قضايا وآراء

في ذكرى رحيل المبدع العراقي كريم جثير مسكوناً بالمسرح والوجع العراقي، أتقدم إليكم / حسين سرمك حسن

(شاكر خصباك)

 

(كريم جثير، فنان مسرحي عربي من العراق الشقيق يحاول تحريك الموات الذي يعاني منه المسرح في بلادنا. كريم جثير هوصاحب فكرة (المسرح المقيل)وأول من وضعها موضع التطبيق في بلادنا، وتحول المقيل بفضله وفي عهده إلى مسرح حيَ شاهدنا من خلاله أجمل العروض وبإمكانيات محدودة وجماليات عالية، ولن أنسى (مسافر ليل) رائعة الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، و كان قد سبق لي رؤية هذا العمل الشعري ممسرحاً في القاهرة.ولكن ما رأيته في مسرح المقيل وبالإمكانيات البسيطة جداً يفوق التصوَر)

 (الدكتور عبدالعزيز المقالح)

 

إشارة تمهيدية:

لم ألتقي بالمخرج والممثل والكاتب المسرحي المبدع(كريم جثير)إلا بعد شهور من إحتلال بغداد المحروسة بالله.جاء ممتلئاً بالحماسة والأمل في تحقيق إنجازات تليق بالمسرح العراقي العريق بشكل خاص والثقافة العراقية بشكل عام.وعبر لقاءات متعددة وهادئة تأكدلي أنَ هذا المبدع ينطبق عليه شعار الشاعر الشهيد(صاحب الشاهر):

(سريعاً إلى لذتي

سريعاَ إلى ميتتي)

وخلاف التماسك والفعل الخلاًق الظاهر كان كريم مثقلاً بإحباطات كثيرة وشديدة وكان من نمط(المكتئبين المبتسمين).أنه يغرق عذاباته وآلامه وروحه الممزقة ببحر من العمل والمثابرة المبدعة التي أتت ثماراً أمتعتنا وأدهشتنا ولكنها أنستنا الإنتباه إلى الوجه الحزين الحقيقي للمبدع والمستتر خلف (أقنعة)إنجازاته الباهرة.وفي آخر لقاء ضمنا في منتدى إتحاد الأدباء وبحضور الصديق(حسين جبر)الذي ساعده في تنفيذ ديكور آخر مسرحية قدمها قبل موته الفاجع، سألته بصورة مباغتة:

- كريم...أي محلل نفسي يجلس معك مرَة واحدة يستنتج أنك هارب من شيء ما.

ضحك كريم طويلا وحرَك نظارته وأعاد تثبيتها وفتل شعيرات من لحيته وهي لازمة حركية له وقال:

- دكتور..اشمدريك (أي كيف عرفت)؟وانطلقنا في نقاش رائع ومحتدم عن ايهما هو الاهم للابداع: الفرح ام الحزن ..وعن أدب الموت ..الموت..المثكل، الذي يبدو أنَه كان يضع منديله على فمه وهو يتنصت على حديثنا ليكتم ضحكة مسمومة وشامتة...ففي الوقت الذي اندفع فيه كريم في الحديث عن الإبداع كطريق لقهر قلق الموت وعن مشاريعه الهائلة المقبلة..كان الموت قد حسم الأمر على منازلته وحيداً أعزلً في شارع حيفا وفي صباح مشتعل من صباحات بغداد...وعلى سرير الرحيل القسري في مستشفى ابن النفيس كان كريم، كريما حتى مع الموت نفسه وسنرى ذلك بعد قليل .

 

كريم جثير والموت ومشتقاته:

إن موضوعة الموت كانت هي الموضوعة المهيمنة – بل الوحيدة – على نتاج كريم جثير المسرحي الذي امتاز بالغزارة والتنوع . (الموت هو الحي الذي لا يموت) كان هذا هو الهاجس اللائب في أعماق كريم والذي كان يؤرق روحه ويقض مضجعها الداخلي، والذي كان يحاول - مستميتا – الخلاص من قبضته الخانقة ومغالبته من خلال مواجهته برهاوة في ساحة الإبداع الفائق حيث يطوعه ويتلاعب به كيفما يشاء. كل إبداع كريم كان محاولة لإطفاء قلق الموت وإن تشكل في تمظهرات تعبر عن موقفه الوطني والإنساني الفذ والصادق وإلتحامه الملتهب والحي بقضايا شعبه العظيم وشدائده الفاجعة . وقد قلت قبل قليل أن كريما كان كريما حتى مع الموت نفسه . فقد مات فاقد الوعي محطم الجسد الذي أفلتت وظائفه من سيطرته فرحل بطريقة فاجعة بعد أن تلاعب به الموت لعدة ساعات وبعد أن أعلن الأطباء – والذين يفترض أنهم في خط مواجهة المثكل الأول – عجزهم ومن ثم يأسهم النهائي . ولكن أنظر الى ما فعله كريم في مسرحيته: (مرايا محسن اطميش) حيث صور لنا الساعات الأخيرة من حياة الشاعر والناقد العراقي المعروف (محسن الهميش) وهو يلفظ أنفاسه في مستشفى بصنعاء . والإبداع هو من الآليات المهمة التي يقاوم بها الإنسان الإحساس بالقابلية الوجودية للإنجراح والشعور بالفناء، إنه وسيلة ناجعة لتعزيز (وهم) الخلود وإطفاء قلق الموت خصوصا عندما يضطلع المبدع بدور الخالق وأخاذ الأرواح في الوقت نفسه . وفي هذه المسرحية (يختار) الكاتب الميتة التي يراها مناسبة لمحسن، ويمنح ذاته (قدرة كلية) لمعرفة ما تمور به نفس الأخير من تمنيات ورغبات مجهضة ويتيح له فرصة لرؤية أمه الحبيبة وهي تطل عليه من السقف رغم أنها تغيب سريعا . وتصل قدرته الكلية الذروة في عالم (البياض) الذي يصطنعه لأخراج صورة الرحيل النهائي .. والأهم أن يجعل بطله المحتضر شاهدا على الكيفية التفصيلية التي يستل فيها فارس البياض روحه . هل كان كريم يتمنى رحيلا (أبيض) مثل هذا؟

وللموت مشتقات – أو تمظهرات لا فرق – سيطرت أيضا على المنجز المسرحي لكريم جثير وألقت بظلالها السوداء الثقيلة عليه، منها الخراب .. وهو هنا خراب الوطن الأم الشامل .. خراب روح الإنسان والإستهانة بمصيره والتلاعب به . خذ مسرحية (أنت .. من أنت؟) والتي قدم لها بقوله: (كنا في قطار الموت، لكن قطارنا هذه المرة، كان متوقفا في مكان مجهول لا يعرف أمره أحد) وبطلا المسرحية شابان يلتقيان في أرض جرداء بعد أن تخلصا من موت محقق _ الإعدام العشوائي من شخص مبتورالسبابة – وانظر الى المعنى الرمزي لذلك – والدفن أحياء ... ويقدم الكاتب لعبة إيهام مهمة حين يظهر أن الشابين متشابهان فهما صورتان لواحد شطره الرعب وجعله لا يتعرف الى قرينه حتى النهاية .

ولا يتوقف كريم جثير عند حدود رصد وملاحقة مهانة الإنسان واستلابه محليا حسب بل تمتد أفاق رؤيته الى تجسيد إنسحاق الإنسان في كل مكان وزمان، فلا قيود تكبل الفنان المبدع وتعيق التحامه بقضايا الإنسان، في مسرحية(برومثيوس) يعيد توظيف الأسطورة الأغريقية القديمة عن الإله برومثيوس / محب الإنسان وسارق النار الذي يجعله كريم يصارع قوى غير مرئية تحاول منعه من الحصول على قبس النور، إلا أنه يتغلب عليها ويمسك بقبس النور الإلهي الذي يسلمه الى المشيعين الذين تعود اليهم الحياة ويعم الضياء العالم .. لكن الثمن هو الفداء ... حيث تمزق النسور جسد برومثيوس شر ممزق .

أما في مسرحية (الأقنعة) وهي امتداد لتجربته الفريدة في المسرح العربي المتمثلةفي مسرح البيت حين حول بيت أهله الى مسرح صغيرقدم عليه مسرحية (أصوات من نجوم بعيدة)، هذه التجربة طورها الى مسرح المقيل في اليمن وفيها يكون، الجمهور جزءا أساسيا من العرض وملتحما به، كما أنه ينتقل مع الممثل والحدث داخل مكان العرض كما يقول كريم الذي يوظف في (الأقنعة) الإيحاءات الدموية المرتبطة بحضور طغاة معروفين مثل الحجاج وفرانكو وبنيوشيه وهتلر وذلك عبر حركات انتقالية مدروسة بين غرف البيت وصولاالى الحديقة .. وعلى قمة شجرة في الحديقة حيث تتصاعد أصوات المدافع وهدير الطائرات وحيث يقرر الكاتب أن لا خلاص ولا منجى من الخراب مستعيدا أسطورة الخطيئة الأولى:

(أدم وحواء يصلان قمة الشجرة . يصرخان كالمجانين، يضحكان، ... يبكيان وهما يقطفان التفاح:

حواء: لا حل يا أدم .

آدم: يائسا – أجل، لا حل يا حواء حتى لو التهمنا تفاح الرب كله

حواء: آدم أنت أول الأحياء .

آدم: لكني يا امرأة أنا أول القتلى ..

يسقط رأسه متدليا على صدره، مصلوبا على الشجرة)

و يتكرر موقف الخراب نفسه في: (محاولة خروج المهرج من دائرة الضحك والبكاء ودخوله دائرة السؤال) و(الجنرال والعاصفة) و(الزفاف). أما الجنون، فهو واحد من مشتقات الموت – أوقل تمظهراته - .. بل هو الأشد مضاضة لأن موت العقل متطاول ومديد . وكثيرة هي محاولات كريم جثير في توظيف موضوعة الجنون،، لكن مجنون كريم – على المسرح – شاهد عصر وراصد خراب ومراقب محنة، وهو اكثر عقلا وتعقلا ممن يدعون العقل ويستعرضون فضائله كالطواويس،، بالعكس، إن هؤلاء المتنفجين هم – ببرودة عقولهم ومهادناتهم التبريرية – أحد عوامل أتساع دائرة الخراب . يظهر هذا الموقف جليا في نص مسرحية: (اللؤلؤة) التي يفتتحها الكاتب بمشهد (العقلاء) من نساء ورجال يقفون في الميدان الرئيسي لمملكة ما، وقد بدت على وجوههم علامات الجوع والتعب، وهم يشكلون جوقة تحمل الشموع وتهتف: ها نحن نبتهل / نسمرأقدامنا في سوح الإنتظار، نبتهل إليك لأن تعطينا شارة المجيء / فمتى؟/ متى ياهذاألقادم تطأ قدماك أرضنا التي اغتالها الجفاف، وتندي شفاهنا التي شققها الجوع والعطش؟

(العقلاء) يبحثون عن الخلاص خارج أنفسهم معطلي الإرادة ... وومرتهنين بغائب قد لا يحضر .لكن كريما يأخذ حكمة الخلاص من أفواه المجانين، فالمجنون الذي يطارد الديك الذي ابتلع لؤلؤته هو الذي يقوم برسم الأدوار في مسرحية داخل المسرحية الأصلية وهنا يلجأ كريم – وهذه من المرات النادرة في نصوصه – الى الكوميديا السوداء حيث يرسم المجنون ملامح مملكة ويوزع أدوارها: دور الملك للأحدب، والحكيم للمخمور دائما وهكذا في سلسلة من التناقضات (العاقلة)حيث يحاول المجنون تسفيه عملية الإنتظار .. إنتظار القادم الذي هو من العجز بحيث أنه لن يستطيع العثور على الديك السارق وأنه قد يذبح على أيدي الملك المستبد كما تذبح الدجاجة ... وفي المسرحية التي يقودها المجنون في رحم المسرحية الأم – وهي من تقنيات سيدة الحكايات، ألف ليلة وليلة – تفشل جهود المجنون في زرع بصيرة الأنقاذ الفاعلة في عقول (العقلاء) .. وحالما تنتهي مسرحية المجنون العاقلة حتى تعود مسرحية العقلاء المجنونة فيعودون الى وضعهم السابق جوقة تحمل الشموع وتبتهل للقادم المنتظر، في حين يدور المجنون بينهم وهو يصرخ: القادم هو أنتم ... القادم هو أنتم ... القادم أنتم ... وانتم الذين ستكسرون سيوف الظلم المسلطة على رقابكم والذين ستثقبون طبول الموت...)

و يتكرر التوظيف نفسه في نصوص مسرحية أخرى منها (الزفاف) و(الأقنعة) وإن كانت حدود الدور أكثر محدودية ... فهل كان كريم بيننا هو شاهد الموت والجنون والخراب التي كانت تعصف بحياتنا ونحن سادرون في انتظار الغائب؟ هل كان كريم هو المجنون العاقل بيننا نحن العقلاء المجانين الذين حاول عبثا إيقاظهم من غيبوبتهم؟

في كتابه (الأقنعة ومسرحيات أخرى) يقول كريم جثير: (مسكونا بالمسرح والوجع العراقي أتقدم إليكم) . وأنا أقول أن من يحب العراق يموت، لأن حب العراق هو من النوع الميدوزي، فكيف بمن يسكن روحه وجع العراق وعذاباته ويعجن حركة وجوده المسرحية من طينة شدائده الفاجعة؟ والى أين يتقدم؟ إنه يسلك الطريق المستقيمة الموصلة الى أحضان المثكل، وهذا ما قام به المبدع (كريم جثير) بكل إخلاص وتفان)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1540 السبت 09/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم