قضايا وآراء
غبار بلون الدم / زيدان حمود
وهذا ما يؤاخذ على الدار في هذه السلسلة التي ارتأت فيها أن يكون لأدباء المحافظات شأنا منفصلا عن واقع الأدب العراقي المتواصل والممتد عبر أسماء رسخت في ذاكرة الأجيال السابقة كأدباء عراقيين اعتلوا منصة الأدب العربي بأقلامهم وثقافتهم الشمولية أن سلسلة (تواصل) نعيد الاعتبار هذه المرة إلى دار الشؤون الثقافية في نتاجها الخامس لتعطي نغمة أخرى تختلف عما كانت تروج له في نتاجاتها السابقة، حيث أصبح التواصل الآن ليس مع أدباء المحافظات وإنما مع أدباء العراق بشكل عام، كما جاء في كلام رئيس مجلس إدارة الدار الأستاذ نوفل أبو رغيف على غلاف كتاب (هذا غبار دمي) الذي أراد به التأكيد على كون التواصل إبداعيا ومتجددا لما لهذه المجموعة من قدرة على التواصل الجاد والمثمر في رحاب الأدب العراقي المتجذر في الأصالة والحداثة معا .
إن غبار الدم الذي نفثه حيدر عبد الخضر من روحه المزكومة بالألم كان غبارا صافيا واضحا في ذراته المترسبة في أعماق إنسانية غائرة حائرة في المحنة، أفرزتها الحروب وأعلنت من خلالها الخراب والحزن والأسى .. فهو يقول .
(حين ارتدت الحرب أسمالها
نزفت كل ذات بعل بعلها)
نزيف الحرب لم يتوقف عند الأزواج الذين اغتالتهم الحرب وأخذت من أغلبهم رجولتهم وفحولتهم التي تناثرت على رحاب صحارى واسعة محملة بالنار والاضطهاد والخوف الذي ما زال يتسرب إلى أعماق بائسة حيث تكون الخاتمة في قصيدته (بكتريا المواسم) متوالية أخرى في الاستمرار والرضوخ إلى قدر الألم والفجعية التي يتوقعها مستمرة فينا إلى حيث نموت فهو يقول .
(شوارع يدثرها الصفير
أرامل يقلمن الانتظار
على مصاطب
الذكريات ..
انتهى
البقية
في الزمن الجاري) تواصل ما بعده تواصل في الموت والقهر كأنما كتب علينا أن تكون لنا بقية لا في الحب والأمل وإنما في المآسي والأحزان .
أن حيدر عبد الخضر في هذه الأبيات لم يكتب شعرا عابرا، وإنما استرجع ذاته المتبقية في الذات العراقية المسلوبة الإرادة في قوانين الحرب وقوانين الموت وقوانين التعسف التي مازالت باقية وما زلنا نطبقها في هذا الزمن الجاري .لكل شيء بقية من الألم والحزن، ولكن أليس للفرح في أعمارنا بقية ؟ سؤال أزلي نطرقه ونحن نجوب في خارطة الحزن التي رسمها لنا حيدر عبد الخضر عبر ثلاث وعشرون قصيدة هي على التوالي (أمنية، تحذير، بكتريا المواسم، هم .. الآخرون .. نحن، أرواح ذابلة، لهاث، بصمات، سر الحناجر، سرير للعائلة، حجاجيات، ما قاله الرماد، نكبات مقدسة، هذا غبار دمي، حرب، هكذا تقطف الأناشيد، حمى الرحيل، حث في غفلة عن وطن، ست نوافذ للصمت، قياصرة أكثر مما ينبغي، تأشيرة لمقايضة البحر، انكسارات مزمنة، بوح وبعيدا عن الضغائن) لم نلمح في تفاصيل أية من هذه القصائد بارقة لروح تزدهي بالأمل أو الحب .. انكسارات، حروب، حزن، فوضى، قلق .. وهذا هو تعبير مشروع عن ذات محملة بالأسى لا لنقص فيها وإنما بدافع الضغوطات الخارجية التي أجبرت الكل على الانصياع لإرادة قاهرة عندما تختار البقاء في فضاءات العنف المتوالية، وأما عندما تختار الهروب إلى منافي بعيدة سيكون فيها الألم أشد مرارة وضراوة بسبب الغرة والاغتراب ، كما جاء في قصيدته (هم .. الآخرون .. نحن)
(نحن - المبللين –
بعطش
المنافي
سنمتطي غباركم
أننا نملك أسرارا
بحجم
العاصفة ..) .
أنه السر الدفين في الذكريات البعيدة التي لا يمكن لأية متعة أو بهرجة أو حلم مؤدلج أن يزيلها من غبار الذاكرة العالق في رأس المغترب أينما كان، لأنه سيمتطيه دوما في ساعات اليأس وساعات الألم وساعات الاشتياق، ولكنه لم يمتطي سوى خيط دخان لن يوصل سوى إلى السراب .
سراب الوهم القابع في نفوسنا ونحن نلوك أعمارنا تباعا علنا نحصل على شيء أسمه حقيقة .
الحقيقة وهم في الحروب والحقيقة وهم في اللامبالاة عندما لا نجد مأوى في دواخلنا نسعى في الاستقرار إليه .
بذرة ذابلة لا تصلح أن تسقى في ارض مالحة .. هكذا أراد حيدر عبد الخضر أن يهمش الذات المسحوقة المركونة بإهمال متعمد في أزمنة لا شيء فيها سوى الأكاذيب المؤطرة بأدلجة ماجنة .
(هذا غبار دمي) ثلاث وعشرون قصيدة هي ركام قصيدة واحدة فاعلة وراكزة في ذائقة شاعر يبحث عن جدوى الألم هو حيدر عبد الخضر، أرتكز فعلا وأعاد إلى ذاكرتنا الجمعية شيئا من الألم ربما قد نسيناه .
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1559 الخميس 28/10/2010)