قضايا وآراء

قطط "محي الدين زنكنه" المميتة / حسين سرمك حسن

ثقيلة على النفس، مميتة.. حتى أنها لا تتيح لك أي فرصة للإنفعال المبهج ولا الضاحك. شخوص المسرحية الأساسيون قليلون: شفيق وخالته شفيقة والجدّ المريض الغائب عن الوعي والمعلم. ولكن هناك شخصيات إضافية مساعدة (الموظفان الصحيان والمفتش)، وهناك كومبارس يجب أن يكون بالعشرات لضرورات سنراها لاحقا. تجري وقائع المسرحية في بيت وأغلب مسرحيات زنكنه لا تميل إلى البذخ والتعقيد في المكان متطابقة مع مضموناتها الإنسانية البسيطة والمباشرة ذات المضامين العميقة: (صالة داخلية في بيت من البيوت الشرقية المألوفة. يواجه الجمهور بابان أحدهما لغرفة نوم، والآخر بضلفتين يفضي إلى الخارج. الاثاث متواضع.. سكون عام .. بعد ثوان يخرج شفيق). وشفيق يتناقض مظهره الضخم وعمره مع أفعاله الطفولية الساذجة وعناده المدمّر. هو مرتبك السلوك ومضطرب النفس لأنه سيواجه معلمه قريبا، وعليه أن ينهي واجبه بدقة كبيرة. ما المطلوب من هذا الطالب أن يحفظ؟ إنها لازمة طفولية ساذجة يكررها عشرات المرات بطريقة مقيتة: (بحثت القطة عن اللحم.. لم تعثر القطة على اللحم.. هجمت القطة على الفأر.. أويلاخ على الفأر.. أويلاخ على الفأر). وهو يردد هذه القطعة السخيفة بانفعال غريب.. مع اللطم على الخدّ.. وضرب على الصدر كثاكل في مناحة!! وحين يواجه الجمهور هذا المشهد الافتتاحي فمن المؤكد أنه سوف يضحك، ويضحك كثيرا، لكن هذا تمهيد كي يبكي، ويبكي كثيرا جدا.. أمن هذا الحديث تضحكون؟. هذا هو امتحان شفيق أيها السادة.. وفي استعداده يدمّر كل شيء. يبحث عن أي كبش فداء يحمله مسؤولية اضطرابه وتخلفه الدراسي. لم يسلم منه حتى جهاز الهاتف لأنه يشتت ذاكرته برنينه. لكن كبشي الفداء الأهم هما من البشر المحيطين به، وهما الوحيدين: خالته شفيقة أولا التي يعدها قطعة من الحجر منزوعة العواطف .. شخصية معادية لا عهد لها ولا أمان تريد قتله عن طريق الجوع.. تدوس أوامر أستاذه لأنها لم تغلق النافذة ولم تقسم البيت (المسرح) بستارة .. في الوقت الذي كانت قد هيأت له كل شيء من عصير وعصافير نصف مسلوقة.. حتى أنها تمشي على رؤوس أصابعها لتأمين الهدوء له.. وغيرها. مع تصاعد المواجهة بين شفيق وخالته تبدأ علامات تصدّع الأول العقلية في الظهور.. فها هو يحطم المنضدة الوحيدة في البيت ويقلع مساميرها بأسنانه حدّ سيلان الدم على شفتيه ليغلق بلوح المنضدة النافذة الوحيدة لتلف العتمة صالة المنزل. يبرر ذلك بالقول: (لا عين فضولي ولا أنفاس متطفل ولا حتى شعاع.. الجو المثالي للدرس والمذاكرة وتحقيق أفضل النتائج في الإمتحان). أما الضحية الثانية في "كفاحه" الدراسي فهو: الجد. وحول وجود الجد يتمحور المعنى الرمزي لدلالات المسرحية. فالجد هو رجل بمعنى الكلمة، من أعظم بنائي البلد وأمهرهم، أفنى عمره في بناء البيوت للناس، ولكنه يعيش الآن مفارقة مؤلمة كبرى، فهذا البنّاء القدير لا يجد له مكانا في بيته الذي بناه بنفسه. لقد احتل غرفته هذا المهووس العنيد شفيق/ حفيده، وها هو الجد يعود بعد ثلاثة اشهر أمضاها في المستشفى، ليجد ملاذه في سرير تحت السلم. لم يتخل شفيق عن الغرفة.. وفوق ذلك واصل الدعاء من الله أن يأخذ روح الجد، وأنه لن يسمح بإقامة مأتم له في البيت عند وفاته. فهو لا يريد لأي شيء ان يقلق مذاكرته واستعداده للإمتحان الفاصل. إننا نقف أمام صراع أجيال كاريكاتوري، فولد معصوب مهووس منتفخ متنفج يتحكم بـ "البيت"، البيت الذي بناه الجد أفضل البنّائين في البلاد، والذي لا يجد له مكانا الآن!! لكن هذا "الجيل" جاء نتاج سلسلة من العوامل غير الصحية أسهمت في بنائه الشخصي المضطرب.. لم يعرف حنان الأمومة وعطفها فقد ماتت أمه وهو صغير.. ولم يعش في كنف البديل المتوقع الآمن: الأب، فقد سافر الأب إلى الخارج وتركه تحت رعاية جده، وتسلمه معلمون سنتعرف على طبيعتهم بعد قليل. لقد تخربت ركائز شخصيته واختزن قدرا هائلا وطافحا من العدوان؛ العدوان على كل شيء.. على الأم .. على الأب.. على الخالة.. وعلى الجدّ الآن .. أصبح "هذائيا" يعتقد أن الجميع يكرهونه ويحاولون تدمير مسيرته في الخلق والإبداع.. لكن ماذا يبدع؟ إنه "يطوّر" المقطوعة/ اللازمة بصورة مضحكة: (بحثت القطة عن اللحم ------ بحث القط عن اللحمة

هجمت القطة على الفأر ----- هجم القط على الفأرة

وهو يعتقد أن هذه إضافات مذهلة من عنده ووحده.. (لقد حولت القطة إلى قط .. والفأر إلى فأرة.. ما رأيك يا خالة.. هه.. ما رأيك بهذا الإبداع العظيم؟). ولنتذكر أن سنة كتابة هذه المسرحية كانت تشهد أعتى مراحل تدهور المسرح العراقي وهو من أعرق وأرقى المسارح العربية... بل أن الثقافة بأكملها كانت تتعرض لعملية مسخ شديدة الأذى.. ثقافة جعلتنا نتذكر النكتة الروسية التي يسأل فيها المعلم تلميذه ما هو ناتج : 2+ 2؟ فيجيبه التلميذ ببراءة : أنا أعرف النتيجة لكن يجب أن أسأل مسؤولي أولا. وشفيق الذي قام بهذا "الإبداع العظيم" يخشى أن لا يرضى عليه معلمه لأنه لم يأخذ أذنا منه!! فيتراجع ويعتقد أن قوة شيطانية أقحمت هذا "التطوير" في ذهنه.. قد يكون سعال الجد المستمر؟ فيفتح فم الجد المنهك ويشربه قنينة الدواء المنوّم قسرا، وكأنها محاولة لقتل الجد والخلاص منه إلى الابد. في ختام الفصل يقول الكاتب: (يعود شفيق الى الغرفة تاركا الجد يتلوى بعض الوقت ويتعذب ثم يخمد عدا صدره الذي يعلو ويهبط.. بينما يعلو صوت شفيق ويغدو عويلا مفتتا مصحوبا باللطم والضرب مثيرا المزيد من الضجر والملل بحكم الرتابة وانعدام التنوع والتلوين حتى يفقد الجمهور حياديته إزاءه، ويغادر الصالة مع هبوط الظلام على المسرح). ولكن الكاتب لم يهىء المسرح في البداية بالإشارة إلى أن الجمهور ضمن الأدوات البشرية في المسرحية، جمهور مسرح رمزي يقوم بحركة مغادرة مللا من شفيق وأنشودته. قد يكون ذلك بسبب حماسة الكاتب لموضوعته؟!. في الفصل الثاني تعود شفيقة لتنقذ الجد في اللحظات الأخيرة بأن تجري له "حقنة" تنظف أمعاءه!! لتجهض محاولة قتله من قبل الحفيد المهووس، فيستعيد الجد شيئا من عافيته وتومض عيناه بالحياة. الآن يدخل المعلم البيت بزي كاريكاتوري يثير السخرية: يرتدي (بجامة) مقلمة، وعلى رأسه قلنسوة من القماش نفسه ويخفي عينيه بنظارة سوداء. يلتقي أولا بشفيقة فيشكك فيها، ويتهمها بالكذب ويقيم اتهامه على فرضيات عتيقة تذكرنا بخزعبلات المنهج الأرسطي الصوري. فرضيات عن الزائد الذي يساوي الناقص لكنه يعجز عن الإجابة عن سؤال شفيقة: هل يمكن أن يصبح الناقص في معنى من معاني العلم الحديث أو القديم زائدا؟.. يعترف أمامها بالعجز وأنه سيحيل هذا السؤال إلى السيد المفتش الذي سيأتي قريبا . من هو المفتش؟ إنه المعلم السابق لشفيق (الرجل القميء الذي كان تلميذا معك وصار معلما لك) كما تقول شفيقة التي تستسهل اللعب على القياسات المنطقية التي يتمشدق بها المعلم فتجاريه ساخرة: (مادمت قد قلت ذلك فلابد أن يكون ذلك كذلك أما لماذا لابد أن يكون ذلك كذلك فلأنه لا يمكن أن يكون ذلك كذلك وأن يكون ذلك، في الوقت نفسه، غير ذلك .. إلخ). وبفعل الإنحطاط المعرفي الشامل، وانمساخ أدوار الجهات المرجعية في المجتمع، الجهات التي تتحكم في نموه العقلي ممثلة بالمعلم، فإنه يقر ما قالته شفيقة ويعده فتحا فكريا. الآن تحصل المقابلة بين التلميذ شفيق ومعلمه، فتتجسد علاقة ممسوخة ومشوهة ومنحرفة لا صلة لها بأي معيار تربوي. فالتلميذ الذي يلثم يد معلمه ويظهر له فروض طاعة مفرطة يسجل لمعلمه على شريط يحمله ما يطيح به وينهي مستقبله، فيقوم المعلم بالمقابل بتثبيت ورطة مضادة تنهي مستقبل التلميذ. ولا حل إلا في أن يتساوما ويتصافقا رغم أن كل منهما يكرر على مسامع الآخر مبدأ أن المبادىء فوق المساومات!!. لا رحمة مادام ضمير التلميذ قد تمت صياغته على أسس مشوّهة: المعلم: معاليه (يقصد المفتش) لا يعرف شيئا. نعطيه شيئا آخر. معي مجموعة من الأشرطة وكلها في صالحي. شفيق: لا .. سيدي .. لا .. لن أخون ضميري.. المعلم: ضميرك؟ شفيق: ضميري الذي صاغته تلك الجهود الكبيرة التي بذلها سادتي المعلمون الذين تناوبوا على تربيتي وتعليمي .. طيلة السنوات السابقة. المعلم: ولكن ما تمارسه شىء فظ.. فعل قاس.. عمل متوحش.. شفيق: (يغمض عينيه ويردد بشكل آلي) في ممارستنا لأفعالنا التي نراها صحيحة، ينبغي أن لا نحفل بالصفات التي تتصف بها، ولا بمدى الضرر الذي تلحقه بالآخرين. ذلك هو القانون الذي زرعه في أعماقي كل من تولى تدريسي). ومن الواضح أن هذا النقاش يبدو عاليا تماما على مستوى شفيق الصبياني الساذج كما عرضه الكاتب في الفصل الأول وبداية الفصل الثاني. وقد يكون السبب، من جديد، حماسة المؤلف لموضوعته الجوهرية التي يريد توصيلها على لسان "بطله" حيث يقع المعلم في شرّ تعليمه الميكافيللي. فالتلميذ لا يقوم بأكثر من تطبيق المبادىء التي علمه إياها معلمه. وكلاهما: التلميذ ومعلمه مرعوبان من المفتش. فكيف هو حال المفتش؟ يدخل المفتش الآن لتكتمل المأساة/ الملهاة: (المفتش رجل قميء، مبتور الذراعين والساقين، فوق عربة معوقين يدفعها بعضهم). أما التلاميذ الذين يقتحمون البيت بأعداد هائلة ذكورا وإناثا فهم يرتدون سراويل قصيرة مخططة، وقمصانا وقلنسوات من نفس القماش). الآن تكتمل الدائرة الخرابية المغلقة. لقد فسدت العملية التعليمية المقدسة.. ففسد العقل.. وبفساد العقل لن يكون أمامنا من نتيجة سوى الموت والخراب. لم يعد في البيت متسع لتنفس طبيعي. وعلى صاحب العقل- وهذا هو الدرس الأساس من المسرحية- أن يفر بعقله من هذا "البيت" المسموم وهذا ما تقوم به شفيقة الآن بعد أن شعرت بأن لا خلاص إلا بالفرار بباني البيت من بيته بعد أن احتلته هذه الجموع التي مازالت تتدفق على البيت وتملأ حتى المطبخ .. يتساقط بعضهم على بعض. تهرب شفيقة دافعة سرير الجد إلى الخارج بصعوبة وتقفل الباب. ولأن العقل حين يفسد وينكص ويصبح طفليا لن يستطيع الإحتفاظ بقدرته على الأحكام الصحيحة فإنه سيصحو على حافة "بعد فوات الأوان" أو وسطها دائما، فإن المفتش يبدأ بالإختناق أولا ويموت. ويتهم المعلم شفيق بأنه تواطأ مع خالته وجده في تهيئة هذا القبر الجماعي له وللتلاميذ فيشبعونه ضربا. وفي مملكة يخرب فيها العقل يكون الضياع والخراب مصير من يضيعونه ويفسدونه ولن تفيد المعلم المُحتضر دعواته لكسر الباب أو هدم الحيطان، فقد ربّى تلاميذه على اللاعقل، ونكص بقدراتهم الذهنية إلى مرحلة مبكرة شديدة السذاجة معبّر عنها بالدرس الببغائي الاساسي: (بحثت القطة عن اللحم.. أويلاخ على الفأر) وبهذا النكوص تطفح غريزة البقاء الحيوانية وتتسيّد المصائر الفردية. هل يريد محي الدين زنكنه- وهذا ما هو مؤكد من خلال متابعة رسالته متمظهرة في أعماله- القول إن المسؤول عن مجتمع حين يحكمه من خلال الاستخفاف بعقول أفراده وتسطيحها سيصل حدا أن هؤلاء الأفراد أنفسهم لن يعرفوا كيف ينقذونه أو ينقذوا أنفسهم في الأزمات المصيرية خصوصا بعد أن "يفرّ" آخر العقلاء من "البيت": (يتدافعون نحو الباب. كل يبغي إنقاذ نفسه، فيتكومون على الباب، بعضهم يسحق بعضا، بعضهم يتساقط على البعض، يلهثون متقطعي الأنفاس، تغدو أصواتهم مثل مواء القطط.. توشك أن تموت.. أصوات متفرقة من هنا .. وهناك .. لا تزال تردّد بوهن وخور شديدين .. وبشكل متقطع: بحثت .. القطة .. عن .. اللحم ..أ.. و.. يلا.. خ .. على.. الـ .. فأ .. ر .. يظلم المسرح .. والمواء يستمر.. لفترة.. ثم يخمد..). تحية للراحل الكبير المبدع (محي الدين زه نكه نه)..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1545 الخميس 14/10/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم