوس مستشار الملك ... ضلوعها في مؤامرة دبرها أبوها والملك القاتل لإتهامه بالجنون جرّاء غرامه المزعوم بهذه الصبية. قتله للمستشار بولونيوس. غرق أوفيليا في ماء البحيرة. تلكم أحداث جسيمة قالها شكسبير ببراعة نادرة.  فأين هذا الكلام من هاملت البياتي أو البياتي نفسه؟؟

ركّزَ البياتي في قصيدته هذه على جانب واحد فقط من جوانب شخصية هاملت أمير الدنمارك. وهو جانب ما زال موضع جدل وخاضع لشتى التفسيرات والتأويلات: أكان هاملت حقاً مجنونا أم إنه كان يمثّل دور المجنون لكي يفضح قاتل أبيه ولكي يتأكد من أصل جريمة مقتل هذا الأب. فلقد أُشيع أن أفعى سامة لسعت أباه الملك السابق في ساعة قيلولته في حدائق قصره. لم يصدّق هاملت هذه الرواية خاصةً بعد أن تراءى له شبح والده القتيل فوق أسوار قلعة آلسينور وقصَّ عليه حكاية مقتله. قال له بصراحة (الأفعى التي قتلت أباك لبست تاجه ونامت في فراشه). صرخ هاملت لحظتئذ ٍ: عمي القاتل إذن !! ثم قال له أبوه: إذا كانت الطبيعة سويّةً فيك فإنتفض.

لم يمثل هاملت الحقيقي إنما إستقدم فرقة تمثيلية إلى القصر الملكي لكي تمثل أحداثاً شبيهةً بأحداث مقتل أبيه. جاءت هذه الفرقة ومثّلت أمام الملك وزوجه (جيرتورد)  أم هاملت. لم يطقْ الملك القاتل أن يرى ما يجري أمامه من تمثيل لقصة كان هو بطلها قبل حوالي أربعة أشهر لا أكثر. نهض من مكانه مذعوراً صارخاً

(إعطني بعض الضوء). فأسرع مستشاره إلى القول (أ ضواء، أ ضواء، أ ضواء).

 

King, Give me some light, Away !

Polonius, Lights, lights, lights !

 

طلب القاتلُ نوراً (ضوءاً) ولم يطلب هواءً. لكأنما صار أعمى بعد أن شاهد حادث مقتل أخيه تماماً كما جرى هذا الجرم على يديه.

هكذا جرت أحداث مسرحية هاملت، فكيف كانت نهاية هذا الفتى المقدام والباقين؟

1 – قتل عمّه القاتل والغاصب

2 – ماتت أمه بالسم الذي أعدّه له عمه

3 – قتل غريمه (لايرتس)، شقيق الصبية أوفيليا

4 – ثم مات هو بطعنة سيفٍ مسموم.

 

تبدو قصيدة البياتي في ضوء هذه التفصيلات الدموية الدرامية هزيلة وبائسة. لم يستطع النفاذ إلى أعماق هاملت. لم يهضم أحداث المسرحية الجسام أصلاً. ركّز على أطروحة هي موضع شك أساساً والكثير من التكهنات.

 

نزار و هاملت ـ هاملت شاعراً

بعد البياتي بعشرة أعوام، كتب نزار قباني قصيدة (هاملت شاعراً). كتبها في عام 1970.

تُرى، كيف قدّم نِزار هذا الأمير الدنماركي الذي ضحى بحياته ثمناً لإقدامه وإصراره على كشف الزيف والمزيفين والكذب والكذابين والقتلة والمتسترين على جرائم القتل؟؟ لا شيء!! إقتبس نزار قولة شكسبير الشهيرة على لسان هاملت:

To be, or not to be: that is the question:

 

الذي تُرجم بأشكال شتى، لكني وجدتُ أفضل ترجمة لهذا القول في بيتين لأبي الطيّب المتنبي:

 

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دون النجومِ

 

فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

 

من بين الترجمات الكثيرة [ تكون أو لاتكون... تلك هي المسألة ].

إقتبس نزار هذه الجملة وكيّفها بما يخدم أغراضه أو بعض أغراضه في شعر الحب والرومانس ومغامرات (كازانوفا) الإيطالي الشهير أو (دون جوان).

 إفتتحَ نزار قصيدة (هاملت شاعراً) بالقول:

أنْ تكوني امرأةً... أو لا تكوني...

تلك... تلك المسألةْ.

 

فأين هاملت البطل المقدام؟ أين صاحب الثأر والقضية الكبرى؟ أين صاحب الأخلاق النبيل؟ اين من صرخ عالياً: إمّا أن أكونَ وإمّا لا أكون. إمأ أن أنجز مهماتي الجسيمة أو أن أنسحب من الحياة. لا أستحق حياةً إنْ لم أقدم وأنجز المهمات وعلى رأسها كشف قتلة أبيه والثأر لدمه  منهم جميعاً.... القتلة والمتسترين على الجريمة. إختصر نزار هذا الأمر وحوّله إلى مسألة هيّنة تخص إحدى هوايات وأهواء الشاعر نزار قباني. ما هي مواصفات هذه المرأة التي يخاطبها نزار؟ ماذا يريد منها؟ كيف كان حاله في طول وعرض هذه القصيدة؟ كيف تلوّنت نفسيته وكيف تبدل مزاجه وتغيرت عناصر رجولته التي طالما تفاخر بها بين النساء وتبختر كالطاووس مزهوّاً مختالاً؟

 

إذا دار البياتي في قصيدته  " هاملت " حول نفسه وعالج أو حاول أن يعالجَ محنته الشخصية مع الناس والزمن... فإنَّ لنزار " ليلاه " الأخرى التي قضّى عمره يغني لها ويتغنى بها.شاعران مختلفان في كل دقائق حياتهما. شاعر فقير الأصل، ظلَّ مع الفقراء حتى فارق الحياة غريباً وبعيداً عن بغداد. ثم كان قد أوصى أن

يُدفنَ في دمشق ـ حيث وافته المنيّة ـ  جوار قبر المتصوّف الكبير محيي الدين بن عربي. في حين كان نزار

[برجوازياً] ثرياً وربما كان مليونيراً. فارق الدنيا فحُمِل جثمانه إلى دمشق على نفقة الحكومة السورية ودُفنَ تحت ثرى وطنه.

محنة البياتي في تشرده القسري وغير القسري كانت محور الكثير مما كتب من أشعار. جمع فيها مِحَن الكثير من الشعراء والفلاسفة والكتاب والمفكرين وديوانه عامرٌ بأسماء هؤلاء. كان " لصيقاً " بالثوار والخارجين على نواميس حكوماتهم والمتمردين ولا سيّما القتلى والشهداء منهم. محنته في شخصه وفي ظروفه وفي تركيبة جهازه العصبي وفي ميله الشديد للأسفار والترحال ومعايشته المزمنة لنوع من القلق يعرفه علماء النفس.

أما نزار قباني...فميزانه أو قُبّانه شديد الوضوح  ومشكلته المركزية الأولى إنما مع بنات حوّاء... مع النسوان. كان الرجل راكزاً ثابتاً مستقر العصب وذا سعة من المال... خلاف البياتي الذي رحل ولم يترك شيئاً لزوجه وبناته وولده علي، لا في وطنه العراق ولا في خارج العراق.

 

نماذج من قصيدة نزار " هاملت شاعراً ":

كرر في المقطع الأول < أن تكوني > ثمان مرّاتٍ وبالصورة التالية:

 

1 – أن تكوني إمرأةً .... أو لا تكوني

2 – أنْ تكوني امرأتي المُفضّلة

قطتي التركية المدللة

3 – أن تكوني الشمسَ.... يا شمسَ عيوني

ويداً طيّبةً فوق جبيني

4 – أنْ تكوني في حياتي المقبلةْ

نجمةً أو وردةً أو سنبلةْ

تلك... تلك المشكلةْ

5 – أنْ تكوني كلَّ شئ

أو تُضيعي كلّ شئ

إنَّ طبعي عندما أهوى كطبع البربري

6 – أنْ تكوني....

كلَّ ما يحملهُ نَوّارُ من عُشبٍ ندي

7 – أن تكوني.... دفتري الأزرقَ

أوراقي... مِدادي الذهبي

8 – أنْ تكوني... كِلْمةً

تبحثُ عن عنوانها في شَفَتي

طفلةً تكبرُ ما بين يدي.

 

بعد ذلك تبدأ آهات نزار المملة:

 

آهِ يا حوريةً أرسلها البحرُ إليّْْ

آهِ... يا رمحاً بأعماقي

ويا جُرحي الطريّ

آهِ يا ناري... وأمطاري

ويا قرعَ الطبولِ الهمجي.

 

نرى من هذا الكلام الفارغ والمصنوع صناعة ساذجة تتكرر دوماً في شعر نزار

... نرى أنْ لا علاقة لهذا الشعر بمأساة وقصة هاملت. نرى فيه: ـ

 

ــ غزلاً مكرراً مصنوعاً ومفتعلاًً. أصباغ وألوان خارجية. يريد من إمرأته أن تكونَ بمواصفات خاصة جدّاً من قبيل: إمرأة مفضّلة، أي أفضل النساء، أو الفضلى بين نسائه. يريدها قطة تركية مدللة. أن تكون الشمس له، أي النور والدفء. أن تكون يداً طيّبةً تمسح عرقَ جبينه وتتحسس حرارة هذا الجبين. أن تكون له نجمةً أو وردةً أو سُنبلة. أن تكون له إمّا كلَّ شئ أو أن لا تكون. إمّا.... وإمّا. أن تملأ حياته من كافة الجهات أو أن تتركه وتتخلى عنه، أن تختفي من أُفق وسماوات حياته فتغيب معها الشمس في النهار والنجوم في الليل.

ما هذه الأنانية المفرطة؟؟ ما هذه النرجسية المَقيتة؟؟ ما هذا الإسراف في حب التملّك والتسلّط والإستعباد؟؟ هنا نرى أنفسنا أمام طفل عنيد مُدلل يروم الإستحواذ على كل شئ في أجمل مخلوقٍ في الدنيا. أفلمْ يقلْ نزار يوماً:

 

فصّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً

وبنيتً أهراماً من الحَلَماتِ

 

نزار يطلب المستحيل. يعالج المحالات. يرسم صوراً بعضها كاريكاتوري ساذج، مبسّط، مسطّح كرسوم أطفال رياض الأطفال... ليس فيها إلاّ القليل من فحولة وحرارة الرجال. هل يصدق فيه بيت المتنبي الشعري

 

يا أُختَ  مُعتنِقِ الفوارسِ في الوغى

لأخوكِ ثَمَّ أرقُّ منكِ وأرحمُ

 

يتوسّل نزار في المقطع الأول بالتمني أنْ تفهمه هذه الإمرأة، ويعتذر بأشكال شتّى مستدركاً ب [ ربّما...] من قبيل: ربما أخطأتُ.... ربما لم أُحسن التعبير...ربما سرتُ إلى حبكِ معصوب العيون. ثم يكرر تطرفه إياه ... إمّا.... وإمّا. إما أسود وإما أبيض. لا مكان لفسحة رمادية. تطرف وعناد الأطفال المدللين.... يسارة الأطفال المتطرفة وأنانية ونرجسية بعض الرجال شديدي الغَيرة.

 

إفهميني...

أتمنى مخلصاً أنْ تفهميني

ربما... أخطأتُ في شرحِ ظنوني

ربّما... لم أُحسنِ التعبيرَ عمّا يعتريني

ربما سرتُ إلى حبّكِ معصوبَ العيون

....

 

أطوار نفسية الشاعر في هذه القصيدة.

 

الطور الأول ــ الأماني، كيف تكون المرأة التي يُريد.

الطور الثاني ــ الإستسلام لأغراءات الطبيعة الجميلة من ورود وسنابل وبحر ونجوم وأعشاب آواخر الربيع

(شهر نوّار... الشهر الخامس... آخر شهر من أشهر الربيع).

الطور الثالث ــ النكوص والإرتداد المأساوي إلى الداخل. يذكر الشاعر الرمح الذي إخترقه وإستقر في داخله. ثم الجرح الجديد الطري. ثم النار والأمطار وقرع الطبول. لماذا هذا التحوّل المفاجئ: جمع الصيف والشتاء معاً، النهار والليل، الرقّة والعنف، الإستسلام والتبجّح.

الطور الرابع ــ هنا يضعنا الشاعر في مواجهة  طور نفساني جديد: التنازل أمام المرأة ـ الرمز حدَّ التوسّل بالتمنّي والتبرير، كمن يعترف بأخطائه أمام قس في كنيسة. يتمنى أن تفهمه. ربما أخطأ في شرح ظنونه. ربما لم يُحسن التعبير عمّا يعتريه. ربما سار إلى حبها معصوب العيون. نجد هنا تبريراً وتوسلاً يقويان حيناً

ويضعفان أحيانا. ما زالت في الشاعر بقايا كبرياء وآثار من عنتريات نزار الكازانوفا أو الدون جوان أو البلاي بوي. يعود نزار بعد هذه التنازلات إلى جلده وديدنه القديم فيقرر (أنا لا يمكنُ أنْ أعشقَ إلاّ بجنوني). ثم يؤوب لعادته القديمة: التطرف من الحد القصوي إلى الطرف الأقصى (فاقبليني هكذا... أو فارفضيني).

 

المقطع الثاني: التحدي

في هذا المقطع الثاني والأخير في هذه القصيدة.... يتحول فعل التوسل السابق لدى نزار (إفهميني) إلى فعل أمرٍ فيه تحدٍ وكبرياء خجولة (إنصتي لي). لا يتعايش نزار طويلاً مع التنازلات أمام إمرأة. لا يُطيق مثل هذه التنازلات، بل لم يألفها في حياته العادية خارج مملكة الشعر. إنتصب فيه فجأةً عصبُ الرجل الشرقي المستبد ليزيح عن كاهله أعراض التوسل والتنازل الطارئة التي غالبته فغلبته لفترة وجيزة. يحاول هذا الإنسانُ أن يستردَّ عافيته وأن يؤوبَ لطبيعته. نجده يبدّل أسلوبَ كلامه وآليات تعبيره وفنون مناوراته لضمان  حقوقه في هذه المرأة مطواعةً مسلوبة الإرادة صمّاء خرساء (قطة تركية) لا إرادة لها إلاّ ما يريد لها نزار (فاقبليني هكذا أو فاتركيني).

(إنصتي لي). نكتشف هنا نبرة جديدة جاءت بفعل أمر فيه شئ من التأهب للمنازلة فإما النصر الحاسم أو الخسارة الفادحة. لقد وطّنَ الشاعر نفسه لهذين الإحتمالين. سيقبل المقسوم والمقدّر. بعد طلبه الإنصات إليه يشرع بالتهديد العلني. يقول إنَّ البدائل متوفرة وكثيرة (ما هناك امرأة دون بديل). رفضها لمطالبه وشروطه لا يعني نهاية العالم. أقام نزار بهذا البيت حالة التوازن بين آدم وحوّاء. وقف على قدميه بعد أن تعثّر قليلاً فتمنّى وتوسّل. وضع نفسه ووضع المرأة إياها وجهاً لوجه.... إمّا نعم أو لا. لا من حالة وسط. إما إتزان أو جنون:

 

إنصتي لي...

أتمنى مخلصاً أنْ تُنصتي لي

ما هناكَ امرأةٌ دونَ بديلِ

فاتنٌ وجهكِ... لكنْ في الهوى

ليس تكفي فتنةُ الوجهِ الجميلِ

....

فاعشقي كالناسِ.... أو لا تعشقي

إنني أرفضُ أنصافَ الحلولِ.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1538 الخميس 07/10/2010)

 

في المثقف اليوم