قضايا وآراء

بحيرة طبرية بين بحرين المتنبي وشكيب أرسلان / سعود الاسدي

 

كان المتنبي ( 303 هـ – 354 هـ ) فارساً وشاعراً مدّاحًا،  وحكيماً طمّاحاً،  ومتنقلاً جوالاً جاب بلاد الشام ومصر والعراق وفارس،  وكانت مدينة طبرية من الأماكن التي حظيت منه بالنزول فيها سنة 328 هـ وعمره خمسة وعشرون عاماً وقد اشتهرت له قصيدة في وصف الأسد الذي التقاه أبو الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي وموجز في قصة موجزها :

أن الأسدي هذا " كان قد خرج إلى أسد فهرب الأسد منه وكان قد خرج قبله إلى أسدٍ آخر فهاجه عن بقلرة افترسها بعد أن شبع وثقل فوثب إلى كفل فرسه فأعجله عن استلاال سيفه فضربه بالسوط ودار به الجيش فقال ابو الطيب :

في الخدّ أن عزمَ الخليطُ رحيلا

مطرٌ تزيد به الخـدودُ مُحـولا

ومدخل القصيدة غزلي في سبعة أبيات إلى ان يقول :

ورد إذا ورد البحيـرة شاربـاً

ورد الفـــرات زئيره والنيلا

ولما كان المقصود هنا بالبحيرة بحيرة طبرية فلا بد من القول منذ البداية أننا في موضع سجدتين : مرة لأقدس وأجمل بقعة في أرض الجليل الذي تنوعت مناظره ما بين شاطيء بحر،  وضفة نهر،  وقمة جبل،  واطمئنان سهل،  وعمق غور مما لا شبيه له في سائر الأقاليم،  ومرة لقصيدة شهيرة من قصائد المتنبي فيها من الروعة والجمال ما يصلح لأن يقابل ما في بحيرة طبرية من رونق وجلال،  وهي البحيرة التى اجترح على ضفافها المسيح بن مريم عليهما السلام معجزاته،  فقد سار على الماء وقرى الألوف ببضعة أرغفة وسمكات،  وشفى البرص والمقعدين والممسوسين .

 

*** المتنبي يحني رأسه ***

وإذا كان المتنبي في قصيدة وصف الأسد ومدح بدر بن عمار لا يلتفت إلى جمال بحيرة طبرية بسبب التجربة الشعرية الخاصة والحالة النفسية المغايرة والحدث المثير جدًا من مصرع ليث غضنفر بسوط فارس بطل فإن له قصيدة غيرها نجده فيها مضطرًا إلى أن يحني رأسه قسرًا فيكف عن النظر إلى مطامح ليست دون النجوم لينظر فيما حوله ودونه من جمال الربوع والتخوم والبساتين والكروم في طبرية وأرباضها،  ويرسم بالوصف منظرًا قلما شغل حسه الفطري ووجدانه الشعري بمثله باستثناء وصفه " شعب بوان " من أرض شيراز في بلاد فارس فيما بعد .

والأبيات المقصودة ثمانية في عددها من قصيدة مدحية في الحسين بن إسحق التنوخي بلغت 42 بيتا وهي :

لولاك لم أترك البحيرة والغـــــــــور دفـيء ومـاؤها شبــم

والموج مثل الفحـول مزبـدة  تهـدر فيها وما بها قطــم

والطير فـوق الحبـاب تحسبها  فرسان بلـق تخونها اللجـم

كأنهـا والريـاح تضربـهـا  جيشــا وغى هازم ومنهزم

كأنهــا في نهـارهـا قمـر  حفّ بــه من جنانهـا ظلم

تغنـت الطيـر في جوانبهـ  وجادت الأرض حولها الديم

فهـي كَماويّةٍ مطوقــــة   جُـرِّدَ عنهـا غشاؤها الأدم

يشينهـا جريهــا الى بلـد   تشينـه الأدعيـاء والقَـَزم

فلولا الممدوح التنوخي لما ترك المتنبي البحيرة ذات الماء البارد والغورالدافىء وهي من أحسن المشاتي ! فكانما وجود التنوخي في اللاذقية عوّض المتنبي عن الاستجمام في الجليل،  والاستحمام في بحيرة طبرية،  وعما يراه حولها من مناظر ساحرة خلابة وباهرة جذابة أدناها أمواج هائجة كأنها فحول من الأبل ترغى وتزبد وتهدر على أن فحول الأمواج هذه ليس فيها شبق محموم للضراب كالذي عند فحول الإبل .

ثم ينتقل المتنبي بعد رصد حركة الموج إلى رسم حركة الطير من بطّ وإوز وكراكيّ ومكاكيّ وسواها لدى انفلاتها بالعوم من على الأمواج فكان الأمواج خيول بلق لما يخالطها من سواد وبياض ولكن الفرسان (الطير) فقدت السيطرة على خيولها باللجم فانطلقت الخيول الجامحة لا تلوي على شيء !! ثم بدت هذه الأمواج في صراعها مع الريح (أو تلك الطيور) وهي في كرّ وفرّ وكأنهما جيشان متحاربان أحدهما هازم والآخر منهزم .

 

*** من الخارجي الى الداخلي***

في تلك الأبيات الثلاثة من الوصف المركّب استطاع المتنبي بلفتة ذكية ولمسة فنية من الصنعة الشعرية المتقنة أن يعرض وفي آن واحد،  وصفين متوازيين الأول موضوعي خارجي ظاهر،  والثاني ذاتي داخلي مضمر فالموضوعي الظاهري ما يبدو للعيان من موج وطير ورياح وحركة مضطربة وأما الذاتي المضمر فهو ما يعتمل في نفس الشاعر من توتّر وغليان ثائر،  وحمّى قتالية وشغف بالحياة قفز به من الخيال إلى التخيل بأن هناك فحولاً هادرة وخيولاً جامحة وجيوشاً في حرب دائرة مما يجعل القاريء يدهش لهذا الشعر مرتين مرة لرؤية البحيرة من خلال نفسية المتنبي ومرة لرؤية نفسية المتنبي من خلال البحيرة وإن كانت الرؤية الأخيرة المضمرة تشبه الإيقاع المضمر في الموسيقى الكلاسيكية لا يشعر به إلا كل ذي إحساس عميق وشعور رقيق،  وهذا المزج المدهش بين الموضوعي الخارجي والذاتي الداخلي في الوصف،  وهو ميزة رومانسية بارزة من ميزات شعر المتنبي وهو من أبرز من بذروا بذور الشعر الرومانسي في تضاعيف قصائدهم في الشعر العربي العباسي والكلاسيكي القديم .

 

*** من الجزئي إلى الكلي ***

وبعد هذا وعلى المنوال ذاته يتابع المتنبي نسج أوصافه في بحيرة طبرية من الجزئي إلى الكلي وذلك بعرض صورة البحيرة ككل بشكلها وظلالها وألوانها فهي تشبه بما لها من شكل دائري وسطح ناصع لامع وبما يحيطها من جنان خضراء ذات أشجار لفّاء وحدائق غنّاء قمراً مضيئا حفّت به غشاية الليل وظلماته .

وقد سمّت العرب في بلاغتها هذا التشبيه تمثيلا بسبب المماثلة الحاصلة بين صورة مرئية متعددة الجوانب وصورة أخرى متعددة الجوانب متخيّلة بأسلوب ميتافوري (مجازي)،  ولولا المجاز والتشابيه والكنايات التي يأتي بها الشاعر لما كان للشعر سحر وروعة أو رونق وجمال .

 

*** من العين الى الأذن ***

وإذا كان المتنبي أمتع ناظريه بجمال بحيرة طبرية وذهنه بما مر في خياله من صور وتشبيهات فما باله لا يمتع سمعه بالإصغاء إلى جوقات البلابل والشحارير وهي تترنم بالأناشيد في أجواء من ريّ دائم الأرض غبّ مطر من كفّ سحاب كريم .

هذا والبحيرة في عمق مائها وصفائها ونقائها كأنها مرآة مطوقة بإطارها وقد نُزِع عنها ما يغطيها من غشاء فبدا ماؤها كزجاج شفّاف نقي صقيل،  ولكن برغم مما بدا على بحيرة طبرية من حسن وجمال فان المثل يقول : لا تعدم الحسناء ذاماً ولعل " الذام " الذي رآه المتنبي في طبرية وهو( ليس في أصل تكوينها ولكنه طارىء عليها ) نجده في قوله :

يشينها جريها إلى بلد تشينه الأدعياء والقزم

وهكذا فإن ما يعيبها هو أن يخرج منها ماؤها وينحدر في الغور جنوبا ليروي أرضًا يقطنها أدعياء في أحسابهم هجناء في أنسابهم ليسوا كراما بل أراذل وأقزاما لئاما .

 

*** وأما شكيب أرسلان ***

وأما شكيب أرسلان الملقّب بأمير البيان فقد نزل عام 1902 عند ابن عمه وكان قائمقام طبرية،  وقام بزيارة مقام النبي شعيب عليه السلام،  وقرية حطين التابعة لطبرية لأجل مشاهدة الموقع الذي دارت فيه رحى معركة حطّين الشهيرة (عام 1187 م) بين السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي وبين الصليبيين . وبعد أن شاهد حطين وقرونها ومرجهاولوبيا تخيّل كيف جلس السلطان صلاح الدين بعد الظفر ولديه ملك الصليبيين ورفاقه وسائر الجيش الإفرنجي أسرى فنظم قصيدته الرائية،  وقد نشرتها إذ ذاك مجلة المقتطف المصرية،  والقصيدة مطولة تقع في 143 بيتاً وتتألّف من ثلاثة عناصر :

الاول : مقدمة وصفية لنهر الأردن من منبعه إلى مصبه وفيها ذكر لمواقع جبل الشيخ، وجبل هونين غربي سهل الحولة وتل القاضي والبانياس والحاصباني والجسر والبطيحاء وبحر الجليل (بحيرة طبرية ) وكفرناحوم والمجدل والغور والشريعة والبحر الميت .

وأما العنصر الثاني فهو تمجيد وإشادة بقدسية الأرض التي درج عليها المسيح عليه السلام،  وتجلت فيها معجزاته،  وسائر حواريه وسواهم من الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين . وفي هذا الجزء من القصيدة يلتفت أمير البيان كما التفت المتنبي شاعر العرب الأول من قبله إلى جمال بحيرة طبرية بأبيات ستة سيأتي ذكرها .

وأما العنصر الثالث وهو ما يؤلف ثلثي القصيدة فإنه عن صلاح الدين الأيوبي وحروبه مع الصليبيين وذكر مناقبه وبعث لذكراه التي قد تنفع العرب والمسلمين الذين لعجزهم وتواكلهم ليس همهم اليوم إلا الحديث في ندواتهم وإذاعاتهم وفضائياتهم وخطبهم عما مضى من أمجاد آبائهم وأجدادهم من باب التفاخر والانتفاخ،  أو التعزية والتأسّي غير طامعين أو طامحين في أن يبنوا فوق ما بناه الأولون أو يفعلوا فوق ما فعلوا .

 

*** كانها في صفائها فلك ***

وأما الأبيات التي تحمل وصف بحيرة طبرية كما وردت في ديوان أمير البيان فهي :

بحيرةٌ كلّ شأنَهـا عجـبٌ  وهي مـن الحسن كلها غررُ

لله در الكنـدي واصفهـا   كأنهـا فـي سمائهـا قمـر

كانت تحفّ الجنـان دورتها  والآن تحتفُّ دورها السِّـدَر

مراة نُـور من السفوح له  إطار نَـْور لم تحكـه الأطر

كأنّهـا في صفائهـا فلكٌ   وفلكهـا فيه أنجـم زهـر

أجمـدْ بقوم رأوا محاسنها  يوما فما أنشدوا ولا شعروا

تبدو بحيرة طبرية من خلال هذه الأبيات عجيبة وذات حسن فريد وهنا يذكر شكيب أرسلان وصف الكندي (المتنبي) لها ويقتبس شطرة منه (كأنها في سمائها قمر) ولا يفوته أن يفطن إلى الجنان التي كانت تحيط بها في الماضي،  بينما اليوم تحيط دورها أشجار السدر (النبق) الشائك،  وهي غير غامرة الظل،  وذات أثمار توهم وكانها أثمار زعرورلا تسمن ولا تغني من جوع .

وكأنما يريد شكيب أرسلان ولو من طرف خفي أن يقول للقوم : ألا هبوا إلى العمل الدؤوب وأعيدوا الأرض جنات وبساتين كما كانت في سالف العصر والأوان !!والبحيرة مرآة من نور،  وسفوحها إطار لها ولكن من نَور (بفتح النون ) والنور الزهرأي إن البحيرة مراة من نور لها برواز من زهر،  وهي زرقاء صافية كأنها قبة الفلك تزينها النجوم،  وهنا يذكرنا ببيت البحتري من قصيدة له في وصف بركة الخليفة المتوكل :

إذا النجوم تراءت في جوانبها

ليلاً حسبت سماء رُكِّبت فيها

وإزاء هذا الجمال الساحر لا يملك أمير البيان إلا أن يظهر انفعاله الشديد،  فينحي باللائمة على من يرون محاسن بحيرة طبرية ولا ينشدون شعراً ! :

أجمـدْ بقـوم رأوا محاسنها

يوماً فما أنشدوا ولا شعروا

وفي الختام لا يفوتني ذكر بيت من تلك القصيدة ـ وهو بيت القصيد كما يقولو ن ـ في وصف خصوبة أرض الغور :

و أشبعته أيدي الورى عملاً

على فلسطين فاضت المِيَرُ

ولكن هيهات!!

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1543 الثلاثاء 12/10/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم