قضايا وآراء

اللعنة المباركة .. تحليل رواية (شبيه الخنزير) للروائي العراقي المبدع وارد بدر السالم / حسين سرمك حسن

المكان: أهوار العراق. الزمان: ماضي وحاضر ومستقبل. هذا النص: «رواية إن شئتم، وحكاية إن شئتم، وأسطورة إن شئتم، بيني وبين هذه الكتابة نص مفتوح لا ينشغل إلاّ بشعريته في محاولة لترميم أخطاء الحياة. وكنت أستدعي فيه الذاكرة الريفية وأغترف منها بخيال عنيف لا ينتهي؛ أسطورة مبتكرة، وحكاية غريبة ورواية نقصها علينا في كل زمن عراقي سيأتي». وهذا التعريف في النظرة السريعة المباشرة محكم ومتماســك – وهو فعلاً كذلك – مغر بشعريته وثرّ بتعدد زوايا النظر إلى النصّ المنجز من ناحية شكله السردي وبنيته الهيكلية وتشكله المضموني. لكن النظرة التحليلية الثاقبة سوف تكشف لنا نوايا ومسارات وتشكلات بنيوية ومضمونية تشير إلى ما هو خلاف هذا المعنى الظاهر وسيقدم لنا معطيات تربك توقعات القارئ العادي.

في بداية هذا التعريف (يقرّر) الكاتب أن نصّه هذا هو حكاية ورواية وأسطورة مجتمعات ثم يعود بعد قليل ليضع أمامنا الخيار فنحن الذين نشاء ونحكم: (رواية إن شئتم/ وحكاية إن شئتم/ وأسطورة إن شئتم). وهذا الانتقال من التقرير والتحديد إلى الانفتاح سيربك القارئ ويشوش وضوح الإدراك الذي أقامه ليس حول جنس هذا النص الذي بين يديه والذي صححه المبدع كجنسي (مركّب) ثم أتاح له – أي للقارئ – تحديد الجنس الذي يشاء حسب ،بل في ربط الجنس الذي يحدّده بركائز السرد الأربع التي طرحها الروائي: كتبها قدر أعمى، ونفذها رجل متسلط.. إلخ أيضاً، ثم يحكم الكاتب حلقات هذا الإرباك حين يعود في ختام التعريف إلى نقطة البدء ليقول إنها أسطورة وحكاية ورواية ويتحول من أنا المتكلم «بيني وبين هذه الكتابة.. كنت أستدعي..» إلى ضمير المتكلمين؛ «رواية نقصها علينا» ومتلاعباً بصيغة الزمان الذي حدّده أولاً لأسطورته/ حكايته/ روايته، متسعاً باتساع أبعاد الزمان الثلاثة: ماضٍ وحاضر ومستقبل ليحيله إلى البعد المستقبلي فقط «كل زمن عراقي سيأتي» - مع ملاحظة الفارق المعنوي المهم بين الزمان والزمن – ولا نستطيع الإمساك بأهمية هذه التنويعات في الأوصاف والأفعال والضمائر والتي قد تبدو مظهرية إلاّ إذا عدنا إلى دراستي التحليلية السابقة «المخادع» عن رواية هذا المبدع السابقة-نشرت في الف ياء الزمان الغراء في عام 2005- وهي «مولد غراب» لنستكشف نواياه المسمومة ومقاصده الماكرة التي يبثها تحت أبسط أغطية اللعب اللغوي السردي والشعري وفي ثنايا مضامين حكاياته وثيماته وحبكاته. ولعلّ على رأس هذه النوايا المسمومة والمقاصد الماكرة هي الدوافع التحرّشية الجسورة بما هو مرجعي ومؤسّس ومهيمن في أرضية الوجدان الجمعي والذي اكتسب بحكم مرجعيته وهيمنته المديدة وسطوته المتطاولة سمة القداسة المهيبة التي تشكل – فوق صفتها الاجتماعية القانونية الرادعة – قبضة مخيفة ملوّحة بعذاب ضميري موجع يشعله الشعور بالذنب