قضايا وآراء

بين صقر عليشي.. و.. نزار قباني / حسين سرمك حسن

 رغم أنني لا أنكر تمثلي للكثير من التجارب الشعرية .. ولا أنكر حبي لنزار ..) ..... (صقر عليشي)

 

طرح بعض النقاد فكرة أن الشاعر السوري "صقر عليشي" هو من تلاميذ مدرسة الراحل الكبير (نزار قباني)، أو أنه متأثر به بدرجة كبيرة. ولا أتفق مع أصحاب هذا الرأي أبدا، فأسلوب ورؤيا ورؤية صقر تختلف كثيرا عن أسلوب ورؤية قباني ورؤياه في الشعر. ولعل ما أوهم هؤلاء النقاد وأوقعهم في مصيدة هذا الحكم الإنطباعي هو أن صقر يعالج في قصائده موضوعة المرأة والجسد الأنثوي بصورة رئيسية. وهو أمر واقع، لكن الجهد التحليلي العميق سيرينا اختلافات واسعة وجذرية. بطبيعة الحال لابد في البداية من أن أقرّر حقيقة تشكلت لدي وهي أن الراحل الكبير (نزار قباني) لم يُدرس بصورة شافية وحفرية من ناحية شديدة الحساسية، وتتمثل في أن هذا الشاعر كان من مقومات عصر النهضة العربية المغدورة. فثقافة الحداثة التي قامت في أوربا ارتكزت على قوائم محدّدة منها تمجيد سطوة العقل وفصل الدين عن الدولة وحرية الفكر... وحرية الجسد. ومن المفروغ منه أن لا ندعو إلى حرية جسدية في الوطن العربي تطابق نظيرتها في العالم الغربي، لكن من القطعي أن لا نهضة ولا حداثة من دون أن تكون للإنسان حريته في التصرّف بجسده. ولا يطول القمع الجسدي في الوطن العربي خصوصا والمجتمعات الشرقية عموما الجسد الأنثوي حسب بل الجسد الذكوري أيضا. لكن قمع الأخير ينزاح إلى الأول فيصبح قمع الجسد الأنثوي وقهره مضاعفا، بل خلاصة للقهر الإجتماعي العام حتى من نواحيه الفكرية والنفسية. وضمن هذا الإطار تأتي واحدة من أعظم معطيات المنجز القباني في الثقافة العربية. فمنذ الأربعينات- حيث التسلط الإجتماعي القامع، وحيث البنية الإقطاعية والعشائرية الخانقة- كان صوت نزار يصدح بلا هوادة داعيا إلى حرية الجسد الأنثوي وكرامته في الوقت نفسه. ولأن المجال هنا غير مخصص للسير بعيدا مع هذه الأطروحة، فإنني سأتركها لباحثين آخرين، وسأعود للقول أن وجود عدد كبير من الشعراء – وأعتقد أن موقف قباني كان المؤثر الأساسي في السرد الروائي المتمحور حول معضلة الجسد الأنثوي- يتأثرون بمشروع قباني هو علامة صحة ثقافية واجتماعية رغم أنها غير محببة شعريا، غذ يجب أن يكون لكل شاعر بصمته. لكن مشروع صقر عليشي يختلف كثيرا عن مشروع قباني الرائد. ولعل أفضل السبل لإثبات هذه الفرضية هو أن نأخذ أنموذجا تطبيقيا. وقد وجدت- وأعتقد أن صقرا بقصد واع أو بقصدية لاواعية قد صمم ذلك- نصا مبني بذاته لحل هذا الإشكال. وهذا النص هو قصيدة (في منتهى الياسمين)- الأعمال الكاملة ص 297- التي أهداها صقر إلى نزار قباني. ومنذ العنوان اختار صقر رمزا وموضوعة قبانية طالما تغنى بها نزار وكانت مقوما رئيسا من مقومات بنية قصيدته وهي الياسمين.  ولكن النصوص التي عالج فيها صقر موضوعة الياسمين كثيرة ايضا، والياسمين مطروح على طرقات دمشق العذراء –مستعيرين مقولة الجاحظ الشهيرة- وعليه سيكون الاختلاف في فرادة المعالجة، في الحفر والتوظيف لمعاني هذه النبتة. تلوح أول إيحاءات الفارق في العنوان، فصقر يعمل دائما على الوصول إلى أقصى ذرى الجمال، ولكن بهدوء ماكر. عناوين صقر هادئة مثل عناوين قباني لكن الجانب الحسي مستتر فيها. صقر يغوص للإمساك بروح الجمال في حين يحفر قباني في "مادته" /مادة الجمال. تتكون قصيدة (في منتهى الياسمين) من اثني عشر مقطعا، وتقوم بنيتها على التعاقب المقطعي: مقطع من شعر التفعيلة يعقبه مقطع من الشعر العمودي لثمانية مقاطع، أما المقاطع الأربعة الباقية فهي من شعر التفعيلة فقط. وأرى- وقد أكون مغاليا- أن صقر قد تعمد نسج القصيدة بهذه الطريقة ليؤكد تفرّده وبصمته في مقاطع التفعيلة (هذا أنا)، وليعلن في مقاطع العمود أنه يستطيع الكتابة مثل نزار (هذا أنت). وهذا- من وجهة نظري- حق شعري مشروع ولا يخدش قامة قباني الشعرية الهائلة:

(أمير من الياسمين المُضاء

يسير على الأرض حينا

وحينا

يسير على طرقات السماء

أمير كما المستقيم

دارت عليه الدوائر، لكنه

لم يكن عنده الوقت للإنحناء ..)

الصورة الصقرية دائما تستعير ما هو يومي ومتداول ليخلق علاقات تشبيهية مجازية غير مالوفة، فـ "دارت عليه الدوائر" تعبير يومي شائع يعبر عن اكتظاظ المحن على هامة الإنسان، نقله صقر- وفق بناء علاقاتي وإطار إدراكي شعري جديد- ليجعل الدوائر لا تدور على هامة وجود الإنسان، بل- وفق علاقة هندسية مباشرة لكن مجازية- على "مستقيم" كرامته، لتذله وتسحقه، لكنه يرفض التطويع والإنحناء، فهو يختزن قوة نوع غير مالوف من الياسمين "المُضاء" الذي ينطلق "مستقيما" مرة على الأرض ومرة على طرقات السماء. مثل هذه البنية من العلاقات نادرة في شعر نزار. يأتي الأنموذج التطبيقي القريب في المقطع العمودي الثاني:

(يا شاعرا من لازورد حروفه

رقصت بهاء وحشة الصفحات

تتراكض الصور الجميلة عنده

كتراكض الصبيان في الحارات)

هنا تبدو البصمة النزارية واضحة وقريبة ومباشرة لكن آسرة. قوتها في بساطتها.. هنا لا تشتبك رمزيات وتعابير حالتين مجردتين للوصول إلى صورة محسوسة باهرة، بل تتقابل رمزيات وتعابير حالتين: مجردة ومحسوسة، علاقة المشبه والمشبه به، لدى صقر تكن الأهمية للخلفية أو الحضن الأرضي الذي يحتوي الصور المجردة، لكن بالنسبة لنزار فإن الأهمية المركزية تكمن في العلاقات.. في حرف (الكاف) مثلا.. وهنا تكون الأهمية للعلاقات، في حين تكون ، هناك، للمفردات، للأشياء، للعادي، المبتذل بعد رفع قشرة البلادة والإعتياد لتشع روحه من اللب:

(إذا راح منطلقا بالنشيد

تدهدى الحصى تحته ذهبا

وماج الثرى حين مرّ

ظلالا وماء

وتمثل بين يديه الطيور

وحين يريد

يمثل بين يديه الفضاء

رسائله استلمتها النجوم

وحطت قصائده من زمان

فوق سطح القمر

وأطلع من غامض الشىء نورا

وشع لديه الحجر

على مهرة الريح عاش الحياة

كما هي عادة كلّ الغجر ..)

ولكن تبدو طريقة صقر تحرشية حتى بنزار وهو أنموذجه.. وهذه الروح بإفراطها الصحي تختلف جذريا عما لدى قباني.. وصقر الآن يمرّر نزعته هذه تحت غطاء قباني ذاته الذي ندر أن نفش حفزة مسمومة لائبة بصورة شعرية مباشرة أو حتى غيحائية:

(خلعت بواديه القصائد نعلها

ومشت عليه جدّ منكسرات

وتلقف العشاق كلّ منزل

من عنده كتلقف الآيات

فإذا سجى ليل عليهم، رتلوا

ما قد تيسّر "سورة الحلمات" ..)

لكن صقرا في المقطع الخامس يتلاعب بنا أنفسنا، فيمرر تحت جلده نزعات قباني المألوفة والحيية، وكأنه يحاول تأكيد القدرة الخالقة التي تستطيع "تشكيل" كل شىء.. وعن أي طريق:

(فهذا نِزار، انتبه يا نشيد

إذا لم تكن عاليا مثل نسر الجبال

إذا لم ترح في سبيل النقاء

شهيد

إذا لم تيكن في حروفك متسع للسماوات بعدُ

إذا لم تضع فوق جيد الهنيهة

عقدا فريد ..)

وإذا أردت إقامة مقارنة موضوعية، رغم أن لا مقارنات في الشعر، ولا موضوعية، ورغم كرهي لها، فأقول إن المقطع التاسع كتبه صقر بروحه لنزار، مستكشفا أسرار صنعته الباذخة، اصول الصنعة، الكيفية، أو الرؤية، الرؤية هي الأساس لدى نزار، ولكن التحام الرؤيا بالرؤية هو الثقل المركزي في مشروع صقر، ولذا جاء هذا المقطع بفكر نزار ولكن بتقنية صقر التي وكأنه يتمناها لنزار، ولكن الأمنية حققها لنفسه، ولمنجزه الشعري، محافظا على تقييمه الهائل لقباني الذي قال لي عنه: لم يكن من الممكن أن أكون شيئا شعريا من دون نزار قباني:

(يعرف من شكلها الكلمات

التي عندها قدرة كي تطير

يعرف عمق النعومة والضوء

من أبسط اللمسات

في ضمير الحرير

يعرف كيف يمتع عينيه بالبحر

يعرف كيف يشم العبير

يعرف كيف يصب الحمم

ويعرف كيف يكون رقيقا.. رقيقا

إذا ما لزم ..)

لكن كيف يأتي التعبير الصافي عن روح صقر الشعرية- وهذا حقه المشروع المؤصل- بعد هذه المداورة المغوية والشديدة الإحكام في تلغيز القصد التعبيري الذي تدفعني طبيعته الشائكة إلى التشكيك في مشروعي التحليلي ذاته؟ إنه يأتي في المقطع الحادي عشر، رائقا، مكثفا، مركزا، قصيرا، وبتعبير مباشر "صقريا". حين تتأمل المقطع الحادي عشر فستجد أن صقر زاوج فيه بذكاء بين "روح" فن التفعيلة و"روح" فن العمود أولا، ولخص فيه رؤياه الملتحمة برؤيته- وهذه سمته الأسلوبية كما قلنا من قبل وفي أكثر من موضع- بشكلها اللغوي البسيط ثانيا. وفي هذه المزاوجة درس خطير، ففيها رسالة سريعة تكشف الكيفية التي من المفترض أن يتعامل بها الشعراء مع الإرث القباني، وهو يختلف عن الإرث الصقري إذا تكرر الموقف في المستقبل القريب بإذن الله، قباني سيترك لهم كنزه- النهود- بتعبيرها العضوي الحسي المهيب، ويمكنهم أن يلثموه ويرضعوه ويجنوا بقامة حلمته، الإشباع المباشر الذي عمل عليه نزار طويلا، وصب من خلاله الحمم، والاستعجال الحسي/الجنسي- وأكرر ليس التناسلي- ديدن نزار، في هذه الحالة قد يطبعون بصمة على جسد الشعر، لكنهم لن يطبعوا بصمة على روحه، في حين نجد صقر عليشي يعمد إلى طريق مضنية ومرهقة شعريا وإشباعيا رغم بساطتها الظاهرة، فهو يعيد "تربية" التركة النهدية بإعادتها إلى مرحلة الحضانة، كل يوم، فلا يبدأ من حيث انتهى قباني مثل بقية الشعراء المتأثرين به سلبيا، بل من حيق بدأ، من نقطة صفره النهدية، من سويداء تفاحته:

(تركتَ النهود لدينا

طفولتها في يدينا امانة

لا تخف نحن أهل لها

سنفتح من أجلها كل يوم

حضانة ..)-ص 306-.

وتتجلى العبقرية الصقرية في نسج وتصوير المقطع الأخير- الثاني عشر- ، حيث يقفه على رثاء الفقيد المبدع الكبير العزيز, شاعر الياسمين الذي راح بعيدا.. بعيدا في "منتهاه".. وحيث تحكم فروض الرثاء المؤسسة اجتماعيا ودينيا تقديم رثاء "شعري" صاف... رثاء لوجه الياسمين:

(بما عندها غوطة الشام

من مشمش ناضج، وشفافية

في العنب

بما عندها الشمسُ، وقت الغروب

من كلام الذهب

بما فيه من فضة بردى

حينما من روابي دمشق انسكب

بما عندنا أجمعين

ننحني

ونحييك

في منتهى الإحترام

في منتهى الياسمين ..)

وأنا- بأجمع ما عندي من إيمان بالشعر ومصداقية نقدية، وبلا تردد- أنحني وأحييكما كليكما.. في منتهى الإحترام التحليلي.. وفي منتهى ياسمين التأويل المُضاء..   

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1553 الجمعة 22/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم