قضايا وآراء

نعم للتماسك العائلي ولكن! (2) / غالب الشابندر

يحوطونه بالعناية والرعاية، ويعصر الألم قلوب الجميع  فيما هاجر أحد الأبناء، ويشعرون بالخوف والرهبة إذا هاجس الوالد الكبير خاطر لا يسر ...

لكن هذه  العائلة المتماسكة لا تحرك ساكنا لو أن الجار قد باغته حريق شب في قلب داره، ولم تشغل باحات سمرها حاجة مسكين يئن من الجوع اللعين، وهو على مقربة من ترفهم ولهوهم وتجارتهم ...

إن كل تماسك يحتاج إلى محور يدور حوله، ومنه يستمد قوته وشدته وحيويته ونشاطه ونظافته وسره وبهائه وروعته، ولست أدري أي تماسك هذا الذي يستمد كل مقوماته وخصوصياته وماهيته من محور مشدود إلى ذاته، يدور حول مركز ثقله لا غير؟ أي تماسك هذا الذي  تشبعّت روحه بزخم الأنا القاتل، لا يرى في العالم غير ظله الثقيل؟ أي  تماسك هذا الذي  يغلق النوافذ على الروح، ويسد الأبواب على طموحات الضمير، ويستدعي  قضبان متشابكة تحبس صوت الإنسانية في غياهب ظلامها الدامس؟ تماسك يبدأ من  الأنا، ويمر بالأنا، وينتهي بالأنا،  كثيف الصورة ضيق الإطار، بليد، صامت، أخرس، لا ينطق بغير رقم واحد .

نعم، قد يبدأون صباحهم بصلاة الفجر في مسجد قريب أو بعيد، وينهون مسائهم بصلاة العشاء في مسجد كبير أ و صغير، ولكنهم صامتون، يدورون حول محور واحد، لا يتكرر، ولا يتبدل، ذلك  هو الأنا، الأنا العائلي، يتهادون بينهم، لا تخرج نطفهم خارج أرحامهم، حريصون على توارث الاسم الأعلى، يحومون حول ذواتهم، يخافون أن يخرج صوتهم خارج محراب الذات المتقوقعة على نواتها الأولى .

كنت في الحلقة الأولى سميت هذا التماسك بـ ( التماسك العصبوي)، ولكني  لا أراه تماسكا، حتى بالوصف المذكور، هو تصالح، تماهي مادي، تجاذب أنووي إذا صح التعبير، تماسك مادي، ليس للروح فيه أثر، ليس للوجدان الحي مكان في مثل هذا التصاف، في مثل  هذا التوافق الصلد .   تماسك  أعمى، لا يقوم على نبض قلب، ولا على  خفقة ضمير، تماسك غبي معقد، صارم، صوته من داخله وصداه من داخله، يكره الفضاء الخارجي، لا يستضيف غير نفسه، ولا يدعو غير وجوده !

هذا موت وليس تماسكا، خمول روحي، وبلادة وجدانية، عزلة كونية، وحشة مسكونة بحب ذاتها حتى اللعنة .

عائلة هناك ... عائلة قد تلون طيفها الداخلي، هذا ماركسي مغرم بمقولات فائض القيمة، وذاك مسلم متعبد ربه جل وعلا، غارق بحب رسول الله، وذاك ديمقراطي هائم في سحر الحرية العظيم، لون ولون،  شكل وشكل، طرز وطرز، مضمون ومضمون،   لكن يسبقون   غيرهم لإغاثة ملهوف، يتحاورون في وقت سحرهم بمشاكل الناس، يقترحون، يصوبون، يتحققون، تجمعهم موائد الحوار عن فقراء المدينة، عن أيتام المدينة، عن الجرائم التي  عمت المدينة، هناك قلوبهم، هناك عواطفهم ... يتنادون إذا شبت نار غادرة في حانوت هذا الفقير المعدم، يناضلون من أجل الإنسان، من أجل الحياة الحرة الكريمة للجميع ...

حقا أنها عائلة متماسكة، محور التماسك هو الحرية، هو الكرامة،  هو الإنسانية، هو الحب، هو الوجدان الشفاف العظيم ...

أن مفهوم التماسك العائلي في المجتمع الشرقي لا يخرج عن دائرة الأنانية المقيتة، لا يخرج عن حالة الانحياز للأخ حتى وإن كان ظالما،للأب حتى أذا كان قاسيا ، للأم حتى إذا كانت شريرة مؤذية ساحرة ...

هي أمي وكفى ...

هو أخي وكفى ...

هو أخي وكفى ...

هي أختي وكفى ...

إنه تماسك حدود، وليس تماسك جوهر، تماسك بالمعنى اللغوي الذي نقرأه في تاج العروس ولسان العرب ومحيط المحيط، وليس تماسك الفكر  الذي نقرأه في كتاب لله، وليس تماسك الروح الذي نقرأه في سيرة الأنبياء،وليس  تماسك الخلق الرفيع الذي سطره الشرفاء من بني البشر .

لقد عد رسول الله سلمان من أهل البيت عليهم السلام، وأخبر الله نوح عليه السلام أن أبنه ليس من أهله، ونزلت سورة كاملة تلعن أبا لهب وهو عم الرسول الكريم ...

ماذا يعني كل هذا؟

أن التماسك العائلي يجب أن يستمد هويته من محور روحي، من محور وجداني كريم، يمتد إلى القيم العليا، إلى المثل التي بشر بها الأنبياء عليهم السلام ..

يقول تعالى (لا يجرمنكم شنآن قوم أن لا تعدلوا أعدلوا ذلك أقرب للتقوى).

أن التماسك العائلي الذي نعيشه وندافع عنه، ونفتخر به، ونعلم عليه، ونسمع به من أبائنا وأمهاتنا، هو صورة لذلك التماسك العائلي الذي كان سائدا في الزمن الجاهلي، زمن المقولة الخطيرة (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما)، في حين أن التماسك العائلي يجب أن يقوم  على مبدأ روحي، أي يتشكل من خلال المبادئ والقيم والأفكار والتصورات الطيبة الناضجة التي تصب في صالح البشر .

نعم !

هي عائلة متماسكة لأنها تماسكت على مبدأ، تماسكت على فكرة طيبة، تماسكت على مشروع إنساني، تماسكت على عمل خير، تماسكت على إرادة خيرة، تماسكت على هدف لصالح الآخر .

هي عائلة متماسكة لأن أبنائها يحملون ذلك الطيب الشريف، أصحاب موقف من كل شي، موقف إيجابي بناء، ورحم الله الفيلسوف الكبير جان بول سارتر لما يقول (الإنسان موقف) .

أي تماسك هذا الذي يبدأ برقم وينتهي برقم؟

و هل مثل هذا التماسك يستمر عندما تعسر الأيام، وتضطرب الأحوال، وتنقلب المقاييس، وتتشتت الإرادات؟

التماسك العائلي النابع من فلسفة الخير، من  فلسفة الموقف الخلاق، من  فلسفة العمل من أجل الآخر، هذا التماسك هو الذي يصمد، هو الذي  يخلق  فرص استمراره رغم عناء الدهر، ورغم صلافة الزمن، وغباء الناس، وشره البشر ...

كان علي يحتضر !

نعم ...

كان يحتضر  فيوصي أبنائه باليتامى، بالمساكين، بالفقراء ... فيما يحتضر غيره فيوصي أبناءه بتوزيع الإرث بالتساوي !

أين هي العائلة المتماسكة حقا؟

 

غالب حسن الشابندر

 

للاطلاع:

نعم للتماسك العائلي ... ولكن ! (1) / غالب الشابندر

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1546 الجمعة 15/10/2010)

 

في المثقف اليوم