بفعل أشباح الداخل – داخل ذواتنا المعذّبة بالقمع والكبت – التي تكتم أنفاس إرادتنا وتلجم حركتها الطامحة إلى الانعتاق والتخلّص من أسر السلطات الأبوية المعوّقة. ولعبة المخادعة الموّرطة تلك والتي لعبها في روايته السابقة بدءاً من عنوانها «مولد غراب» حيث قال (مولد) ولم يقل (ولادة) وشغل – حتى النقاد – بحركة السكون التي وضعها على حرف الغين من كلمة غراب موهماً الجميع بأنّ هدفه تعبيري بريء ليصوّر المفردة مثلما يلفظها العامة من سكان العراق – ومعدان الأهوار خصوصاً- وقد انزلقنا وفق مسار المنـزلق الذي رسمه في حين كان «المخادع»يضع منديله على فمه ليخفي ابتسامة عريضة متشفية وتحمل صفرة المبدع ذي الروح الشيطانية المخاتلة، هذه اللعبة يعود لينسج خيوطها حول بصيرتنا من جديد في روايته هذه حيث يأتي العنوان «شبيه الخنـزير» مضللاً لأننا ومنذ الصرخة المفزعة الأولى التي تطلقها «سليمة» في استهلال الرواية نقف أمام شخص هو «لازم» - زوج سليمة – وقد تحول إلى هيئة خنـزير ولكنه يصمم هذا العنوان بدراية عالية لانه يدرك ان مفردة ( الحنزير )لا توفر الانفتاح الدلالي – وفق مفاهيم مدرسة الجشطلت Gestalt – فهي مفردة «مغلقة» بذاتها على دلالة الكائن الحيواني المحدّد رغم أنّ الذاكرة الجمعية العراقية تحمل سمات سلوكية سيئة عن هذا الحيوان إلاّ أن الصياغة الراهنة للعنوان جعلته منفتحاً على تأويلات متعدّدة ومحملاً بإيحاءات نفسيّة كثيرة عن طبيعة هذا الكائن وبماذا يشبه الخنـزير، هل بشكله أم بسلوكه وخصائصه، ثم كيف أصبح شبيهاً بالخنـزير وما هي ردود فعلناالمحتملة تجاهه.. وغير ذلك، وشبيه الخنـزير هذا هو «لازم» زوج «سليمة» التي توالي صراخها «في الصباح الباكر ملتاعاً وطويلاً» فظن الجميع في القرية أنه مات بعد أن «قتلته أمراضه التي قاومها طيلة شتاء بارد وصيف حار، وها هو يسلّم الروح في أول الحصاد (...) فهرعنا متأسفين ومغتاظين لموت الرجل المريض ومهمومين لهمّ سليمة التي سترعى أولاداً ثلاثة وحيدة بقية عمرها الشريف، ويذوب جمالها في سنوات صعبة من العيش والحرمان». لكن الصدمة كانت أكبر وأشد هولاً.

فـ«لازم» لم يمت بل صار خنـزيراً. لقد عمّ الذهول والارتباك والفوضى أهالي القرية الصغيرة جميعاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يكن أحد منهم قادراً على فهم التحوّل الغريب في جسد لازم وهيئته المخيفة. لقد بدا «وجه الرجل داكناً وكأنه اتخذ هيئة آدمية أخرى لا تشبه هيئة أحد في القرية. إذ نما على خدّيه وجبهته وأنفه شعر رمادي خشن وزحف إلى جلده كلّه، وقد صار شعر رأسه موصولاً بما نبت من شعر في جبهته، أمّا عيناه فقد استدارتا قليلاً، ونتأ فمه بارزاً ومربعاً بحواف شمعية غطاها الزبد، وبات ثقبا منخريه مدورين ومدعمين بغضاريف صلبة.. هال الجميع التبدلات المفزعة بضمور عضديه وانكماش يديه.. تم تحشرج صوت في بوزه الشمعي المربع حتى خرج ضعيفاً كخوار ثور صغير..».

لقد مسخ لازم كليّاً وأصبحت هيئته لا تعبر إلا عن حيوان ولد الآن، ألقاه رحم نجس في صباح القرية وعلى «سرير الأخت سليمة» التي كان تعاطف الأهالي مع مصابها العظيم كبيراً وأساهم لحالها شديداً لأنهم يعرفون أنّ سليمة قد تزوجت لازماً بعد أن هامت به حبّاً وفضلته على رجال كثيرين أرادوها زوجة لهم ومنهم «شخبوط» شيخ العشيرة، سليمة هي زينة نساء القرية وها هو حبيبها يتحول إلى خنـزير!!.

لقد قام المؤلف بتوقيت عملية الإنمساخ مع بدء عملية الحصاد.. مع علائم النماء والوفرة والخصب، ومع إطلالة نور الصباح على القرية وقبل أن يتفرق الرجال إلى الحقول والصيد مع طلوع الشمس، أي أننا بدلاً من أن نواجه إحساساً بالانبعاث والتجدّد وشعوراً بالغبطة يسود القرية ،يتم مسخ أفضل رجالها وأكثرهم شجاعـة، والذي خلقه الله في أحسن تقويم وها هو يرتد به إلى أسفل سافلين.. إلى خنـزير، فحين يُلقى في قدر كبير يستخدم أيام عاشوراء تتخلف مع القدر بقع يابسة من الدماء والدمامل والثآليل والخراء. ومن هنا تبدأ خطوات الكاتب التحرّشية المحسوبة بما هو مرجعي ومؤّسس ويحمل سمة القداسة. وتتم هذه الخطوات ضمن أطر سرديّة محكمة تغيّب لغتها الشعرية العالية انتباهة القارئ وتحت أغطية جمالية «بريئة» يتحدث عن بشاعة جسد الخنـزير «لازم» وهو ممدّد على السرير أمام السيّد «ياسر» مركزاً على أعضائه التناسلية: «كانت الساقان مدورتين وملمومتين ومرتفعتين إلى أعلى وما بينهما جلد أحمر مسلوخ بشكل مثلثين تتوسطهما قبضة صغيرة منكمشة للحلم محرشف مطبوق على بعضه». ثم يصف رائحة لازم فيقول: «انتبهنا إلى رائحة خائسة زكمت أنوفنا كرائحة فطيسة متروكة منذ وقت طويل.. وتحرك أكثر الرجال إلى خارج الصريفة لتطلع الرائحة النجسة المتخثرة تحته منذ أيام ليست قليلة». تتداخل هذه المقاطع الباعثة على التقزّز مع الآيات القرآنية التي كان السيّد ياسر يقرأها من المصحف الصغير داعياً الله سبحانه أن يشفي لازماً من مرضه العجيب المحيّر. وفي العادة يتم إلقاء اللوم في الحالات الملغزة المحيّرة مثل هذه على الله أو الشيطان وهو وجه العملة الإلهية الثاني أو على كاهل القدر الذي هو الصورة التجريدية للآلهة: والسيّد ياسر يدعو الخنـزير إلى أن يذكر اسم الله وينهض!!وأهالي القرية بسبب شعورهم بالذل والعار لم يتركوا عارفاً أو سيّداً أو ولياً أو ساحراً وفتاح فال وقارئ بخت لم يستشيروه لمداواة مريضهم، هكذا استعانوا بالعجوز «ريشة» والشائب المجدور «شاهين» والعطار «لقمان» و «زهرة» و«بشة» وغيرهم، وفي كل الطرق السحرية التي اتبعوها كان للرقم ثلاثة وللماء دور أساسي في التنفيذ وهما أمران راسخان في الممارسة السحرية عبر التاريخ: «ثم يدهن جسده بزيت الخروع ثلاث ليال، وفركت عليه علوية حجراً صغيراً أبيض اللون ثلاث نهارات، ولطخت جسده بالحنة، والنفط الأسود ثلاث نهارات...إلخ». لكن كل هذه المحاولات فشلت وعادت القرية إلى دوامتها يسوقها شعور هو أخطر أنواع المشاعر التي تجلد الأنا الفردي والجمعي على حدّ سواء ألا وهو الشعور بالذنب Guilt Feeling  - الذي يتمظهر من خلال سلوكات مختلفة قد يكون بعضها مموّهاً ومربكاً وغير قابل للانكشاف.

لقد أصابت المصيبة الفادحة جميع أفراد العشيرة بالفزع وبدأوا بالشعور بأن ما حصل كان عقاباً إلهياً حلّ بهم جرّاء آثامهم ومعاصيهم: «نستغفر الله من هذا البلاء، نستغفر الله من هذه البلوى التي خوّفت فينا الصغير والكبير.. هذا بلاء من الله عزّ وجل.. لو لم نعرف لازماً من زينة الرجال لقلنا فسد الرجل وارتكب الذنوب  والاثام والكبائر .. وهذا عمل شرير استغفل العشيرة) ولان الانسان أصلاً هو حيوان مذنب فإنه لن يتوانَ – لتفريغ تلك المشاعر الآثمة المحتبسة – في إلقاء – إسقاط – تلك المشاعر على الآلهة وعلى وجهها التجريدي – القدر، ولعل هذا الدافع هو من العوامل الفاعلة الخطيرة التي قامت بتنمية الحاجة البشرية لخلق آلهة تغفر وتعاقب وتقع خارج مدركات الإنسان بحيث يكون قادراً في أي وقت على حسم معضلة صراعه الداخلي المتأجج ولو وقتياً: «ما كان على الجميع، نساء ورجالاً سوى الاستغفار والقلق والبكاء الصامت.. وأن نقول إنّه قضاء الله وقدره، ولابد أن نستسلم لهذا الامتحان الإلهي». وهذا الدافع هو نفسه الذي ابتكر «الصورة المكملة والتي تتمثل في إبليس/ الشيطان، وها هي مشاعر أهالي القرية تتأرجح بين إلقاء تبعة مسخ لازم خنزيرا على الارادة الالهية والقدر وبين اعتبار ماحصل من  مصيبة فاجعة من نتاج سلوك شيطاني شرير: «سحره شيطان وغيّر من صورته وطباعه وحلّ في جسده».. «سحره ساحر هو ابن عم الشيطان، وراضع مع إبليس» ولأن كل عملية صراع الخير والشرّ الأزلية والمعبّر عنها بجبهتي الآلهة والشياطين هي في حقيقتها اللاّشعورية العميقة نتاج الصراع الأوديبي فإنّ للإرادة الشيطانية تعبيرها الثالث المكمل، فإذا كان الإله المدمّر والشيطان الموّرط والمارق هما الصورة السلبية للدور الأبوي الخاصي، فإن صورة الساحرة الشريرة (أو صورة الميدوزا المميتة) مشتقة من صورة الأم الملتهمة والمغوية (وقد يكون السلوك المغوي مسقطاً بفعل دوافع سفاح المحارم الأوديبية) للأم واللائبة في لاشعور الابن. وهذه الدوافع هي التي ألقت تهمة الإغواء الشيطانية على كاهل حواء: «قد تكون ساحرة، والله أعلم»، هكذا كانت تتحرك احتمالات المصيبة في أذهان أهالي القرية وكذلك السحرة والساحرات الذين استعانوا بهم لإنقاذهم من هذه الفضيحة التي هزّت أركان سمعتهم بين القرى والعشائر ثم تصاعدت حدّة وتخصيص تلك الاحتمالات لتحط على كتفي ام شيخ العشيرة (شبوط) الطاعنة في السن والتي اعتزلت الحياة والناس لسنوات طويلة..

كانت نسوة القرية يدخلن حجرتها متحايلات ليقتربن من الشكوى ويمسكن بالسرّ المدّوخ: «سحّارة. كن يقلن بصوت خائف: لها شكل الشيطان والله، عجوز أقفلت بابها منذ عشرين سنة لتعيش مع الجن والأرواح، قلن إن لحجرتها رائحة الموتى، وحيطانها مزروعة بمخالب قطط وثعالب وقحوف سلاحف وأظافر بشر منـزوعة بلحمها وشحمها...». وهي خطوة جسور في النيل من شيخ العشيرة الذي يكن له أهل القرية الكره لسلوكه المتعسّف عموماً وموقفه السيء واللا أخلاقي من (سليمة) خصوصاً. فقد حاول أن يتزوج سليمة ويضمها إلى زوجاته، هو العجوز المتهالك وهي الشابة الجميلة التي كانت تعشق (لازم)، فقام أهالي القرية بالإسراع في تزويجهما في عرس عاجل ما كان مثله عرس، وها هم يقفون – الآن – متحفزين يحيطون بالشيخ ورجاله الذين جاءوا إلى بيت سليمة، فما زالت في نفس الشيخ رغبة جامحة نحوها بعد أن أصبحت كسيرة عزلاء، بعد أن تحول زوجها إلى خنـزير، لكنها تصدّت له وفضحته وطردته من بيتها شرّ طردة معلنة – ويا للعجب – عن إخلاصها المذهل لزوجها وهو خنـزير حالياً فتقول للشيخ بأن لازم زوجها وأبو أولادها ولا تبدّل بشماغه (أي غطاء الرأس) بعشرين شيخ مثله ومن أمثاله، ثم تلقبه بابن الساحرة وتهدّده بأن لا أحد يأخذ ثأر لازم غير لازم نفسه وأنه سوف يرى ويبقى متقلباً على نار القلق (لا ليلك ليل ولا نهارك نهار)، ما الذي يفعله وارد بدر السالم هنا؟ إنه يقوّض بنى الصلة الحبيّة بين الرجل والمرأة والتي ترسخت عبر تاريخ البشرية الطويل والتي تتأسس على موجبات العلاقة بين ذكر وأنثى، تلك العلاقة التي ثبتت جذورها في تربة اللاّ شعور الجمعي والتي نتناقل أعلى صورها الموحية عبر قصص الحب الباهرة (الحب العذري مثلاً) أما وارد فإنه يقدم لنا قصة عشق مدمرة طرفاها: امرأة وخنـزير، امرأة جميلة ذات جمال مفترس وعينين كحيلتين جهنميتين ورجل أصبح خنـزيراً مسلوخ الجلد وذي بوز شمعي ملوّث بالدم والمخاط ونخرة مفزعة ومديدة.. (سليمة... لازم معها ككلب صغير، لا يفارقها لحظة واحدة، ولعل الناس عجبوا لهذا الغرام الغريب بين الاثنين بين امرأة وحيوان، بين سليمة الحلوة وخنـزير ذي رائحة خائسة، وليس له ماللرجال)، وخيالات سكان القرية تشطح بعيداً مع موجات الإيحاء الجنسية التي تصورها صورة هذه العلاقة المتناقضة، «تندرنا كثيراً وضحكنا على هذا الخيال وتقزّرنا مما يمكن له أن يقززنا حين نقلت لنا النساء المتبصصات ما يجري بين سليمة وخنـزيرها في الفراش». كانت النساء – وخلف أستار السخرية المسمومة – يحاولن إهارة عزم سليمة في تعلقها المستميت بخنـزيرها: «هذا زوجك يا سليمة وله الحق عليك.. هو أبو أولادك ويعرف جسدك الحلو.. كيف تنامين لياليك بال (هذا)..» أتظنين أنه لا يقدر مثل الرجال.. جرّبي.. فقد يكون ألذ من (مال) الرجال (أي قضيبهم)..» لكن الروائي وبتصميم لا هوادة فيه – وعلى امتداد صفحات الرواية ومنذ لحظة التحوّل/ الانمساخ المريع، عمل على رسم لوحة باذخة من الناحية العاطفية الموغلة في الوفاء من جانب سليمة أولاً: سليمة لم تكن غريبة عن مثل هذه الألغاز والتندرات المؤذية والحكي الموسوس – وهل هناك حكياً أكثر تندراً مؤذياً وموسوساً على عقولنا من حكي وارد بدر السالم؟ الشامت.. (كان كل معنى واضحاً أمام عينيها، لكنها كانت تزداد عناداً وصبراً وتكبح أدران نفسها بروح العاشقة الوفية التي تعرف ما تعرفه عن قريتها وأهلها ووارد هو – فعلياً وعبر نواياه اللا شعورية المبيتة والطافحة غامرة دكة الشعور البائسة – الوحيد الذي يعرف ما يعرف...» تسمع سليمة تساؤلات مدوّخة ومنطقية – لكنها لا منطقية بالنسبة لوارد السالم والذي يحاول – والمشكلة أنه يفلح في تدويخنا وتضييق بصيرتنا إلى حدّ التعاطف مع الخنـزير وحبيبته الوفية – سكان القرية يتساءلون: «لها الحق والله، كيف تعيش امرأة مع خنـزر؟ هل يريد منها ما يريده الرجال من نسوانهم؟ هل تقبل؟ آله.. و...» يقصد القضيب.. وهو قد مسخه إلى قطعة شحم حمراء ملتصقة بجلده بين فخذيه – مثل الرجال؟ ماذا تلد منه؟ خنـزيراً؟ نعوذ بالله من الشيطان الرجيم..» يولغ الروائي في دماء لا شعورنا وبسحر سردي شعريّ أخّاذ لكي يوصلنا إلى منصّة الاتفاق الظافر الذي تسحبه شحنات التعاطف المتحمسة إلى موقع تمسح فيه ما خطته أنا بل اللا شعور الجمعي على لوحها المخطوط بأناملها الباشطة التي يتكفل بها الأدب – المحلل النفسي المجاني اللعوب والمستدرج – ومنذ قسم الرواية الأول (فزع البط) يؤسس الروائي لخديعة كبرى، خديعة تحرّشية في غاية الجسارة بتسوقها روح تعرضي عزوم ويمرّرها اقتدار سردي هائل عرف عن هذا المبدع، اقتدار يجعله بالغ المهارة في تسويغ أشد الصور والسلوكات إثارة لاشمئزاز القارئ وجعلها مقبول بل وجذّابة من خلال التواطؤ الجمالي الذي يوقعنا في شراكه. خذ مثلاً: «لم يعد الكلام الزائد مجدياً، النسوان آفات وكذابات، ينفخن في المشاكل كما ينفخ الطفل الأرعن في نفاخته حتى تطق عليه فيصرخ جافلاً ويعيط حتى يجري مخاطه على شفتيه» أو «كان لازم يتشمم رائحة الصباح الباكر وهو يمد بوزه المربع ويفتح منخريه المطاطيين، وعينان مرتكزتان على وجهها المحنّط.. سليمة.. رأت جسده القصير المقوّس مغطى بالشعر الشائك، وثمة بقع مسلوخة على ظهره تكشف لحماً لا لون له». وقبل أن تستفز سلامة نفوسنا بالأوصاف المغنية والمظاهر القبيحة للخنـزير المسخ يمزج وارد سريعاً سمّ الرد المباشر بعسل الشعر فيقول مكملاً: «وعندما حاولت أن تفعل شيئاً لا تعرفه على وجه اليقين خطت قوائمه إليها ومن تحتها يتكسر القصب اليابس فينبعج صرير مشرخ لحظة الدهشة في وحدة الصباح المشرق على شمس أخذ تشيع دفئاً مقولاً ولوناً عسلياً وظلالاً مشطبة تحت سقف الصوباط».

وتتكر هذه الخلطة السحرية شديدة الدهاء على امتداد صفحات الرواية الأربع وعشرين ومائة، وهي خلطة سحرية فعلاً، بالغة السحر تصيب حساستنا.. المؤسسة واستجابات بصيرتنا الحادّة بنوع من التنويم فنعقد إرادتنا النقديّة ومحدّدات ذائقتنا التقليدية ونسلم قيادها للروائي يتلاعب بها كيف شاء لتنفيذ مخططه المسموم وتحقيق أهدافه السرّية. يكمل وصف لحظات اللقاء الرومانسي بين الخنـزير العاشق والامرأة المتيّمة به: قال لها بحنو: تعالي.. فانعقد الخوف فيها ممتزجاً بغرابة ما تهذي به لنفسها الجريحة وروحها الشائطة منذ أن فقد لازم صوته الأليف وافتقدت فيها أيامها البيضاء.. سليمة.. داست على القش والقصب وكتمت الصرير في لحظة غريبة توافقت مع الفجر الجديد لغيبوبة طالت عليها أمام الناس والشامتين وشملها إحساس عاجل من أنها غير قادرة أيضاً على التنصل عن لحظة أثيرة مقلقة مريبة كانت تنتظرها وقتاً عصيباً، وهي لحظة بدت لها حييّة وخارقة فعلاً عندما أقعى خنـزيرها قريباً من انتصابها المرتعش، متكئاً على شبه من الشباب الغليظة، لاحساً جزءاً من صدره، ثم قائمتيه الأمامييتن وأظلافه المشقوقة». هكذا، وبالوخز الشعري المستمر والمثابر يضعف وارد دفاعاتنا المسلّحة بخزين من القيم الناهية والموروثات القامعة. إنه مسلح بقناعة مفادها أن كثرة الطرق السردي الشعري قادرة على أن تفك لحام قبضة الكبت الخانقة لتنطلق دوافعنا اللاّ شعورية الآثمة والتي تمد خيوط – لا جسور – التعاطف بشكل هادئ وسرّاني، يحضرني هنا المثال الشهير الذي ضربه معلم التحليل النفسي (سموند فرويد) وهو يصوّر كيفية ترقيق دفاعات الأنا الأعلى بفعل اللاّ شعور الماكر خشية العملية بسلوك معلم المدرسة الذي يدور على الصفوف محذراً التلاميذ من أن يقولوا إن السيد مدير المدرسة كذاب ومنافق. خطوة.. خطوة.. وبمثابرة لا هوادة فيها يوصلنا المبدع إلى نقطة التعاطف مع الخنـزير العاشق قبل أن يقلب الحكاية /الرواية/ الأسطورة على مطابقتها ويهير عاليها سافلها عند النهاية. ولن نجد من الغريب الصادم عن منتصف الشوط أن يقول: (لكن سليمة ظلت مع خنـزيرها وفيه للرجل الذي كان فيه ذات يوم من غير خوف ينتابها، بعد أن شبعت من الخوف أياماً وشهوراً وأكثر من حول. وتطبّع أولادها على أبيهم ورأوا فيهم أبوته القديمة وهو على هذا الحال التي هو فيها، فصاروا إليه كل شيء، العون والسند، ولم يتركوه وحده يمشي في فضاء مفتوح أو مساحة مأهولة بالدغل والزرع والماء، وصاروا له دربه وعيونه ومسنده في خبصة القرية، فتتعين وصايا الأم العاشقة حدّ العبادة: أبوكم مطلوب.. فتحوا عيونكم زين).

ومن الأمور التي ساعدت الكاتب في ترقيق خطوط دفاعاتنا اللغة البسيطة الرائعة التي أعتقد أنها كانت أكثر توفيقاً في تقديم شكل روائي يوظف اللغة العامية بنجاح يفوق ما قام به بعض الروائيين.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1564 الثلاثاء 02 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم