قضايا وآراء

من أدب عصر المحنة: شهية الخراب الطازجة / حسين سرمك حسن

 هؤلاء القاتمون ذاهلون مما لا يُطاق). (رنا جعفر ياسين) من "المدهون بما لا نعرف".

 يمكن أن نعد مجموعة "رنا جعفر ياسين" القصصية "شهية طازجة" من الأعمال الأدبية القليلة التي عالجت الخراب الذي يشهده وطننا في عصر محنته الأمريكي هذا الذي تأسس على خراب سابق جعل الولدان شيبا. فلو قمنا بجردة للأعمال الأدبية التي صدرت بعد احتلال بغداد المحروسة من قبل الأمريكان الخنازير الغزاة والتي تعالج الخراب الماحق الذي عصف بالعراق بشتى أشكاله لوجدنا أنها -كعدد- لا تُذكر مقارنة بنوع وحجم ومديات هذا الخراب. وأعتقد أن من أهم العوامل في ذلك على الإطلاق هو ان المبدعين في كل مكان يحاولون تقديم نتاجات تسبق فيها مخيلتهم الواقع القائم الذي يحيون فيه، إلا في العراق حيث اصبح الواقع القائم يسبق مخيلة المبدع ويصيبها بالعجز. اضف إلى ذلك أن المثقف العراقي هو "حيوان سياسي" للأسف، والوصف مستعار من أرسطو، يخضع لتأثيرات السياسة والموقف الأيديولوجي فيحسب البعض منهم أن كشف الخراب القائم سيكون انتصارا لأنصار النظام السابق، وهكذا تضيع فرصة نادرة على المبدعين العراقيين في استثمار لحظة تاريخية لم يجد بها الزمان الكريه على أي شعب تقتيلا وتدميرا وعصفا وتهجيرا. يمكن أن نعد رنا جعفر من بين الاستثناءات القليلة التي سخرت كل ما اصدرته في الشعر والقصة لموضوعة الخراب العراقي، أو "الحرب" كما تسميها وهي تسمية دقيقة حين نتناول هذا الخراب من منظور هذا الشعب المحطم الذي يواجه غيلان الخراب المسلحة في حرب ضروس لا تنتهي منذ فجر خليقته. يتجلى هذا النزوع واضحا في ما أصدرته من مجموعات شعرية (مسامير في الذاكرة- 2007، ومقصلة بلون جدائلي- 2008) وفي كتابها "المدهون بما لا نعرف- 2008" الذي هو نصوص غير مجنّسة تقول في أحدها: (القاتمون/الحاصدون شبع الأفواه/ الطامعون بصحن من بلوط أبيض يأكله من عادوا من المعركة ورقابهم عارية. الرؤوس في الحقائب. أيديهم ملطخة بالوحل، والدماء على البساطيل تنزّ هلعا من رغبة الإغتيال.. هؤلاء القاتمون ذاهلون مما لا يُطاق)، وفي مجموعتها القصصية هذه التي أهدتها إلى ذاتها (إليّ.. وأنا أتقن توديع آخر أحزاني منتصرة لشهوة الحياة). ومن سمات نص المحنة هو كثرة النصوص والكتب التي يهديها مؤلفوها إلى أنفسهم معبرين عن اكتفاء ذاتي متخم بالآلام والإنجراحات، وخيبة من تهشم الأواصر الاجتماعية، وإحباط مدوي من أي أنموذج (فرد أو هدف أو مبدأ) يشعر المبدع بقيمة أن يهدي إليه نتاجه الإبداعي. وفوق ذلك هناك العشرات من النصوص- القصائد خصوصا يخاطب فيها الشاعر نفسه ولهذا بحث آخر. وإهداء رنا ينتصر للحياة .. للأمل والتشبث بالبقاء ونبذ اليأس، وهذا لا يتناقض مع الإقرار بحجم الخراب وأشباح الموت التي تطارد كل شىء والذي اعلنته مثلا في التقديم للقسم الأول من مجموعتها الذي حمل عنوان: (بوصلة للصراخ .. بوصلة للصدى) والذي قالت فيه: (ثمة صراخ ، وثمة صدى، وعلى مقربة منهما تنمو فوهة تبتلع البشر في سكون). وقد ضمت المجموعة التي جاءت في قسمين واحدا وعشرين نصا، سأتوقف عند النص الأول (كابوس اللحم القاتم .. أو مزاج الدم) الذي يحمل - مع قصة "شناشيل لزقاق ما"- أغلب اشتراطات النص القصصي، فوق أن معالجته استثنائية، في حين أن النصوص الباقية يمكن تجنيس أغلبها تحت عنوان النصوص المفتوحة التي لي وجهة نظر فيها منذ أكثر من عقدين تقوم على أساس أن لغة القص يجب أن تكون لغة قص وأن من الضروري إدراك حدود استخدام اللغة الشعرية في القصة ولهذا أيضا وقفة خاصة. تروي رنا حكايتها- وبالمناسبة فالكاتبة هي من ضحايا طوفان الخراب الذي اجتاح وطنها- بضمير الأنا- وهذا واحد من ثلاثة نصوص فقط تُحكى بهذا الضمير في المجموعة- وتستهلها بصورة استدراجية محايدة عن حلم يلاحقها وهي في يقظتها التي تحاول الإنزلاق منها .. من خساراتها الصامتة وعناءاتها اليومية إلى أحضان النوم: (الحلم ذاته، وأنا في حالة صحو قسرية. أطفأت اليوم المحشو بصراخ صامت في محاولة لمزاولة النوم بعيدا عن ضجيج الحسرة من عدم تحقيق شىء يُذكر.. أو لا يذكر- ص11). وفي صراعها مع اليقظة تنظر إلى السقف حيث المصباح المعلق الذي أحاطته بقطعة قماش جلبتها من بغداد لتزين بها السقف وتحيط بالمصباح، في حين أنها ومن دون أن تدري حملت أداة أرقها وصحوها القسري، مسمار يخز خاصرة الذاكرة المحاصرة بالموت (لتثمر بكاء يظل عالقا في الروح). مع قطعة القماش التي علقتها في السقف جاءت بما صار يفسد عليها أي لحظة استرخاء وهناءة، جاءت عالقة بها غيلان الارق المعذب: (كلما حاولت اقتناص لحظة وداع لوازم يومي المتعبة بادرني المعلقون في السقف بحوار يتكرر كل يوم.. أراهم معلقين في السقف.. هياكل عظمية.. جماجم ..أشلاء.. هياكل مازال اللحم المتعفن يغطي بعض مساحتها التي لم يصلها الدود بعد- ص11). ومن سمات نص المحنة هو هذا الكم الهائل من أوصاف ومشاهد الرعب التي كنا نصفها سابقا بـ (الهيتشكوكية) فصار الفن الهيتشكوكي وكل ما تقدمه آلة هوليود من رعب وتفزيع لا يرقى إلى مشهد رعب عراقي واقعي واحد . والراوية (أو الراوي لأن الهوية القاطعة لم تتضح بعد) تعاني كل يوم من الحوار ذاته ومن المشهد ذاته: (إمرأة مزقتها الحرب. فقدت جنينها بعد أن خذلتها الحياة بموت زوجها وابنتها في انفجار ملغوم باللامبررات. مازالت تحمل صورة أشلاء قتلاها: زوج مبعثر، طفلة محترقة، وجنين تعفّن في رحم سوداء- ص12). وفي دمشق أكثر من عشرين طفلا عراقيا شاهدوا آباءهم يُقتلون أمام أعينهم من قبل الميليشيات.. هم مصدومون يعانون من الكآبة والحزن واليأس والتدهور الدراسي .. والأرق والكوابيس مثل بطلتنا. في الثمانينات وفي الولايات المتحدة خطف ثلاثة أشخاص حافلة للأطفال (26 طفلا بين 5و14عاما) لمدة 72 ساعة، هرب هؤلاء الأطفال بعد ذلك وتابع حالتهم الإختصاصيون لسنوات طويلة بعد الحادثة فوجدوهم يعانون من مصاعب نفسية كثيرة، فكيف سيكون حال أطفال العراق وهم يحيون في شعب مختطف منذ عقود؟؟ الآنسة (وقد اتضحت الآن هوية الراوي) جاءت بعيّنة منهم إلى سقف غرفتها: (أفزعني صراخ الأطفال المعلقين في الناحية الثانية من السقف يسار المصباح. إنهم يلعبون بأشلائهم، ويتذكرون لحظة موتهم. يلومون بعضهم : لماذا قبل والدهم مقابل مبلغ عشرة آلاف دينار أن يأخذ أولاده الحقيبة الصغيرة ليضعوها في الجزرة الوسطية لذلك الشارع المدمى؟- ص16). لقد أُقنع الأب بأن ما يقوم به من عمل (راح ضحيته أولاده) هو جهاد.. وكل قيم العراقيين اصبحت ملتبسة بدءا من معنى التحرير والاحتلال ومرورا بالجهاد وانتهاء بالوطنية. لكن هذه المعاني القيمية المنتفخة لا تهم وعي الأطفال الهش، ما يؤرقهم ويؤرق الآنسة التي آوتهم هو سؤال بسيط محدد: لماذا نحن؟. لكن وعي الآنسة الهاربة يستوعب تساؤلات أكثر مضاء وتمزيقا: (أسمع صوت ثلاثة أطفال، وأرى في السقف عظاما تائهة: ثلاث سيقان، أربع أذرع، عمودان فقريان، جمجمة ونصف جمجمة.. كف مفصولة.. وبقايا لحم تعفن بالذكريات التي لا تبرح أن تفارقهم عندما كانوا يلعبون فرب النخلة المائلة ناحية النهر.. بدأوا الآن بالبكاء..أسمع طقطقة مفاصل الأشلاء وهم ينتحبون ويلعبون أيضا- ص17). ومع الأطفال هناك العاشق ذو الرأس المقطوع. وثيمة "الرأس المقطوع" صارت تدريجيا من سمات النص الجديد رغم أن هذه الأرض هي أرض الرؤوس المقطوعة بامتياز (راجع دراستنا في ملحق ألف ياء عن قصة نزهة لمحمد علوان جبر). يحدّث هذا العاشق الآنسة كيف اختطفه وقطع رأسه من يمسح سكينه بفوطة أمه العائدة توا من الحج!!. لم يكتفوا بذلك بل قطعوا أصابعه .. وأخذوا خاتم خطوبته الذي يحمل عطر شفتي حبيبته. وعلى ذكر إصبع البنصر المقطوع وخاتم الخطوبة المسلوب أتذكر من طفولتي كيف وقفت لائذا بعباءة امي وسط حشود جمعها التقدميون آنذاك (عام 1959) لمشاهدة عقيد في الجيش تم سحله بسيارة عسكرية على الأسفلت حتى حصلت فتحة في خاصرته اندلقت منها أمعاؤه.. ثم علق بالحبال وهو يُحتضر في شجرة الصفصاف الهائلة المقابلة لمقر المتصرفية، ثم أنزل وحاولوا عبثا نزع خاتم الخطوبة من بنصره فجاء (...) القصاب مسرعا وقطع إصبع الضابط الميت وأخذ الحلقة الذهبية.. هل هذا العاشق مقطوع الرأس إبن ذاك العقيد المغدور .. أو هو نفسه يطل على رنا جعفر ليحدثها بهدوء مرعب: (أخذوا رأسي أيضا، وأنا صامت أتفرج على هول ضحكهم. كانوا سعداء جدا. أخذوه إلى صندوق السيارة وألقوه فوق رؤوس أخرى: الباكي والضاحك، ومن يموت بصمت. كانت ملطخة بالدماء والوحل والأحلام. رموها في حاوية للأزبال والجثث- ص14). هكذا تكون مساءات العراقيين الفارين إلى "فردوس" المنافي بعد الاحتلال.. سقف مزدحم بالرؤوس المقطوعة والأصابع المبتورة وأشلاء الأطفال الممزقة وصرخاتهم الفاجعة.. كل المغدورين يعلنون عن أنهم لن يخافوا بعد الآن ، فقد وجدو الأمان في غرفة الآنسة!! ها هم يتداعون للنوم .. وتحاول الآنسة الظفر بفرصة النوم مندهشة من الهدوء المفاجىء.. اقتنصت نظرة سريعة بطرف عينها فاكتشفت سرّ صمتهم: إنهم يستقبلون زائرين جدد متفحمين، فيتسع السقف لأشلاء وهياكل وجماجم جديدة: (سمعتهم يقولون للقادمين: أهلا وسهلا بكم في سقف غرفة الآنسة- ص19). هكذا تنقلب المعادلة بعنف وغرابة صادمة، حيث يصبح الموت المقيت في كل مكان من هذه المعمورة دربا محببا للخلاص والأمن في سقف غرفة الآنسة العراقية التي باتت تشعر أن مصباح سقف اللعنة بدأ يقطر دما.. ورغم ذلك فهي تحاول اقتراف النوم (لتودع آخر أحزانها منتصرة لشهوة الحياة).. لكن التضاد الباطن الذي يجهض القرار المتفائل يبدو واضحا حين تصبح نوايا النوم الطبيعية والعادية فعلا "يُقترف" كإثم مدان وفعل عصي المنال. حتى النوم سيصبح عزيزا علينا!!..      

             

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1557 الثلاثاء 26/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم