قضايا وآراء

ندما يصبح النحّات رائيا .. يتكلم البرونز!! / حسين سرمك حسن

ولرؤيا الفنان (سؤال الجدوى من الإبداع) أهمية كبرى في تشكيل رؤيته (سؤال التقنية، سؤال الأسلوب) ومنحها القيمة التعبيرية المناسبة للتعبير عن الإنهمام الأساسي للمبدع في تجسيد عذابات الإنسان وخساراته . ومن الإشكالات الخطيرة التي أفرزتها الاتجاهات الحداثية وما بعد الحداثية هي إختفاء الإنسان كموضوعة مركزية من ساحة الإبداع في الرسم والنحت خصوصا . لقد أزيح الإنسان تماما وصارت اللوحة لعبة ألوان وضوء وظل ومنظور .. إلخ . أما العمل النحتي فقد صار عبارة عن كتلة وفراغات . ولا أعلم كيف تتحقق رؤيا الفنان - أي فنان - حين يتحدث عن إيمانه بالإنحياز لقضايا الإنسان وهمومه، والإخلاص في التعبير عن إنكساراته وخيباته، وتجسيد مشاعره وانفعالاته، في حين أننا لا نجد إنسانا في التنفيذ !! . إختفى الإنسان تحت ذرائع شتى خلابة الظاهر والسبك الرؤيوي المحكم، وصرنا نزور معارض تشكيلية لا أثر لأي إنسان فيها، معارض يشارك النقاد في تقديم " المبررات " الحداثية وما بعد الحداثية الموسعة والتفصيلية لما وصلنا إليه من متناقضات . لكن "رضا فرحان" من الفنانين المخلصين لرؤياهم في التنفيذ النحتي الخلاق . فكما عبر عن فكره الإبداعي في مهمة ذات ساقين : الوصول إلى رابطة العاطفة بين الإنسان والإنسان، وتحميل الكتل الصلدة الجامدة أحاسيس الحياة وانفعالاتها، عمل بخلاقية عالية على أن يعيد لموضوعة الإنسان مهابتها الرؤيوية، بحيث جاءت منحوتاته البرونزية معبرة عن الإنشغال المركزي الذي استولى على تفكيره والمتمثل في جعل البرونز الجامد يتكلم، يبوح بحرقة ملتهبة بتلك الخيبة الوجودية المتأصلة وبصراعات النفس البشرية العميقة . ويقدم رضا درسا في الكيفية التي يمكن بها استلهام الدروس الثرة في ابتكار الأشكال الفنية من الموروث التراثي . ففي منحوتته البالغة التعبير التي تمثل جسد حصان بمقدمة (جسد كامل) بشرية ذات حركة رشيقة متبخترة هي في الواقع مستوحاة من الحركة السوريالية النحتية العظيمة للثور المجنح برأس إنسان وبخمسة سيقان !! . في هذه المنحوتة يلخص رضا فلسفة التحليل النفسي كاملة، من خلال الإندفاعة العزوم للقسم " الخلفي " الحيواني الغريزي المستتر بالهيئة البشرية المخادعة، والمقهورة التي تحاول أقدامها عبثا التمسك بأرض الواقع المنطقي المتجبر . إننا نقف هنا أمام تجسيد عظيم لفكرة صراع غريزتي الموت - thanatos، والحياة - erose، والذي يعبر عنه وفق أدبيات التحليل النفسي بالصراع بين "الهو" الذي يحكم عالمه مبدأ اللذة - pleasure principale - النصف الحيواني الخلفي المستتر، و"الأنا" الذي تجري مقدراته وفق مبدأ الواقع - reality principale الذي يجد تعبيره الأمثل في ملامح وجه "الرجل الحصان" المستكينة المعززة بإغفاءة العينين . ولو لاحظت حركة الأطراف الأربعة فستجد أن الطابع "المارشي" العسكري - حركة البطة - هو الذي يسم طرفي الحصان - الغريزة الجامحة المتنفجة، في حين أن طابع حركة الطرفين البشريين هو طابع "الباليه " الاستعراضي يحيلنا إلى التعبير الأصلي عن معنى للشخصية - personality التي اشتقت أصلا من مفردة - persona أي "القناع"،قناعنا البشري الخارجي الذي يخاتل ليغطي على المحتوى المضموني الحيواني الغريزي الجامح الذي لا يعترف بمحددات الزمان والمكان ولا باعتبارات القيود الاجتماعية والتابوات الدينية . وتتمثل شدة الصراع في تجسيد عنف المقاومة من خلال العروق الناتئة في القدم اليمنى خصوصا . هذه الحركة العنيفة تتعزز بموقف الذراعين المستسلمتين اللتين جعلهما رضا ملتحمتين تماما بالجسد وغير متميزتين عنه، ومنسابتين بطول غير متوقع وهما مضمومتي القبضتين بإصرار عنيد ومنضبط يشكل "تورية" نحتية ماكرة . وتظهر انتباهة رضا الفذة في توصيف فلسفته / رؤياه بصورة أدق، في أن البنية الحصانية الظاهرة هي بنية مربكة لأنها توحي وبشكل أدق بجسم ثور، والثور معبر بشكل أدق عن النزوع الغريزي القوي، والقوة الجنسية في التراث السومري خصوصا حيث كان الملوك القدماء يضعون خوذة مزينة بقرون ثور على رؤوسهم للتعبير المموّه عن قدرتهم الجنسية الخاصية . ويضاعف خواء تعابير الوجه البشري من قدرية الصراع الداخلي الممزق . ولكي يؤكد الفنان المبدع دقة رؤيته فقد جعل قدمي النصف الحيواني بشريتين أيضا لكي يؤكد التجانس النفسي الذي ضخمته البنية العضلية لفخذي النصف الحيواني . وإذ تقر معطيات التحليل النفسي على أهمية فعل الأنا في "تقنيع" مثالب الجانب السرّاني من الشخصية البشرية فإن رضا يمدّ استطالة غطائية ذات معنى عميق من ظهر "الفارس" المركّب إلى ظهر الجسم الحيواني لكي يتشكل أخيرا في "ذيل" هو في الحقيقة تسطيح لوجه حيواني منعم وشبه غاف كاستطالة موحية بالمعنى النزوي الذي ننكره عادة . ولتعزيز الطابع المحلي للأنموذج النحتي البليغ الإيحاءات يأتي "الترصيع" الطابوقي الذي جسّم النحّات القفص الصدري لرجله الحصاني لكي يعبر عن ضراوة بنيته النفسية، وهي بنية عراقية قديمة عظيمة، تزاوجت مع النقوش الملغزة التي نثرها رضا على الذراعين الصموتين المزمومتين، بصورة تبدو عشوائية في مظهرها ولكنها شديدة الرهافة في التعبير المعنوي الدقيق والشديد الإحكام عن الاحتدامات اللحظية الضاغطة . وقد قلت كثيرا أن لكل مبدع ثيمة مركزية تنسل منها الخيوط التي ينسج بها لوحته برهاوة تعتمد على خزينه المعرفي ورؤياه الحاكمة عن جدوى إبداعه . من هذه المنحوتة "البسيطة" في الشكل تمتد الخيوط المضمونية التي ستكون نوى منحوتات الأسير المنكسر والرجل الحصاني المضاعف، ومركب الحصان والثور المجنح نسبيا، والإنسان المنكسر المحطم ... كلها انبنت من المواد الأولية التي أشاد رضا بها بنية تمثاله الأول .. ثمثاله الذي لخص فلسفته / رؤياه إلى الفن والحياة ..

فتحية لرضا فرحان ..                                 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1555 الاحد 24/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم